الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #28
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الحادية والعشرون



عبارة عن مقامين

المقام الاول

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً[ (النساء: 103)

قال لي احدهم يوماً وهو كبير سناً وجسماً ورتبة: ان اداء الصلاة حسنٌ وجميل، ولكن تكرارها كل يوم، وفي خمسة اوقات كثير جداً فكثرتها هذه تجعلها مملّة!..

وبعد مرور فترة طويلة على هذا القول، اصغيت الى نفسي فاذا هي ايضاً تردد الكلام نفسه!!. فتأملت فيها مليّاً، واذا بها قد أخذت بطريق الكسل الدرسَ نفسه من الشيطان، فعلمتُ عندئذ ان ذلك الرجل كأنه قد نطقَ بتلك الكلمات بلسان جميع النفوس الامّارة بالسوء، أو اُنطق هكذا.. فقلت: ما دامت نفسي التي بين جنبيّ امارةٌ بالسوء فلابد أن ابدأ بها أولاً لأن من عجز عن اصلاح نفسه فهو عن غيرها اعجز.. فخاطبتها:

يا نفسي!.. اسمعيها مني ((خمسة تنبيهات)) مقابل ما تفوهتِ به، وانتِ منغمسة في الجهل المركب، سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل..

C التنبيه الاول:

يا نفسي الشقية!.. هل ان عمركِ ابدي؟وهل عندك عهد قطعي بالبقاء الى السنة المقبلة بل الى الغد؟ فالذي جعلكِ تملّين وتسأمين من تكرار الصلاة هو توهمكِ الابدية والخلود، فتظهرين الدلال وكأنك بترفك مخلّدة في هذه الدنيا.

فان كنت تفهمين ان عمركِ قصير، وانه يمضي هباء دون فائدة، فلا ريب أن صرف جزء من اربعة وعشرين منه في اداء خدمة جميلة ووظيفة مريحة لطيفة، وهي رحمة لك ووسيلة لحياة سعيدة خالدة، لا يكون مدعاة الى الملل والسأم، بل وسيلة مثيرة لشوق خالص ولذوقٍ رائع رفيع.

C التنبيه الثاني:

يا نفسي الشرهة!.. انكِ يومياً تاكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أما يورث هذا التكرار مللاً وضجراً؟.. كلا.. دون شك.. لان تكرار الحاجة لا يجلب الملل بل يجدّد اللذة، لهذا؛ فالصلاة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء للّطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد انها لا تجعلك تملّين ولا تسأمين ابداً.

نعم! ان القلب المتعرض لأحزانٍ وآلام لا حدّ لها، المفتون بآمال ولذائذ لا نهاية لها، لا يمكنه ان يكسب قوةً ولا غذاء الاّ بطرقِ باب الرحيم الكريم، القادر على كل شئ بكل تضرع وتوسل.

وان الروح المتعلقة باغلب الموجودات الآتية والراحلة سريعاً في هذه الدنيا الفانية، لا تشرب ماء الحياة الاّ بالتوجه بالصلاة الى ينبوع رحمة المعبود الباقي والمحبوب السرمدي.

وان السر الانساني الشاعر الرقيق اللطيف، وهو اللطيفة الربانية النورانية، والمخلوق للخلود، والمشتاق له فطرةً والمرآة العاكسة لتجليات الذات الجليلة.. لابد انه محتاج أشد الحاجة الى التنفس، في زحمة وقساوة وضغوط هذه الاحوال الدنيوية الساحقة الخانقة العابرة المظلمة، وليس له ذلك الاّ بالاستنشاق من نافذة الصلاة.

C التنبيه الثالث:

يا نفسي الجزعة!.. انك تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الايام المقبلة وخدمات اداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده. هل هذا أمرٌ يصدر ممَّن له مسكة من عقل؟.

ان مثلكِ في عدم الصبر هذا مثلُ ذلك القائد الاحمق الذي وجَّه قوةً عظيمة من جيشه الى الجناح الأيمن للعدو، في الوقت الذي إلتحقَ ذلك الجناح من صفوف العدو الى صفّه، فاصبح له ظهيراً. ووجّه قوته الباقية الى الجناح الايسر للعدو، في الوقت الذي لم يكن هناك أحدٌ من الجنود. فأدرك العدو نقطة ضعفه فسدد هجومَه الى القلب فدمّره هو وجيشَه تدميراً كاملاً.

نعم انك تشبهين هذا القائد الطائش، لأن صعوبات الايام الماضية وأتعابها قد ولّت، فذهبت آلامُها وظلت لذّتها وانقلبت مشقتها ثواباً، لذا لا تولّد مللاً بل شوقاً جديداً وذوقاً نديّاً وسعياً جاداً دائماً للمضي والاقدام. أما الايام المقبلة، فلأنها لم تأتِ بعدُ، فان صرف التفكير فيها من الآن نوعٌ من الحماقة والبله، اذ يشبه ذلك، البكاء والصراخ من الآن، لما قد يحتمل ان يكون من العطش والجوع في المستقبل!.

فما دام الامر هكذا، فان كان لك شئ من العقل، ففكري من حيث العبادة في هذا اليوم بالذات. قولي: سأصرف ساعة منه في واجبٍ مهم لذيذ جميل، وفي خدمةٍ سامية رفيعة ذات أجر عظيم وكلفة ضئيلة.. وعندها تشعرين أن فتورك المؤلم قد تحوّل الى همة حلوة، ونشاط لذيذ.

فيا نفسي الفارغة من الصبر.. انك مكلفة بثلاثة أنواع من الصبر.

الأول: الصبر على الطاعة.

الثاني: الصبر عن المعصية.

الثالث: الصبر عند البلاء.

فان كنتِ فطنة فخذي الحقيقة الجلية في مثال القائد - في هذا التنبيه - عبرةً ودليلاً، وقولي بكل همة ورجولة: يا صبور. ثم خذي على عاتقك الانواع الثلاثة من الصبر. واستندي الى قوة الصبر المودعة فيك وتجمّلي بها، فانها تكفي للمشقات كلها، وللمصائب جميعها ما لم تبعثريها خطأ في أمور جانبية..

C التنبيه الرابع:

يا نفسي الطائشة!.. يا تُرى هل ان اداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل ان أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟. مع ان أحدنا يعمل الى المساء ويكدّ دون فتور إن رغّبه احدٌ في مالٍ أو أرهبه.

ان الصلاة التي هي قوتٌ لقلبك العاجز الفقير وسكينةٌ له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاءٌ وضياء لمنزلك الذي لابد انك صائرة اليه، وهو القبر. وهي عهدٌ وبراءةٌ في محكمتك التي لا شك انك تحشرين اليها. وهي التي ستكون نوراً وبُراقاً على الصراط المستقيم الذي لابد انك سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها هل هي بلا نتيجة وجدوى؟ أم انها زهيدة الاجرة؟..

واذا وَعَدَكِ أحدٌ بهدية مقدارها مائة ليرة، فسوف يستخدمك مائة يوم وانت تسعَين وتعملين معتمدة على وعده دون ملل وفتور، رغم انه قد يخلف الوعد. فكيف بمن وعدك، وهو لا يخلف الوعد قطعاً؟ فخُلف الوعد عنده محال! وعدك اجرةً وثمناً هي الجنة، وهدية عظيمة هي السعادة الخالدة، لتؤدي له واجباً ووظيفة لطيفة مريحة وفي فترة قصيرة جداً. ألا تفكرين في أنك ان لم تؤدي تلك الوظيفة والخدمة الضئيلة، أو قمتِ بها دون رغبة أو بشكلٍ متقطع، فانك اذن تستخفين بهديته، وتتهمينه في وعده! الا تستحقين اذن تأديباً شديداً وتعذيباً اليماً؟. الا يثير همتك لتؤدي تلك الوظيفة التي هي في غاية اليسر واللطف خوف السجن الابدي وهو جهنم، علماً انك تقومين باعمال مرهقة وصعبة دون فتور خوفاً من سجن الدنيا، واين هذا من سجن جهنم الابدي؟!

C التنبيه الخامس:

يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل ان فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ ام انك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!

فيا عجباً هل أنتِ مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟. تأملي!! انك لا تبلغين اصغرَ عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم انك أرقى من جميع الحيوانات فطرةً. لِمَ لا تفهمين من هذا أن وظيفتكِ الاصلية ليس الانهماك بالحياة الدنيا والاهتمام بها كالحيوانات، وانما السعيُ والدأبُ لحياة خالدة كالانسان الحقيقي. مع هذا فان اغلب ما تذكرينه من المشاغل الدنيوية، هي مشاغل ما لا يعنيك من الامور، وهي التي تتدخلين فيها بفضول، فتهدرين وقتك الثمين جداً فيما لا قيمة له ولا ضرورة ولا فائدة منه.. كتعلّم عدد الدجاج في امريكا!! أو نوع الحلقات حول زحل. وكأنك تكسبين بهذا شيئاً من الفَلك والاحصاء!! فتَدَعين الضروري والأهم والألزم من الامور كأنك ستعمّرين آلاف السنين؟.

فان قلت: ان الذي يصرفني ويفترني عن الصلاة والعبادة ليس مثل هذه الامور التافهة، وانما هي امور ضرورية لمطالب العيش. اذن فاسمعي مني هذا المثل:

ان كانت الاجرة اليومية لشخصٍ مائة قرش وقال له أحدهم تعال واحفر لعشر دقائق هذا المكان فانك ستجد حجراً كريماً كالزمرد قيمتُه مائة ليرة، كم يكون عذراً تافهاً بل جنوناً إن رفض ذلك بقوله: لا.. لا أعمل.. لأن اجرتي اليومية ستنقص!..

وكذلك حالك، فان تركت الصلاة المفروضة، فان جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقةٍ دنيوية تافهة دون ان تجنى فائدتها وبركتها. بينما لو صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في اداء الصلاة، التي هي وسيلةٌ لراحة الروح، ولتنفس القلب، يضاف عندئذٍ الى نفقتك الاخروية وزاد آخرتك مع نفقتك الدنيوية المباركة، ما تجدينه من منبع عظيم لكنزَين معنويين دائمين وهما:

الكنز الأول: ستأخذ(1) حظك ونصيبك من (تسبيحات) كل ما هيأته بنيّة خالصة، من ازهار وثمار ونباتات في بستانك.

الكنز الثاني: ان كل مَن يأكل من محاصيل بستانك - سواء أكان حيواناً أم انساناً شارياً أو سارقاً - يكون بحكم (صدقةٍ جارية) لك، فيما اذا نظرت الى نفسك كأنك وكيلٌ وموظف لتوزيع مال الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته. اي تتصرف باسم الرزاق الحقيقي وضمن مرضاته.

والآن تأمل في الذي ترك الصلاة، كم هو خاسرٌ خسراناً عظيماً؟. وكم هو فاقد من تلك الثروة الهائلة؟. وكيف انه سيبقى محروماً ومفلساً من ذينك الكنزين الدائمين اللذين يمدان الانسان بقوة معنوية للعمل ويشوّقانه للسعي والنشاط؟.. حتى اذا بلغ ارذل عمره، فانه سوف يملّ ويضجر مخاطباً نفسه: وما عليّ؟! لِمَ أتعب نفسي؟ لأجل مَن أعمل؟ فانني راحل من هذه الدنيا غداً!.. فيلقي نفسه في احضان الكسل.

بينما الرجل الاول يقول: سأسعى سعياً حثيثاً في العمل الحلال بجانب عبادتي المتزايدة كيما أرسل الى قبري ضياءاً أكثر وادّخر لآخرتي ذخيرة أزيد.

والخلاصة: اعلمي ايتها النفس!. ان الامس قد فاتكِ. أما الغد فلم يأت بعد، وليس لديك عهد أنك ستملكينه، لهذا فاحسبي عمرك الحقيقي هو هذا اليوم. وأقل القليل ان تلقي ساعة منه في صندوق الادّخار الاُخروي، وهو المسجد أو السجادة لتضمني المستقبل الحقيقي الخالد.

واعلمي كذلك أن كل يوم جديد هو بابٌ ينفتح لعالم جديد - لك ولغيرك - فان لم تؤدي فيه الصلاة فان عالم ذلك اليوم يرحل الى عالم الغيب مُظلماً شاكياً محزوناً، وسيشهد عليك..

وان لكلٍ منا عالمه الخاص من ذلك العالم، وان نوعيته تتبع عملنا وقلبنا، مَثلُه في ذلك مثلُ المرآة، تظهر فيها الصورة تبعاً للونها ونوعيتها، فان كانت مسودّة فستظهر الصورة مسودّة.. وان كانت صقيلة فستظهر الصورة واضحة، وإلا فستظهر مشوهة تضخم أتفه شئ واصغره.. كذلك أنت، فبقلبك وبعقلك وبعملك يمكنك ان تغيري صورَ عالمكِ، وباختيارك وطوع ارادتك يمكنك ان تجعلي ذلك العالم يشهد لك أو عليك.

وهكذا ان ادّيت الصلاة وتوجهت بصلاتك الى خالق ذلك العالم ذي الجلال، فسيتنور ذلك العالم المتوجه اليك حالاً، وكأنك قد فتحت بنيّة الصلاة مفتاح النور فاضاءه مصباح صلاتك، وبدّد الظلمات فيه.. وعندها تتحول وتتبدل جميع الاضطرابات والاحزان التي حولك في الدنيا فتراها نظاماً حكيماً، وكتابة ذات معنى بقلم القدرة الربانية، فينساب نورٌ من انوار ] الله نور السموات والارض[ الى قلبك، فيتنور عالم يومك ذاك، وسيشهد بنورانيته لك عند الله..

فيا أخي! حذار ان تقول: أين صلاتي من حقيقة تلك الصلاة؟. اذ كما تحمل نواةُ التمرفي طياتها صفات النخلة الباسقة، الفرق فقط في التفاصيل والاجمال. كذلك صلاة العوام - من هم امثالي وامثالك - فيها حظٌ من ذلك النور وسرٌ من اسرار تلك الحقيقة، كما هي في صلاة ولي من أولياء الله الصالحين ولو لم يتعلق بذلك شعوره. أما تنورها فهي بدرجات متفاوتة، كتفاوت المراتب الكثيرة التي بين نواة التمر الى النخلة. ورغم أن الصلاة فيها مراتب اكثر فان جميع تلك المراتب فيها أساس من تلك الحقيقة النورانية.

اللّهم صل وسلم على من قال : (الصلاة عماد الدين)(1) وعلى آله وصحبه اجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة الحادية والعشرين

[ يتضمن خمسة مراهم لخمسة جروح قلبية ]

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] وقل ربِّ اعوذُ بكَ من هَمَزات الشياطين ^ واَعوذُ بكَ ربِّ اَن يَحـضُرون[ (المؤمنون: 97 - 98)

ايها الاخ المبتلى بداء الوسوسة! ليت شعري هل تعلم بماذا تشبه وسوستك؟. إنها أشبه بالمصيبة؛ تبدأ صغيرة ثم تكبر شيئاً فشيئاً على مدى اهتمامك بها، وبقدر اهمالك اياها تزول وتفنى، فهي تعظم اذا استعظمتَها وتصغر اذا استصغرتَها. واذا ما خفتَ منها داستك ودوّختك بالعلل، وان لم تَخَفْ هانَتْ وخَنَستْ وتوارت. وان لم تعرف حقيقتها استمرت واستقرت، بينما اذا عرفت حقيقتها وسَبَرتَ غورها تلاشت واضمحلت. فما دام الأمر هكذا فسأشرح لك خمسة وجوه، من وجوهها التي تحدث كثيراً. عسى ان يكون بيانها - بعون الله - شفاء لصدورنا نحن كلينا. ذلك لأن الجهل مجلبةٌ للوساوس، بينما العلم على نقيضه دافع لشرها. فلو جهلتها أقبلت ودنتْ واذا ما عرفتها ولّت وادبرت.

C الوجه الاول - الجرح الأول:

ان الشيطان يلقى اولاً بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الاعماق، فاذا انكرها القلب انقلب من الشبهة الى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويصرخ: واحسرتاه!. وامصيبتاه!.. فيظن الموسوس ان قلبه آثم، وانه قد اقترف السيئات حيال ربه الكريم، ويشعر باضطراب وانفعال وقلق، فينفلت من عقال السكينة والطمأنينة، ويحاول الانغماس في اغوار الغفلة.

أما ضماد هذا الجرح فهو:

ايها المبتلى المسكين! لا تخف ولا تضطرب! لأن ما مرّ أمام مرآة ذهنك ليس شتماً ولا سبّاً، وانما هو مجـرد صورٍ وخــيالاتٍ تمــر مــروراً أمــام مرآة ذهـنك وحيث ان تخيل الكفر ليس كفراً، فان تخيل الشتم ايضاً ليس شتماً، اذ من المعلوم في البديهية المنطقية: ان التخيل ليس بحكم بينما الشتم حُكمٌ. فضلاً عن هذا فان تلك الكلمات غير اللائقة لم تكن قد صدرت من ذات قلبك، حيث أن قلبك يتحسر منها ويتألم. ولعلها آتية من لمـّة شيطانية قريبة من القلب. لذا فان ضرر الوسوسة انما هو في توهم الضرر، اي ان ضرره على القلب هو ما نتوهمه نحن من اضرارها. لأن المرء يتوهم تخيلاً - لا اساس له - كأنه حقيقة، ثم ينسب اليه من اعمال الشيطان ما هو برئ منه، فيظن ان همزات الشيطان هي من خواطر قلبه هو، ويتصور اضرارها فيقع فيها. وهذا هو ما يريده الشيطان منه بالذات.

C الوجه الثاني:

عندما تنطلق المعاني من القلب تنفذ في الخيال مجردةً من الصور، وتكتسي الاشكال والصور هناك. والخيال هو الذي ينسج دائماً ولأسباب معينة، نوعاً من الصور، ويعرض ما يهتم به من الصور على الطريق، فأيما معنىً يرد فالخيال إما يُلبسه ذلك النسيج أو يعلقه عليه أو يلطخه به، أو يستره به فإن كانت المعاني منزّهة ونقية، والصور والانسجة ملوثة دنيئة فلا إلباس ولا إكساء، وانما مجرد مسّ فقط، فمن هنا يلتبس على الموسوس أمر التماس فيظنه تلبساً وتلبيساً، فيقول في نفسه: ((يا ويلتاه! لقد تردى قلبي في المهاوي، وستجعلني هذه الدناءة والخساسة النفسية من المطرودين من رحمة الله)) فيستغل الشيطان هذا الوتر الحساس منه استغلالاً فظيعاً.

ومرهم هذا الجرح العميق هو:

كما لا يؤثر في صلاتك ولا يفسدها ما في جوفك من نجاسة، بل يكفي لها طهارة حسية وبدنية، كذلك لا تضر مجاورة الصور الملوثة بالمعاني المنزّهة والمقدسة. مثال ذلك:

قد تكون متدبراً في آية من آيات الله، واذا بأمر مهيّج من مرضٍ يفاجئك، أو من تدافع الأخبثين، يلحّ على خيالك بشدة، فلاشك أن خيالك سينساق الى حيث الدواء، أو قضاء الحاجة ناسجاً ما يقتضيه من صور دنيئة. فتمر المعاني الواردة في تدبرك من بين الصور الخيالية السافلة. دعها تمر، فليس ثمة ضرر ولا لوثة ولا خطورة. انما الخطورة فقط هي في تركيز الفكر فيها، وتوهم الضرر منها.

C الوجه الثالث:

هناك بعض علاقات خفية تسود بين الاشياء، وربما توجد خيوط من الصلة حتى بين ما لا نتوقعه من الاشياء، هذه الخيوط إما انها قائمة بذاتها، اي انها حقيقية، أو أنها من نتاجات خيالك الذي صنع هذه الخيوط - حسب ما ينشغل به من عمل - وهذا هو السر في توارد خيالات سيئة احياناً عند النظر في ما يخص اموراً مقدسة، اذ ((التناقض الذي يكون سبباً للابتعاد في الخارج يكون مدعاة للقرب والتجاور في الصور والخيال)) كما هو معلوم في علم البيان. أي ان ما يجمع بين صورتي الشيئين المتناقضين ليس إلاّ الخيال. ويطلق على هذه الخواطر الناتجة بهذه الوسيلة: تداعى الافكار. مثال ذلك:

بينما انت تناجي ربك في الصلاة بخشوع وتضرع وحضور قلب مستقبلاً الكعبة المعظمة، اذا بتداعي الافكار هذا يسوقك الى امور مشينة مخجلة لا تعنيك بشئ. فاذا كنت يا اخي مبتلى بتداعي الافكار، فاياك اياك ان تقلق أو تجزع، بل عُد الى حالتك الفطرية حالما تنتبه لها. ولا تشغل بالك قائلاً: لقد قصّرت كثيراً.. ثم تبدأ بالتحري عن السبب.. بل مر عليها مرّ الكرام لئلا تقوى تلك العلاقات الواهية العابرة بتركيزك عليها، اذ كلما اظهرت الأسى والاسف وزاد اهتمامك بها انقلب ذلك التخطر الى عادة تتأصل تدريجياً حتى تتحول الى مرض خيالي. ولكن لا.. لا تخش ابداً، انه ليس بمرض قلبي، لأن هذه الهواجس النفسية والتخطر الخيالي هي في اغلب الحالات تتكون رغماً عن ارادة الانسان وهي غالباً ما تكون لدى مرهفي الحس والأمزجة الحادة. والشيطان يتغلغل عميقاً مع هذه الوساوس.

أما علاج هذا الداء فهو:

اعلم انه لا مسؤولية في تداعي الافكار، لأنها لا ارادية غالباً، اذ لا اختلاط ولا تماس فيها، وانما هي مجرد مجاورة ولا شئ بعد ذلك، لذا فلا تسري طبيعة الافكار بعضها ببعض. ومن ثم فلا يضر بعضها بعضاً. اذ كما ان مجاورة ملائكة الالهام للشيطان حول القلب لا بأس فيها، ومجاورة الابرار للفجار وقرابتهم ووجودهم في مسكن واحد لا ضرر فيه، كذلك اذا تداخلت خواطر سيئة غير مقصودة بين أفكار طاهرة نزيهة لا تضرّ في شـئ إلاّ اذا كانــت مقصــودة، أو أن تشــغل بهـا نفـسك كثيراً، متوهماً ضررها بك. وقد يكون القلب احيـاناً مرهقاً فينشــغــل الفــكر بــشئ ما كيفما اتفق دون جدوى، فينتهز الشيطان هذه الفرصة ويقدّم الاخيلة الخبيثة وينثرها هنا وهناك.

C الوجه الرابع:

هو نوع من الوسوسة الناشئة من التشدد المفرط لدى التحري عن الأكمل الاتم من الاعمال. فكلما زاد المرء في التشدد هذا - باسم التقوى والورع - ازداد الأمر سوءاً وتعقيداً، حتى ليوشك أن يقع في الحرام في الوقت الذي يبتغي الوجه الأولى والأكمل في الاعمال الصالحة. وقد يترك ((واجباً)) بسبب من تحرّيه عن ((سنّة)) حيث يسأل نفسه دائماً عن مدى صحة عمله وقبوله، فتراه يعيده ويكرره، قائلاً: ((ترى هل صحّ عملي؟)) حتى يطول به الأمر فييأس، ويستغل الشيطان وضعه هذا فيرميه بسهامه ويجرحه من الاعماق.

ولهذا الجرح دواءان اثنان:

الدواء الاول: اعلم ان أمثال هذه الوساوس لا تليق الاّ بالمعتزلة الذين يقولون: ((ان افعال المكلفين من حيث الجزاء الاخروي حسنة أو قبيحة في ذات نفسها، ثم يأتي الشرع فيقرر ان هذا حسن وهذا قبيح. اي ان الحسن والقبح أمران ذاتيان موجودان في طبيعة الاشياء - حسب الجزاء الاخروي - أما الاوامر والنواهي فهي تابعة لذلك ولأقرارها)). ولذلك فان طبيعة هذا المذهب تؤدي بالانسان الى أن يستفسر دائماً عن اعماله: ((ترى هل تم عملي على الوجه الاكمل المُرضي كما هو في ذاته أم لا؟)).. اما اصحاب الحق وهم أهل السنة والجماعة فيقولون: ((ان الله سبحانه وتعالى يأمر بشئ فيكون حسناً وينهى عن شئ فيكون قبيحاً)) فبالأمر والنهي يتحقق الحُسن والقبح. اي أن الحسن والقبح يتقرران من وجهة نظر المكلّف، ويتعلقان بحسب خواتيمهما في الآخرة دون النظر اليها في الدنيا، مثال ذلك:

لو توضأت أو صليت، وكان هناك شئ ما خفي عليك يفسد صلاتك أو وضوءك، ولم تطلع عليه. فصلاتك ووضوءك في هذه الحالة صحيحان وحسنان في آن واحد. وعند المعتزلة: انهما قبيحان وفاسدان حقيقةً ولكنهما مقبولان منك لجهلك، اذ الجهل عذر.

وهكذا ايها الأخ المبتلى، فأخذاً بمذهب أهل السنة والجماعة يكون عملك صحيحاً لا غبار عليه، نظراً لموافقته ظاهر الشرع. واياك ان توسوس في صحة عملك، ولكن اياك ان تغتر به ايضاً، لانك لا تعلم علم اليقين، أهو مقبول عند الله أم لا؟.

الدواء الثاني: اعلم ان الاسلام دين الله الحق، دين يسر لا حرج فيه، وان المذاهب الأربعة كلها على الحق. فان ادرك المرء تقصيره تلافاه بالاستغفار الذي هو أثقل ميزاناً من الغرور الناشئ من اعجابه بالاعمال الصالحة. لذا فان يرى مثل هذا الموسوس نفسه مقصراً في عمله ويستغفر ربه خيرٌ له ألف مرة من أن يغتر اعجاباً بعمله. فما دام الأمر هكذا، فاطرح الوساوس واصرخ في وجه الشيطان: ان هذا الحال حرجٌ، وان الاطلاع على حقيقة الاحوال أمرٌ صعب جداً، بل ينافي اليُسر في الدين، ويخالف قاعدة ((لا حرج في الدين)) و((الدين يُسر)). ولابد أن عملي هذا يوافق مذهباً من المذاهب الاسلامية الحقة، وهذا يكفيني. حيث يكون وسيلة لأن ألقي بنفسي بين يدي خالقي ومولاي ساجداً متضرعاً أطلب المغفرة، واعترف بتقصيري في العمل، وهو السميع المجيب.

C الوجه الخامس:

وهو الوساوس التي تتقمص اشكال الشبهات في قضايا الايمان:

فكثيراً ما يلتبس على الموسوس المحتار خلجات الخيال، فيظن انها من بنات عقله، اي يتوهم ان الشبهات التي تنتاب خياله كأنها مقبولة لدى عقله، اي أنها من شبهات عقله، فيظن ان اعتقاده قد مسّه الخلل.. وقد يظن الموسوس احياناً اخرى ان الشبهة التي يتوهمها انما هي شك يضرّ بايمانه.. وقد يظن تارة اخرى ان ما يتصوره من رؤى الشبهات كأن عقله قد صدّقه.. وربما يحسب ان كل تفكير في قضايا الكفر كفراً، اي أنه يحسب ان كل تحرٍ وتمحيص، وكل متابعة فكرية ومحاكمة عقليه محايدة لمعرفة اسباب الضلالة انه خلاف الايمان. فأمام هذه التلقينات الشيطانية الماكرة يرتعش ويرتجف، ويقول : ((ويلاه! لقد ضاع قلبي وفسد اعتقادي واختل)). وبما أنه لا يستطيع ان يصلح تلك الاحوال بارادته الجزئية وهي غير ارادية على الأغلب، يتردى الى هاوية اليأس القاتل.

أما علاج هذا الجرح فهو:

ان توهم الكفر ليس كفراً كما ان تخيل الكفر ليس كفراً وان تصور الضلالة ليس ضلالة مثلما أن التفكير في الضلالة ليس ضلالة، ذلك لأن التخيل والتوهم والتصور والتفكر.. كل اولئك متباين ومتغاير كلياً عن التصديق العقلي والاذعان القلبي. اذ التخيل والتوهم والتصور والتفكر امور حرة طليقة الى حدٍ ما، لذلك فهي لا تحفل بالجزء الاختياري المنبثق من ارادة الانسان، ولا ترضخ كثيراً تحت التبعات الدينية. بينما التصديق والاذعان ليسا كذلك، فهما خاضعان لميزان، ولأن كلاً من التخيل والتوهم والتصور والتفكر ليس بتصديق وإذعان فلا يعدّ شبهةً ولا تردداً. لكن اذا تكررت هذه الحالة - دون مبرر - وبلغت حالة من الاستقرار في النفس فقد يتمخض عنها لون من الشبهات الحقيقية، ثم قد ينزلق الموسوس، بالتزامه الطرف المخالف باسم المحاكمات العقلية الحيادية أو باسم الانصاف، الى حالة يلتزم المخالف دون اختيار منه، وعندها يتنصل من الالتزامات الواجبة عليه تجاه الحق، فيهلك؛ اذ تتقرر في ذهنه حالة اشبه ما يكون بالمفوّض والمخوّل من قبل الطرف المخالف اي الخصم أو الشيطان.

ولعل أهم نوع من هذه الوسوسة الخطيرة هو:

ان الموسوس يلتبس عليه ((الامكان الذاتي)) و ((الامكان الذهني)) أي أنه يتوهم بذهنه ويشك بعقله ما يراه ممكناً في ذاته، علماً بأن هنالك قاعدة كلامية في ((علم المنطق)) تنص على: ((ان الامكان الذاتي لا ينافي اليقين العلمي، ومن ثم فلا تعارض ولا تضاد بينه وبين الضرورات الذهنية وبديهياتها)) ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال:

من الممكن ان يغور البحر الاسود الآن، فهذا شئ محتمل الوقوع بالامكان الذاتي، الاّ اننا نحكم يقيناً بوجود البحر المذكور في موقعه الحالي، ولا نشك في ذلك قطعاً. فهذا الاحتمال الامكاني والامكان الذاتي لا يولدان شبهة ولا شكاً، بل لا يخلان بيقيننا أبداً.

ومثال آخر: من الممكن الاّ تغيب الشمس اليوم، ومن الممكن الاّ تشرق غدا، الاّ أن هذا الامكان والاحتمال لا يخل بيقيننا بأي حال من الاحوال، ولا يطرأ اصغر شبهة عليه. وهكذا على غرار هذين المثالين فالاوهام التي ترد من الامكان الذاتي على غروب الحياة الدنيا وشروق الآخرة التي هي من حقائق الغيب الايمانية لا تولد خللاً في يقيننا الايماني قطعاً. ولهذا فالقاعدة المشهورة في اصول الدين واصول الفقه: ((لا عبرة للاحتمال غير الناشئ عن الدليل)).

C واذا قلت: ((تُرى ما الحكمة من ابتلاء المؤمنين بهذه الوساوس المزعجة للنفس المؤلمة للقلب؟)).

الجواب: اننا اذا ما نحّينا الافراط والغلبة جانباً فان الوسوسة تكون حافزة للتيقظ، وداعية للتحري، ووسيلة للجدية، وطاردة لعدم المبالاة، ودافعة للتهاون.. ولأجل هذا كله جعل العليم الحكيم الوسوسة نوعاً من سوط تشويق واعطاه بيد الشيطان كي يحث به الانسان في دار الامتحان وميدان السباق الى تلك الحِكَم. واذا ما افرط في الأذى، فررنا الى العليم الحكيم وحده مستصرخين: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس