عرض مشاركة واحدة
قديم 09-01-2008
  #2
نوح
رحمتك يارب
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,437
معدل تقييم المستوى: 18
نوح is on a distinguished road
افتراضي


توزيع المياه في دمشق ‏

تمَّ تمديد شبكات المياه في دمشق في عهود لم تكن تتوافر فيها الأنابيب المقاومة للضغط وأدوات المياه، ولذا فقد تغلب الفنيون في ذلك الحين على مشكلة ضغط المياه بوساطة كواسر للضغط تسمى (الطوالع)، ولها دور آخر، فهي تأخذ المياه من الشبكات وتوزعها بدورها على مختلف المنشآت بمقادير محددة ومتساوية. ‏

تتألف شبكة المياه من ثلاثة عناصر: 1* المأخذ: وهو عبارة عن ثقب دائري ضمن حجر بازلتي على الأغلب مثبت على أحد طرفي القناة على منسوب ثابت ويحدد هذا المأخذ كمية المياه التي تسيل عبره من القناة الى القساطل. ‏

2* القساطل: وهي عبارة عن قساطل أسطوانية تصنع من الفخار المشوي وهي متداخلة، ويكون قطر أحد طرفي القسطل أكبر من قطر الطرف الآخر لتسهيل التداخل. وكانت تصنع هذه القساطل في حي القساطلية الواقع مابين الشارع المستقيم وحي الشاغور، تمر القساطل على طبقة أساس ويجري تدليك القساطل ببعضها ثم يملأ الفراغ بين كل قسطلين بمادة لزجة تسمى (اللاؤونة) وهي عبارة عن مزيج من الكلس والقطن والزيت، ويبنى حول القساطل غلاف من مونة مؤلفة من الكلس والرماد. وتمتد هذه القساطل من مآخذ المياه الى الموزعات (الطوالع) الموجودة في الأحياء ومن الطوالع الى البيوت. ‏

3* الطالع ( الموزع): الطالع هو جهاز توزيع المياه على أصحابها، وهو عبارة عن بناء مربع تقريباً فوق سطح الأرض بارتفاع مترين تقريباً، تعلو الطالع في أعلاه بركة في وسطها فوهة التغذية، يصب في أسفل هذه الفوهة قسطل يصدر عن قناة أو طالع تخرج منها المياه، وعلى أطراف البركة توجد مجموعة فتحات لتصريف المياه حيث يصب الماء عبر هذه الفتحات في فوهات مستديرة متصلة بقساطل التصريف حيث تصل الى طوالع أخرى أو الى أصحاب الحقوق. يتم بناء الطالع من الآجر وتتخلله الأنابيب الداخلة اليه والصادرة عنه ويغطى بغطاء حديدي لحفظه من العبث والأوساخ، وغالباً مايكون موقع الطالع على مفترق الطرق والحارات أو ملاصقاً لقناة (كما هو الحال في طوالع القنوات) وتتمركز الطوالع الأقل أهمية في جدران المنازل على شكل فتحة يغطيها باب كأبواب الخزائن. والجدير بالذكر أن معظم الطوالع في مدينة دمشق اندثر والباقي منها أصبح مهملاً حيث أصبحت الحاجة اليه معدومة بعد تعميم مياه عين الفيجة. ‏

توزيع المياه بوساطة السبلان ‏

عندما كانت السيول تقذف الأتربة الحمراء في الأنهر خلال فترة الشتاء كانت المياه تحمل معها الرسوبات الى القساطل فتسدها فتصبح المياه عندئذ غير صالحة للشرب بسبب عكارتها، وكان الناس يلجؤون الى ملء أوانيهم من بعض العيون الموجودة حول المدينة (عين الكرش، عين الفيجة، عين الزينبية، عين علي) أو من الآبار المحفورة بالمنازل التي كانوا يستخرجون منها المياه السطحية الملوثة الى أن ارتأى الوالي العثماني ناظم باشا إسالة جزء من مياه الفيجة إلى دمشق بأنابيب محكمة وتوزيعه على مناهل منتشرة في أنحاء المدينة. وقد تمَّ جر المياه في العام (1908) بوساطة أنبوب من الفونت كان يصب في خزانين في المنطقة الشمالية المرتفعة من المدينة. هما، (خزان العفيف وخزان ظبيان) حيث يوزعان المياه على (400) سبيل كانت منتشرة في أنحاء المدينة، وكان الماء يجري فيها بمعدل ساعتين في الصباح والمساء وتكاد تكفي لسد حاجة السكان من مياه الشرب، وظل الأهلون يستعملون مياه الأنهار للأغراض المنزلية حتى عام (1932) حيث اجتمعت نخبة من أبناء الوطن المخلصين انبثقت عنهم لجنة تمكنت من تشكيل جمعية ملاكي المياه بدمشق انبثقت عنها لجنة عين الفيجة التي عملت على تنفيذ مشروع جر مياه عين الفيجة الى دمشق وتوزيعه بوساطة شبكات نظامية، وقد شمل المشروع: إنشاء حوض الحصر على نبع الفيجة. إنشاء قناة جر من نبع الفيجة الى دمشق. إنشاء ثلاثة خزانات (خزان الوالي، خزان الفواخير، خزان قاسيون العالي). وأخيراً تمديد شبكة مياه من الفونت تغطي معظم أحياء المدينة. وقد تمَّ جمع المبالغ اللازمة للمباشرة بالمشروع من المواطنين عن طريق حقوق انتفاع دائم من المياه. ‏

المياه وأثرها على الدمشقيين ‏

إذا تركنا النواحي الفنية لتأسيسات المياه في دمشق القديمة والإبداع في مد الشبكات والأقنية، وابتكار الطوالع ونشر السبلان في الأحياء وإيصال المياه الى المساجد والمدارس والحمامات وغيرها. نجد أن للمياه خصوصية طبعت الدماشقة بعادات وتقاليد بعضها لا يزال سائداً حتى يومنا هذا، ومثالنا على ذلك السيران الشامي، حيث نرى الناس في أوقات العطل يسارعون الى ضفاف بردى في الربوة والمقسم والمنشار والشادروان، يفترشون ضفاف النهر، ويحتلون المساطب والتخوت المقامة على ضفتي النهر، في مقاصف بسيمة وعين الخضراء وعين الفيجة والجديدة والربوة، يقضون أوقاتاً ممتعة، وقد اتخذت كل جماعة ناحية من المكان، حجبت فيه نفسها عن عيون الآخرين، والجميع في هذا السيران في شغل شاغل: هذه تعد السلطة والتبولة، وتلك تقلي المقالي (الباذنجان والبطاطا والبندورة والبصل)، وهذا يوقد النار للشواء وآخر يتبل اللحم بالملح والبهار ويجعله في الأسياخ لشيه. وترى الناس يتزاحمون على عربات القطار الذي يربط دمشق من محطة الحجاز حتى الزبداني ماراً بالربوة ودمر والهامة وبسيمة وعين الخضراء في رحلة ممتعة، والسيرنجية يترصدون ذلك القطار لتحية ركابه وهم على نوافذه يغنون ويمرحون «صفّر.. صفّر.. ياوابور وخذْنا على الزبداني.. ببقين بنعمل فطور والعشا ببلوداني»، بل إن المياه في دمشق قد أثرت تأثيراً هاماً على الفنون الدمشقية، فالماء هو العنصر الأساسي في لوحة الفسيفساء الموجودة في الجامع الأموي كما أن توفر المياه قد أغنى فنوناً دمشقية عديدة منها الغناء على سبيل المثال، فأغنية عطشان ياصبايا من التراث الشعبي المتداول وتقول الأغنية : «عطشان يا صبايا دلوني عالسبيل» وكلمة السبيل تختص بها مدينة دمشق دون غيرها من المدن السورية، وكذلك (الفسقية) الموجودة في البيت الدمشقي، وتعني البحرة الأنيقة في هندستها وألوانها وجمال نافورة المياه في وسطها. ‏

وأيضاً، (الطالع والهارب والسبع) كلمات لا يعرفها إلا الدماشقة لأنها رمز لتأسيسات مائية في مدينتهم. وهناك الكثير من المصطلحات ومظاهر الفن أوجدوها ليعبروا بها عن مياه مدينتهم واعتزازهم بهذه الثروة التي تغنى بها الشعراء ويستحضرنا هنا قول أمير الشعراء أحمد شوقي: ‏

آمنت بالله واستثنيت جنته دمشق روح وجنات وريحان ‏

جرى وصفق يلقانا بها بردى كما تلقاك دون الخلد رضوان ‏

وطرب لها المغنون وكانت فيروز قد شدت لدمشق ونهرها بقولها «قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب، وسائليني يا شآم، وشام ياذا السيف لم يغب، ومر بي يا واعداً وعدا». ‏

ونتساءل بكثير من اللوعة والأسى أين بردى الأمس من بردى اليوم؟ أهو إهمال البشر أم بخل الطبيعة أم حتمية التطور؟.. أياً كان الجواب فإن المقارنة محزنة وإننا مدينون الى بردى باحترام لم نعرف حتى الآن كيف نرده، ولن نرده إلا بإزالة التلوث منه.. وأين غوطة الأمس من غوطة اليوم والكتل الإسمنتية تجتاح البساتين الخضراء، وتحل محل جنة الله في أرضه حتى اختل التوازن بين دمشق وغوطتها؟!!.‏
__________________

نوح غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس