عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الثاني


الشعاع الثاني - ص: 34
المقام الثالث
سيُبين هذا المقام ثلاث علامات
كلية للتوحيد بياناً مجملاً .
ان الدلائل والحجج والعلامات الدالة على تحقق الوحدانية ووجودها لاتعد ولاتحصى. وقد ذكرت في "سراج النور" الالوف من تلك البراهين لذا اكتفي في هذا المقام ببيان مجمل لثلاث حجج كلية فقط.
العلامة والحجة الاولى؛ التي تنتج كلمة "وحده" هي:
ان في كل شئ وحدة، والوحدة تدل على الواحد وتشير اليه، ومما لاشك فيه ان الاثر الواحد يصدر من صانع واحد، فالواحد يصدر من الواحد. وحيث أن في كل شئ وحدة، فهي تدل على أن الشئ أثر لواحد أحد وصنعته.
نعم! ان هذا الكون أشبه مايكون بزهرة مغلفة بالوف من ستائر الوحدة. بل هو انسان كبير جداً لبس ملابس الوحدة بعدد الاسماء الإلهية وافعالها الشاملة. وهو شجرة طوبى الخليقة تتدلى من اغصانها انواع من الوحدة، بعدد انواع المخلوقات.
نعم ان ادارة الكون واحدة، وتدبير شؤونه واحد، وسلطنته واحدة، وعلامته واحدة.. وهكذا واحد، واحد، واحد، الى ألف من الواحد.. وكذا الاسماء الإلهية وافعالها التي تدير هذا الكون كل منها واحدة، فضلاً عن ان كل اسم وكل فعل يحيط بالكون كله او بمعظمه، اي أن الحكمة الفاعلة في الكون واحدة والعناية فيه واحدة، والتنظيم الذي فيه واحد، والإعاشة واحدة والرحمة المغيثة للمحتاجين فيه واحدة والمطر النازل بشرى بين يدي رحمته تعالى واحد. وهكذا واحد واحد واحد.. الى الألف من الواحد.
وكذا الشمس التي تنشر الدفء لهذا الكون واحدة، والقمر الذي يبعث الضياء واحد، والنار التي تطبخ المأكولات واحدة، والجبال التي هي مخازن واوتاد ذات خزائن واحدة، والسحاب الذي يسقى البساتين واحد.. وهكذا واحد واحد واحد الى الألف.
الشعاع الثاني - ص: 35
فهذه الآحاد في العالم حجة باهرة كالشمس الساطعة تدل على الواحد الأحد وتشير اليه .
وكذا فان عناصر الكون وانواعه، كل منها مع كونها واحدة الاّ أن احاطتها بسطح الارض ودخول بعضها في البعض الآخر، واتحاد بعضها مع البعض الآخر بعلاقات قوية بل بالمعاونة، علامة ظاهرة بلا شك على أن مالك الكون ومولاه وصانعه واحد أحد.
العلامة الثانية والحجة التي تنتج كلمة "لاشريك له" هي:
وجود الانتظام الاكمل بلا خلل والانسجام الأجمل بلا نقص والميزان العدل الذي لايظلم قطعاً، في كل شئ في الكون ابتداءً من الذرات الى المجرات.
نعم، لايكون الانتظام البديع والميزان الدقيق الاّ بالوحدة والتوحيد، لأن الايدي المتعددة اذا ماتدخلت في فعل واحد فانها تفسده.
فتعال تأمل في هيبة هذا الانتظام البديع الذي جعل هذا الكون على هيئة قصر عظيم فخم، في كل حجر من احجاره صنعة القصر بكامله.. وجعله مدينة رائعة التنسيق والنظام بحيث تصرف صادراتها غير المحدودة وتأتي وارداتها غير المعدودة واموالها الثمينة وارزاقها المتنوعة بانتظام كامل من وراء ستار الغيب، كلٌ في وقته المناسب، ومن حيث لايحتسب.. وجعله كتاباً معجزاً بليغا بحيث أن كل حرف فيه يفيد معاني مائة سطر وكل سطر فيه يعبّر عن معاني مائة صحيفة، وكل صحيفة فيه تبين معاني مائة باب، وكل باب فيه تفصح عن معاني مائة كتاب. فضلاً عن أن كلاً من ابوابه وصحائفه وسطوره وكلماته وحروفه يشير الواحدُ الى الآخر ويدلّ عليه.
وتعال تأمل في كمال التنظيم ضمن هذا الانتظام العجيب، الذي جعل الكون كله نظيفاً انيقاً طاهراً كأنه مدينة رائعة في النظافة والنقاء، بل كأنه قصر بديع يعتنى بنظافته وأناقته غاية العناية، بل كأنه حورية من حور الجنة لبست سبعين حلة من الحلل المزينة الجميلة. بل زهرة لطيفة مغلفة بسبعين ورقة من اوراقها الملونة الزاهية.
وتعال تأمل في كمال عدالة هذا الميزان ضمن هذا الانتظام والنظافة بحيث يوزن كل شئ بذلك الميزان؛ فالمخلوقات والحيوانات الدقيقة التي لاترى الاّ بعد تكبيرها الف
الشعاع الثاني - ص: 36
مرة، وكذا النجوم والشموس التي هي أكبر من الارض بألف مرة، يوزن كل منها بذلك الميزان ويكال بمكياله، فتعطى لتلك المخلوقات كل ما يلزمها من حاجيات من غير نقص وقصور حتى تتساوى أمام ذلك الميزان، ميزان العدالة، تلك المخلوقات الصغيرة جداً مع تلك المصنوعات الخارقة في الضخامة. علماً أن منها ما له تأثير عظيم الى حد تختل موازنة العالم بفقد موازنته لثانية واحدة، ولربما تؤدي الى انفلاق القيامة.
وتعال تأمل في هذا الجمال الزاهي والحسن الباهر ضمن هذا الانتظام والنظافة والميزان، بحيث جعل هذا الكون العظيم على صورة مهرجان في منتهى الجمال والبهجة، وعلى صورة معرض بديع في منتهى الزينة والروعة، وعلى صورة ربيع زاه تفتحت ازاهيره تواً. وجمّل الربيع كزهرة عظيمة واسعة تغطي وجه الارض بمئات الالوف من ازاهيره الجميلة، وكل زهرة منها في اروع زينة وابدع جمال. بل جعله كسندانة زاهية وباقة زهر لطيفة امامنا.
نعم، ان كل نوع من انواع الكائنات، بل حتى كل فرد من افرادها قد نال حسب قابليته حظاً من جمال الاسماء الإلهية الحسنى التي لامنتهى لجمالها. حتى دفع حجة الاسلام الامام الغزالي 1 الى القول: "ليس في الامكان ابدع مما كان" اي، ليس في دائرة الإمكان أبدع وأجمل من هذه المكوّنات.
وهكذا فهذا الحسن المحيط الجاذب، وهذه النظافة العامة الخارقة، وهذا الميزان الحساس المهيمن الشامل، وهذا الانتظام والانسجام المعجز المحيط بكل شئ، حجة قاطعة على الوحدانية وعلامة واضحة على التوحيد، أسطع من ضوء الشمس في رابعة النهار.

_____________________
1 الامام الغزالي: (450 - 505 هـ) ابو حامد محمد بن محمد بن محمد بن احمد الغزالي، فقيه ومتكلم وفيلسوف وصوفي ومصلح ديني واجتماعي، وصاحب رسالة روحية، كان لها اثرها في الحياة الاسلامية. ولد بطوس من اعمال خراسان، ودرس علوم الفقهاء وعلم الكلام على امام الحرمين، وعلوم الفلاسفة وبخاصة الفارابي وابن سينا وعلوم الباطنية، فلم يجد في هذه العلوم مايشبع حاجة عقله الى اليقين ولا ما يرضي رغبة قلبه في السعادة واشتغل بالتدريس في المدرسة النظامية وارتحل الى بلاد كثيرة منها دمشق وبيت المقدس والقاهرة والاسكندرية ومكة والمدينة. ومن مصنفاته (احياء علوم الدين) و (تهافت الفلاسفة) و (المنقذ من الضلال). - المترجم.

الشعاع الثاني - ص: 37
"
جواب في غاية القوة والايجاز عن سؤال
ذي شقين في غاية الأهمية يخص هذا المقام".

الشق الاول من السؤال:
انك تقول في هذا المقام: لقد احاط الحسن والجمال والعدالة بالكون. ولكن ماتقول فيما نشاهده من القبائح والمصائب والامراض والبلايا والاموات؟
الجواب: ان قبحاً يكون سبباً لانتاج انواع من الجمال او سبباً لإظهارها، يعدّ كذلك جمالاً. وان انعدام قبحٍ يؤدي الى إخفاء كثير من الجمال والى عدم ظهوره، لايعدّ قبحاً واحداً، بل اضعافاً مضاعفة من القبح.
فمثلاً: ان لم يوجد قبح كواحد قياسي، تصبح حقيقة الحسن نوعاً واحداً وتختفي مراتبه الكثيرة جداً ولكن بتداخل القبح فيه تظهر مراتبه. اذ كما تظهر درجات الحرارة بتداخل البرودة، ومراتب الضوء بوجود الظلام كذلك بوجود الشر الجزئي والضرر الجزئي والمصيبة الجزئية والقبح الجزئي تظهر الخيرات الكلية والمنافع الكلية والنعم الكلية واضراب الجمال الكلي. بمعنى ان ايجاد القبح ليس قبيحاً، بل جميل؛ لأن كثيراً من النتائج المتولدة منه جميلة. نعم ان الكسلان الذي قد يتأذى من المطر، لايقدح ضرره بالنتائج الخيرة التي جعلت المطر رحمة، ولايمكنه ان يبدل الرحمة الى نقمة.
أما الفناء والزوال والموت، - فكما اثبتت ببراهين قوية وقطعية في المكتوب الرابع والعشرين - فانها لاتنافي الرحمة العامة والحسن المحيط والخير الشامل. بل هي من مقتضيات هذه الامور. حتى الشيطان، فلانه سبب لتحريك النابضين الاساسيين لرقي البشر المعنوي، اي التسابق والمجاهدة، فان خلق نوع الشيطان خير ويُعدّ من هذه الجهة جميلاً.
بل حتى تعذيب الكافر في جهنم، أمر جميل، حيث قد تعدى بكفره على حقوق الكائنات قاطبة واستهان بمنزلتها الرفيعة وحط من كرامتها.
ولما كانت هاتان النقطتان قد بحثتا بحثاً مفصلاً في رسائل اخرى نكتفي هنا بهذه الاشارة القصيرة.
الشعاع الثاني - ص: 38
الشق الثاني من السؤال 1:
لنسلّم بهذا الجواب العام الذي يخص الشيطان والكافر. ولكن لِمَ يبتلي الغني المستغني الجميل المطلق الرحيم المطلق الخير المطلق، افراداً ضعفاء بالمصائب والشرور والقبائح؟
الجواب: ان جميع انواع البر والحسن والنعم آتية مباشرة من خزينة رحمة ذلك الجميل المطلق والرحيم المطلق ويرد من فيض احسانه الخاص. اما المصائب والشرور فهي نتائج جزئية قليلة فردية من بين كثير من النتائج المترتبة على قوانينه العامة والكلية، قوانين سلطان ربوبيته التي تمثل الارادات الكلية الجارية تحت اسم نواميس الله وعاداته، فتصبح تلك الامور من المقتضيات الجزئية لجريان تلك القوانين . لذا فلأجل الحفاظ على تلك القوانين ورعايتها والتي هى مبعث المصالح الكلية ومدارها يخلق - سبحانه - تلك النتائج الجزئية ذات الشرور. ولكن تجاه تلك النتائج الجزئية الاليمة يستغيث ويستنجد الافراد الذين ابتلوا بالمصائب والذين نزلت بهم البلايا فيمدّهم بامداداته الخاصة الرحمانية ويحسن اليهم باحساناته الخصوصية الربانية. فيظهر بهذا أنه الفاعل المختار وان كل شأن في كل شئ وثيق الصلة بمشيئته تعالى، وان قوانينه العامة ايضاً تابعة دائماً لإرادته واختياره، وان رباً رحيما يسمع نداء الذين يعانون من ضيق تلك القوانين العامة فيغيثهم ويمدّهم باحسانه عليهم. وانه بهذه الاحسانات الخصوصية والتوددات الخصوصية قد فتح ابواب تجلياته الخصوصية حيث قد فتح ميداناً لايحد ولايقيد لتجليات الاسماء الحسنى غير المقيدة وغير المحدودة، بشواذ النواميس الكلية والقوانين العامة ونتائجها الجزئية ذات الشرور.
وحيث ان هذه العلامة الثانية للتوحيد قد وضحت في مائة موضع من "سراج النور" اكتفينا باشارة عابرة اليها.
الحجة والعلامة الثالثة، التي ، تشير اليها "له الملك وله الحمد" بعلامات توحيد لاتعدّ ولاتحصى.
نعم، ان في وجه كل شئ كلياً كان أم جزئياً، ابتداءً من الذرات الى السيارات، علامة توحيد واضحة جلية كوضوح جلوة الشمس في المرآة ودلالتها على الشمس

_____________________
1 جواب هذا الشق الثاني مهم جداً، اذ يزيل شبهات كثيرة. - المؤلف.

الشعاع الثاني - ص: 39
نفسها. فمرآة تلك العلامة الموضوعة على كل شئ ايضاً تشير اشارة ساطعة مثلها الى منور الازل والابد، وتشهد على وحدانيته. وحيث أن اكثر تلك العلامات غير المحدودة قد وضحت توضيحاً مفصلاً في "سراج النور" نكتفي هنا بالاشارة الى ثلاث منها فقط.
فعلى وجه الكون نشاهد علامة واسعة للتوحيد، مركبة من التعاون والتساند والتشابه والتداخل التي تبيّنه الانواع فيما بينها، كل تجاه الآخر.
وعلى وجه الارض تشاهد علامة توحيد واضحة موضوعة على جيش سبحاني مركب من اربعمائة الف طائفة من طوائف الحيوانات والنباتات، وذلك بمنح ارزاقها المختلفة واسلحتها المتباينة وألبستها المتنوعة وتعليماتها المتمايزة ورخصها المتغايرة، تمنح كل منها دون نسيان أحد وبلا خطأ وفي غاية الانتظام وفي الوقت المناسب.
وعلى وجه الانسان تشاهد علامة وحدانية يبيّنها وجود العلامات الفارقة في وجه كل انسان بحيث تميّزه عن جميع الوجوه الاخرى في الارض كافة.
بل تشاهد على وجه كل مصنوع جزئياً كان أم كلياً علامة توحيد. وتشاهد على رأس كل مخلوق كبيراً كان أم صغيراً، قليلاً كان أم كثيراً، ختم الاحدية ولاسيما العلامات الموضوعة على الكائنات الحية فهي علامات ساطعة لامعة. بل ان كل كائن حي هو بنفسه علامة توحيد، وختم وحدانية، وطابع أحدية، وطغراء صمدية.
نعم، ان كل زهرة وكل ثمرة وكل ورقة وكل نبات وكل حيوان، ختم للأحدية، وختم للصمدية بحيث يحوّل كل شجرة الى صورة رسالة ربانية، وكل طائفة من المخلوقات الى صورة كتاب رحماني، وكل حديقة الى صورة مرسوم سلطاني سبحاني، بل قد وضعت في تلك الرسالة، رسالة الشجرة، اختامٌ بعدد ازاهيرها، وتواقيع بعدد ثمراتها، وطغراءات بعدد اوراقها. ووضعت ايضاً في ذلك الكتاب كتاب النوع والطائفة خواتم بعدد افرادها، اظهاراً لكاتبه وتعريفاً به ووضعت في ذلك المرسوم السلطاني، مرسوم الحديقة علامات وحدانية بعدد ما فيها من نباتات واشجار وحيوانات، تعريفاً بصاحبها السلطان الآمر. حتى ان في كل شجرة، في مبدئها ومنتهاها، في ظاهرها وباطنها اربعاً من علامات التوحيد التي تشير اليها الاسماء الحسنى (الاول والآخر والظاهر والباطن).
الشعاع الثاني - ص: 40
فما يشار اليه باسم "الاول" هو:
ان البذرة التي هي المبدأ الاساس لكل شجرة مثمرة 1، هي عليبة صغيرة تحمل برنامج تلك الشجرة وفهرستها وخطة عملها.. وهي مصنع صغير تضم اجهزتها ولوازمها وتشكيلاتها. وهي ماكنة تحوي على تنظيماتها ووارداتها الدقيقة ومستهلكاتها اللطيفة في مبدأ حياتها.
وما يشار اليه باسم "الآخر" هو:
ان ثمرة كل شجرة ونتيجتها، تمثل لائحة تعريف للشجرة بحيث تحمل اشكال تلك الشجرة واحوالها واوصافها. وهي اعلان يفصح عن وظائف الشجرة ومنافعها وخواصها.. وهي خلاصة تبين وترشد الى امثال تلك الشجرة وانسالها والاجيال الآتية منها، وذلك بالبذور التي تحملها في قلبها.
وما يشار اليه باسم "الظاهر" هو:
ان الصورة التي تلبسها كل شجرة والشكل الذي تتشكل به هو حلّة قشيبة مزركشة، ولباس جميل مفصّل على قدّ الشجرة باغصانها واعضائها واجزائها، وقص على حسبها وزين على وفقها، فهو لباس دقيق موزون وذو مغزى عميق، بحيث يحوّل تلك الشجرة الى صورة كتاب، والى صورة رسالة، والى صورة قصيدة عصماء.
وما يشار اليه باسم "الباطن" هو:
ان الاجهزة العاملة في كل شجرة، هي مصنع عظيم بحيث يكيل بميزان حساس ادارةَ جميع اجزاء تلك الشجرة وجميع اعضائها وتشكيلها وتدبير امورها، وفي الوقت نفسه يزوّد جميع اعضائها المتباينة ما يلزمها من مواد وارزاق بتوزيع وتقسيم وسوق ضمن انتظام متقن كامل وفي منتهى السرعة كسرعة البرق، ومنتهى السهولة كسهولة نصب الساعة، ومنتهى الوحدة والاتحاد كانقياد الجيش لأمر القائد، بحيث تتحير منه العقول.

_____________________
1 ان مايدور على ألسنة الناس منذ سالف الازمان حتى غدا مضرب الامثال من "النشوء من بذرة" يمكن ان يطلق على مؤلف هذه الرسالة باشارة مستقبلية، لأن خادم رسائل النور قد كشف بفيض القرآن الكريم معراجين لمعرفة التوحيد في كل من البذرة والزهرة، وفجر ينبوع الحياة في الموضع الذي هلك فيه الطبيعيون فبلغ من البذرة الى الحقيقة، الى نور المعرفة.
وبناء على هذه الحكمة تتكرر هاتان الكلمتان البذرة والزهرة في رسائل النور كثيراً ــ المؤلف.

الشعاع الثاني - ص: 41
حاصل الكلام:
ان اول كل شجرة عليبة صغيرة وبرنامج.. وآخرها نموذج ولائحة تعريف.. وظاهرها حلّة مزركشة ولباس مزيّن.. وباطنها مصنع ومعمل.. فهذه الجهات الاربع تلاحظ احداها الاخرى، فتنشأ من هذه الاربعة علامة عظيمة جداً، بل اسم اعظم بحيث لايمكن قطعاً ان يقوم بتلك الاعمال غير الواحد الأحد الذي بيده زمام الكون كله.
فكما ان الشجرة تحمل هذه العلامة للتوحيد. فان اول كل كائن حي وآخره، وظاهره، وباطنه يحمل علامة توحيد وختم وحدانية وتوقيع احدية وطغراء وحدانية ايضاً..
وهكذا على غرار هذه الشجرة المذكورة ضمن الامثلة الثلاثة، الربيع ايضاً شجرة تحمل ازاهير كثيرة. والبذور والجذور المودعة امانة بيد فصل الخريف تحمل علامة اسم "الاول". والثمرات والحبوب والخضار التي تفرغ الى احضان فصل الصيف وتملأ رداءه المبسوط تحمل ختم اسم "الآخر". والالبسة الفطرية المزينة بمئات الالوف من الزينة والحلل التي يلبسها فصل الربيع كحلل حور العين السندسية، تحمل ختم "الظاهر". والمصانع الصمدانية العاملة في باطن الارض وفي الربيع والقدور الرحمانية التي تغلي غلياناً والمطابخ الربانية التي تهئ المأكولات، تحمل طغراء اسم "الباطن"
بل ان كل نوع من الانواع، وليكن نوع البشر مثلاً، هو شجرة ايضاً، بذرته وجذوره في اعماق الماضي، وثمراته ونتائجه في المستقبل، فكما ان وجود القوانين المنتظمة الجارية ضمن حياة جنسه وبقاء نوعه يحمل علامة توحيد واضحة، كذلك الدساتير المنتظمة لحياته الشخصية والاجتماعية في وضعه الحالي تحمل ختم وحدانية مستترة تحت الاضطرابات الظاهرية، مثلما تحمل دساتير القضاء والقدر لحياته وهي مقدراته الحياتية المتسترة تحت الاحوال البشرية الظاهرية ختماً مخفياً منتظماً للتوحيد.

* * *
الشعاع الثاني - ص: 42
الخاتمة
اشارة قصيرة جداً بكلام الى كل من الاركان الايمانية التي يتضمنهاسرالتوحيد
ايها الانسان الغافل! تأمل ولو لمرة واحدة، وأجل النظر فيما بينته المقامات الثلاثة لهذه الرسالة من الثمرات الثلاث والمقتضيات الثلاثة والحجج الثلاث، وانظر:
أمن الممكن للصانع القدير الحكيم الرحيم العليم، الاّ يهتم بمحاسن الحقيقة المحمدية المستولية على الكون معنىً وبالتسبيحات الأحمدية - عليه الصلاة والسلام - وبأنوار الاسلام، وهو الذي يصرف الامور في هذا الكون ولايهمل أبسط شفاء ولا أقل شكر ولا أصغر صنعة كجناح البعوض، ولايفوض أمر هذه الجزئيات الى الأغيار قطعاً ولايحيلها اليهم، وهو الذي يقلّد اصغر نواة اعظم الوظائف والحكم الجليلة كالشجرة ويُشعر برحمانيته ورحيميته وحكيميته بكل صنعة من صنائعه ويعرّف نفسه بكل وسيلة ويحببها بكل نعمة؟
أوَ من الممكن الاّ يكون اعظم مقصد من مقاصد ذلك الصانع الجليل واعظم نور من انواره واوسع مرآة من مراياه، الرسالة الاحمدية على صاحبها افضل الصلاة والسلام الذي جمّل جميع مصنوعاته وابهج جميع مخلوقاته وأضاء الكائنات برمتها، وحوّل السموات والارض الى جذبة ذكر وتهليل، وضمّ تحت جناح سلطنته المعنوية والمادية نصف الكرة الارضية وخمس البشرية طوال اربعة عشر قرناً من الزمان دون انقطاع. أو من الممكن ألاّ يكون الانبياء عليهم السلام الذين خدموا الحقيقة نفسها كمحمد صلى الله عليه وسلم مبعوثي الصانع الجليل واحبّائه ورسله الكرام؟ حاش لله وكلا بعدد معجزات الانبياء؟
أوَ من الممكن - باية جهة كانت - للخالق الحكيم الرحيم الاّ يأتي بالحشر الذي هو أهون عليه من اتيان الربيع ولايفتح دار سعادة ومنزل بقاءٍ، وهو الذي علّق مائة حكمة وثمرة على كل شئ مهما كان جزئياً، وعرّف بربوبيته الذاتية بحكمها الخارقة وبشمول رحمانيته وحببها الى مخلوقاته، فهل يمكن الاّ يأتي بالحشر، فينكر جميع حكمته ورحمته بل حتى ربوبيته وكماله ويدفع الآخرين الى انكارها، ويفنى أحب مخلوقاته اعداماً ابدياً؟ حاش لله وكلا مائة الف الف مرة.
فذلك الجمال المطلق منزّه ومتعال ومقدّس عن هذا القبح المطلق بمائة الف مرة.
الشعاع الثاني - ص: 43
حاشية طويلة:
سؤال يرد بمناسبة مبحث الحشر:
ان ما ورد في القرآن الكريم مراراً (إنْ كَانَتْ اِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً) (يس: 29) (وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ اِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ) (النحل: 77) يـبين لنا ان الحشر الاعظم سيظهر فجأة الى الوجود، في آن واحد بلا زمان. ولكن العقول الضيقة تطلب امثلة واقعية مشهودة كي تقبل وتذعن لهذا الحدث الخارق جداً والمسألة التي لا مثيل لها.
الجواب: ان في الحشر ثلاث مسائل هي: عودةُ الارواح الى الاجساد، وإحياءُ الاجساد، وانشاء الاجساد وبناؤها.
المسألة الأولى: وهي مجئ الارواح وعودتها الى اجسادها، ومثاله هو: اجتماع الجنود المنتشرين في فترة الاستراحة والمتفرقين في شتى الجهات على الصوت المدوي للبوق العسكري. نعم، ان الصور الذي هو بوق اسرافيل عليه السلام، ليس قاصراً عن البوق العسكري، كما أن طاعة الارواح التي هي في جهة الأبد وعالم الذرات والتي أجابت بـ (قَالُوا: بَلى) (الاعراف:172) عندما سمعت نداء (اَلَسْتُ بِرَبّكُم) المقبل من اعماق الازل ونظامها يفوق بلاشك أضعاف اضعاف ما عند أفراد الجيش المنظم. وقد اثبتت "الكلمة الثلاثون" ببراهين دامغة ان الارواح ليست وحدها جيش سبحاني بل جميع الذرات ايضاً جنوده المتأهبون للنفير العام.
المسألة الثانية: وهي إحياء الاجساد. ومثالُه هو: مثلما يمكن اِنارة مئات الآلاف من المصابيح الكهربائية ليلة مهرجان مدينة عظيمة، من مركز واحد في لحظة واحدة، كأنها بلا زمان. كذلك يمكن انارة مئات الملايين من المصابيح على سطح الارض من مركز واحد. فما دامت الكهرباء وهي مخلوقة من مخلوقات الله سبحانه وتعالى وخادمة إضاءة في دار ضيافته، لها هذه الخصائص والقدرة على القيام بأعمالها حسب ما تتلقاه من تعليمات وتبليغات ونظام من خالقها، فلابد ان الحشر الاعظم سيحدث كلمح البصر ضمن القوانين المنظمة للحكمة الإلهية، تلك القوانين التي يمثلها آلاف الخدم المنوّرِين كالكهرباء.
الشعاع الثاني - ص: 44
المسألة الثالثة: وهي انشاء الاجساد فوراً، ومثاله هو: انشاء جميع الاشجار والاوراق التي يزيد عددها ألف مرة على مجموع البشرية، دفعة واحدة في غضون بضعة ايام في الربيع، وبشكل كامل، وبالهيئة نفسها التي كانت عليها في الربيع السابق.. وكذلك ايجاد جميع أزهار الاشجار وثمارها واوراقها بسرعة خاطفة، كما كانت في الربيع الماضي.. وكذلك تنبّه البُذيرات والنوى والبذور وهي لا تحصى ولا تعد والتي هي منشأ ذلك الربيع في آن واحد معاً وانكشافها واحياؤها.. وكذلك نشور الجثث المنتصبة والهياكل العظمية للاشجار، وامتثالها فوراً لأمر "البعث بعد الموت".. وكذلك احياء افراد انواع الحيوانات الدقيقة وطوائفها التي لاحصر لها بمنتهى الدقة والاتقان.. وكذلك حشر أمم الحشرات ولاسيما الذباب (الماثل امام اعيننا والذي يذكرنا بالوضوء والنظافة لقيامه بتنظيف يديه وعيونه وجناحيه باستمرار ويلاطف وجوهنا) الذي يفوق عدد ما ينشر منه في سنة واحدة عدد بنى آدم جميعهم من لدن آدم عليه السلام.. فحشر هذه الحشرة في كل ربيع مع سائر الحشرات الاخرى واحياؤها في بضعة ايام، لايعطي مثالاً واحداً بل آلاف الامثلة على انشاء الاجساد البشرية فوراً يوم القيامة.
نعم، لما كانت الدنيا هي دار "الحكمة" والدار الآخرة هي دار "القدرة" فان ايجاد الاشياء في الدنيا صار بشئ من التدريج ومع الزمن. بمقتضى الحكمة الربانية وبموجب اغلب الاسماء الحسنى امثال "الحكيم، المرتّب، المدبر، المربي". اما في الاخرة فان "القدرة" و "الرحمة" تتظاهران اكثر من "الحكمة" فلا حاجة الى المادة والمدة والزمن ولا الى الانتظار. فالاشياء تنشأ هناك نشأة آنية. وما يشير اليه القرآن الكريم بـ (وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ) (النحل: 77)، هو ان ما ينشأ هنا من الاشياء في يوم واحد وفي سنة واحدة ينشأ في لمحة واحدة كلمح البصر في الآخرة.
واذا كنت ترغب ان تفهم ان مجئ الحشر أمر قطعي كقطعية مجئ الربيع المقبل وحتميته، فانعم النظر في "الكلمة العاشرة" و "الكلمة التاسعة والعشرين" الخاصتين بمسألة الحشر. وان لم تصدق به كمجئ هذا الربيع، فلك ان تحاسبني حساباً عسيراً.
الشعاع الثاني - ص: 45
المسألة الرابعة: وهي موت الدنيا وقيام الساعة، ومثاله هو: لو اصطدم كوكب سيار او مذنّب بأمر رباني بكرتنا الارضية التي هي دار ضيافتنا، لدمّر مأوانا ومسكننا - أي الارض - كما يُدمّر في دقيقة واحدة قصر بُني في عشر سنوات.
يكتفى بما ذكر حالياً من هذه المسائل الاربع التي تخص الحشر. ونرجع الى ما نحن بصدده.
أمن الممكن للقرآن المعجز البيان الاّ يكون كلام ذلك الصانع الجليل وهو المترجم البليغ لجميع حقائق الكون السامية، واللسان المعجز لجميع كمال خالق الكون، والجامع لجميع مقاصده؟ حاش وكلا بعدد اسرار آياته الكريمة.
أوَ من الممكن للصانع الحكيم الذي دفع جميع ذوي الحياة وذوي الشعور من مخلوقاته ليتكلم بعضهم مع بعض وينطقوا بالوف الانماط من الكلام والنطق وان يسمع اصواتهم ويعرفها ويستجيب لهم استجابة ظاهرة بافعاله وإنعامه ثم لايتكلم هو نفسه ويعجز عن الكلام ؟ فهل هناك احتمال لهذا ؟ وحيث انه يتكلم بالبداهة وان الانسان في مقدمة المخاطبين المدركين لكلامه، فلاشك ان القرآن الكريم اولاً وجميع الكتب المقدسة كلامه.
أوَ من الممكن ان يسخر الصانع الحكيم هذا الكون العظيم بانواعه واركانه لذوي الحياة حتى جعله مسكناً لهم ومعرضاً لهم ومضيفاً لهم فكثّر من انوع ذوي الحياة التي تعدّ بالالوف تكثيراً غزيراً حتى جعل كل ورقة من اوراق نبات الحَوَر، والنبق، ثكنة لنوع من الحشرات - الكائنات الذاكرة الطائرة في الهواء - ومهداً ورحماً لنموها كرحم الام ومخزناً لارزاقها.. يسخره تعريفاً بنفسه وتحبيباً لهاودفع مخلوقاته الى حمده والثناء عليه وبث الرضى والسرور في ذوي الحياة منها بأنواع احساناته وجعل رضاهم وامتنانهم محوراً مهماً لربوبيته.. فهل يمكن ان يترك هذا الصانع الحكيم السموات المزينة والنجوم المتلألئة المنثورة بلا مولى ولاروح ولاسكنة خالية خاوية على عروشها ودون فائدة ولاجدوى، اي دون ملائكة وروحانيات؟ حاش لله وكلا بعدد الملائكة والروحانيات.
أوَ من الممكن ان الصانع الحكيم المدبّر الذي يكتب بقلم قدره مقدرات حياة أصغر نبات واصغر شجرة بكمال الانتظام في نواته وثمرته، ويكتب مقدمات الربيع العظيم ونتائجه ككتابة شجرة واحدة بكمال الامتياز والانتظام، وانه يهتم حتى بما لا
الشعاع الثاني - ص: 46
أهمية له من الامور.. فهل يمكن لهذا الصانع الجليل الاّ يكتب الافعال المهمة جداً للانسان والاّ يسجل حركاته وسكناته ولايدخلها ضمن دائرة قدره ولايبالي به وهو الذي جعله نتيجة الكون وخليفة الارض وناظراً على انواع مخلوقاته ومشرفاً عليها؟ حاش لله وكلا بعدد اعمال الانسان التي توزن بالميزان..
حاصل الكلام:
ان الكون بجميع حقائقه ينادي ويقول:
آمنت بالله وملائكته وكتبه ورُسُلهِ وبالقَدرِ خَيرهِ وشرّهِ من الله تعالى والبعثُ بعد الموتِ حقٌ أشهدُ أن لا اله الاّ الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واخوانهِ وسلِّم آمين.
مناجاة توحيدية ومقدمتها
... لمناسبة تكرار اسم "سراج النور" في هذه الرسالة نوسع في ختامها مناجاة الامام علي رضي الله عنه - بدرجتين - جاعلين لساننا ينطق في سبيل لسانه الرفيع فنقدم هذه المناجاة الآتية الى ديوان الواحد الأحد جل وعلا.
مناجاة
اللّهم إنه ليسَ في السّمواتِ دوراتٌ ونجومٌ ومُحَّركاتٌ سيّاراتٌ، ولا في الجوّ سحاباتٌ وبروقٌ مسبِّحاتٌ ورَعداتٌ، ولا في الارض غَمَراتٌ وحيواناتٌ وعجائبُ مصنوعاتٍ، ولا في الجبالِ حجَراتٌ ونباتاتٌ ومدخرات معدنياتٍ، ولا في الاشجار ورقاتٌ وزهرات مزيناتٌ وثمراتٌ، ولا في الاجسام حَركاتٌ والاتٌ ومنظّماتُ جهازاتٍ، ولا في القلوبِ خَطراتٌ والهاماتٌ ومنوّراتُ إعتقاداتٍ.. الاّ وهي كلُّها على وجوب وجودكَ شاهداتٌ وعلى وَحدانيتك دآلاّتٌ وفي مُلككَ مُسخراتٌ فبالقدرة التي سخّرتَ بها الارضين والسموات سخّر لي نفسي وسخّر مَطلوبي وسخّر لرسائل النور ولخدمة القرآن والايمان قُلوبَ عبادكَ وقلوبَ المخلوقاتِ الرّوحانيات من العُلويات والسُفليات يا سميع يا قريب يا مجيبَ الدعوات..
والحمد لله ربّ العالمين
(سُبحانك لاعلمَ لنا الاّ ماعلمتنا انك انت العليم الحكيم)
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس