عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 239
ذيل الحبة
يا ناظر!
اظنني أحفر بآثاري المشوّشة عن أمرٍ عظيم بنوع اضطرارٍ مني.
فياليت شعري هل كَشَفتُ.. او سينكشفُ.. او انا وسيلة لتسهيل الطريق لكشّافه الآتي.
لا حولَ ولاقوّةَ الاّ بالله..
حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل.
اللّهمَّ لاتُخرِجنا مِنَ الدُّنيا الاّ مَعَ الشَّهادة والايمانِ.
المثنوي العربي النوري - ص: 240
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمةِ الايمان والاسلام، بِعدَدِ قطراتِ الامطار، وأمواجِ البحار وثَمراتِ الاشجار، ونُقوش الازهار ونَغماتِ الاطيار، ولَمعاتِ الانوار، والشُكرُ لهُ على كُلٍّ نِعمهِ في الاطوار، بعدد كُلِّ نِعمهِ في الادوار.
والصلاة والسّلامُ على سيّد الأبرار والأخيار مُحمّدٍ المختار، وعلى آلهِ الاطهارِ وأصحابه نُجومِ الهداية ذوي الانوار، مادامَ اللّيلُ والنهار..
اعلم! ان المسافر كما يُصادف في سيره منازلَ، لكلِّ منزلٍ شرائط تخصّهُ.. كذلك للذاهب في طريق الله مقامات ومراتب وحالاتٌ وحُجبُ واطوار، لكل واحدٍ طورٌ يَخصهُ؛ مَن خلَطَ غلطَ. كمثل مَن نزل في قرية اسطبلاً سمع فيه صهيل الفرس، ثم في بلدٍ نزل قصراً فسمع تَرَنُّم العندليب، فتوهم الترنم صهيلاً، واراد ان يستمع منه صهيل الفرس مغالطاً لنفسه.
اعلم! ان مما زيّن في عينك هذه الحياة تلألؤ تماثيل نجوم الهداية من اماثل الاسلاف في مرآة الدنيا، 1 بسرّ: أن المستقبل مرآة الماضي، والماضي يلتحق بالبرزخ - بمعناه - ويُودع صورته ودنياه في مرآة الاستقبال والتاريخ واذهان الناس. مثلك في حب الحياة بحبهم كمثل مَن صادف في وجه طريقه مرآة عظيمة فرأى فيها تماثيل رفقائه واحبابه الذاهبين الى الشرق (مغرّبين في المرآة) فيتوحش من الشرق فيهرول مغرباً. ولو كُشِفَ عن وجهك غطاءُ الغفلة لرأيتك تسرع في بيداء خالية يابسة لسراب وعذاب، لا لِعَذْبٍ وشراب..
اعلم! أن من عظيم علو القرآن واصدق دليل حقانيته:
محافَظَتهُ لكلِّ لوازمات التوحيد بمراتبه.. ومراعاتُهُ لموازنة الحقائق العالية الآلهية.. واشتماله على مقتضيات الاسماء الحسنى، والتناسب بينها.. وجمعهُ لشؤونات
_____________________
1 اي ان الصورالجميلة والنماذج الطيبة لاولئك الائمة العظام تحبب لك هذه الدنيا (ت: 123)

المثنوي العربي النوري - ص: 241
الربوبية والاُلوهية بكمال الموازنة. وهذه خاصيّةٌ ماوُجدَت قطُّ في أثر البشر وفي نتائج افكار اعاظم الانسان من الاولياء المارين الى الملكوت، والاشراقيين الذاهبين الى بواطن الامور، والروحانيين النافذين الى عالم الغيب. فانهم لايحيطون بالحقيقة المطلقة بانظارهم المقيدة، بل انما يشاهدون طَرفاً منها فيتشبثون به وينحبسون علىه ويتصرفون فيه بالافراط والتفريط.. فتختل الموازنة ويزول التناسبُ.
مَثلهم كمثل غوّاصين في البحر لكشف كنزٍ متزين ممتلء بما لايحصى من اصناف الجواهر، فبعضٌ صادف يدهُ ألماساً مستطيلاً مثلاً، فيحكمُ بأن الكنزَ عبارةٌ عن الماسٍ طويل، وإذا سمع من رفقائه وجود سائر الجواهر فيه يتخيلها فصوص ألماسه، وصادف آخرُ ياقوتا كروياً وآخر كهربا 1 مربعاً وهكذا. وكل واحد يعتقد مشهودَه جرثوم الكنز ومعظمه، ويزعم مسموعَه زوائده وتفرعاته، فتختل الموازنة ويزول التناسب، فيضطرون للتأويل والتصلف والتكلف حتى قد ينجرّون الى الانكار والتعطيل. ومَن تأمل في آثار الاشراقيين والمتصوفين المعتمدين على مشهوداتهم بلاتوزين بميزان السُّنة لم يتردد فيما قلت.
ثم انظر الى القرآن فانه ايضاً غواص لكن له عينٌ مفتوحة تحيط بالكنز ومافيه، فيصف الكنزَ كما هو عليه، بتناسب وانتظام واطراد مثلا:
يشتمل على ما تقتضيه عظمةُ مَن
(والارضُ جميعاً قبضَتُهُ يومَ القيامةِ والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ) 2.. وكما قال: (يومَ نَطوي السّمآءَ كَطيّ السّجلِّ للكُتُب) 3 مع انه (يُصوِّرُكـم في الارحـامِ كيـفَ يشــاءُ) 4 (مـامـن دآبــةِ الاّ هو آخذٌ بناصيتها) 5 و (خلق السّمواتِ والارضَ) 6 مـع انــــه (خـلَـقـكــــم ومـــا تَعـْمــلون) 7 (يـُحـيي الارض) 8

_____________________
1 حجر كريم مشهور، وهو صمغ شجرة اذا حكّ صار يجذب التبن وغيره.
2 الزمر : 67
3 الانبياء : 104
4 آل عمران : 6
5 هود : 56
6 الانعام : 73
7 الصافات : 96
8 الروم : 50

المثنوي العربي النوري - ص: 242
(وأوحى ربُّك الى النحلِ) 1 (والشمس والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمرهِ) 2 (أوَلم يروا الى الطيرِ فَوقَهُم صآفاتٍ ويقبضنَ ما يُمْسِكُهنَّ الا الرحمن إنه بكلِّ شيء بَصيرٌ) 3 ويكتب صحيفة السماء بنجومها وشموسها ككتابة صحيفة جناح النحلة بحجيراته وذراته (وسع كرسيّهُ السمــوات والارض) 4 مع انه (وهو مَعكُم أينَ ماكُنتم) 5 (هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ وهو بكلِّ شئ عليمٌ) 6 وهكذا.. وقس عليها.. ومايشاهد في نوع البشر من انواع الفرق الضالة، انما نشأت من قصور أئمتهم المارين الى الباطن المعتمدين على مشهوداتهم الراجعين من اثناء الطريق المصداقين لما قيل: "حفظت شيئاً وغابت عنك اشياء".
اعلم! ان توصيفَ السماء بالدنيا في:
(وَزيَّنّا السّماءَ الدُنيا) 7 ومقابلة الدنيا للآخرة، تشير الى ان السموات الست الاُخر ناظرة الى عوالم اخرى، من البرزخ الى الجنة، والمشهودة بنجومها وطبقاتهاسماء الدنيا. والله اعلم.
اعلم! انه جئ بك من العدمِ الى الوجود، ثم رقّاك موجِدُك من ادنى اطوارِ الوجود حتى اوصَلكَ بإنعامه الى صورة الانسان المسلم. فما تخلل بينك بين مبدأ حركتك من المنازل الكثيرة المتعددة كلٌ منها نعمةٌ عليك، وفيك ثمرةٌ وصبغةٌ من كلِّ واحدٍ. فصرتَ كقلادةٍ منظّمة، وعنقودٍ نضيدٍ بحبات النِعَم، وسنبلةٍ منضدة من الرأس الى القدم، كأنك فهرستة لطبقات نِعَمه تعالى؛ ولان الوجودَ يقتضي علّةً، والعدم لايقتضي.. كما تقرر في العقول.. تُسأل ويُسألُ عنك في كل منزل في مراتب الوجود من الذرة الى العدم: كيف وصلت الى هذه النعمة؟ وبِمَ استحقيتها وبـ"هل شكرت؟" ولايَسأل من له مسكةُ عقلٍ عن حَجَر لماذا ماصار شجراً، وعن شجرةٍ لماذا ماصارت انساناً...
_____________________
1 النحل : 68
2 الاعراف : 54
3 الملك : 19
4 البقرة : 255
5 الحديد : 4
6 الحديد : 3
7 فصلت : 12

المثنوي العربي النوري - ص: 243
فيا أيها السعيد المسكين المغرور! انت نقطةٌ في وسط سلسلةِ الموجودات، فعليك نِعَمٌ بعددِ ماتحتَك الى العدم الصرف، وانت مسؤولٌ عن شُكرها. واما مافوقك فليس لك ولالأحدٍ أن يسأل لماذا ماوصلت الى أعلى مما انت فيه، كما لاحقَّ للذرة ان تقول:(اي واه) لِمَ ماصرتُ شمساً، ولا للنحلةِ ان تقول لصانعها: هلا خلقتَني نخلةً مثمرة؟.. اذ ماتحتك وقوعاتٌ، ومافَوقك عدمات إمكانات شبيهة الممتنعات..
اعلم! يا انا! ان مما اهلككَ واهواكَ وأوهمك واهزاك وأذلك واضلك؛ أنك لاتعطي كل ذي حقٍ مقدارَ حقّه، وكل ذي حِمل حملَهُ بوسعه، بل تَفرُطُ وتُفرِّطُ فتحمِّل على نفرٍ ممثلٍ للجيش كلِّ لوازمات الجيش العَرَمْرم، وتتحرى في تمثال الشمس في عين القطرة او وجه الزهرةكلّ لوازمات عظمة شجرة الشمس المثمرة بالسيارات. نعم، القطرة والزهرة تصفان ولاتتصفان..
اعلم! ان المُلكَ له، وامانته، واشتراه، لافائدة في (المرق). لاخير فيما لايبقى. وإياك ونقض العهد معه. وعليك بالموت، والموت المنجر الى الحياة اولى من هذه الحياة المنقلبة الى الموت.
اعلم! 1 ان مافي المرآة كما انه "ليس عيناً ولاغيراً" فهو "عين وغيرٌ"، فمن حيث انه مظروف ملكوت المرآة "عين" فاحكامه احكام الاصل. ومن حيث انه صفة ملك المرآة المتلألئة به "غيرٌ"، فله اوصاف ناظرة الى المرآة، لا الى الاصل فقط. ومن الحيثيتين "لاعينٌ ولاغيرٌ". كما ان الشئ في مرآة الذهن - من وجه انه مظروفه - معلومٌ، ومن جهة انه صفته علمٌ مع تغاير لوازمهما...
اعلم! انه لاتزاحم بين العوالم المختلفة في نوع الوجود. فان شئت فادخل في ليلة مظلمة منزلاً منوراً بالمصابيح واربع جدرانه من الزجاجة التي هي نوع مشكاةٍ للعالم المثالي.
فأولاً: ترى فيها باتصال - الحقيقي بالمثالي - منازل عديدة متنورة عمّت البلد كأنه لاظلمة بمقدار مد النظر..
وثانياً: تراك تتصرف بالتغيير والتبديل بكمال السهولة في تلك المنازل..
_____________________
1 تفصيل هذه المسألة في "الكلمة السادسة عشرة".

المثنوي العربي النوري - ص: 244
وثالثاً: ترى السراج الحقيقي اقرب الى ابعد السُرُج المثالية من لصيقهِ، بل من نفسه لانه قيّومه..
ورابعاً: ترى ان حبةً من هذا الوجود تقتدر ان تقل وتحمل عالماً من ذلك الوجود.
فهذه الاحكام الاربعة تجري في مواد كثيرة حتى بين الواجب وعالم الممكنات التي وجوداتها ظلال انوار الواجب، فوجودها في مرتبة الوهم، لكن استقرّ وثَبتَ - بامره تعالى له - وجودٌ خارجي، فليس خارجياً حقيقة بالذات ولاوَهمياً محضاً ولاظلياً زائلاً بل له وجودٌ بايجاد الواجب الوجود. فتأمل..
اعلم! انه كما انه محال ان لايكون لهذا المُلك المُعتنى به مالك، كذلك محالٌ ان لايتعرف ذلك المالك الى الانسان الذي يدرك درجات محاسن الملك الدالة على كمالات المالك، مع ان ذلك الانسان كالخليفة في مهده الممهّد له يتصرف فيه كيف يشاء؛ بل في السقف المحفوظ السماوي ايضاً بعقله. ومع ذلك ان الانسان اشرفُ المخلوقات بشهادة تصرفاته العجيبة الخارقة مع صغره وضعفه، وانه اوسعُ الاسباب اختياراً بالبداهة. فبالضرورة يرسل المالك من يعرّف المالك الى مماليكه الغافلين عنه ويخبرهم مايرضى به ويطلبه منهم ذلك المالك جل جلاله..
اعلم! ان كل الحواس حتى الوهم والفرض والخيال يتفقون في النهاية على الحق ويلتجؤن اليه، ولايبقى عندهم للباطل امكان. فيقرون بان الكائنات لايمكن أن تكون الاّ على ما اخبَربه القرآن.. هكذا شاهدتُ وعقلي معي.
اعلم! انه كما لاتزاحم ولاتصادم بين عالم الضياء وعالم الحرارة وعالم الهواء وعالم الكهرباء (والالكتريقية) وعالم الجاذبة الى عالم الأثير والمثال والبرزخ. تجتمع الكلُّ بلا اختلاط معك في مكانك بلا تشكّ من أحدٍ منكم، من مزاحمةِ أخيه.. فهكذا يمكن ان يجتمع كثيرٌ من انواع العوالم الغيبية الواسعة في عالم أرضنا الضيقة. وكما لايعوقنا الهواء من السير ولايمنعنا الماءُ من الذهاب ولايمنع الزجاجُ مرورَ الضياء ولايعوقُ الكثيف ايضاً نفوذَ شعاع (رونتكن) ونورِ العقل وروح المَلَك، ولايمنع الحديدُ سيلانَ الحرارة وجريان (الالكتريق) ولايعوق شئ سريانَ الجاذبة وجولان
المثنوي العربي النوري - ص: 245
الروح وخدّامه وسيران نور العقل وآلاته.. كذلك هذا العالمُ الكثيف لايمنع ولايعوق الروحانيات من الدوران، والجن من الجولان، والشيطان من الجريان، والمَلَك من السيران..
اعلم! ان النور والنوراني كالعين والسراج والشمس، يتساوى لها الجزئي والنوع والجزء والكل والواحد والاُلوف. فانظر الى الشمس كيف انصبغت بتماثيلها السياراتُ والبحورُ والحياضُ والحبابات والقطرات والرشاشات (والشبنمات) والذرات الزجاجية، دفعةً بالسهولة والمساواةِ بين السيارات والذرات.
كذلك
(ولله المَثَلُ الأعْلى) تصرفات شمس الازل نور الانوار في كتاب الكائنات هكذا.. يكتُب كلَّ ابوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجمله وحروفه دفعةً بلا كُلفة كما قال: (مَاخَلقُكُمْ ولا بَعثُكُمْ الاّ كَنَفْسٍ واحدةٍ) 1.. آمَنــــّـــا..
اعلم! ان من تأمل في ذرات الاشياء وسَرَيانها الى حدود، ثم توقفها عندها لفوائدٍ وثمرات، تيقّن ان عند الحدود من يأمر الذرات بـ: قفي وانثني! كما يأمر القالبُ الذهبَ الذائبَ بلسان حديد، وينهى بـ: لاتَسِل واستقر! فيما عَيَّنَتْه لك معاطفي وتلافيفي المصنوعة لحِكم.
وآمرُ الذرات ما هو الاّ علمٌ محيطٌ يتجلى ذلك العلمُ قدراً، فينعكس القدَرُ مِقداراً فينطبع المقدارُ قالباً..
............ 2
اعلم! ان القرآن كما يفسّر بعضه بعضاً، كذلك ان كتاب العالم يفسِّر بعضُ آياته بعضها. فكما ان العالم المادي يحتاج احتياجاً حقيقياً الى شمس تفيض منها عليه انوارُ نعمته تعالى، كذلك العالمُ المعنوي يحتاج ايضاً الى شمس النبوة لفيضان اضواء رحمته تعالى. فنبوةُ احمد عليه الصلاة والسلام في الظهور والوضوح والقطعية بدرجة الشمس في وسط النهار، وهل يحتاج النهارُ الى دليل؟..
_____________________
1 لقمان : 28
2 في (ط1) : (اعلم) : ان الاسماء الحسنى ابواب متفاوتة ،ووجوه مختلفة ، ناظرة الى الذات، وقد تتجلى اسماء متقابلة في شئ واحد، كالمعطي والمانع والضار والنافع ، فيدل على انه كما يعطي لهذا قصداً ، يمنع ذلك الشئ من ذا بارادة ،ويضر ذاك بما ينفع هذا . كلاهما مرادان له تعالى ، ويتحدس من هنا : ان من اتصف بحقيقة اسمٍ من الاسماء يتصف بجميعها.

المثنوي العربي النوري - ص: 246
اعلم! ان الثمرات المترتبة على وجود الحي لاتنظر الى الحي وبقائه ونفعه وكماله فقط، بل اليه بحصةٍ ودرجة، والى المحيي جل جلاله بدرجات غير محصورة.. فحصةُ الحي قد لاتحصل الا بزمان مديد، لكن ما ينظُرُ الى المحيي قد يحصل في آنٍ سيال، كاظهار الحي - بمعكسيته ومظهريته لتجليات الاسماء الحسنى - حمدَ خالقهِ بتوصيفه بأوصافِ كماله وجماله وجلاله بلسان الحال..
اعلم! ان فرد الانسان كنوع سائر الانواع، بسر:
ان فرد الانسان له ماض ومستقبل يجتمع في الشخص معنىً كلُّ مَن مات منه من افراد نفسه؛ اذ في كل سنةٍ يموت منه فردان صورةً ويورثان فيه معنَييْهما من الآلام والآثام والآمال وغيرها، فكأنه فردٌ كلي.. واحاطةُ فكره وعقله ووُسعة قلبه وغيرها تعطيه نوعَ كليةٍ.. وكون فرده كنوعه في الخلافة والمركزية لعالمٍ خاص كالعالم العام.. والعلاقة الشعورية مع اجزاء العالم وتصرفه في كثير من انواع النباتي والحيواني والمعدني تحويلا وتغييراً خلافاً لسائر الحيوانات وغيرها، ايضاً تعطي له نوع كليةٍ، كأنَّ كلَّ فردٍ نوعٌ منحصر في الشخص.. ودعاء المؤمن لعموم اهل السموات والارض يشير الى ان الشخص يصير بالايمان كعالَم، او مركزه. فما تجري في نوع الحيوان من القيامات المكررة النوعية المشهودة في كل سنة - فان شئت فَانظُر الى آثارِ رحمة الله في كل سنة في الثمرات المتجددة الامثال كأنها اعيانها، والى حشر انواع الهوام والحشرات بكمال سهولة من القيامة - تجري بالحدس القطعي في كل فرد من افراد الانسان، فيدل كتاب العالَم في هذه الآيات التكوينية على قيام القيامة الكبرى لابناء البشر، كما يدل القرآن عليه بالآيات التنزيلية.. فالدلائل العقلية على القيامة ذكرتُها في "اشارات الاعجاز" 1 وفي الباب الثالث في "نقطة" 2 فراجعهما ان شئت، فان فيهما مايطرد عنك الوساوس ويطيّر عنك الاوهام..
اعلم! انك اذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الارشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام الى من تسمع منه، مايناسبها.

_____________________
1 في تفسير قوله تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) و (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات...)
2 وقد وسع الاستاذ المؤلف كلاً من الباب الثانى والباب الثالث من هذه الرسالة فاصبحا " الكلمة التاسعة والعشرين" لذا لم يدرجا ضمن رسالة »نقطة من نور معرفة الله« في هذا الكتاب.

المثنوي العربي النوري - ص: 247
فلك ان تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك الى الاستماع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي يقرأُه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الارض على ابنائها من بني آدم وغيرهم.
ولك ايضاان تستمع من جبرائيلوهو يخاطب النبيَّ في الافق الاعلى "عليهماالصلاة والسلام".
ولك ان تستمع من خلف سبعين الف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهو يتكلم مع النبي في قاب قوسين او ادنى. فألبسْ ان استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!..
اعلم! ان ما يتعلق بك منك من الشعور والعلم، انما هو بدرجة مايرجع اليك منك، بسر: عدم الاسراف، ومناسبة السبب للمسَّبب، والقوة للعمل. ومايرجع اليك بالنسبة الى مايرجع الى مَن خَلَقَك كنسبة شعرةٍ الى حبل، وخيط الى ثوب. فنسبة علمِك وشعورك المتعلقين بك بالنسبة الى علمِه وبصره المتعلقين بك كنسبة (تنور الذباب) 1 الذي يبرق منه النور كنُجيمة بتلمعه في النهار تحت ضياء الشمس المحيط به. وانت في ظلمات الغفلة، وليل الطبيعة ترى لمعتك نجماً ثاقباً..
اعلم! ان فيما بين افعال الله تناسباً، وبين آثاره تشابهاً، وبين اسمائه تعاكساً، وبين اوصافه تداخلاً، وبين شؤوناته تمازجاً. الاّ ان لكلٍ طوراً يخصُّه، يستتبع ماسواه في طوره. فلا يُتوجّه قصداً في بيته ودائرة حُكمه الى غيره، ولايُطلب لوازم الغير منه، لأن لازم اللازم ليس بلازم الاّ بقصدٍ جديد. اذ التابع لايُستتبع، كما ان الحرف التبعي لايُحكم عليه.
فاذا نظرت من آثاره الى الجامدات فتوجّه قصداً الى القُدرة والعظمة، ويتراءى لك تجليات سائر الاسماء استطراداً وتَبَعياً.
فاذا نظرت الى الحيوانات الغير الناطقة فالبَس لها طورها، فهكذا
(وكل شئ عندهُ بمقدار) 2 (خلق كل شئ فقدره تقديراً) 3.
اعلم! ان "لاَحَولَ ولاَقُوّةَ الاّ بالله" ينظر الى مراتب اطوار الانسان وادوار وجوده من الذرات الى الوجود الحي، معدناً جامداً، ونباتاً نامياً، وحيواناً حساسا، وانساناً مؤمناً، ففي كل مقام من تلك المنازل، ولكل لطيفة من لطائفه آلامٌ وآمال:
_____________________
1 المقصود: اليراعة.
2 الرعد : 8
3 الفرقان : 2

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس