الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #36
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب التاسع والعشرون

هذا المكتوب التاسع والعشرون عبارة عن تسعة اقسام وهذا القسم، هو الاول منه يتضمن تسع نكات.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

أخي العزيز الوفي الصادق، وصاحبي الخالص الجاد في الخدمة القرآنية!

انكم تطلبون في رسالتكم هذه المرة، جواباً عن مسألة مهمة، لايسمح به وقتي وأحوالي.

أخي! لقد ازداد كثيراً هذه السنة، عدد الذين يكتبون رسائل النور والحمد لله. ويأتي اليّ التصحيح الثاني فانشغل به، بصورة سريعة طوال اليوم، لذا يتأخر كثير من أموري المهمة، اذ أرى ان هذه الوظيفة أهم من غيرها، ولاسيما في شهري شعبان ورمضان، حيث للقلب حظ أكبر من العقل، ويشرع الروح بالحركة. لهذا أؤجل هذه المسألة الجليلة الى وقت آخر بمشيئة الله، فمتى ما سنح للقلب شئ بفضل رحمته تعالى، اكتبه اليكم شيئاً فشيئاً.

والآن أبيّن ثلاث نكات(1):

C النكتة الاولى:

((لاتُعرف اسرار القرآن معرفة كاملة، ولم يدرك المفسرون حقيقته)). هذا المفهوم له وجهان. والقائلون به طائفتان:

الطائفة الاولى:

هم اهل الحق والعلم والتدقيق. فهم يقولون: ان القرآن الكريم كنز عظيم لاينفد، وان كل عصر يأخذ حظه من حقائقه الخفية التي هي من قبيل التتمات، مع التسليم بنصوص القرآن ومحكماته من دون ان يتعرض او يمس ما خفي من الحقائق من حظ اهل العصور الأخرى.

وحقاً ان حقائق القرآن تتوضح أكثر كلما مضى الزمان. ولايعني هذا ابداً القاء ظل الشبهة على ما بيّنه السلف الصالح من حقائق القرآن الظاهرة، لانها نصوص قاطعة وأسسٌ وأركان لابد مـن الايمان بهـا. وقـولـه تعـالى : } وهذا لسان عربي مبين{ (النحل: 103) يوضح ان معنى القرآن واضح مبين. فالخطاب الإلهي من اوله الى آخره يدور حول تلك المعاني ويقوّيها حتى يجعلها بدرجة البداهة. لذا فان رفض تلك المعاني المنصوص عليها يؤدي الى تكذيب الله سبحانه وتعالى (حاشلله) والى تزييف فهم الرسول الكريم e (حاشاه). بمعنى ان المعاني المنصوص عليها قد اُستُقيت من منبع الرسالة مسندة متسلسلة. حتى ان (ابن جرير الطبري) قد ألّف تفسيره الكبير الجليل مسنداً معاني القرآن جميعها الى منبع الرسالة.

الطائفة الثانية:

وهم اصدقاء حمقى، يفسدون اكثر مما يصلحون، او انهم اعداء ذوو دهاء شيطاني، يريدون أن يتصدوا للاحكام الاسلامية ويعارضوا الحقائق الايمانية، ويحاولون أن يجدوا منفذاً من السور القرآنية التي كل منها سور فلاذي لحصن القرآن الكريم ـ حسب تعبيركم ـ فهؤلاء يشيعون امثال هذه الاقوال ليلقوا الشبهات حول الحقائق الايمانية والقرآنية (حاشلله).

C النكتة الثانية:

لقد أقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بكثير من الاشياء. وفي الاقسام القرآنية نكات عظيمة جداً واسرار كثيرة جداً:

منها: ان القَسَم في } والشمس وضحيها{ (الشمس:1) يشير الى اظهار الكون كقصر عظيم ومدينة عامرة، والذي هو اساس التمثيل الرائع الوارد في (الكلمة الحادية عشرة).

ومنها: القَسم في؛ } يس ^ والقرآن الحكيم{ يذكّر به قدسية اعجاز القرآن، وانه بدرجة من الاهمية بحيث يقسم به.

وان القَسَم في } والنجم اذا هوى{ يشير الى ان سقوط النجوم علامة على انقطاع الاخبار الغيبية عن الجن والشياطين منعاً لورود شبهة على الوحي الإلهي. وفي الوقت نفسه فان القسم في } فلا اُقسم بمواقع النجوم ^ وانه لقَسَم لو تَعلَمُونَ عظيم{ (الواقعة:75ـ76) يذكّر بعظمة القدرة وكمال الحكمة في وضع النجوم في مواقعها بكمال الانتظام مع ضخامتها الهائلة، وتدوير السيارات الجسيمة بسرعة عظيمة.

ويذكّر القَسَم في } والذاريات{ وفي } والمرسلات{ بالحكم الجليلة التي في تموّجات الهواء وتصريف الرياح، اذ يقسم سبحانه بالملائكة المأمورين بوظيفة تصريف الرياح، فيلفت النظر الى ان الامور التي قد تظن انها تجري مصادفة تنفّذ حِكماً دقيقة وتؤدي وظائف جليلة.

وهكذا، فلكل موقع من مواقع القَسَم نكتته البليغة وفائدته. ولما كان الوقت لايسمح لنا بالتفصيل، فسنشير اشارة مجملة الى نكتة واحدة من النكات الكثيرة التي يتضمنها القَسَم في } والتين والزيتون{ وذلك:

ان الله سبحانه وتعالى يذكّر بالقسم بالتين والزيتون عظمة قدرته وكمال رحمته وعظيم نعمته، فيصرف وجه الانسان المتردّي الى اسفل سافلين ويحوّله عن ذلك التردي والهاوية، مشيراً اليه أنه بامكانه ان ينال مراتب معنوية رفيعة، بل يترقى الى أعلى عليين بالشكر والفكر والايمان والعمل الصالح.

اما تخصيص التين والزيتون بالقَسَم من بين النعم الاخرى، فهو:

ان هاتين الفاكهتين نافعتان مباركتان.. وان في خلقهما وما فيهما من نعم عظيمة يبعث على الملاحظة، لأن الزيتون يشكّل أساساً مهما في الحياة الاجتماعية والتجارية، وفي وسائل التنوير، وفي تغذية الانسان. كما ان في خلق التين ما يبين معجزة خارقة من معجزات القدرة الإلهية، كدرج أجهزة شجرة التين العظيمة وضمّها في بذيرة متناهية في الصغر. كما يذكّر بالقَسم به، بالنِعَم الإلهية في طعمه، وفي منافعه، وفي دوامه، خلاف أكثر الثمار. وفي الوقت نفسه يرشد الانسان ـ ازاء هذه النعم ـ الى ما يحول دون ترديه الى اسفل سافلين بالايمان والعمل الصالح.

C النكتة الثالثة:

ان الحروف المقطّعة الموجودة في أوائل السور، شفرات الهية، يعطي بها سبحانه بعض الاشارات الغيبية الى عبده الخاص، ومفتاح تلك الشفرة، لدى ذلك العبد الخاص، ولدى ورثته.

ولما كان القرآن الحكيم يخاطب جميع الطوائف البشرية في كل وقت وحين. فهو يتضمن من المعاني المتنوعة والوجوه الكثيرة الجامعة ما يكون حظ كل طائفة في كل عصر من العصور. وان أصفى المعاني والوجوه هي تلك التي بينها السلف الصالح بياناً واضحاً. وقد وجد الأولياء والمحققون اشارات معاملات غيبية في تلك المقطعات فيما يخص السير والسلوك الروحاني.

وقد بحثنا نبذة عن تلك المقطعات في تفسير ((اشارات الاعجاز)) في اوائل تفسير سورة البقرة. فليراجع.

C النكتة الرابعة:

لقد اثبتت (الكلمة الخامسة والعشرون)، انه لايمكن ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية، ولايمكن قطعاً ترجمة اسلوبه الرفيع في اعجازه المعنوي. وانه من الصعوبة جداً إفهام الذوق، وبيان الحقيقة النابعين من ذلك الاسلوب الرفيع في اعجازه المعنوي إلاّ اننا نشير للدلالة فحسب الى جهة او جهتين منه. وذلك: بقوله تعالى:

} ومن آياته خلق السّمواتِ والارضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانِكم{ (الروم:22)

} والسّمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ{ (الزمر: 67)

} يخلقكم في بطون أُمهاتكم خلقاً من بعدِ خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث{ (الزمر:6)

} خلق السّموات والارض في ستة ايام{ (الاعراف:54)

} يحول بين المرءِ وقلبه{ (الانفال:24)

} لايعزبُ عنه مثقالُ ذرة{ (سبأ:3)

} يولجُ الليلَ في النهارِ ويولجُ النهارَ في الليلِ وهو عليمٌ بذاتِ الصدورِ{ (الحديد: 6)

هذه الآيات الكريمة وأمثالها تضع نصب الخيال تصورحقيقة الخلاّقية، في اسلوب رفيع معجز وفي جمع خارق بديع. اذ يبين:

ان صانع العالم وباني الكون مثلما يمكّن الشمس والقمر في مواقعهما، يمكّن الذرات ايضاً في مواضعها في بؤبؤ عين الأحياء مثلاً، فيمكّن كلاً منها في موضعها بالآلة نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما ينظم السّماوات طباقاً ويفتحها أبواباً وينسقها تنسيقاً، ينظّم طبقات العين ويفتح أغطيتها بالميزان بالاداة نفسها والآلة المعنوية نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما يسمّر النجوم في السماوات، ينقّش مالايحد من نقاط العلامات الفارقة في وجه الانسان ويشق فيه الحواس الظاهرة والباطنة، بآلة القدرة المعنوية نفسها.

بمعنى ان ذلك الصانع الجليل لأجل إراءة أفعاله ملء البصر والسمع واظهار مباشرته أفعاله؛ يطرق بكلمةٍ من آياته القرآنية طرقةً على الذرة فيثبتها في موضعها، ويطرق بكلمةٍ اخرى من الآية نفسها طرقةً على الشمس ويثبتها في مركزها، فيبيّن الوحدانية في عين الأحدية، ومنتهى الجلال في منتهى الجمال، ومنتهى العظمة في منتهى الخفاء، ومنتهى السعة في منتهى الدقة، ومنتهى الهيبة في منتهى الرحمة، ومنتهى البعد في منتهى القرب. أي يظهر أبعد مراتب جمع الأضداد ـ الذي يُعدّ محالاً ـ في صورة درجة الواجب، مثبتاً ذلك بأبلغ أسلوب وأرفعه.

وهذا الاسلوب المعجز هو الذي يُخضع رقاب فطاحل الادباء فيخرون لبلاغته سُجّداً.

ومثلاً ؛ قوله تعالى:

} ومن آياته ان تقومَ السّماءُ والارض بأمره ثم اذا دعاكم دعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون{ (الروم:25).

تبيّن هذه الآية الكريمة عظمة ربوبيته سبحانه في اسلوب عالٍ رفيع. وذلك:

ان السماوات والارض بمثابة معسكرين في أتم طاعة وانقياد، وفي صورة ثكنة لجيشين عظيمين على أتم نظام وانتظام. وما فيهما من موجودات راقدة تحت غطاء الفناء وستار العدم تمتثل بسرعة تامة وطاعة كاملة أمراً واحداً او اشارة من نفخ في صور، لتخرج الى ميدان الحشر والامتحان.. فانظر كيف عبّرت الآية الكريمة عن الحشر والقيامة باسلوب معجز رفيع، وكيف أشارت الى دليل اقناعي في ثنايا المدّعى، مثلما تخرج البذور التي تسترت في جوف الارض كالميتة، والقطرات التي انتشرت مستترة في جو السماء وانتشرت في كرة الهواء، وتحشر بانتظام كامل وفي سرعة تامة، فتخرج الى ميـدان التـجـربة والامتحـان في كـل ربـيع، حتى تتـخذ الحبوب في الارض والقطـرات في السماء صورة الحـشر والنشور، كما هو مشاهد. وهكذا الامر في الحشر الاكبر وبالسهولة نفسها. واذ تُشاهد هذا هنا، فلا تقدرون على انكار الحشر.

وهكذا، فلكم ان تقيسوا على هذه الآية ما في الآيات الاخرى من درجة البلاغة.

فهل يمكن ـ ياترى ـ ترجمة أمثال هذه الآيات الكريمة ترجمة حقيقية؟. لاشك انها غير ممكنة.

فان كان ولابد، فإما أن تعطى معاني اجمالية مختصرة للآية الكريمة او يلزم تفسير كل جملة منها في حوالي ستة أسطر.

C النكتة الخامسة:

لنأخذ مثلاً، جملة قرآنية واحدة، وهي: ((الحمد للّه))، فان أقصر معنى من معانيها كما تقتضيه قواعد علم النحو والبيان، هو:

((كل فرد من افرادالحمد من اي حامد صدر وعلى اي محمود وقع من الازل الى الابد خاصٌ ومستحق للذات الواجب الوجود المسمى بالله))(1).

فقولنا:((كل فرد من افراد الحمد)) ناشئ من ((أل)) الاستغراق.

ومن ((اي حامدا كان)) فقد صدر من كون ((الحمد)) مصدراً، فيفيد العموم في مثل هذا المقام، لأن فاعله متروك.

((وعلى اي محمود وقع)) يفيد العموم والكلية، في مقام الخطاب، لترك المفعول.

أما ((من الازل الى الابد))، فيفيده الدوام والثبات، حسب قاعدة انتقال الجملة الفعلية الى جملة اسمية.



وان لام الجر في ((لله)) تفيد معنى ((خاصاً ومستحقاً)) لأن تلك اللام للاختصاص والاستحقاق.

اما ((للذات الواجب الوجود المسمى باللّه)) فان لفظ ((الله)) يدل دلالة التزامية على ((الواجب الوجود)) لأنه لفظ جامع لسائر الاسماء والصفات، وانه الاسم الاعظم، ولان ((واجب الوجود)) لازم ضروري للالوهية وهو عنوان لملاحظة الذات الجليلة.

فلئن كان أقصر المعاني الظاهرية لجملة ((الحمدلله)) على هذه الصورة، كما اتفق عليها علماء اللغة العربية، فكيف بترجمة القرآن الكريم الى لغة أخرى بنفس الاعجاز والقوة نفسها؟

ثم ان هناك لغة فصيحة واحدة فقط من بين ألسنة العالم ولغاته مما سوى اللغة العربية الفصحى، وهي لاتبلغ قطعاً جامعية اللغة العربية وشموليتها.

ان كلمات القرآن التي جاءت بتلك اللغة العربية الفصحى الجامعة الخارقة، وفي صورة معجزة، وصادرة من علم محيط بكل شئ يدير الجهات كلها كيف توفي حقهاكلمات ألسنة اخرى تركيبية وتصريفية في ترجمة مَن هو جزئي الذهن قاصر الشعور مشوش الفكر، مظلم القلب؟ أم كيف تملأ كلمات ترجمة محل تلك الكلمات المقدسة؟ حتى استطيع القول، واثبت ايضاً: ان كل حرف من حروف القرآن الكريم بمثابة خزينة من خزائن الحقائق، بل قد يحوي حرف واحد فقط من الحقائق ما يملأ صحيفة كاملة.

C النكتة السادسة:

لأجل تنوير هذا المعنى سأذكر لكم ما جرى عليَّ من حالة نورانية خاصة ومن خيال ذي حقيقة، توضيحاً لمعنى كلمة ((...نعبد)) وتبياناً لجانب خفي من سرَّها:

تأملت ذات يوم في ((ن)) المتكلم مع الغير في: } اياك نعبد وإيّاك نستعين{ وتحرّى قلبي وبحث عن سبب انتقال صيغة المتكلم الواحد الى صيغة الجمع (نعبد).. فبرزت فجأة فضيلة صلاة الجماعة وحكمتها من تلك ((النون))، اذ رأيت انه بسبب مشاركتي للجماعة في الصلاة التي أدَّيتها في جامع ((بايزيد)) يكون كل فرد منها بمثابة شفيع لي.

ورأيت ان كل فرد من أفراد تلك الجماعة شاهدٌ ومؤيدٌ لما أظهرته من أحكام وقضايا في قراءتي. فولّد ذلك عندي الشجاعة الكافية لكي أقدم عبادتي الناقصة، وأرفعها مضمومة مع العبادة الهائلة لتلك الجماعة الى الحضرة الإلهية المقدسة.

وبينما كنت أتأمل في هذا؛ اذا بستار آخر يُرفع، ورأيت أن جميع ((مساجد استانبول)) قد اتصلت وترابط بعضها ببعض؛ فأصبحت تلك المدينة كهذا الجامع، واستشعرت بشرف أدعيتهم جميعاً بل تصديقهم كذلك.

وهناك رأيت نفسي محشوراً في تلك الصفوف الدائرية على مسجد سطح الارض المتحلقة حلقات حول الكعبة المشرفة فحمدت الله كثيراً وقلت: ((الحمدلله رب العالمين)).. ان لي كل هذه الكثرة الكاثرة من الشفعاء، وممن يرددون معي، ويصدقونني في كل ما اقوله في الصلاة.

وقلت: ما دام الستار قد رفع هكذا خيالاً.. وأصبحت الكعبة المشرفة بحكم محراب لأهل الأرض، فلأغتنم اذن هذه الفرصة، ولأدع فيها خلاصة الايمان التي اذكرها في التشهد وهي، ((أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) وأسلمها أمانة عند الحجر الأسود. متخذاً الصفوف شهداء عليها.

وهنا انكشفت حالة اخرى، إذ رأيت:

ان الجماعة التي انضممت اليها قد أصبحت ثلاث جماعات ودوائر:

الأولى: هي الجماعة الكبرى المؤلفة من المؤمنين الموحدين على وجه الأرض قاطبة.

الثانية: هي جماعة الموجودات كافة حيث } كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه{ فرأيت نفسي مع صلاتها الكبرى وفي تسبيحاتها العظمى.. وأن ما يسمَّى وظائف الاشياء واعمالها، إن هو إلاّ عناوين عباداتها وعبوديتها..

فطأطأت رأسي حائراً أمام هذه العظمة قائلاً: ((الله اكبر)) وتأملت في نفسي وفي الدائرة:

الثالثة: ورأيت عالماً يبدأ من ذرات وجودي، وينتهي الى حواسي الظاهرة؛ فهو عالم صغير وصغير.. إلاّ أنه عظيم جداً يدعو الى الحيرة والاعجاب. وهو عالم ظاهره متناهٍ في الصغر إلاّ أن حقيقته عظيمة، ووظائفه جليلة.

نعم، رأيت أن كل جماعة من جماعات هذا العالم منهمكة بوظائف عبوديتها وواجبات شكرها. ورأيت أن اللطيفة الربانية التي هي في تلك الدائرة في قلبي تردد: } ايّاك نعبد وإيّاك نستعين{ باسم هذه الجماعة، مثلما ردّدها لساني بنية الجماعتين العظيمتين الأوليين.

والخلاصة: أن (نون) "نعبد" تشير الى هذه الجماعات الثلاث وتدل عليها.

وبينما أنا في هذه الحالة؛ إذا بالشخصية المعنوية المباركة لمبلّغ القرآن الكريم قد تمثلت أمامي بعظمته ووقاره.. وهو صلى الله عليه وسلم على منبره المعنوي (المدينة المنوّرة). وأسمع منه - كما سمع غيري - خطاباً إلهياً موجهاً..

} يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم..{ (البقرة: 21) فرأيت خيالاً أن كل مَن في تلك الجماعات الثلاث يتجاوب مثلي مع ذلك الخطاب الرباني العظيم قائلاً: } إيّاك نعبد{ .

وهناك تمثلت حقيقة أخرى أمام الفكر، حسب قاعدة: ((إذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه)) وهي:

ما دام رب العالمين قد اتخذ الانسان مخاطباً له، فيتكلم مع جميع الموجودات، وان هذا الرسول الكريم e قد قام بتبليغ ذلك الخطاب الرباني الجليل الى جميع البشر بل الى جميع ذوي الشعور، والى جميع ذوي الارواح، فلابد ان الماضي والمستقبل معاً قد اصبحا بحكم الزمن الحاضر، وغدت البشرية كافة مجلساً واحداً وجماعة واحدة في صفوف مختلفة متنوعة، حيث الخطاب موجه اليهم جميعاً.

هناك بدا لي أن كل آية من آيات القرآن الكريم في قمة البلاغة ومنتهى الجزالة، وفي غاية الاعجاز الذي يشع نوره الساطع، حيث أن الآية تكسب علوّها وسموّها وقوتها لصدورها: من ذلك المقام السامي الرفيع الذي لا نهاية لعظمته، ولا غاية لسعته ولا منتهى لسموه، من ذي الجلال والعظمة المطلقة، من المتكلم الازلي جل جلاله..

ومن مبلّغها الذي هو في مقام المحبوبية العظمى صاحب المنزلة الرفيعة والدرجة العالية. ومن توجهها الى المخاطبين الذين هم في منتهى الكثرة والأهمية والتباين.

لذا، تحقق عندي؛ انه ليس القرآن كله معجزة، بل كل سورة من سوره معجزة، وكل آية من آياته معجزة بل حتى كل كلمة فيه بحكم معجزة.

لذا قلت ((الحمدلله على نعمة الايمان والقرآن)).

وبهذا خرجت من ذلك الخيال الذي هو عين الحقيقة، كما دخلت فيه من (ن) نعبد، وفهمت أنه: ليست آيات القرآن ولا كلماتها معجزة وحدها، وانما كذلك حروف القرآن - كما في (ن) نعبد - هي مفاتيح نورانية لحقائق عظمى.

وبعدما خرج القلب والخيال من (ن) نعبد قابلهما العقل قائلاً:

- انني أطالب بحظي ونصيبي مما انتم فيه، فلا اتمكن من التحليق مثلكم، ولا استطيع السير الا باقدام الادلة والحجج.. اروني ما في (نعبد) و (نستعين) من الطريق الموصل الى (المعبود الحقيقي) و (المستعان الحقيقي) حتى أتمكن من مرافقتكم.

وعندها خطر للقلب أن:

- قل لذلك العقل الحائر أن يتأمل في جميع موجودات العالم سواءً منها الحي وغير الحي. فلكلٍ منها عبودية على شكل وظيفة من الوظائف على وفق نظام دقيق، وضمن اطاعة تامة.

ومع أن قسماً من تلك الموجودات دون شعور واحساس؛ فانه ينجز اعماله ووظائفه في غاية العبودية والنظام والشعور.

اذن لابدّ أن معبوداً حقيقياً وآمراً مطلقاً، يسخّر هذه الموجودات ويسوقها الى العبودية.

وقل له ليتأمل كذلك في جميع الموجودات ولاسيما الاحياء منها، فلكل منها حاجات كثيرة متنوعة، ولكلٍ منها مطاليب عدة ومختلفة لأدامة حياتها وبقاء نوعها. وبينما لا تصل أيديها الى أبسط تلك الحاجات والمطاليب، وليست هي في طوقها.. إذا بنا نشاهد أن تلك المطاليب التي لا تحد، تأتيها رغداً من كل مكان، بل تأتيها في أفضل وقت وأنسبه. فهذا الافتقار والحاجة غير المتناهيتين للموجودات، وهذه الإعانات الغيبية والإمدادات الرحمانية تدل بداهة على أن لها رزاقاً يحميها.

وهو غني مطلق.. كريم مطلق.. قدير مطلق.. بحيث يستعين به كل شئ، وكل حيّ، طالباً منه العون والمدد.

أي أن كل شئ في الوجود يقول ضمناً ومعنىً:

} وإيّاك نستعين{ وهناك استسلم العقل وقال: آمنا وصدّقنا.

C النكتة السابعة:

وبعد ذلك وانا اتلو: } اهدنا الصراط المستقيم ^ صراط الذين انعمت عليهم{ ، نظرت الى قوافل البشرية الراحلة الى الماضي، فرأيت ان ركب الأنبياء المكرمين والصديقين والشهداء والأولياء والصالحين أنور تلك القوافل واسطعها، حتى ان نوره يبدد ظلمات المستقبل؛ اذ انهم ماضون في جادة مستقيمة كبرى تمتد الى الابد.. وان هذه الجملة تبصّرني طريق اللحاق بذلك الركب الميمون، بل تلحقني به..

فقلت: ياسبحان الله، ما أفدح خسارة، وما أعظم هلاكَ مَن ترك الالتحاق بهذه القافلة النورانية العظمى، والتي مضت بسلام وأمان وازالت حجب الظلمات، ونورت المستقبل.. ان من يملك ذرة من شعور لابد ان يدرك هذا.

وان من ينحرف عن طريق تلك القافلة العظمى بإحداث البدع، اين سيلتمس النور ليستضئ، والى اين سيسلك؟.

فلقد قال قدوتنا الرسول الاكرم e (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)(1).

فالذين استحقوا ان يطلق عليهم اسم ((علماء السوء)) اولئك الشقاة، أية مصلحة يجدونها ازاء هذا الحديث في فتوى يفتونها، يعارضون بها بديهيات الشعائر الاسلامية، بما فيه ضرر ومن غير ضرورة، ويرون ان تلك الشعائر قابلة للتبديل! فان كان ثمة شئ، فلربما انتباهٌ موقتٌ ناشئٌ من سطوع المعنى المؤقت هو الذي خدعهم.

مثلاً: لو سلخ جلد حيوان، او نزع غلاف ثمرة، فان ظرافة مؤقتة تبدو من اللحم والثمرة، ولكن بعد مدة قليلة يسوّد ذلك اللحم الظريف، والثمرة اللطيفة، وذلك بتأثير ما يغلفهما من غلاف عرضي غريب كثيف ملوث، فيتعفنان..

كذلك التعابير الإلهية والنبوية التي هي في الشعائر الاسلامية، فهي بمثابة جلد حي مثاب عليه. ولدى انتزاعه يظهر شئ من نور المعاني موقتاً، وتطير أرواح تلك المعاني المباركة ـ بمثل ذهاب لطافة الثمرة المنزوع عنها الغلاف - تاركة الفاظها البشرية في القلوب والعقول المظلمة. ثم تغادر، ويذهب النور ولايبقى غير الدخان.. وعلى كل حال ..

C النكتة الثامنة:

ينبغي بيان دستور من دساتير الحقيقة الذي يخصّ هذا الامر. وذلك:

ان في الشريعة الاسلامية نوعين من الحقوق ((حقوق شخصية)) و ((حقوق عامة)) والتي هي من نوع ((حقوق الله)). وان من المسائل الشرعية ما يتعلق بالاشخاص ومنها ما يتعلق بالناس عامة، اي يتعلق بهم من حيث العموم، فيطلق على هذا القسم اسم ((الشعائر الاسلامية)) فالناس كلهم لهم حصة من هذا القسم، حيث يتعلق بالعموم، وان اي تدخل في هذا القسم من الشعائر واي مسّ بها، يعتبر تعدياً لحقوق اولئك الناس عامة، ان لم يكونوا راضين عنه. وان أصغر مسألة من تلك الشعائر (ولتكن من قبيل السنة) على جانب عظيم من الاهمية، كأية مسألة جليلة، لأنها تتعلق مباشرة بالعالم الاسلامي كافة.

ألا فليدرك اولئك الذين يسعون لقطع تلك السلاسل النورانية التي ارتبط بها جميع أعاظم الاسلام منذ خير القرون الى يومنا هذا، ويعاونون على تحريفها وهدمها. فلينظروا أيّ خطأ عظيم يرتكبون. وليرتعدوا إن كانت لهم ذرة من شعور!.

C النكتة التاسعة:

يطلق على قسم من المسائل الشرعية اسم ((المسائل التعبدية)) هذا القسم لايرتبط بمحاكمات عقلية، ويُفعل كما اُمر، اذ ان علّته هو الامر الإلهي.

ويعبّر عن القسم الآخر بـ((معقول المعنى)) أي ان له حكمة ومصلحة، صارت مرجّحة لتشريع ذلك الحكم. ولكن ليست سبباً ولاعلة. لأن العلّة الحقيقية هي الأمر والنهي الإلهي.

فالقسم التعبدي من الشعائر لاتغيّره الحكمة والمصلحة قطعاً، لأن جهة التعبّد فيه هي التي تترجح، لذا لايمكن ان يُتدخل فيه او يمس بشئ، حتى لو وجدت مائة ألف مصلحة وحكمة، فلا يمكن ان تغيّر منها شئ. وكذلك لايمكن ان يقال: إن فوائد الشعائر؛ هي المصالح المعلومة وحدها. فهذا مفهوم خطأ، بل ان تلك المصالح المعلومة، ربما هي فائدة واحدة من بين حكمها الكثيرة.

فمثلاً: لو قال أحدهم: ان الحكمة من الأذان هي دعوة المسلمين الى الصلاة، فاذاً يكفي ـ بهذه الحالة ـ اطلاق طلقة من بندقية! ولايعرف ذلك الأبله ان دعوة المسلمين هي مصلحة واحدة من بين ألوف المصالح في الأذان. حتى لو اعطى ذلك الصوت تلك المصلحة فانه لايسدّ مسدّ الأذان الذي هو وسيلة لاعلان التوحيد الذي هو النتيجة العظمى لخلق العالم، وخلق نوع البشر. وواسطة لاظهار العبودية ازاء الربوبية الإلهية باسم الناس في تلك البلدة او باسم البشرية قاطبة.

حاصل الكلام: ان جهنم ليست زائدة عن الحاجة، فان كثيراً من الأمور تدعو بكل قوة: لتعش جهنم. وكذا الجنة ليست رخيصة بل تطلب ثمناً غالياً.





} لايستوي أصحاب النارِ وأصحابُ الجَنّة أصحابُ الجَنّة همُ الفائزون{

(الحشر:20)

القسم الثاني

وهو الرسالة الثانية

رسالة رمـضان

لقد بحث نبذة مختصرة عن الشعائر الاسلامية في ختام القسم الاول، لذا سيذكر في هذا القسم الثاني عدد من الحكم التي تخص صيام شهر رمضان المبارك والذي هو اسطع الشعائر واجلّها.

هذا البحث عبارة عن تسع نكات دقيقة ومسائل لطيفة تبين تسعاً من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} شهْرُ رَمـضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للِنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ{

(البقرة: 185)

C النكتة الاولى: أن صيام شهر رمضان يأتي بين أوائل الاركان الخمسة للاسلام، ويُعدّ من أعاظم الشعائر الاسلامية.

ان أكثر الحكم المتمخضة عن صوم رمضان تتوجّه الى إظهار ربوبية الحق تبارك وتعالى، كما تتوجّه الى حياة الانسان الاجتماعية والى حياته الشخصية، وتتوجه أيضاً الى تربية النفس وتزكيتها، والى القيام بالشكر تجاه النِعَم الإلهية.

نذكر حكمةً واحدة من بين الحِكم الكثيرة جداً من حيث تجلي ربوبية الحق تبارك وتعالى من خلال الصوم وهي:

ان الله سبحانه وتعالى قد خلق وجهَ الأرض مائدةً ممتدة عامرة بالنِعم التي لا يحصرها العد، وأعدها اعداداً بديعاً من حيث لا يحتسبه الانسان. فهو سبحانه يبيّن بهذا الوضع، كمالَ ربوبيته ورحمانيتَه ورحيميته. بيد أن الانسان لا يبصر تماماً - تحت حجاب الغفلة وضمن ستائر الاسباب - الحقيقة الباهرةَ التي يفيدها ويعبّر عنها هذا الوضع، وقد ينساها.. أما في رمضان المبارك فالمؤمنون يصبحون فوراً في حكم جيش منظــّم، يتقلدون جميعاً وشاح العبودية لله، ويكونون في وضعٍ متأهب قُبيل الافطار لتلبية أمر القادر الازلي: ))تفضّلوا(( الى مائدة ضيافته الكريمة.. فيقابلون - بوضعهم هذا - تلك الرحمة الجليلة الكلّية بعبودية واسعة منظمة عظيمة.. تُرى هل يستحق اولئك الذين لم يشتركوا في مثل هذه العبودية السامية، وفي مثل هذه الكرامة الرفيعة أن يُطلق عليهم اسم الانسان؟

C النكتة الثانية: ان هـناك حكماً عدة يتوجه بها صيامُ رمضان المـبارك بالشكـر على النعَم التي أسبغها الباري علينا، احداها:

أن الأطعمة التي يأتي بها خادمٌ من مطبخ سلطانٍ لها ثمنُها - كما ذُكر في الكلمة الاولى - ويُعدّ من البلاهة توهّم الاطعمة النفيسة تافهةً غير ذات قيمة، وعدمُ معرفة مُنعمها الحقيقي، في الوقت الذي تُمنح الخادم هبات وعطايا لأجلها. وكذلك الاطعمة والنعم غير المعدودة التي بثّها الله سبحانه في وجه الارض فانه يطلب منّا حتماً ثمنَها، ألا وهو القيام بالشكر له تجاه تلك النِعم. والاسباب الظاهرية التي تُحمل عليها تلك النعم وأصحابها الظاهرون هم بمثابة خَدَمة لها، فنحن ندفع الخدام ما يستحقونه من الثمن ونظل تحت فضلهم ومنتهم بل نبدي لهم من التوقير والشكر اكثر مما يستحقونه والحال أن المنعم الحقيقي سبحانه يستحق - ببثّه تلك النِعَم - أن نقّدم له غاية الشكر والحمد، ومنتهى الامتنان والرضا، وهو الأهلُ لكل ذلك، بل أكثر. اذن فتقديم الشكرلله سبحانه واظهار الرضا ازاء تلك النعم انما يكون بمعرفة صدور تلك النعم والآلاء منه مباشرة.. وبتقدير قيمتها.. وبشعور الحاجة اليها.

لذا فان صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمدٍ عظيم عام لله سبحانه. وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نِعَمٍ كثيرة - غير مضطرين إليها في سائر الاوقات - لعدم تعرّضهم لقساوة الجوع الحقيقي وأوضاره. فلا يُدرِك - مثلاًِ ـ درجةَ النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء منعّمين، بينما يدركها المؤمن عند الافطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد على ذلك قوته الذائقة. لذا ينال الصائمون في رمضان - ابتداءاً من السلطان وانتهاء بأفقر فقير - شكراً معنوياً لله تعالى منبعثاً من ادراكهم قيمةَ تلك النعم العظيمة. أما امتناع الانسان عن تناول الاطعمة نهاراً فانه يجعله يتوصل الى ان يدرك بأنها نعمةٌ حقاً، اذ يخاطب نفسه قائلاً:

((ان هذه النِعم ليست مُلكاً لي، فأنا لست حراً في تناولها، فهي اذن تعود الى واحد آخر، وهي أصلاً من إنعامه وكَرَمه علينا، وانا الآن في انتظار أمره)).. وبهذا يكون قد أدى شكراً معنوياً حيال تلك النعم.

وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقية للانسان.

C النكتة الثالثة: أن حكمة واحدة للصوم من بين حكمه الغزيرة المتوجهة الى الحياة الاجتماعية للانسان هي:

أن الناس قد خُلقوا على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الاغنياءَ لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء. ولا جرم أن الاغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعوراً كاملاً حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا احساساً تاماً بجوعهم، الا من خلال الجوع المتولد من الصوم..فلولا الصوم لما تمكن كثير من الأغنياء التابعين لاهوائهم أن يدركوا مدى ألم الجوع والفقر ومدى حاجة الفقراء الى الرأفة والرحمة. لذا تصبح الشفقة على بني الجنس - المغروزة في كيان الانسان - هي احدى الاسس الباعثة على الشكر الحقيقي، حيث يمكن أن يجد كل فرد أياً كان مَنْ هو أفقرَ منه من جهة، فهو مكلّف بالاشفاق عليه.

فلو لم يكن هناك اضطرار لإذاقة النفس مرارةَ الجوع، لما قام أحد اصلاً باسداء الاحسان الى الآخرين والذي يتطلبه التعاون المكلّف به برابطة الشفقة على بني الجنس، وحتى لو قام به لما أتقنه على الوجه الأكمل، ذلك لأنه لا يشعر بتلك الحالة في نفسه شعوراً حقيقياً.

C النكتة الرابعة: ان صوم رمضان يحوي من جهة تربية النفس البشرية حكماً عدة، احداها هي:

أن النفس بطبيعتها ترغب الانفلات من عقالها حرة طليقة، وتتلقى ذاتها هكذا. حتى أنها تطلب لنفسها ربوبية موهومة، وحركة طليقة كيفما تشاء، فهي لا تريد أن تفكر في كونها تنمو وتترعرع وتُربى بِنعمٍ إلهية لا حد لها، وبخاصة اذا كانت صاحبة ثروة واقتدار في الدنيا، والغفلة تساندها وتعاونها. لذا تزدرد النعم الإلهية كالانعام دون إذن ورخصة.

ولكن تبدأ نفسُ كل شخص بالتفطن في ذاتها في رمضان المبارك، ابتداء من أغنى غني الى أفقر فقير، فتدرك بأنها ليست مالكة، بل هي مملوكة، وليست حرة طليقة، بل هي عبدة مأمورة، فلا تستطيع أن تمدّ يدَها الى أدنـى عمل من غير أمر، بل حتى لا تستطيع أن تمدها الى ماء.. وبهذا ينكسر غرور ربوبيتها الموهومة، فتتقلد ربقة العبودية لله تعالى، وتدخل ضمن وظيفتها الاساس وهي ((الشكر)).

C النكتة الخامسة: ان لصوم رمـضان حكماً كثيرة من حيـث توجـهه الى تهـذيب النفس الامارة بالسوء، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية. نذكر منها حكمة واحدة:

أن النفس الانسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غيرمحدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لا تريد أن ترى هذه الامورالكامنة في ماهيتها، فلا تفكر في غاية ضعفها ومدى تعرضها للزوال ومدى استهداف المصائب لها، كما تنسى كونها من لحم وعظم يتحللان ويفسدان بسرعة، فتتصرف واهمة كأن وجودها من فولاذ وأنها منزّهة عن الموت والزوال، وأنها خالدة أبدية، فتراها تنقضّ على الدنيا وترمي نفسها في أحضانها حاملة حرصاً شديداً وطمعاً هائلاً وترتبط بعلاقة حميمة ومحبة عارمة معها، وتشد قبضتها على كل ما هو لذيذ ومفيد، ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيّها بكمال الشفقة والرأفة فتهوي في هاوية الاخلاق الردئية ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة اُخراها.

ولكن صوم رمضان يُشعر أشد الناس غفلة وأعتاهم تمرداً بضعفهم وعجزهم وفقرهم، فبوساطة الجوع يفكر كلُّ منهم في نفسه وفي معدته الخاوية ويدرك الحاجة التي في معدته فيتذكر مدى ضعفه، ومدى حاجته الى الرحمة الإلهية ورأفتها، فيشعر في أعماقه توقاً الى طرق بابِ المغفرة الربانية بعجز كامل وفقر ظاهرمتخلياً عن فرعنة النفس متهيئاً بذلك لطرقِ باب الرحمة الإلهية بيد الشكر المعنوي (ان لم تفسد الغفلة بصيرته).

C النكتة السادسة: ان من الحكم الوفيرة في صيام رمضان المبارك من حيث توجهه الى نزول القرآن الكريم ومن حيث أن شهر رمضان هو أهم زمان لنزوله، نورد حكمة واحدة فقط هي:

لما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلابد من التجرد عن الحاجيات الدنيئة للنفس، ونبذ سفساف الامور وترهاتها استعداداً للقيام باستقبال ذلك الخطاب السماوي استقبالاً طيباً يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية؛ بترك الاكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القرآن الكريم تلاوةً كأن الآيات تتنزل مجدداً ، والاصغاء اليه بهذا الشعور بخشوع كامل، والاستماع الى ما فيه من الخطاب الإلهي للسمو الى نيل مقام رفيع وحالة روحية سامية، كأن القارئ يسمعه من ا لرسول الاكرم e ، بل شد السمع اليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الازلي سبحانه وتعالى، ثم القيام بتبليغ القرآن الكريم وتلاوته للآخرين تبياناً لحكمة من حكم نزوله.

ان العالم الاسلامي في رمضان المبارك يتحول الى ما يشبه المسجد، ويا له من مسجد عظيم تعج كل زاوية من زواياه، بل كل ركن من أركانه، بملايين الحفَّاظ للقرآن الكريم. يرتلون ذلك الخطاب السماوي على مسامع الارضيين، ويظهرون بصورة رائعة براقة مصداق الآية الكريمة: شَهْرُ رَمضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ الْقرآن.. مثبتين بذلك أن شهر رمضان هو حقاً شهر القرآن. أما الافراد الآخرون من تلك الجماعة العظمى فمنهم من يلقي السمع اليهم بكل خشوع وهيبة، ومنهم من يرتل تلك الآيات الكريمة لنفسه..

ألا ما أقبح وما أزرى الانسلاخ من هذا المسجد المقدس الذي له هذا الوضع المهيب، لهاثاً وراء الاكل والشرب تبعاً لهوى النفس الامارة بالسوء! وكم يكون ذلك الشخص هدفاً لاشمئزاز معنوي من قبل جماعة المسجد؟ وهكذا الامر في الذين يخالفون الصائمين في رمضان المبارك فيصبحون هدفاً لازدراء واهانةٍ معنويين - بتلك الدرجة - من قبل العالم الاسلامي كله.

C النكتة السابعة: ان صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الانسان - الذي جاء الى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الاُخروية وتجارتها - له حكم شتى. الا اننا نذكر واحدة منها هي:

ان ثواب الاعمال في رمضان المبارك يضاعَف الواحدُ الى الالف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعدّ عشر حسنات، ويجلب عشرثمار من ثمرات الجنة - كما جاء في الحديث الشريف - ففي رمضان يولّد كل حرف ألفاً من تلك الثمرات الأخروية بدلاً من عشرٍ منها، وكل حرف من حروف آيات - كآية الكرسي - يفتح الباب أمام الالوف من تلك الحسنات لتتدلى في الآخرة ثماراً حقيقية. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجُمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفاً من الحسنات ليلة القدر.

نعم، ان القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفاً من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية - كشجرة طوبى الجنة - بحيث يُغنِم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين.. تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المُربِحة وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدّرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟

وهكذا، فان شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الاُخروية او هو سوق في غاية الحركة و الربح لتلك التجارة وهو كالارض المنبتة في غاية الخصوبة والغَناء لإنتاج المحاصيل الاُخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الاعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدّس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الالوهية.

لأجل كل ذلك فقد أصبح الانسان مكلَّفاً بالصوم، لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الامور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية" حيث قد خرج مؤقتاً من الحيوانية ودخل الى وضع مشابهٍ للملائكية، أو أصبح شخصاً اُخروياً وروحاً ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة اُخروية وتخلّيه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة.

نعم، ان رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر الزائل وفي هذه الحياة القصيرة عمراً باقياً وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر - بنص القرآن الكريم - حجة قاطعة لهذا السر.

فكما يحدد سلطان أياماً معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم أو أي يوم آخر من الايام الزاهرة لدولته، جاعلاً من تلك الايام مناسبات وأعياداً لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الايام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهراً لأحسانه وانعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم الى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصّهم برعايته الخاصة ويحيطهم بكرمه وباجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة.. كذلك القادر الازلي ذو الجلال والاكرام وهو سلطان الازل والابد وهو السلطان الجليل لثمانية عشرألف عالم من العوالم، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية وقرآنه الحكيم المتوجه الى تلك الالوف من العوالم، لذا فان دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة وذلك العيد المفرح فلابد أن يؤمَر فيه بالصوم، ليسمو الناس - الى حدٍ ما - على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الانسان كالعين والاذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها الى عبودية خاصة لكل منها.

فمثلاً: يروّض الانسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده والصلوات والسلام على الرسول الكريم e والاستغفار، وما شابهه من أنواع الاذكار.

ومثلاً: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذئ، ويدفع عينه الى النظر بعبرةٍ واُذنَه الى سماع الكلام الحق والقرآن الكريم. ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.

ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جداً إن عطّلت أعمالَها بالصيام فان تعطيل المعامل الصغيرة الاخرى يكون سهلاً ميسوراً.

C النكتة الثامنة: ان حكمة من الحكم الكثيرة لصيام رمضان المبارك المتعلقة بالحياة الشخصية للانسان تتلخص بما يأتي:

ان في الصوم نوعاً من أنواع العلاج الناجع للانسان وهو ((الحِمية)) سواء المادية منها أو المعنوية، فالحِمية ثابتة طباً. إذ إن الانسان كلما سلكت نفسُه سلوكاً طليقاً في الأكل والشرب سبّب له أضراراً مادية في حياته الشخصية. وكذلك الحال في حياته المعنوية، اذ إنه كلما إلتهم ما يصادفه دون النظر الى ما يحل له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت، حتى يصل به الامر ان تستعصي نفسُه على طاعة القلب والروح فلا تخضع لهما. فتأخذ زمامَها بيدها وهي طائشة حرة طليقة، وتسوق الانسانَ الى شهواتها دون أن تكون تحت سيطرة الانسان وتسخيره.

أما في رمضان المبارك فان النفس تعتاد على نوع من الحِمية بوساطة الصوم وتسعى بجد في سبيل التزكية والترويض وتتعلم طاعة الاوامر، فلا تصاب بأمراض ناشئة من امتلاء المعدة المسكينة وادخال الطعام على الطعام. وتكسب قابلية الاصغاء الى الاوامر الواردة من العقل والشريعة. وتتحاشى الوقوع في الحرام بما أخذت من أمر التخلي عن الحلال. وتجدّ في عدم الاخلال بالحياة المعنوية وتكدير صفوها.

ثم أن الاكثرية المطلقة من البشرية يُبتلَون بالجوع في أغلب الاحيان. فهم بحاجة الى ترويض، وذلك بالجوع الذي يعوّد الانسان على الصبر والتحمل. وصيام رمضان هو ترويض وتعويد وصبر على الجوع يدوم خمس عشرة ساعة أو أربعاً وعشرين ساعة لمن فاته السحور. فالصوم اذن علاج ناجع لهلع الانسان وقلة صبره، وعدم تحمله الامور اللذين يضاعفان من مصيبة الانسان وبلاياه.

والمعدة كذلك هي نفسها بمثابة معمل لها عمال وخَدَمَة كثيرون، وهناك في الانسان أجهزة ذات علاقات وارتباطات معها، فان لم تعطَّل النفسُ مشاغلَها وقت النهار مؤقتاً لشهر معين ولم تدعها، فانها تُنسي أولئك العمال والخَدَمَة عباداتهم الخاصة بهم، وتُلهيهم جميعاً بذاتها، وتجعلهم تحت سيطرتها وتحكمها، فتشوش الامر على تلك الاجهزة والحواس وتنغّص عليها بضجيج دواليب ذلك المصنع المعنوي وبدخانه الكثيف، فتصرف أنظار الجميع اليها وتنسيهم وظائفهم السامية مؤقتاً. ومن هنا كان كثير من الاولياء الصالحين يعكفون على ترويض أنفسهم على قليل من الاكل والشرب، ليرقوا في سلّم الكمال.

ولكن بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يُخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده، بل تتلذذ ايضاً تلك الاجهزة والحواس بلذائذ سامية وتتمتع تمتعاً ملائكياً وروحانياً في رمضان المبارك ويركزون أنظارهم اليها بدلاً من اللهو الهابط لذلك المصنع. لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الانوار والفيوضات والمسرات المعنوية - كلٌ حسب درجته ومنزلته - فهناك ترقيات كثيرة وفيوضات جمة للقلب والروح والعقل والسر وأمثالها من اللطائف الانسانية في ذلك الشهر المبارك. وعلى الرغم من بكاء المعدة ونحيبها فان تلك اللطائف يضحكن ببراءة ولطف.

C النكتة التاسعة: ان صوم رمضان من حـيث كسرهِ الربوبية المـوهومة للنـفس كسـراً مباشراً ومن ثم تعريفها عبوديتها واظهار عجزها أمامها، فيه حكم كثيرة، منها:

أن النفس لا تريد أن تعرف ربها، بل تريد أن تدعي الربوبية بفرعونية طاغية. فمهما عُذبَت وقُهرت فان عِرق تلك الربوبية الموهومة يظل باقياً فيها. فلا يتحطم ذلك العرق ولا يركع الا أمام سلطان الجوع.

وهكذا، فصيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس. فيكسر شوكتها مُظهراً لها عجزها، وضعفها، وفقرها، ويعرّفها عبوديتها.

وقد جاء في احدى روايات الحديث: ان الله سبحانه قال للنفس: ((مَن أنا وما أنتِ؟)) أجابت النفس: ((أنا أنا، أنت أنت)) فعذّبها الربُ سبحانه وألقاها في جهنم، ثم سألها مرة أخرى فأجابت: ((أنا أنا، أنت أنت)) ومهما أذاقها من صنوف العذاب لم تردع عن أنانيتها.. ثم عذبها الله تعالى بالجوع، أي تركها جائعة، ثم سألها مرة أخرى: من أنا وما أنتِ؟ فأجابت النفس: أنتَ ربيِ الرحيم وأنا عبدُك العاجز.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمـضان وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون^ وسلامٌ على المُرسَلين^ والحمدُ لله رَبِّ العالَمين{ آمــيـن(1)

القسم الثالث

وهو الرسالة الثالثة

لقد كتب هذا القسم لاستشارة اخواني في خدمة القرآن، وليكون تنبيهاً لي، لإنفاذ ما كنت أحمل من نيّة مهمة حول كتابة مصحف شريف، يظهر فيه نقش اعجازي، وهو قسم من مائتي قسم من أقسام اعجاز القرآن الكريم، فعرضت لهم تلك النيّة لمعرفة ارائهم حول كتابة ذلك المصحف الشريف الذي يبين النقش الاعجازي، مع الاعتماد على المصحف المكتوب بخط الحافظ عثمان(1)،واتخاذ آية ((المداينة)) وحدة قياس لطول الصفحة و((سورة الاخلاص)) لطول السطر..

وهذا القسم الثالث؛ عبارة عن تسع مسائل:

C المسألة الاولى: لقد اثبت في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) المسماة بـ((المعجزات القرآنية)) بالبراهين القاطعة ان أنواع أعجاز القرآن الكريم تبلغ أربعين نوعاً. وقد بيّن بعض أنواعه مفصّلاً حتى ازاء المعاندين، بينما ظلت أنواع أخرى بصورة مجملة.

وقد تبيّن كذلك في الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) ان القرآن الكريم يبرز اعجازه على وجوه مختلفة أزاء اربعين طبقة من طبقات الناس، إذ اثبتت تلك الاشارة ان لكل طبقة من تلك الطبقات العشرة حظها من الاعجاز..

اما الطبقات الثلاثون الباقية، فقد أظهرالقرآن الكريم اعجازه لأصحاب المشارب المختلفة من الاولياء، ولأرباب العلوم المتنوعة والدليل على ذلك ايمانهم التحقيقي الذي بلغ درجة علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛بأن القرآن الكريم هو كلام اللهحقاً.

بمعنى ان كل واحد منهم قد رأى وجهاً من وجوه الاعجاز.

نعم؛ ان جمال جلوات الاعجاز يختلف باختلاف المشارب، اذ الاعجاز الذي يفهمه وليّ من العارفين يختلف عن الاعجاز الذي يشاهده ولي غارق في العشق الإلهي. وان وجه الاعجاز الذي يشاهده إمام من أئمة أصول الدين غير الوجه الذي يشاهده مجتهد في فروع الشريعة.. وهكذا.

ولما كنت لاأقدر على الايضاح المفصل لكل وجه من تلك الوجوه المختلفة، لقصر نظري عن رؤيتها، وضيق ذهني عن استيعابها، فقد اُوضحت عشر طبقات منها فقط. فاكتفيت بالاشارة المجملة الى بقيتها. ولكن ظلت في حينه طبقتان منها في ((المعجزات الاحمدية)) بحاجة الى مزيد من التوضيح، فالآن نوضحهما:

الطبقة الاولى: وهم الذين يدركون الاعجاز باسماعهم، اذ الشخص العامي ـ من عوام الناس ـ لايستمع للقرآن إلاّ بأذنه، ولايفهم اعجازه إلاّ بالسمع. أي انه يقول:

ان هذا القرآن الذي أسمعه لايشبه أي كتاب آخر. فإما أنه فوق جميعها او تحت جميعها. وهذا الأخير لايستطيع ان يقول به أحد قط، ولم يقله، بل حتى الشيطان نفسه لايستطيع ان يتفوه به. فهو إذن فوق الجميع. وقد جاء بهذا الاجمال في (الاشارة الثامنة عشرة). ثم وضح هذا الاجمال في (المبحث الاول) من (المكتوب السادس والعشرين) المعروف بـ(حجة القرآن على حزب الشيطان) الذي يصور فهم تلك الطبقة من الاعجاز ويثبته.

الطبقة الثانية: وهم الذين لايرون الاعجاز إلاّ بالعين، أي أن للقرآن الكريم اشارة اعجازية تشاهد بالعين، حتى من قبل عوام الناس والماديين الذين سالت عقولهم الى عيونهم فلايؤمنون إلاّ بما يشاهدون. وقد اُدعيّ هذا الإدّعاء في (الاشارة الثامنة عشرة). وكان من الضروري ان يوضح أكثر لاثبات تلك الدعوى، ولكن لم يسمح الوقت بذلك، لحكمة ربانية مهمة، قد فهمناها الآن. لاجل هذا فقد اُشير الى بعض جهاتها الجزئية اشارات بسيطة.

والآن، بعد ان توضح سر تلك الحكمة اقتنعنا قناعة كاملة بأن تأخيره كان هو الأولى. ولتيسير فهم تلك الطبقة وتسهيلاً لهم ليتذوقوا نوع الاعجاز للقرآن، استكتبنا مصحفاً شريفاً يبيّن ذلك الوجه من الوجوه الأربعين للاعجاز.



ان بقية مسائل هذا القسم الثالث مع القسم الرابع لم تدرج هنا، لأنها تخص التوافقات، فاكتفينا بالفهرس الخاص للتوافقات وانما كتبت النكتة الثالثة من القسم الرابع مع تنبيه.

تنبيه: لقد كُتبت مائة وستون آية كريمة في صدد بيان النكتة العظيمة في لفظ ((الرسول)) الوارد في القرآن الكريم، ومع ان لهذه الآيات الكريمة خواصاً جليلة فان كلاً منها تثبت وتكمل الاخرى من حيث المعنى. لذا يمكن ان تكون تلك الآيات حزباً قرآنياً لمن يريد ان يحفظ آيات مختلفة او يتلوها.

وكذلك في الآيات (التسع والستين) الواردة فيها لفظ (القرآن)، في صدد بيان النكتة العظيمة للفظ (القرآن)، يلاحظ ان بلاغة هذه الآيات الجليلة فائقة جداً، وجزالتها عالية جداً. ويوصى الاخوان أن يتخذوا منها حزباً قرآنياً آخر.

وكلمة (القرآن) الواردة في المصحف الشريف، وردت في صورة سبع سلاسل، وظلت كلمتان منها خارج السلاسل، وكانت تلكما الكلمتان بمعنى القراءة، مما شدّ ـ بخروجهما ـ من قوة النكتة.

اما لفظ (الرسول)، فان سورة ((محمد)) وسورة ((الفتح)) هما من أكثر السور القرآنية ذات العلاقة.. ولذلك حصرنا نظرنا في السلاسل الظاهرة في تلكما السورتين، ولم يُدرج ـ في الوقت الحاضر ـ ماظل منه خارج السلسلة.

وستكتب بمشيئة الله ما في لفظ (الرسول) من أسرار إن سنح لنا الوقت.

النكتة الثالثة:وهي في أربع نكات:

النكتة الاولى: ان لفظ الجلالة (الله) ورد في مجموع القرآن الكريم ألفين وثمانمائة وست مرات. وورد لفظ (الرحمن) ـ مع ما في البسملة ـ مائة وتسعاً وخمسين مرة، وورد لفظ (الرحيم) مائتين وعشرين مرة. ولفظ (الغفور) احدى وستين مرة، ولفظ (الرب) ثمانمائة وستاً واربعين مرة، ولفظ (الحكيم) ستاً وثمانين مرة، ولفظ (العليم) مائة وستاً وعشرين مرة، ولفظ (القدير) احدى وثلاثين مرة، ولفظ (هو) في (لا إله إلاّ هو) ستاً وعشرين مرة(1).

وفي عدد لفظ الجلالة (الله ) أسرار ونكات كثيرة.

منها: ان أكثر ماورد في القرآن هو لفظ (الله ) و (الرب) ويليهما عدداً ألفاظ (الرحمن والرحيم والغفور والحكيم)، وان عدد هذه الألفاظ مع لفظ (الله ) هو نصف عدد آيات القرآن الكريم.

وان لفظ الجلالة (الله ) مع لفظ (الرب) الوارد بمعنى (الله ) نصف عدد آيات القرآن ايضاً. اذ ان لفظ (الرب) المذكور ثمانمائة وستاً واربعين مرة، خمسمائة وبضع منه قد ذكرت بدلاً عن لفظ الجلالة (الله )، ومائتان وبضعٌ منه ليسـت بمعنـى (الله).

وان مجموع عدد لفظ الجلالة (الله ) مع عدد الفاظ (الرحمن والرحيم والعليم) مع عدد من لفظ (هو) في (لاإله إلاّ هو)؛ هو نصف آيات القرآن ايضاً ، والفرق أربعة أعداد .

ومع لفظ (القدير) - عوضاً عن لفظ (هو) - هو نصف عدد مجموع الآيات ايضاً، والفرق تسعة اعداد.

نكتفي الآن بهذه النكتة، اذ النكات كثيرة في مجموع لفظ الجلالة.

النكتة الثانية: وهي باعتبار السور القرآنية، ولها ايضاً نكات كثيرة، ولها توافقات تدل على إنتظام وقصد وإرادة.

منها: ان عدد لفظ الجلالة(الله ) في سورة (البقرة) مساوٍ لعدد آياتها، والفرق أربعة أعداد. وهناك أربعة الفاظ من (هو) بدلاً عن لفظ(الله ) كما هو في (لاإله إلاّ هو) وبها يتم التوافق.

وان عدد لفظ الجلالة (الله ) في سورة (آل عمران)، متوافق مع عدد آياتها ويساويها، ولكن لفظ (الله ) ورد في مائتين وتسع آيات بينما عدد آيات السورة مائتا آية، فالفرق اذن تسع آيات، ولاتخل الفروق الصغيرة في مثل هذه المزايا الكلامية والنكات البلاغية، اذ تكفي التوافقات التقريبية.

وان عدد آيات السور الثلاث (النساء والمائدة والأنعام) يتوافق ايضاً مع مجموع عدد ما في هذه السور الثلاث من لفظ الجلالة (الله ) اذ إن عدد الآيات ـ في هذه السور ـ أربعمائة واربع وستون، وعدد لفظ الجلالة (الله ) اربعمائة وواحد وستون، وهما متوافقان تماماً، اذا عدّ لفظ الجلالة في البسملة.



وكذلك فان عدد لفظ الجلالة في السور الخمس الاولى؛ هو ضعف عدد لفظ الجلالة في سور (الاعراف والانفال والتوبة ويونس وهود)، اي ان عدده في هذه السور الخمس الثانية هو نصف عدده في السور الخمس الاولى.

وان عدد لفظ الجلالة في السور التالية (يوسف والرعد وابراهيم والحجر والنمل) هو نصف ذلك النصف.

ثم ان عدده في سور(الاسراء والكهف ومريم وطه والانبياء والحج)(1) نصف نصف ذلك النصف.

وان السور التالية بعدها بخَمس سورٍ وخَمس سوٍر تدوم بتلك النسبة تقريباً. ولكن هناك فروق ببعض الأعداد الكسرية، ولابأس في مثل هذه الفروق في مثل هذا المقام الخطابي.

مثلاً: ان قسماً منها مائة واحدى وعشرون، وآخر مائة وخمس وعشرون وآخر مائة واربع وخمسون. وآخر مائة وتسع وخمسون.

ثم ان في السور الخمس التالية تبدأ من (سورة الزخرف) ينزل العدد الى النصف، اي ينزل الى نصف نصف ذلك النصف.

والسور الخمس التي تبدأ من (سورة النجم) يكون العدد نصف نصف نصف نصف ذلك النصف، ولكن بصورة مقاربة، ولاضرر في فروق الكسورات الصغيرة في مثل هذه المقامات الخطابية.

ثم في ثلاث مجموعات من السور الخمس الصغيرة، ثلاثة أعداد من لفظ الجلالة.

فهذه الكيفيات تدل على ان المصادفة لم تخالط أعداد لفظ الجلالة، بل عينت وفق حكمة وانتظام.

النكتة الثالثة: للفظ الجلالة (الله )، وهي المتوجهة الى اوضاعها في صفحات المصحف الشريف، وذلك :

ان عدد لفظ الجلالة في الصحيفة الواحدة، له علاقة بوجه تلك الصحيفة اليمنى، وبالصحيفة المقابلة لذلك الوجه، واحياناً بالصحيفة المقابلة لها في الجانب الأيسر، وبوجه ماوراءها.

وقد تتبعتُ هذا التوافق في نسخةٍ من مصحفي، فرأيت توافقاً بنسبة عددية جميلة للغاية، على الأغلب، وقد وضعت اشارات عليها في مصحفي، فكثيراً ما كانت تتساوى واحياناً تصبح نصفاً او ثلثاً، وعلى كل حال تُشعر بحكمة وانتظام.

النكتة الرابعة: هي التوافقات في الصحيفة الواحدة.

وقد تابعتُ مع اخواني ثلاث او اربع نسخ مختلفة من المصحف، قابلناها بعضها ببعض، فتوصلنا الى قناعة بان التوافقات مطلوبة ايضاً في جميعها، ولكن وقع شئ من الخلل في التوافقات بسبب مراعاة مستنسخي المطابع مقاصد اخرى.

فاذا ما نُظمت ونسّقت فستشاهد التوافقات في مجموع القرآن في عدد لفظ الجلالة البالغ (ألفين وثمانمائة وستة) باستثناء نادر جداً، وستشعر في ذلك نور اعجاز عظيم. لأن فكر الانسان لايمكن ان يحيط بهذه الصفحات الواسعة جداً، ولايستطيع ان يتدخل فيها قطعاً.

اما المصادفة فلاتنال يدها هذه الاوضاع الحكيمة.

ونحن نستكتب مجدداً مصحفاً شريفاً ليبرز (النكتة الرابعة) الى حدٍ ما مع المحافظة على صحائف المصاحف الأكثر انتشاراً، والمحافظة على سطورها مع تنظيم لمواضع منه تعرّضت لعدم الانتظام بسبب تهاون ارباب الصناعة، وعند ذلك سيظهر سر انتظام التوافقات الحقيقي ان شاء الله، وقد اُظهر فعلاً.

اللهم يامنزل القرآن بحق القرآن فهّمنا أسرار القرآن ما دار القمران

وصل وسلم على من انزلت عليه القرآن وعلى آله وصحبه اجمعين..

آمــيـن

القسم الخامس

وهو الرسالة الخامسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} الله نورُ السّمواتِ والارض{ (النور:35)

في حالة روحية في شهر رمضان المبارك شعرتُ بنور من أنوار هذه الآية الكريمة، ورأيت ما يشبه الخيال؛ ان الموجودات جميعها، والاحياء كلها تناجي ربها الجليل وتتضرع اليه بمناجاة ((أويس القرني)) المشهورة، والمستهلة بـ:

الهي أنت ربي وانا العبد .. وانت الخالق وانا المخلوق.. وانت الرزاق وانا المرزوق... الخ.

فرأيت في هذه الواقعة القلبية الخيالية ما أورثني القناعة بان كل اسم من الاسماء الإلهية هو نور لكل عالم من العوالم الثماني عشرة ألفاً؛ كالآتي:

ان اوراق الورد مثلما تغلف الواحدة الاخرى، تستر التي تليها، كذلك رأيت هذا العالم، كل عالم يُغلّف بالوفٍ من الاستار والحجب، فتستر تحتها عوالم اخرى. ورأيت كذلك، انه كلما رفع ستار وازيل حجاب اذا بعالم آخر يظهر تجاهي، وان ذلك العالم يتراءى لي في ظلمة دامـسة ووحشة رهيـبة كما تـصـوره الآية الـكــريمة: } أو كَظُلماتٍ في بحرٍ لُجّي يَغشَيهُ موجٌ مِنْ فوقهِ مَوجٌ من فوقه سَحابٌ ظلماتٌ بعـضها فوقَ بعضٍ اذآ أخرجَ يَدهُ لم يكدْ يَريها ومَن لم يَجعَل الله لهُ نوراً فما لهُ من نور{ (النور:40).

واذ انا أرى هذا العالم في مثل هذه الظلمات اذا بجلوة من جلوات اسم إلهي تشع شعاعاً عظيماً كنور يغمر ذلك العالم من أوله الى آخره بالنور. فكلما بدا مشهد من مشاهد هذه العوالم، ويُرفع ستار من استارها أمام العقل، ينفتح باب الى عالم آخر أمام الخيال. واذ يتراءى انه غارق في ظلام، بسبب الغفلة، واذا باسم الهي يتجلى كالشمس المنيرة، فينوّر ذلك العالم كله.. وهكذا.

ولقد استمر طويلاً هذا السير القلبي والسياحة الخيالية، نذكر منها:

انني لما رأيت عالم الحيوانات، وتأملت في عجزها وضعفها وشدة حاجاتها وشدة عوزها وجوعها، بدا لي ذلك العالم، انه عالم غارق في ظلام دامس وحزن ملازم، واذا بإسم (الرحمن) يشرق كالشمس الساطعة من برج اسم (الرزاق) ـ أي في معناه ـ فنوّر ذلك العالم برمته بضياء الرحمة.

ثم رأيت بين ذلك العالم، عالم الحيوانات، صغارها والاطفال، رأيتها وهي تنتفض ضعفاً وعجزاً وحاجة، فعالمها مظلم قاتم، يهزّ عواطف وشفقة كل من يراه.. واذ أنا أرى هذه الحالة المؤلمة اذا بإسم (الرحيم) يشرق من برج (الشفقة) وينشر أضواءه الزاهية على العالم كله وحوّله الى عالم بهيج حلو لطيف، بل حوّل دموع الشكوى والعطف والحزن الى دموع تتقطر فرحاً وسروراً وشكراً.

ثم رُفع الستار واذا بمشهد عالم الانسان يتراءى أمامي، كمشاهد السينما، وهو عالم قد غشيه الظلام الدامس، وتلفه الظلمات الكثيفة والرعب المستديم، حتى استغثت من شدة فزعي ومن هول مارأيت، حيث رأيت: ان الآمال المغروزة في الانسان والممتدة الى الابد، وأن أفكاره وتصوراته المحيطة بالكون، وان هممه واستعداداته ومواهبه التي تطلب البقاء الأبدي والسعادة الأبدية وهي التواقة الى الجنة الخالدة، يكمن معه ـ في هذا الانسان ايضاً ـ فقر شديد وحاجة دفينة، رغم توجهه الى مقاصد لاتنتهي، ومطالب لامنتهى لها، مع ضعف ملازم رغم انه معرّض لهجمات مصائب واعداء كثيرة.. زد على ذلك؛ ليس له الاّ عمر قصير جداً، وحياة تعيسة، وعيش مضطرب، يذوق مرارة الزوال والفراق اللذين يوجعان قلبه ألماً شديداً دائماً، حيث ينظر ـ بنظر الغفلة ـ الى القبر الماثل أمامه أنه ظلمات سرمدية، يُرمى بهم في تلك الحفرة المظلمة أفراداً وجماعات.

فما أن رأيت هذا العالم عالم الانسان غارقاً في مثل هذه الظلمات، حتى تهيأت جميع لطائفي الانسانية مع القلب والروح والعقل، بل جميع ذرات وجودي للبكاء والاستغاثة، واذا باسم الله (العادل) يشرق من برج (الحكيم)، وباسم (الرحمن) يشرق من برج (الكريم) وباسم (الرحيم) يشرق من برج (الغفور) - أي في معناه -



وباسم (الباعث) يشرق من برج (الوارث)، وباسم (المحيي) يشرق من برج (المحسن)، وباسم (الرب) يشرق من برج (المالك). فنوّرت هذه الاسماء الإلهية عوالم كثيرة جداً ضمن عالم الانسان، وفتحت نوافذ من عالم الآخرة المنوّرة. ونثرت أنواراً ساطعة على دنيا الانسان المظلمة.

ثم رفع ستار آخر عن مشهد عظيم آخر، وهو مشهد عالم الارض، فظهر أمام الخيال عالم رهيب، اذ القوانين العلمية المظلمة للفلسفة تجعل الانسان الضعيف في ظلمة موحشة، حيث تسير الارض في فضاء العالم غير المحدود بسرعة تفوق سرعة القذائف بسبعين مرة، وتدور في مسافة تبلغ خمساً وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، وهي التي يمكن ان تتبعثر وتتشتت في كل وقت وآن بما تحمل في جوفها من زلازل هائلة وهي المعمرة الهرمة.. ولشدة قتامة الظلام المخيم على هذا العالم، دار رأسي من هولها، واذا باسم (خالق السموات والارض) واسماء الله؛ (القدير، العليم، الرب، الله، رب السموات والارض، مسخّر الشمس والقمر) أشرقت من أبراج الرحمة والعظمة والربوبية، فنورت ذلك العالم الذي خيّم عليه الظلام بأنوار ساطعة، حولت تلك الكرة الارضية الى مايشبه سفينة سياحية، في منتهى الانتظام والتسخير والكمال والراحة والاطمئنان، ورأيتها انها حقاً مهيأة للتنزه والسياحة والاستجمام والتجارة.

حاصل الكلام: ان كل اسم من ألف اسم واسم من الاسماء الإلهية المتوجهة للكون، ينور كالشمس العظيمة عالماً من العوالم، بل ينور كل ما في تلك العوالم من عوالم، إذ كانت تتراءى جلوات الاسماء الاخرى ضمن تجلي كل اسم من الاسماء، وذلك بسر الأحدية.

فكأن القلب في هذه السياحة ينبسط ويزداد شوقه الى المزيد منها كلما رأى أنواراً مختلفة وراء كل ظلمة. حتى انه اراد ركوب الخيال ليجول في السماء، وعندها رفع الستار عن مشهد واسع عظيم جداً، فدخل القلب في عالم السماوات، ورأى:

ان تلك النجوم التي تنثر الابتسامات النورانية هي أعظم من كرة الارض جسامة، وتسير أسرع منها وتدور متداخلة فيما بينها، لو ضيعتْ احداها طريقها، وتاهت دقيقة واحدة، لاصطدمت اذن مع غيرها، وعندها تنفلق وتدوي دوياً هائلاً وتندلق احشاء الكون ويتفتت. فلاتشع النجوم بعدُ نوراً بل تستطير ناراً، ولاتوزع الابتسامات النورانية بل تخيم عليها الظلمات الدائمة. وهكذا رأيت السماوات - بهذا الخيال ـ عالماً واسعاً خالياً رهيباً محيراً مذهلاً. فندمت على مجيئي اليها ألف ندم، ولكن وانا أعاني هذه الحالة اذا بالاسماء الحسنى لـ (رب السموات والارض) ولـ(رب الملائكة والروح ) تشرق بجلواتها من برج } ولقد زينّا السّماء الدنيا بمصابيح{ (الملك:5). و } وسخّر الشمس والقمر{ (الرعد:2). فالتمست النجومُ التي غشيتها الظلمات لمعة نور من تلك الأنوار العظيمة ـ من حيث ذلك المعنى استنارت السماء بمصابيح بعدد النجوم. وامتلأت بالملائكة والروحانيات وعمّرت بعد ان كانت تُظن خالية خاوية، ورأيت ان تلك الشموس والنجوم الجارية كأنها جيش من جيوش رب العالمين، سلطان الأزل والابد، وكأنها تتحرك وتدور ضمن مناورة راقية، تظهر عظمة ربوبية ذلك المليك المقتدر.

فقلت بما أملك من قوة، بل لو استطعت لتلوت بكل ذرات وجودي، وبلسان جميع المخلوقات لو كانوا يسمعون لي الآية الكريمة:

} الله نورُ السّمواتِ والارضِ مَثَلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مِصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنها كوكبٌ دُريّ يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولاغربية يكاد زيتها يـُضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدي الله لنورهِ من يشاء{ (النور:35).

ورجعت الى الارض وهبطت من السماء، وأفقت من تلك الواقعة، وقلت:

الحمد لله على نور الايمان والقرآن

القسم السادس

وهو الرسالة السادسة



كتب هذا البحث تنبيهاً لتلاميذ القرآن وايقاظاً للعاملين له ليحول دون انخداعهم.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار{ (هود :113)

(( ان هذا القسم السادس، يجعل باذن الله، ستاً من دسائس شياطين الانس والجن بائرة عقيمة، ويسد في الوقت نفسه ستة من سبل الهجمات)).

الدسيسة الاولى

يحاول شياطين الانس ـ بما استوحوه من شياطين الجن ـ ان يخدعوا خدام القرآن ويصرفوهم عن ذلك العمل المقدس وذلك الجهاد المعنوي الرفيع، وذلك بتزيين حب الجاه والشهرة لهم، كالآتي :

ان في الانسان ـ بصورة عامة ـ وفي كل فرد من أفراد أهل الدنيا رغبة جزئية او كلية في حب الجاه الذي هو الرياء بعينه، ونيل مواقع مرموقة في نظر الناس. حتى ينساق الانسان بدافع من الحرص على الشهرة الى التضحية بحياته اشباعاً لتلك الرغبة. فهذا الشعور هو في غاية الخطورة على أهل الآخرة. وهو في منتهى الاثارة والنشوة لأهل الدنيا، فضلاً عن انه منبع كثير من الأخلاق الرذيلة. علماً انه طبعٌ ضعيف في الانسان وجانب واهٍ فيه. اي يمكن ان يستغله مَن يلاطف شعوره هذا، بل يغلبه بهذا الشعور ويجذبه الى نفسه. لذا فان احتمال استغلال الملحدين لاخواني من هذا الجانب الضعيف في النفس الانسانية هو أخوف ما اخافه، واقلق عليه. اذ قد جرّوا ـ بهذه الصورة ـ بعض اصدقائي غير الحميمين فألقوهم في هاوية المهالك(1).

فيا اخوتي وزملائي في خدمة القرآن!

ان الذين يأتونكم من حيث حب الشهرة من جواسيس أهل الدنيا، والذين يروّجون لأهل الضلالة، او تلاميذ الشيطان، قولوا لهم:

ان رضى الله سبحانه، والإكرام الرحماني، والقبول الرباني، لمقام عظيم جداً، بحيث يبقى دونه اقبال الناس واعجابهم بحكم ذرة بالنسبة الى ذلك المقام الرفيع.

فان كان هناك توجه من الرحمة الإلهية نحونا، فهذا حسبنا وكفاه توجهاً. اما اقبال الناس وتوجههم فانما يكون مقبولاً ان كان ظلاً من انعكاس توجه رحمته تعالى، والاّ فلا يُطلب ولا يُرغب فيه قطعاً، لانه ينطفئ عند باب القبر، ولايساوي هناك شروى نقير.

ثم ان الشعور بحب الجاه هذا، ان لم يُكبَح، ولم يُمحَ من الانسان يلزم صرف وجهه الى جهة اخرى كالآتي :

ان ذلك الشعور ـ حب الجاه ـ ربما تكون له جهة مشروعة وذلك لنيل الثواب الأخروي، وبنية كسب دعوات الآخرين، من حيث التأثير الحسن لخدمة القرآن، بناءً على التمثيل الآتي :

هب ان (جامع اياصوفيا) مكتظ بأهل الفضل والكمال من الطيبين الموقرين، وكان في الباب او في الأروقة صبيان وقحون وسفهاء سفلة، وكان على الشبابيك سيّاح اجانب مغرمون باللهو واللعب.

فاذا ما دخل أحد الجامع، وانضم الى تلك الجماعة الفاضلة، وتلا آيات من الذكر الحكيم تلاوة عذبة، فعندئذٍ تتوجه انظار ألوف من أهل العلم والفضل اليه، ويكسبونه ثواباً عظيماً بدعائهم له ورضاهم عنه. الاّ ان هذا الامر لايروق اولئك الصبيان الوقحين والملحدين السفهاء والاجانب المعدودين.

ولكن لو دخل ذلك الرجل الجامع والجماعة الفاضلة وبدأ بالغناء الماجن، وشرع بالرقص والصخب، فسيكون موضع اعجاب وسرور اولئك الصبيان السفهاء، ويلاطف عمله اولئك الغواة، ويجلب اليه ابتسامات ساخرة من الاجانب الذين يسرّون برؤية نقائص المسلمين، بينما تنظر اليه تلك الجماعة الغفيرة الفاضلة في الجامع نظرة تحقير وإهانة، ويرونه في ادنى الدركات وفي اسفل سافلين.

وعلى غرار هذا: فان العالم الاسلامي، وقارة آسيا، جامع عظيم ومن فيه من المؤمنين وأهل الحقيقة، هم الجماعة الفاضلة في ذلك الجامع، واولئك الصبيان الوقحون هم اولئك المتزلفون ذوو العقول الصبيانية، واما اولئك المفسدون السفهاء فهم الملحدون المتفرنجون، الذين لايعرفون ديناً ولاملة. اما الاجانب المتفرجون، فهم الصحفيون الذين ينشرون أفكار الاجانب.

فكل المسلمين ولاسيما من ذوي الفضل والكمال، لهم موقع في هذا الجامع المهيب، كلٌ حسب درجته، وتلفت اليه الانظار حسب موقعه، فان صدرت منه اعمال وتصرفات تنم عن الاخلاص ـ الذي هو اساس الاسلام ـ وابتغاء رضى الله، على وفق ما أمر به القرآن العظيم من احكام وحقائق، ونطق لسان حاله الآيات القرآنية معنىً، عندئذ يدخل ضمن الدعاء الذي يدعوه كل فرد من افراد العالم الاسلامي وهو : (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ) ويكسب حظاً منه، ويكون ذا علاقة أخوية مع جميع المؤمنين. ولكن لايبدو موقعه في نظر بعض اهل الضلالة ممن هم كالحيوانات المضرة، ولا تظهر مكانته لدى الحمقى الذين هم كالصبيان الملتحين.

ولو أدار ذلك الرجل ظهره عن مجد أجداده الذين يعدّهم رمز شـرفه، وتنـاسى تأريخه الذي يعتبره مدار فخره، وترك الجادة النورانية جادة السلف الصالح الذي يعدّه مستند روحه، وباشر باعمال وتصرفات ملوثة بالهوى والرياء نيلاً للشهرة وارتكاباً للبدع فانه يتردى معنىً في نظر اهـل الحقيقة والايمـان الى الدرك الاسـفل، اذ المؤمن مهما كان جاهلاً ومن عوام الناس، فان قلبه يشعر وان لم يدرك عقله، فينفر ويستثقل أعمال امثال هذا الرجل من المعجبين بأنفسهم وذلك بمضمون الحديث الشريف :

(اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله)(1).

وهكذا يسقط الاناني المفتون بحب الجاه واللاهث وراء الشهرة (الرجل الثاني) ويتردى الى اسفل سافلين في نظر جماعة غفيرة غير محدودة، ويكسب موقعاً مشؤوماً موقتاً لدى عدد من السفهاء الساخرين الطائشين، اذ لا يجد حوله غير أصدقاء مزيفين مضرين له في الدنيا وسبب عذابٍ في البرزخ واعداء في الآخرة كما قال تعالى : } الأخلاءُ يَومَئذٍ بَعــضُهم لبَعضٍ عَدوّ إلاّ المُتقينَ{ (الزخرف:67).

اما الرجل في الصورة الاولى فإن لم يُزل حب الجاه من قلبه، يكسب نوعاً من مقام معنوي مشروع مهيب، يشبع اشباعاً تاماً عرق حب الجاه المغروز فيه، ولكن بشرط اتخاذ الاخلاص ورضى الله اساساً له، مع عدم اتخاذ حب الجاه هدفاً له.

فهذا الرجل يفقد شيئاً ضئيلاً، بل ضئيلاً جداً، مما لا اهمية له، ولكن يكسب عوضه شيئاً كثيراً، بل كثيراً جداً، مما له قيمة عظيمة مما لاضرر فيه. بل انه يطرد عن نفسه عدداً من الثعابين ويجد بدلاً عنها كثيراً من مخلوقات مباركة صديقاً له، فيستأنس بهم. او يكون كمن يهيّج ما حوله من الزنابير، الاّ انه يجلب لنفسه النحل التي هي سقاة شراب الرحمة فيستلم من ايديهم العسل. اي انه يجد من الاحباب من يفيض عليه بدعواتهم ويسقون روحه شراباً سلسبيلاً كالكوثر، يُجلب له من أطراف العالم الاسلامي، ويسجل ثواباً له في دفتر اعماله.

ولقد ألقيتُ ـ في وقت ما ـ فحوى التمثيل السابق بقوة وصرامة في وجه انسانٍ صغير كان يشغل مقاماً عظيماً دنيوياً، والذي اصبح موضع استهجان وسخرية من قبل العالم الاسلامي لإرتكابه حماقة كبيرة في سبيل الشهرة.

هزّه ذلك الدرس هزّاً عنيفاً، ولكن لعدم استطاعتي انقاذ نفسي من حب الجاه لم ينبهه ايقاظي ذاك.

الدسيسة الثانية

ان الشعور بالخوف شعور عميق في كيان الانسان، وان الطغاة والظالمين الماكرين يستغلون كثيراً هذا الشعور لدى الانسان فيلجمون به الجبناء، ويستفيد كثيراً جواسيس اهل الدنيا ودعاة الضلال من هذا الشعور لدى العوام ولاسيما لدى العلماء، فيُلقون في روعهم المخاوف ويثيرون فيهم الاوهام، بمثل شخص حيّال يُظهر لأحدهم ما يخافه ـ وهو على سطح دار ـ فيثير اوهامه ويدفعه تدريجياً الى الوراء حتى يُقرّبَهُ من الحافة فيرديه على عقبه، فيهلك. كذلك يثير اهل الضلالة عرق الخوف لدى الناس فيدفعونهم الى التخلي عن امور جسام من جراء مخاوف تافهة لاقيمة لها. حتى يدخل بعضهم في فم الثعبان لئلا تلسعه بعوض!

أذكر مثالاً: جئتُ ذات مساء الى جسر استانبول وبصحبتي عالم جليل ـ رحمه الله ـ يتهيب ركوب الزورق، ولكننا لم نجد وساطة نقل سوى الزورق، ونحن مضطرون الى الذهاب الى جامع ابي ايوب الانصاري فالححت عليه اذ لا حيلة لنا الاّ ركوبه. فقال:

- أخاف... ربما نغرق!

قلت له: كم يُقدّر عدد الزوارق في هذا الخليج؟

قال: ربما ألف زورق.

قلت: كم زورقاً يغرق في السنة؟

قال: زورق او اثنان، وقد لايغرق في بعض السنين!

قلت: كم يوماً في السنة؟

قال: ثلاثمائة وستون يوماً.

قلت: ان احتمال الغرق الذي استحوذ على ذهنك، واثار فيك الخوف، هو احتمال واحد من بين ثلاثمائة وستين ألف احتمال. فالذي يخاف من هذا الاحتمال لايعدّ انساناً ولاحيواناً!

ثم قلت له: تُرى كم تقدّر ان تعيش بعد الآن؟

قال: انا شيخ كبير، ربما اعيش عشر سنوات اخرى!

قلت: ان احتمال الموت واقع في كل يوم، حيث الأجل مخفيٌ عنا. لذا فهناك احتمال الموت في كل يوم، اي لك ثلاثة آلاف وستمائة احتمالٍ للموت. فليس امامك اذن احتمال واحد من بين ثلاثمائة ألف احتمال ـ كما في الزورق ـ وانما احتمال من بين ثلاثة آلاف احتمال فلربما يقع الاحتمال هذا اليوم. فما عليك اذن الاّ الهلع والبكاء، وكتابة وصيتك!

اثّر هذا الكلام فيه وآب الى رشده، فركبّته الزورق وهو يرجف، قلت له ونحن في الزورق :

ان الله سبحانه وتعالى قد منحنا الشعور بالخوف لنحفظ به الحياة، لالهدم الحياة وتخريبها، ولم يمنحنا هذا الشعور لنجعل الحياة أليمة ومعضلة ومرهقة. فان كان الخوف ناشئاً من احتمالين او ثلاثة بل حتى من خمسة او ستة احتمالات فلابأس به، فلربما يعدّ ذلك خوفاً مشروعاً من باب الحيطة والحذر. اما إن كان الخوف ناشئاً من احتمال واحد من بين عشرين او اربعين احتمالاً فليس هذا خوفاً، وانما وهمٌ يستولي على الانسان ويجعل حياته عذاباً وشقاءً.

فيا اخوتي! اذا ما هجم عليكم مهرجو اهل الضلالة والمتزلفون لاهل الالحاد ليرهبوكم ويجعلوكم تتخلون عن جهادكم المعنوي المقدس، قولوا لهم:

نحن حزب القرآن، نحتمي بقلعة القرآن العظيم الحصينة، والقرآن العظيم محفوظ يحفظه الرب الكريم بقوله تعالى } إنّا نَحنُ نَزّلنا الذِكرَ وإنّا لَهُ لحَافِظون{ (الحجر:9) فلقد احاطنا سور عظيم هو سور} حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيلُ{ (آل عمران :173) فلن تستطيعوا ان تدفعونا ـ باختيارنا ـ الى طريق يؤدي حتماً الى آلاف الأضرار التي تلحق بحياتنا الابدية خوفاً من الحاق ضرر بسيط باحتمالٍ واحد من بين ألوف الاحتمالات بحياتنا الدنيوية القصيرة هذه.

وقولوا لهم: مَن منا ومَن مثلنا في طريق الحق قد تضرر بسبب ((سعيد النورسي)) الذي هو زميلنا في خدمة القرآن الكريم، واستاذنا في تدابير أمور تلك الخدمة المقدسة ورائدنا في العمل؟ ومَن من طلابه الخواص قد ابتلوا ببلاء حتى نبتلى نحن ايضاً، او نضطرب ونقلق من خوف ذلك البلاء الذي قد ينزل بنا. فلأخينا هذا الوفٌ من اصدقاء واخوان الآخرة، ولم نسمع ان ضرراً اصاب أحد إخوته منذ حوالي ثلاثين سنة رغم تدخله تدخلاً مؤثراً في الحياة الاجتماعية طوال تلك المدة التي كان يملك مطرقة السياسة وقوتها، بينما الآن لايملك سوى نور الحقيقة بدلاً من مطرقة السياسة. وعلى الرغم من ان اسمه قد ضُم سابقاً معمَن هم في حوادث (31) مارت(1) واهلكوا قسماً من اصدقائه، الاّ انه تبين فيما بعد، ان الحادثة كانت مدبّرة من قبل أُناس آخرين. وان اصدقاءه لم يتضرروا بسبب صداقته بل بسبب اعدائه. فضلاً عن انه انقذ كثيراً من أصدقائه في ذلك الوقت.

فبناءً على هذا عليكم يا اخواني ان تقولوا للمتزلفين من اهل الضلالة:

(( اننا لانرضى ان تضيع خزينة ابدية باحتمال خوفٍ من بين ألف بل من بين الاف الاحتمالات. ينبغي الاّ يخطر هذا ببال أمثالكم ياشياطين الانس)) وعليكم يااخواني ان تطردوهم وتضربوا بهذا الكلام على أفواههم.

وقولوا لأولئك المتزلفين ايضاً :

اذا كان البلاء والهلاك ناشئين من احتمال بنسبة مائة بالمائة لاباحتمال واحد من مئات الألوف من الاحتمالات، فاننا لانترك ولا نتخلى عنه (عن سعيد النورسي) إن كنا نملك ذرة من عقل، لأنه شوهد بتجارب عديدة ولايزال يشاهد؛ ان الذين يهينون استاذهم او اخوانهم الكبار ايام المصائب والبلايا، تنزل بهم المصيبة اولاً. فضلاً عن انهم يعاملون معاملة جائرة دون رحمة ويجازون مجازاة السفلة. فتموت أجسادهم وتهلك أرواحهم معنىً من الذل والمهانة. والذين يعاقبونهم لايشفقون عليهم، لانهم يقولون :

ان هؤلاء قد خانوا استاذهم العطوف عليهم، فلابد انهم منحطون سفلة، لايستحقون الرحمة، بل التحقير والاهانة.

فما دامت الحقيقة هكذا، وان الظالم اذا ما سحق انساناً تحت اقدامه، وبدأ المظلوم بتقبيل اقدامه، فان قلبه ينسحق بسبب تلك المذلة قبل رأسه وتموت روحُه قبل جسده. فيفقد رأسه وتمحى عزته وشرفه كذلك، اذ إنه بابداء الضعف تجاه ذلك الظالم القاسي يشجعه على سحقه اكثر.

بينما لو بصق المظلوم في وجه ذلك الظالم فانه ينقذ قلبه وروحه، ويصبح جسده شهيداً مظلوماً.

نعم! ابصقوا في وجوه الظالمين الصفيقة!

وحينما احتل الانكليز استانبول، ودمرّوا المدافع في المضيق (في استانبول) سأل في تلك الايام رئيس اساقفة الكنيسة الانكليكية من المشيخة الاسلامية ستة اسئلة، وكنت حينئذٍ عضواً في دار الحكمة الاسلامية فقالوا لي:

ـ اجب عن اسئلتهم بستمائة كلمة كما يريدون.

قلت:

ان جواب هذه الاسئلة ليس ستمائة كلمة ولاست كلمات ولاكلمة واحدة، بل بصقة واحدة.

لانه عندما داست تلك الدولة باقدامها مضايقنا وأخذت بخناقنا كما ترون، ينبغي البصاق في وجه رئيس اساقفتهم ازاء اسئلته التي سألها بكل غرور. ولهذا قلت: ابصقوا في وجوه الظلمة التافهة.

والآن أقول: ان دولة عظيمة كدولة الانكليز، في الوقت الذي كانت تحتل بلادنا، فقد اجبتهم ـ بلسان المطابع ـ وتحديتهم. وكان الهلاك محققاً وحتمياً مائة بالمائة، الاّ أنّ الحفظ القرآني قد كفاني فذلك الحفظ يكون كافياً لكم بمائة ضعف ازاء اضرار ترد باحتمال واحد بالمائة من ايدي الظلمة.

ثم ايها الاخوة:

ان كثيراً منكم قد خدم في صفوف الجيش، والذين لم يخدموا في العسكرية سمعوا حتماً، ومَن لم يسمع فليسمعه مني: ان اكثر من يجرح ويصاب في الحرب هم الذين يهربون من خنادقهم ومن مواضعهم، وان اقل الجنود إصابة هم اولئك الثابتون في مواضعهم فالآية الكريمة :

} قُل إنّ المَوتَ الذي تَفِرّونَ مِنهُ فإنه ملاقيكُم{ (الجمعة:8) تشير بمعناها الاشاري الى ان الفارين من الموت يقابلونه اكثر من غيرهم.

الدسيسة الشيطانية الثالثة

ان الشياطين يقتنصون الكثيرين بشباك الطمع وفخّه. ولقد اثبتنا في رسائل كثيرة ببراهين قاطعة استفضناها من آيات القرآن الحكيم وبيناته : ((ان الرزق الحلال يأتي بنسبة العجز والافتقار لابدرجة الاختيار والاقتدار)) فهناك مالايحد من الاشارات والامارات والدلائل التي تبين هذه الحقيقة منها:

ان الاشجار التي هي نوع من الاحياء، والمحتاجة للرزق تقف منتصبة في مكانها، يأتيها رزقها ساعياً لها. بينما الحيوانات لاتتغذى ولاتنمو كالاشجار تغذية ونمواً كاملاً بسبب حرصها ولهاثها وراء الرزق. وان اقل الاسماك ذكاءً وأشدها بلادة واكثرها ضعفاً وعجزاً تتغذى بأفضل وجه مع انها تعيش في الرمل فتظهر بدينة بصورة عامة، بينما القردة والثعالب وامثالهما من الحيوانات المالكة للذكاء والقدرة تكون هزيلة ضعيفة لسوء معيشتها.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس