عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2009
  #2
هيثم السليمان
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى: 17
هيثم السليمان is on a distinguished road
افتراضي رد: الحذف في اللغة العربية

وقد حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ؛ وأكثر ذلك في الشعر , وإنما كانت كثرته فيه دون النثر من حيث كان القياس يكاد يحظره , وذلك أنّ الصفة في الكلام على ضربين : إمّا للتخليص والتخصيص ، وإمّا للمدح الثناء , وكلاهما من مقامات الإسهاب والإطناب ، لا من مظانّ الإيجاز والاختصار , وإذا كان كذلك لم يلق الحذف به ولا تخفيف اللفظ منه ؛ هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من الإلباس وضد البيان.
ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بطويل ؛ لم يستبن من ظاهر هذا اللفظ أن الممرور به إنسان دون رمح أو ثوب أو نحو ذلك , وإذا كان كذلك كان حذف الموصوف إنما هو متى قام الدليل عليه أو شهدت الحال به , وكلّما استبهم الموصوف كان حذفه غير لائق بالحديث .
ومما يؤكّد عندك ضعف حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أنّك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه , وذلك أن تكون الصفة جملة؛ نحو مررت برجل قام أخوه ، ولقيت غلاماً وجهه حسن , ألا تراك لو قلت : مررت بقام أخوه ، أو لقيت وجهه حسن لم يحسن .
فأمّا قوله :
والله ما زيد بنام صاحِبُهْ = ولا مخالط الليان جانِبُهْ
فقد قيل فيه : إن نام صاحبه علم اسم لرجل ، وإذا كان كذلك جرى مجرى قوله :
بني شاب قرناها ... ...فإن قلت فقوله :
ولا مخالط الليان جانبه
ليس علماً وإنما هو صفة ، وهو معطوف على نام صاحبه صفة أيضاً .
قيل : قد يكون في الجمل إذا سُمِّي بها معاني الأفعال فيها , ألا ترى أن شاب قرناها تصرّ وتحلب هو اسم علم ، وفيه مع ذلك معنى الذم , وإذا كان كذلك جاز أن يكون قوله :
ولا مخالط الليان جانبه
معطوفاً على ما في قوله ما زيد بنام صاحبه من معنى الفعل , فأمّا قوله :
مالك عندي غير سهم وحَجَرْ = وغير كبداء شديدة الوتَرْ
جادت بكف!ي كان من أرمى البشر
أي بكفي رجل أو إنسان كان من أرمى البشر فقد روى غير هذه الرواية ؛ روى : بكفَّي كان من أرمى البشر، بفتح ميم من أي بكفي من هو أرمى البشر ، وكان على هذا زائدة , ولو لم تكن فيه إلا هذه الرواية لما جاز القياس عليه ؛ لفروده وشذوذه عمّا عليه عقد هذا الموضع ؛ ألا تراك لا تقول : مررت بوجهه حسن ، ولا نظرت إلى غلامه سعيد , فأمّا قولهم بدأت بالحمد لله ، وانتهيت من القرآن إلى " أتى أمر الله " ونحو ذلك فلا يدخل على هذا القول ؛ من قبل أن هذه طريق الحكاية ، وما كان كذلك فالخطب فيه أيسر ، والشناعة فيه أوهى وأسقط , وليس ما كنّا عليه مذهباً له تعلق بحديث الحكاية , وكذاك إن كانت الصفة جملة لم يجز أن تقع فاعلة ولا مقامة مقام الفاعل ؛ ألا تراك لا تجيز قام وجهه حسن ، ولا ضرب قام غلامه ، وأنت تريد : قام رجل وجهه حسن ، ولا ضرب إنسان قام غلامه , وكذاك إن كانت الصفة حرف جر أو ظرفاً لا يستعمل استعمال الأسماء , فلو قلت : جاءني من الكرام ؛ أي رجل من الكرام , أو حضرني سواك ؛ أي إنسان سواك ؛ لم يحسن لأنّ الفاعل لا يحذف , فأمّا قوله :
أتنتهون ولن ينهى ذوي شَطَطٍ = كالطعن يهلك فيه الزيت والفُتُل
فليست الكاف هنا حرف جر ، بل هي اسم بمنزلة مثل ؛ كالتي في قوله :
على كالقَطَا الجُونيّ أفزعه الزجرُ
وكالكاف الثانية من قوله :
وصالياتٍ ككَما يُؤَثْفَيْنْ
أي : كمثل ما يؤثفين وعليه قول ذي الرمة :
أبيتُ على مَيَّ كئيباً ، وبعلها = على كالنقا من عالج يتبطح
فأمّا قول الهذلي :
فلم يبق منها سوى هامد = وغير الثُمام وغير النؤيِّ
ففيه قولان : أحدهما أن يكون في " يبق " ضمير فاعل من بعض ما تقدّم ، كذا قال أبو علي رحمه الله , والآخر أن يكون استعمل سوى للضرورة اسماً فرفعه , وكأنّ هذا أقوى ؛ لأن بعده :
وغير الثُمام وغير النؤيِّ
فكأنّه قال : لم يبق منها غير هامد , ومثله ما أنشدناه للفرزدق من قوله :
أتته بمجلوم كأنّ جبينه = صلاءة وَرْس وسطُها قد تفلّقا
وعليه قول الآخر :
في وَسْط جمع بني قريط بعدما = هتفتْ ربيعةُ يا بني جواب
وقد أقيمت الصفة الجملة مقام الموصوف المبتدأ ؛ نحو قوله :
لو قلت ما في قومها لم تِيثَمِ = يفضُلها في حَسَب ومِيسم
أي ما في قومها أحد يفضلها ، وقال الله سبحانه : " وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك " أي قوم دون ذلك , وأمّا قوله تعالى : " لقد تقطَّع بينكم " فيمن قرأه بالنصب فيحتمل أمرين : أحدهما أن يكون الفاعل مضمراً ؛ أي لقد تقطّع الأمر أو العقد أو الود ونحو ذلك بينكم , والآخر أن يكون ما كان يراه أبو الحسن من أن يكون " بينكم " وإن كان منصوب اللفظ مرفوع الموضع بفعله ، غير أنّه أُقِرّت نَصْبة الظرف وإن كان مرفوع الموضع ؛ لاطّراد استعمالهم إيّاه ظرفاً ؛ إلا أن استعمال الجملة التي هي صفة للمبتدأ مكانه أسهل من استعمالها فاعلة ؛ لأنّه ليس يلزم أن يكون المبتدأ اسماً محضاً كلزوم ذلك في الفاعل ؛ ألا ترى إلى قولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه ؛ أي سماعك به خير من رؤيته , وقد تقصّينا ذلك في غير موضع .
وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها ؛ وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم : سير عليه ليل ، وهم يريدون : ليل طويل , وكأنّ هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها , وذلك أنّك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله : طويل أو نحو ذلك , وأنت تحسّ هذا من نفسك إذا تأملته , وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه ، فتقول : كان والله رجلاً؟ فتزيد في قوة اللفظ بالله هذه الكلمة ، وتتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها أي رجلاً فاضلاً أو شجاعاً أو كريماً أو نحو ذلك. وكذلك تقول : سألناه فوجدناه إنساناً ؟ وتمكّن الصوت بإنسان وتفخّمه ، فتستغني بذلك عن وصفه بقولك : إنساناً سمحاً أو جواداً أو نحو ذلك , وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت : سألناه وكان إنساناً ؟ وتَزْوِيَ وجهك وتقطّبه ، فيغني ذلك عن قولك : إنساناً لئيماً أو لَحِزاً أو مبخَّلاً أو نحو ذلك .
فعلى هذا وما يجري مجراه تحذف الصفة . فأمّا إن عريت من الدلالة عليها من اللفظ أو من الحال فإن حذفها لا يجوز ؛ ألا تراك لو قلت : وردنا البصرة فاجتزنا بالأُبُلّة على رجل ، أو رأينا بستاناً وسكت لم تفد بذلك شيئاً ؛ لأنّ هذا ونحوه مما لا يعرى منه ذلك المكان ، وإنما المتوقع أن تصف من ذكرت أو ما ذكرت ، فإن لم تفعل كلفت علم ما لم تدلل عليه ؛ وهذا لغو من الحديث وجور في التكليف .
ومن ذلك ما يروى في الحديث : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " أي لا صلاة كاملة أو فاضلة ، ونحو ذلك . وقد خالف في ذلك من لا يعد خلافه خلافاً .
هيثم السليمان غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس