الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #30
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة والعشرون

وهي مبحثان

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْويمٍ ^ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غيرُ مَمْنونٍ[ (التين: 4- 6)

المبحث الأول

نبين خمس محاسن من بين آلاف محاسن الايمان وذلك في خمسِ نقاط

C النقطة الاولى:

إن الانسانَ يسمو بنور الايمان الى اعلى عليين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقاً بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى اسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الايمانَ يربطُ الانسانَ بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ اليه، فالايمانُ انما هو إنتسابٌ؛ لذا يكتسب الانسانُ بالايمان قيمة سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده. أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمته الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمةَ الانسانِ حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياةٌ حيوانيةٌ مؤقتة.

وها نحن أولاء نبيّنُ هذا السرَّ بمثال توضيحي:

أن قيمةَ المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الاجادة فيما يصنعه الانسانُ، فنرى أحياناً القيمتين متساويتين، وقد تكون المادةُ اكثرَ قيمةً من الصنعة نفسِها، وقد يحدث ان تحتوي مادة حديد على قيمة فنيةٍ وجمالية عاليةٍ جداً، ويحدث أن تحوز صنعةٌ نادرة نفيسة جداً قيمةَ ملايين الليرات رغم كونها من مادة بسيطة جداً. فاذا عُرضَت مثل هذه التحفة النادرة في سوق الصنّاعين والحرفيين الـمُجيدين وعرفوا صانعها الباهر الماهر الشهير فانها تحوز سعر مَليون ليرة، أما إذا اُخذت التحفةُ نفسُها الى سوق الحدادين - مثلاً - فقد لا يتقدم لشرائها أحدٌ، وربما لا ينفق أحدٌ في شرائها شيئاً.

وهكذا الانسانُ، فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه، وهو أرقى معجزةٍ من معجزات قدرته وألطفُها، حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مداراً لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيرّه مثالاً مصغراً ونموذجاً للكائنات بأسرها.

فإذا استقر نورُ الايمان في هذا الانسان لبيّن - ذلك النور - جميع ما على الانسان من نقوش حكيمة، بل يستقرئها الآخرين؛ فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعُر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونَها، أي كأنه يقول: ((ها أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقُه. انظروا كيف تتجلى فيّ رحمتُه، وكرمُه)). وبما شابهها من المعاني الواسعة تتجلّى الصنعة الربانية في الانسان.

اذن الايمان - الذي هو عبارة عن الانتساب الى الصانع سبحانه - يقوم باظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الانسان، فتتعين بذلك قيمةُ الانسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان تلك المرآة الصمدانية. فيتحول هذا الانسان - الذي لا أهمية له - الى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة.

أما إذا تسلّل الكفر - الذي هو عبارةٌ عن قطع الانتساب الى الله - في الانسان، فعندئذٍ تسقط جميع معاني نقوش الاسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتمحى نهائياً، ويتعذر مطالعتها وقراءتها؛ ذلك لانه لا يمكن ان تُفهَم الجهات المعنوية المتوجهة فيه الى الصانع الجليل، بنسيان الصانع سبحانه، بل تنقلب على عقبيها، وتندرس اكثر آيات الصنعة النفيسة الحكيمة واغلب النقوش المعنوية العالية، أما ما يتبقى منـها مـمـا يتـــراءى للعـين فـــسوف يُعزى الى الاسبــاب التـافهــة، الى الطبـيـعة، والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حـيث تتحول كل جــوهرةٍ مــن تـلك الجــواهر المتلألئة الى زجاجةٍ سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتها آنذاك على المادة الحيوانية وحدها. وكما قلنا ان غاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول.. وهكذا يهدم الكفر الماهية الانسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة الى فحمة خسيسة.

C النقطة الثانية:

كما ان الايمان نور يضئُ الانسانَ وينوِّرُه ويُظهر بارزاً جميعَ المكاتيب الصمدانية المكتوبة عليه ويستقرِئُها، كذلك فهو يُنير الكائنات أيضاً، وينقذ القرون الخالية والآتية من الظلمات الدامسة.

وسنوضح هذا السرّ بمثال؛ استناداً الى أحد اسرار هذه الآية الكريمة:

] الله وليُّ الذين آمَنوا يُخرجُهُم مِن الظُلماتِ الى النّور[ (البقرة: 257)

لقد رأيتُ في واقعةٍ خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين، نُصبَ على قمتيهما جسرٌ عظيم مدهش، وتحته وادٍ عميقٌ سحيق. وأنا واقف على ذلك الجسر، والدنيا يخيّم عليها ظلامٌ كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شئ. فنظرت الى يميني فوجدت مقبرةً ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها، اي هكذا تخيلت، ثم نظرت الى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواجَ ظلماتٍ عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض، ونظرتُ الى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوةٌ عميقةٌ لا قرار لها، وقد كنتُ لا أملك سوى مصباحٍ يدوي خافتِ النور أمامَ كل هذا الهدير العـظـيم من الظـلمات. فاستـخدمته، فبـدا لـي وضـعٌ رهيب، اذ رأيت اُسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيتُ أن لم أكن أملكُ هذا المصباحَ الذي كشف لي كلَّ هذه المخلوقات المخيفة؛ إذ إنني أينما وجَّهتُ نـورَ المصباح شهــدتُ المخــاطر المدهـشة نفـسَها، فتحسرتُ في ذات نفسي وتأوّهتُ قائلاً: ((إن هذا المصباحَ مصيبةٌ وبلاءٌ عليّ)). فاستشاط غيظي فالقيت المصباح الى الأرض وتحطَّمَ، وكأن بتحطُّمه قد أصبتُ زرّاً لمصباح كهربائي هائل، فإذا به يُنور الكائـناتِ جمـيعاً فانـقـشــعتْ تلك الظــلماتُ، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كلُّ مكانٍ وكلُّ جــهةٍ بـذلك النور. وبَدَتْ حقيقةُ كلّ شئ ناصعةً واضحة. فوجدتُ أن ذلك الجسر المعلّقَ الرهيبَ ما هو إلاّ شارعٌ يـمرّ من سهلٍ مـنـبـسط. وتبـيّـنتُ أن تلــك المقـبــرةَ الهــائــلةَ التــي رأيتُها على جهة اليمين ليست الاّ مجالسَ ذكرٍ وتهليلٍ وندوة كريمة لطيفة وخِدمة جليلة، وعبادة سامية تحت إمرة رجالٍ نورانيين في جنائن خُضرٍ جميلة تشعُّ بهجةً ونوراً وتبعث في القلب سعادةً وسروراً. أما تلك الأودية السحيقةُ والدواهي المدهشةُ والحوادثُ الغامضةُ التي رأيتُها عن يساري، فلم تكن الاّ جبالاً مشجرّةً خضراء تسرُّ الناظرين، ووراءَها مضيفٌ عظيمٌ ومروجٌ رائعةٌ ومتنزَّهٌ رائع.. نعم، هكذا رأيتُها بخيالي، أما تلك المخلوقاتُ المخيفة والوحوشُ الضارية التي شاهدتُها فلم تكن الاّ حيوانات أليفة أنيسة؛ كالجمل والثور والضأن والماعز، وعندها تلوتُ الآيةَ الكريمة:

] الله وِليُّ الذينَ آمَنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ الى النّورِ[

وبدأتُ أردّد: الحمدلله على نور الايمان.

ثَمَّ أفقتُ من تلك الواقعةِ.

وهكذا، فذاكما الجبلان هما: بدايةُ الحياةِ ومُنتهاها، أي هما عالمُ الأرض وعالمُ البرزخ.. وذلك الجسرُ هو طريقُ الحياة.. والطرفُ الايمنُ هو الماضي من الزمن، والطرفُ الأيسرُ هو المستقبلُ منه . أما المصباحُ اليدوي فهو أنانيةُ الانسان المعتدةُ بنفسها والمتباهيةُ بما لديها من علم، والتي لا تصغي الى الوحي السماوي.. أما تلك الغيلانُ والوحوشُ الكاسرة فهي حوادثُ العالم العجيبة وموجوداته.

فالانسانُ الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شِراكِ ظلماتِ الغفلةِ ويُبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، فإنه يشبه حالتي الأُولى في تلك الواقعة الخيالية، حيث يرى الزمنَ الماضي - بنور ذلك المصباح الناقص الذي هو معرفةُ ناقصةُ منحرفة للضلالة كمقبرةٍ عظيمة في ظلمات العدم، ويصوِّرُ الزمن من المستقبلِ موحشاً تَعبثُ فيه الدواهي والخطوب محيلاً إياه الى الصدفةِ العمياء. كما يصوِّرُ جميعَ الحوادث والموجودات - التي كل منها موظفةٌ مسخرةٌ من لدن ربّ رحيم حكيم - كأنها وحوشٌ كاسرةٌٌ وفواتك ضارية. فيحقّ عليه حُكمُ الآية الكريمة:

] والذينَ كَفَروا أوليَاؤهُم الطّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النّورِ الى الظُلُمات[ (البقرة: 257)

اما إذا أغاثت الانسانَ الهدايةُ الإلهيةُ، ووجد الايمانُ الى قلبه سبيلاً، وانكسرت فرعونيةُ النفسِ وتحطّمتْ، وأصغى الى كتاب الله، فيكونُ أشبهَ بحالتي الثانيةِ في تلك الواقعةِ الخيالية، فتصطبغُ الكائناتُ بالنهار وتمتلىءُ بالنور الإلهي، وينطق العالمُ برمَّته : ] الله نورُ السمواتِ والأرض[ (النور:35)

فليس الزمنُ الغابرُ اذ ذاك مقبرةً عظمى كما يُتوهم، بل كل عصرٍ من عصوره كما تشهدُه بصيرةُ القلب، زاخرٌ بوظائفَ عبوديةٍ تحت قيادة نبيّ مُرسَلِ، أو طائفةٍ من الأولياء الصالحين، يديرُ تلك الوظيفة السامية وينشرها ويرُسِّخُ اركانَها في الرعية على أتمِّ وجهٍ وأكمل صورة. ومن بعد انتهاء هذه الجماعات الغفيرة من ذوي الأرواح الصافية من اداء وظائفها الحياتية وواجباتها الفطرية تحلّق مُرتَقيةً الى المقامات العالية مُردّدةً: (الله اكبرُ) مخترقةً حجابَ المستقبل. وعندما يلتفتُ الى يساره يتراءى له من بعيد - بمنظار نور الايمان - أن هناك وراءَ انقلاباتٍ برزخيةٍ واُخروية - وهي بضخامة الجبال الشواهق - قصور سعادة الجنان، قد مُدَّت فيها مضايفُ الرحمن مَداً لا أولَ لها ولا آخر. فيتيقن بأَن كلَّ حادثةٍ من حوادث الكون - كالأعاصير والزلازل والطاعون وامثالها - انما هي مُسخرّات موظفاتٌ مأموراتٌ، فيرى أن عواصفَ الربيع والمطر وأمثالَها من الحوادث التي تبدو حزينةً سمجةً، ما هي في الحقيقة والمعنى الا مدارُ الحِكَمِ اللطيفة، حتى إنه يرى الموتَ مقدمةً لحياةٍ أبديةٍ، ويرى القبرَ بابَ سعادةٍ خالدة.. وقسْ على هذا المنوال سائَر الجهاتِ بتطبيق الحقيقةِ على المثال.

C النقطة الثالثة:

كما أن الايمانَ نورٌ وهو قوةٌ ايضاً. فالانسانُ الذي يظفر بالايمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً الى قوةِ ايمانهفَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلاً: تَوكَّلتُ على الله، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً الى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل الى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع ان يرتفعَ طائراً الى الجنة للدخول الى السعادة الأبدية.

أما اِذا ترك الانسانُ التوكل فلا يستطيع التحليقَ والطيرانَ الى الجنة فحسب بل ستجذبه تلك الأثقالُ الى أسفلَ سافلين.

فالايمان اذن يقتضي التوحيدَ، والتوحيدُ يقودُ الى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ الى سعادة الدارَين. ولا تظنن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي. فطلبُ المسَبَّباتِ اذن وترقّب النتائج لا يكون الاّ مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، واَنّ المنةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ الاّ اِليه وحدَه.

ان مَثلَ المتوكلِ على الله وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل اعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ احدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينة وجلسَ عليه يرقُبُه أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له:

((ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟)). فقال:
- ((كلا، اني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فانا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري)). فقيل له ثانية:

- ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً. وبامكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا اكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن انك تفقُد قوتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، واذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فيسظنــُّك مصاباً بَمسٍ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: ان هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك باظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفاً - كما يراه أهلُ البصائر - وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى ان الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..! وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ الى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال:

الحمد لله... ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية.

فيا أيها الانسان البعيدُ عن التوكل! ارجع الى صوابك وعُد الى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على الله لتتخلص من الحاجة والتسوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الإرتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الابدي ومن أغلال مضايقات الدنيا.

C النقطة الرابعة:

إن الايمانَ يجعل الانسانَ انساناً حقاً، بل يجعله سلطاناً؛ لذا كانت وظيفتُه الأساس: (الايمانُ بالله تعالى والدعاء اليه). بينما الكفرُ يجعل الانسانَ حيواناً مفترساً في غاية العجز.

وسنورد هنا دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً من بين آلاف الدلائل على هذه المسألة، وهو: التفاوتُ والفروقُ بين مجئ الحيوان والانسان الى دار الدنيا.

نعم، ان التفاوتَ بين مجئ الحيوان والانسان الى هذه الدنيا يدل على أن اكتمالَ الانسانيةِ وارتقاءها الى الانسانية الحقة إنما هو بالايمان وحدَه، وذلك لأن الحيوانَ حينما يأتي الى الدنيا يأتي اليها كأنه قد إكتملَ في عالمٍ آخرٍ، فيرُسَلُ اليها متكاملاً حسب إستعداده. فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقاته بالكائنات الأخرى وقوانينَ حياته، فتحصلُ لديه مَلَكةٌ؛ فيتعلّم العصفورُ أو النحلةُ - مثلاً - القدرةَ الحياتية والسلوكَ العملي عن طريق الإلهامِ الرباني وهدايتِه سبحانه. ويحصلُ في عشرين يوماً على ما لا يتعلمه الانسانُ الاّ في عشرين سنة. اذن الوظيفةُ الاساس للحيوان ليست التكمّل والإكمتال بالتعلّم، ولا الترقي بكسب العلم والمعرفة، ولا الاستعانة والدعاء باظهار العجز. وانما وظيفتُه الأصلية: العمل حسب استعداده، اي العبودية الفعلية.

أما الانسانُ فعلى العكس من ذلك تماماً، فهو عندما يَقِدم الى الدنيا يقدِمُها وهو محتاجٌ الى تعلّم كل شئ وادراكه؛ اذ هو جاهلٌ بقوانين الحياة كافة جهلاً مطبقاً، حتى إنه قد لا يستوعب شرائطَ حياته خلال عشرين سنة. بل قد يبقى محتاجاً الى التعلم والتفهم مدى عمره. فضلاً عن أنه يُبعث الى الحياة وهو في غاية الضَعف والعَجز حتى إنه لا يتمكن من القيام منتصباً الاّ بعد سنتين من عمره، ولا يكاد يميّز النفَع من الضرّ الا بعد خمس عشرة سنة، ولا يمكنه أن يحقّق لنفسه منافع حياته ومصالحها ولا دفـع الضرر عنها إلاّ بالتعـاون والانخـراط فـي الحيـاة الاجتماعية البشرية.

يتضح من هذا ان وظيفة الانسان الفطرية انما هي التكمل "بالتعلم" أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة، والعبودية (بالدعاء). أي أن يدرك في نفسه ويستفسر: (برحمةِ مَنْ وشَفقته اُدارى بهذه الرعاية الحكيمة؟! وبمَكْرَمةِ مَنْ وسخائِه اُربّى هذه التربية المفعمةَ بالشفقة والرحمة؟ وبألطافِ مَنْ بوجُودِه اُغذّى بهذه الصورة الرازقة الرقيقة؟!). فيرى أن وظيفته حقاً هو الدعاءُ والتضرعُ والتوسلُ والرجاءُ بلسان الفقر والعجز الى قاضي الحاجات ليقضي له طلباته وحاجاته التي لا تصل يدُه الى واحدةٍ من الألفِ منها. وهذا يعني ان وظيفته الأساس هي التحليق والارتفاع بجناحَي (العجز والفقر) الى مقام العبودية السامي.

اذن فلقد جئ بهذا الانسان الى هذا العالم لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء؛ لأن كل شئ فيه موجَّه الى العلم ومتعلقٌ بالمعرفة حسبَ الماهية والاستعداد. فأساسُ كلِّ العلوم الحقيقية ومعدنها ونورُها وروحها هو (معرفة الله تعالى) كما ان اُسَّ هذا الاساس هو (الايمانُ بالله جل وعلا).

وحيث ان الانسان متعرضٌ لما لا يحصى من أنواع البلايا والمصائب ومهاجمة الاعداء لما يحمل من عجزٍ مطلقٍ. وله مطالبُ كثيرةٌ وحاجاتٌ عديدة مع أنه في فقرٍ مدقع لا نهاية له؛ لذا تكون وظيفتُه الفطريةُ الأساس (الدعاءَ) بعد الايمان، وهو أساسُ العبادة ومخّها. فكما يلجأ الطفلُ العاجز عن تحقيق مرامه أو تنفيذ رغبته بما لا تصل اليه يدُه، الى البكاء والعويل أو يطلب مأمولَه، أي يدعو بلسان عجزه إما قولاً أو فعلاً فيوفَّق الى مقصوده ذاك، كذلك الانسانُ الذي هو ألطفُ أنواع الأحياء وأعجزُها وأفقرُها وهو بمنزلة صبيٍّ ضعيفٍ لطيفٍ، فلابدّ له من أن يأوى الى كنفِ الرحمن الرحيم والانطراحَ بين يديه إما باكياً معبراً عن ضعفه وعجزه، أو داعياً بفقره واحتياجـه، حتـى تُلبّى حاجتُه وتُنفَّذ رغبتُهُ. وعندئذٍ يكون قد أدّى شكرَ تلك الإغاثات والتلبيات والتسخيرات. والاّ فاذا قال بغرورٍ كالطفل الأحمق. ((أنا أتمكن أن اُسخّرَ جميع هذه الأشياء واستحوذَ عليها بافكاري وتدبيري)) وهي التي تفوق ألوف المرات قوتَه وطاقَته! فليس ذلك الاّ كفرانٌ بنَعم الله تعالى، ومعصيةٌ كبيرة تنافي الفطرة الانسانية وتناقضها، وسببٌ لجعل نفسه مستحقّاً لعذابٍ أليمٍ.

C النقطة الخامسة:

كما أن الايمانَ يقتضي (الدعاء) ويتّخذه وسيلةً قاطعةً ووساطةً بين المؤمن وربّه، وكما اَن الفطرةَ الانسانية تتلهف اليه بشدةٍ وشوق، فان الله سبحانه وتعالى ايضاً يدعو الانسانَ الى الأمر نفسه بقوله:

] قُلْ مَا يَعْبَؤا بكُم ربّي لَولا دُعَاؤكُم[ (الفرقان: 77)

وبقوله تعالى: ] اُدْعوني أستَجِبْ لكُم[ (غافر: 60)

ولعلك تقول: ((إننا كثيراً ما ندعو الله فلا يُستجابُ لنا رغم ان الآية عامةٌ تُصرّح بأنّ كل دعاءٍ مستجابٌ)).

الجواب:

ان إستجابةَ الدعاء شئ، وقبولَه شئ آخر. فكلُّ دعاءٍ مستجابٌ، الاّ أن قبولَه وتنفيذَ المطلوب نفسه منوطٌ بحكمة الله سبحانه.

فمثلاً: يستصرخ طفلٌ عليل الطبيبَ قائلاً:

((أيها الطبيب انظر اليّ واكشف عني)).

فيقول الطبيب: ((أمرُك يا صغيري)). فيقول الطفل:

((اعطني هذا الدواء)). فالطبيب حينذاك إمّا انه يُعطيه الدواء نفسَه، أو يعطيه دواءً أكثر نفعاً وأفضل له، أو يمنع عنه العلاجَ نهائياً. وذلك حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ.

وكذلك الحق تبارك وتعالى (وله المثل الاعلى) فلأنه حكيمٌ مطلقٌ ورقيبٌ حسيب في كل آن، فهو سبحانه يستجيب دعاءَ العبد، وباستجابته يُزيل وحشَته القاتمةَ وغربته الرهيبة، مُبدلاً إياها أملاً واُنساً وإطمئناناً. وهو سبحانه إما أنه يَقبل مَطلبَ العبد ويستجيب لدعائه نفسه مباشرة، أو يمنحه أفضل منه، أو يردّه، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسبَ أهواء العبد المتحكمة وأمانيّه الفاسدة.

وكذا، فالدعاء هو ضربٌ من العبودية، وثمار العبادة وفوائدُها أخرويةٌ. أما المقاصدُ الدنيوية فهي ((أوقاتُ)) ذلك النوع من الدعاء والعبادة، وليست غاياتها.

فمثلاً: صلاةُ الاستسقاء نوعٌ من العبادة، وانقطاع المطر هو وقتُ تلك العبادة. فليست تلك العبادةُ وذلك الدعاء لأجل نزولِ المطر. فلو اُدّيَتْ تلك العبادةُ لأجل هذه النية وحدَها اذن لكانت غير حريّة بالقبول، حيث لم تكن خالصةً لوجه الله تعالى..

وكذا وقتُ غروبِ الشمس هو اعلانٌ عن صلاة المغرب، ووقتُ كسوف الشمس وخسوف القمر هو وقتُ صلاةِ الكسوف والخسوف. أي أن الله سبحانه يدعو عبادَه الى نوعٍ من العبادة لمناسبة انكساف آية النهار وانخساف آية الليل اللتين تومئان وتُعلنان عظمتَهُ سبحانه. والاّ فليست هذه العبادة لإنجلاء الشمس والقمر الذي هو معلومٌ عند الفلكي..

فكما ان الأمر في هذا هكذا فكذلك وقتُ انحباس المطر هو وقتُ صلاةِ الاستسقاء، وتهافتُ البلايا وتسلطُ الشرور والأشياء المضرة هو وقتُ بعض الادعية الخاصة، حيث يدرك الانسانُ حينئذٍ عجزَه وفقرَه فيلوذ بالدعاء والتضرع الى باب القدير المطلق. واذا لم يدفع الله سبحانه تلك البلايا والمصائب والشرور مع الدعاء الملحّ، فلا يقالُ: إن الدعاءَ لم يُستجبْ، بل يقال: إن وقت الدعاء لم ينقضِ بعدُ. وإذا ما رفع سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا وكشف الغمة فقد انتهى وقتُ الدعاء اذن وانقضى. وبهذا فالدعاء سرٌ من أسرار العبودية.

والعبودية لابد أن تكون خالصةً لوجه الله، بأن يأوي الانسانُ الى ربَّه بالدعاء مُظهراً عجزَه، مع عدم التدخل في اجراءات ربوبيته، أو الاعتراضِ عليها، وتسليمُ الأمر والتدبير كلّه اليه وحدَه، مع الاعتماد على حكمته من دون إتهامٍ لرحمته ولا القنوطِ منها.

نعم! لقد ثبت بالآيات البيّنات أن الموجودات في وضعِ تسبيح لله تعالى؛ كلٌ بتسبيحٍ خاصٍ، في عبادة خاصة، في سجود خاص، فتتمخض عن هذه الأوضاع العبادية التي لا تعدّ ولا تحصى سبلُ الدعاء المؤدية إلى كنف ربٍّ عظيم.

اما عن طريق لسان الاستعداد والقابلية؛ كدعاء جميع النباتات والحيوانات قاطبة، حيث يبتغي كلُّ واحدٍ منهما من الفيّاض المطلق صورةً معينةً له فيها معانٍ لأسمائه الحسنى، أو عن طريق لسان الحاجة الفطرية كأدعية جميع أنواع الاحياء للحصول على حاجاتها الضـرورية التــي هــي خــارجة عن قدرتهــا، فيطــلب كـلُّ حيٍ من الجواد المطلق؛ بلســان حــاجته الفطرية عناصرَ اســتمــرار وجوده التي هي بمثابة رزقها.

أو عن طريق لسان الاضطرار، كدعاء المضطرّ الذي يتضرع تضرعاً كاملاً الى مولاه المغيب، بل لا يتوجّه الاّ الى ربه الرحيم الذي يلّبي حاجته ويقبل التجاءه.

فهذه الانواع الثلاثة من الدعاء مقبولةٌ إن لم يطرأ عليها ما يجعلها غير مقبولة.

النوع الرابع من الدعاء، هو دعاؤنا المعروف، فهو أيضاً نوعان:

احدهما: دعاءٌ فعلي وحالي.

وثانيهما: دعاء قلبي وقولي.

فمثلاً: الأخذُ بالأسباب هو دعاء فعلي، علماً أن اجتماع الأسباب ليس المرادُ منه ايجاد المسَّبب. وانما هو لإتخاذ وضعٍ ملائمٍ ومُرضٍ لله سبحانه لِطَلَب المسَّبب منه بلسان الحال. حتى إن الحراثةَ بمنزلةِ طَرْقِ بابِ خزينةِ الرحمةِ الإلهية. ونظراً لكون هذا النوع من الدعاء الفعلي موجّهٌ نحو اسم (الجواد) المطلق والى عنوانه فهو مقبولٌ لا يُردُّ في أكثر الأحيان.

أما القسم الثاني: فهو الدعاءُ باللسان والقلب. أي طلبُ الحصولِ على المطالب غير القابلة للتحقيق والحاجات التي لا تصلُ اليها اليدُ. فأهمُّ جهةٍ لهذا الدعاء وألطفُ غاياته وألذُّ ثمراته هو أن الداعي يدرك ان هناك مَن يسمع خواطر قلبه، وتصل يدُه الى كل شئ، ومَن هو القادرُ على تلبية جميع رغباته وآمالِه، ومَن يرحم عجزه ويُواسي فقرَه.

فيا أيها الانسان العاجز الفقير! اياك ان تتخلّى عن مفتاح خزينةِ رحمة واسعة ومصدر قوة متينة، ألا وهو الدعاءُ. فتشبَّث به لترتقيَ الى اعلى عليي الانسانية، واجعل دعاءَ الكائنات جزءاً من دعائك. ومن نفسك عبداً كلياً ووكيلاً عاماً بقولك ] إياكَ نَسْتَعينُ[ وكن أحسنَ تقويمٍ لهذا الكون.

















المبحث الثاني

(وهو عبارة عن خمسِ نكات تدورحول سعادة الانسان وشقاوته)

ان الانسانَ نظراً لكونه مخلوقاً في أحسنِ تقويمٍ وموهوباً بأتمّ استعدادٍ جامع، فانه يتمكن من أن يدخل في ميدان الامتحان هذا الذي اُبتلي به ضمن مقاماتٍ ومراتبَ ودرجاتٍ ودركات مصفوفة ابتداءً من سجين ((أسفل سافلين)) الى رياض ((أعلى عليين)) فيسمو أو يتردى، ويرقى أو يهوي ضمن درجاتٍ من الثرى الى العرش الأعلى، من الذرة الى المجرّة، اذ قد فُسِحَ المجالُ أمامَه للسلوك في نجدين لا نهاية لهما للصعود والهبوط. وهكذا اُرسل هذا الانسانُ معجزةَ قدرةٍ، ونتيجةَ خلقةٍ، وأعجوبةَ صنعةٍ.

وسنبين هنا اسرار هذا الترقي والعروج الرائع، أو التدنّي والسقوط المرعب في ((خمسِ نكات)).

C النكتة الأولى

ان الانسانَ محتاجٌ الى اكثر انواع الكائنات وهو ذو علاقة صميمية معها. فلقد انتشرت حاجاتُه في كل طرف من العالم، وامتدت رغباتُه وآمالُه الى حيث الأبد، فمثلـما يطلب أقحـوانةً، يطلب أيضاً ربيعاً زاهياً فسيحاً، ومثلما يرغب في مَرجٍ مبهج يرغب أيضاً في الجنة الأبدية، ومثلما يتلهّف لرؤية محبوبٍ له يشتاق ايضاً ويتوق الى رؤية الجميل ذي الجلال في الجنة، ومثلما أنه محتاجٌ الى فتح باب غرفة لرؤية صديق حميم قابعٍ فيها، فهو محتاجٌ أيضاً الى زيارة عالمِ البرزخ الذي يقبعُ فيه تسـع وتسعون بالمائة من أحبابه وأقرانه. كما هـو محتاج الى اللواذ بباب القدير المطـلـق الـذي سيغـلق بابَ الكـون الأوسـع ويفتـح بابَ الآخـرة الزاخـرة والمحــشـورة بالعجـائب، والذي سيرفع الدنيا ليضـع مكانَها الآخرةَ انقاذاً لهذا الانسان المسكينِ من ألمِ الفراق الأبدي.

لذا فلا معبود لهذا الانسان وهذا وضعُه، الاّ مَن بيده مقاليدُ الأمور كلها، ومَن عنده خزائنُ كل شئ. وهو الرقيبُ على كل شئ، وحاضرٌ في كل مكان، ومنزّهٌ من كل مكان، ومبرّأٌ من العجز، ومقدَّسٌ من القصور، ومتـعـالٍ عن النقـص، وهو القادر ذو الجلال، وهو الرحيم ذو الجمال، وهـو الحكيـــم ذو الكــمــال. ذلك لأنه لايستطيع أحدٌ تلبـية حاجات انــسانٍ بآمــالٍ ومطــامــحَ غــير محــدودة الاّ مَن له قـُـدرة لا نهاية لها وعلم محيط شامل لا حدود له إذ لا يستحق العبادة الاّ هو.

فيا أيها الانسان! اذا آمنتَ بالله وحدَه وأصبحتَ عبداً له وحدَه، فُزتَ بموقعٍ مرموقٍ فوق جميع المخلوقات. أما اذا استنكفتَ من العبودية وتجاهلتَها فسوف تكون عبداً ذليلاً أمام المخلوقات العاجزة، واذا ما تباهيتَ بقدرتك وأنانيتك، وتخلّيتَ عن الدعاء والتوكل، وتكبرّتَ وزِغتَ عن طريق الحق والصواب، فستكون أضعفَ من النملة والنحلة من جهة الخير والايجاد، بل أضعف من الذبابة والعنكبوت. وستكون أثقلَ من الجبل وأضرّ من الطاعون من جهة الشر والتخريب.

نعم، ايها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين:

الاولى: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل.

والاخرى: جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر.

فمثلاً: الكفرُ إساءةٌ وتخريبٌ وتكذيبٌ، ولكن هذه السيئةَ الواحدة تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها. وهو في الوقت نفسه يُنكر الأسماء الإلهية ويتجاهلها، تلك الاسماء التي تتراءى نقــوشُها وتجــليـــاتُها وجـمالاتُها في مــرايا جميــع الكائــنات، حتى إن ما يُطلق عليه: (الانسانية) التي هي قصيدة حكيمةٌٍ منظومةٌ تعلن اعلاناً لطيفاً جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي معجزةُ قدرةٍ باهرة جامعةٍ كالنواة لأجهزة شجرةٍ دائمةٍ باقية. هذه (الانسانية) يقذفُها الكفرُ من صورتها الحيّة التي تفوّقت بها على الارض والجبال والسماوات بما أخذتْ على عاتقها من الأمانة الكبري وفُضّلت على الملائكة وترجّحت عليها حتى أصبحت صاحبةَ مرتبةِ خلافة الأرض - يقذفها من هذه القمة السامية العالية الى دَركات هي أذلُّ وأدنى من أي مخلوقٍ ذليل فانٍ عاجزٍ ضعيف فقير، بل يُرديها الى دركة أتفهِ الصور القبيحة الزائلة سريعاً.

وخلاصة القول: ان النفس الأمارة بإمكانها اقتراف جنايةٍ لا نهاية لها في جهة الشر والتخريب، أما في الخير والايجاد فان طاقتها محدودة وجزئية؛ اذ الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم. أما إذا تخلى الانسانُ عن الانانية، وطلب الخير والوجود من التوفيق الإلهي وأرجَعَ الامرَ اليه، وابتعد عن الشر والتخريب، وترك اتباعَ هوى النفس. فاكتمل عبداً لله تعالى تائباً مستغفراً، ذاكراً له سبحانه. فسيكون مَظهراً للآية الكريمة: ] يُبدّلُ الله سَيّئاتِهم حَسَنات[ (الفرقان: 70) فتنقلب القابلية العظمى عندَه للشر الى قابلية عظمى للخير. ويكتسب قيمة (أحسن تقويم) فيحلق عالياً الى أعلى عليين.

أيها الانسان الغافل! انظر الى فضل الحق تبارك وتعالى وكرمِه، ففي الوقت الذي تقتضي العدالةُ أن يكتب السيئةَ مائة سيئةٍ ويكتب الحسنةَ حسنةً واحدة او لا يكتبها حيث أن خيرها ومصلحتها يعودان على الانسان فهو جلّت قدرته يكتب السيئة سيئةً واحدةً والحسنةَ يزنها بَعشر أمثالها أو بسبعين أو بسبعمائة أو بسبعة آلاف أمثالها.

فأفهم من هذه النكتة ان الدخول في جهنم هو جزاء عمل وهو عين العدالة، وأما دخول الجنة فهو فضل إلهي محض ومَكرمةٌ خالصة، ومرحمة بحتة.

C النكتة الثانية

في الانسان وجهان:

الاول: جهة الانانية المقصورة على الحياة الدنيا.

والآخر: جهةُ العبودية الممتدة الى الحياة الأبدية.

فهو على اعتبار الوجه الاول مخلوقٌ مسكينٌ. إذ رأسماله من الارادة الجزئية جزءٌ ضيئل كالشعرة، وله من الاقتدار كسبٌ ضعيف، وله من الحياة شعلةٌ لا تلبث أن تنطفئ، وله من العمر فترةٌ عابرة خاطفة، وله من الوجود جسمٌ يبلى بسرعة. ومع هذا فالانسان فردٌ لطيف رقيق ضعيف من بين الأفراد غير المحدودة والأنواع غير المعدودة المتراصة في طبقات الكائنات.

أما على اعتبار الوجه الثاني وخاصة من حيث العجز والضعف المتوجهين الى العبودية، فهو يتمتع بفسحة واسعة، وأهمية عظيمة جداً؛ لأن الفاطرَ الحكيم قد أودع في ماهيته المعنوية عجزاً عظيماً لا نهاية له، وفقراً جسيماً لا حد له، وذلك ليكون مرآةً واسعة جامعة جداً للتجليات غير المحدودة (للقدير الرحيم) الذي لا نهاية لقدرته ورحمته و (للغني الكريم) الذي لا منتهى لغناه وكرمه.

نعم، ان الانسان يشبه البذرة، فلقد وُهبت للبذرة اجهزةٌ معنوية من لدن (القُدرة) واُدرجت فيها خطةٌ دقيقة ومهمة جداً من لدن (القَدَر) لتتمكن من العمل داخل التربة، ومن النمو والترعرعِ والانتقالِ من ذلك العالم المظلم الضيق الى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة، وأخيراً التوسل والتضرع لخالقها بلسان الاستعداد والقابليات لكي تصير شجرةً، والوصولِ الى الكمال اللائق بها. فاذا قامت هذه البذرةُ بجلب المواد المضرة بها، وصرفِ أجهزتها المعنوية التي وُهبت لها الى تلك المواد التي لا تعنيها بشئ وذلك لسوء مزاجها وفساد ذوقها، فلاشك ان العاقبةَ تكون وخيمةً جداً؛ اذ لا تلبث أن تتعفن دون فائدة، وتبلى في ذلك المكان الضيق. أما اذا اخضَعتْ أجهزتَها المعنوية لتتمثل أمر ] فالق الحبِّ والنَّوى[ (الانعام:95) التكويني واحسنتْ استعمالَها، فانها ستنبثق من عالمها الضيق لتكتملَ شجرةً مثمرةً باسقة، ولتأخذ حقيقتُها الجزئية، وروحُها المعنوية الصغيرة صورتَها الحقيقية الكلية الكبيرة.

فكما ان البذرة هكذا فالانسانُ كذلك. فقد اُودعتْ في ماهيته اجهزةٌ مهمةٌ من لدن القدرة الإلهية، ومُنحَ برامجَ دقيقة وثمينة من لدن القَدَر الإلهي. فاذا أخطأ هذا الانسانُ التقديرَ والاختيار، وصَرَف اجهزتَه المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا وفي عالم الارض الضيق المحدود، الى هوى النفس، فسوف يتعفّنُ ويتفسّخ كتلك البذرة المتعفنة، لأجل لذةٍ جزئيةٍ ضمن عمرٍ قصيرٍ وفي مكانٍ محصور وفي وضع متأزم مؤلم، وستتحمل روحُه المسكينة تبعات المسؤولية المعنوية فيرحلُ من الدنيا خائباً خاسراً.

أما اذا ربّى الانسانُ بذرةَ استعداده وسقاها بماءِ الأسلام، وغذّاها بضياءِ الايمان تحت تراب العبودية موجهاً أجهزتَها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية. فلابد أنها ستنشقّ عن أوراقٍ وبراعم واغصانٍ تمتدّ فروعُها وتتفتّح أزاهيرُها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نِعَماً وكمالاتٍ لا حد لها. فيصبح الانسان بذرةً قيّمةً حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية، ويغدو آلةً نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرةً مباركة منورة لشجرة الكون.

نعم ان السموَّ والرقي الحقيقي انما هو بتوجيه القلب، والسرِ، والروح، والعقل، وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للانسان، الى الحياة الأبدية الباقية، وأشتغال كلٍّ منها بما يخصّها ويناسبها من وظائف العبودية. أما ما يتوهمه أهلُ الضلالة من الانغماس في تفاهات الحياة والتلذّذِ بملذاتها الهابطة والإنكباب على جزئيات لذاتها الفانية دون الالتفات الى جمال الكليات ولذائذها الباقية الخالدة مسخّرين القلب والعقل وسائر اللطائف الانسانية تحت إمرةِ النفس الأمارة بالسوء وتسييرها جميعاً لخدمتها، فان هذا لا يعني رقياً قط، بل هو سقوطٌ وهبوط وانحطاط.

ولقد رأيت هذه الحقيقة في واقعة خيالية سأوضحها بهذا المثال:

دخلتُ في مدينة عظيمة، وجدت فيها قصوراً فخمة ودُوراً ضخمة، كانت تُقام أمام القصور والدور حفلات ومهرجانات وأفراح تجلب الانظار كأنها مسارحُ وملاهٍ، فلها جاذبية وبهرجة. ثم امعنت النظر فاذا صاحبُ قصر واقفٌ أمام الباب وهو يداعب كلبه ويلاعبه. والنساء يرقصن مع الشباب الغرباء، وكانت الفتيات اليافعات ينظّمن العابَ الأطفال. وبوّاب القصر قد اتخذ طورَ المشرف يقودُ هذا الحشد. فأدركت ان هذا القصر خالٍ من أهله وأنه قد عُطلّت فيه الوظائف والواجبات. فهؤلاء السارحون من ذويه السادرون في غيّهم قد سقطت أخلاقُهم وماتت ضمائرهم وفرغت عقولُهم وقلوبُهم فأصبحوا كالبهــائم يهـيمون علـى وجوههم ويلعبون أمام القصر. ثم مشــيتُ قــلــيلاً فـفاجأني قصرٌ آخر. رأيت كلباً نائماً امام بابه. ومعه بوّاب شهمٌ وقور هادئ، وليس امام القصر ما يثير الانتباه، فتعجبت من هذا الهدوء والســكـيــنــة واستغـربت! واستفـــسرتُ عن الســـبــب، فــدخلت القصرَ فوجدته عامراً بأهله، فهناك الوظائف المتباينة والواجبات المهمة الدقيقة ينجزها أهلُ القصر، كلٌّ في طابقه المخصص له في جوّ من البهاء والهناء والصفاء بحيث يبعث في الفؤاد الفرحة والبهجة والسعادة. ففي الطابق الأول هناك رجالٌ يقومون بإدارة القصر وتدبير شؤونه، وفي طابقٍ أعلى هناك البناتُ والاولاد يتعلمون ويتدارسون. وفي الطابق الثالث السيداتُ يقمن بأعمال الخياطة والتطريز ونسج الزخارف الملونة والنقوش الجميلة على انواع الملابس، أما الطابق الأخير فهناك صاحبُ القصر يتصل هاتفياً بالملكِ لتأمين الراحةِ والسلامةِ والحياة الحرّة العزيزة المرضية لأهل القصر، كلٌّ يمارس اعماله حسب اختصاصه وينجز وظائفه اللائقة بمكانته الملائمة بكماله ومنزلته. ونظراً لكوني محجوباً عنهم فلم يمنعني أحدٌ من التجوّل في انحاء القصر؛ لذا استطلعت الأمور بحرّية تامة. ثم غادرتُ القصر وتجولت في المدينة فرأيتُ انها منقسمةٌ الى هذين النوعين من القصور والبنايات، فسألت عن سبب ذلك ايضاً فقيل لي: "ان النوع الاول من القصور الخاليةِ من أهلها والمبهرجِ خارجُها والمزينةِ سطوحُها وافنيتُها ما هي الاّ مأوى ائمة الكفر والضلالة. أما النوع الثاني من القصور فهي مساكن أكابر المؤمنين من ذوي الغيرة والشهامة والنخوة". ثم رأيت أن قصراً في زاوية من زوايا المدينة مكتوبٌ عليه اسم (سعيد) فتعجبت، وعندما أمعنت النظر أبصرت كأن صورتي قد تراءت لي، فصرختُ من دهشتي واسترجعت عقلي وافقتُ من خيالي.

واريد أن أفسر بتوفيق الله هذه الواقعة الخيالية:

فتلك المدينة هي الحياة الاجتماعية البشرية ومدنية الحضارة الانسانية، وكل قصر من تلك القصور عبارة عن انسان، أما أهلُ القصر فهم جوارحُ الانسان كالعين والاذن، ولطائفُه كالقلب والسر والروح، ونوازعُه كالهوى والقوة الشهوانية والغضبية. وكلُّ لطيفةٍ من تلك اللطائف معدّةٌ لأداءِ وظيفةِ عبوديةٍ معينة ولها لذائذُها وآلامُها، أما النفس والهوى والقوة الشهوانية والغضبية فهي بحكم البوّاب وبمثابة الكلب الحارس. فإخضاع تلك اللطائف السامية اذن لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الاصلية لا شك يعتبر سقوطاً وانحطاطاً وليس ترقياً وصعوداً.. وقس أنت سائر الجهات عليها.

C النكتة الثالثة

ان الانسان من جهة الفعل والعمل وعلى اساس السعي المادي حيوانٌ ضعيفٌ ومخلوق عاجز، دائرة تصرفاته وتملكه في هذه الجهة محدودةٌ وضيقةٌ، فهي على مدّ يده القصيرة، حتى ان الحيوانات الأليفة التي أعطي زمامُها بيد الانسان قد تسرّبتْ اليها من ضعف الانسان وعجزِه وكَسَله حصة كبيرة. فاذا ما قيس مثلاً الغنم والبقر الأهلي بالغنم والبقر الوحشي لظَهر فرقٌ هائلٌ وبونٌ شاسعٌ.

الاّ ان الانسان من جهة الانفعال والقبول والدعاء والسؤال ضيفٌ عزيزٌ كريمٌ في دار ضيافة الدنيا، قد استضافه المولى الكريمُ ضيافةً كريمةً حتى فتح له خزائن رحمته الواسعة وسخرّ له خَدَمه ومصنوعاته البديعة غير المحدودة، وهيأ لتنزهه واستجمامه ومنافعه دائرةً عظيمة واسعة جداً، نصفُ قطرها مدُّ البصر بل مدُّ انبساط الخيال.

فإذا استند الانسان الى أنانيته وغروره واتخذ الحياة الدنيا غاية آماله، وكان جهدُه وكدُّه لأجل الحصول على لذاتٍ عاجلةٍ في سعيه وراء معيشته. فسوف يغرق في دائرة ضيقة ويذهب سعيه ادراجَ الرياح، وستشهد عليه يوم الحشر جميعُ الاجهزة والجوارح واللطائف التي اُودعت فيه شاكيةً ضده، ساخطةً ثائرة عليه. أما إذا أدرك انه ضيفٌ عزيز، وتحرك ضمن دائرة مرضاة مَنْ نَزَل عليه ضيفاً وهو الكريمُ ذو الجلال، وصرَفَ رأسمال عمره ضمن الدائرة المشروعة فسوف يكون نشاطه وعمله ضمن دائرة فسيحة رحبة جداً تمتد الى الحياة الأبدية الخالدة، وسيعيش سالماً آمناً مطمئناً، ويتنفس تنفس الصعداء ويستروح، وبإمكانِهِ الصعودُ والرقي الى أعلى عليين. وستشهد له في الآخرة ما منحه الله من الاجهزة والجوارح واللطائف.

نعم، ان الاجهزة التي زُرعت في الانسان ليست لهذه الحياة الدنيا التافهة، وانما اُنعم عليه بها لحياةٍ باقية دائمة، لها شأنها وأيُّ شأن. ذلك لأننا إذا قارنّا بين الانسان والحيوان نرى ان الانسان أغنى من الحيوان بكثير من حيث الأجهزة والآلات، بمائة مرة، ولكنه من حيث لذّتِه وتمتّعه بالحياة الدنيا أفقرُ منه بمائة درجة، لأن الانسان يجد في كل لذةٍ يلتذّ بها ويتذوقها آثارَ آلاف من الآلامِ والمنغّصات. فهناك آلامُ الماضي، وغصصُ الزمن الخالي، ومخاوفُ المستقبل، وأوهامُ الزمان الآتي، وهناك الآلامُ الناتجة من زوال اللذات. كلُّ ذلك يُفسد عليه مزاجَه وأذواقَه ويكدِّر عليه صفوَه ونشوتَه، حيث تترك كلُّ لذةٍ أثراً للألم. بينما الحيوانُ ليس كذلك، فهو يتلذّذُ دون ألمٍ، ويتذوق الاشياء صافيةً دون تكدِّرٍ وتعكر، فلا تعذّبه آلامُ الماضي ولا ترهبهُ مخاوفُ المستقبل، فيعيش مرتاحاً ويغفو هانئاً شاكراً خالقَه،حامداً له.

اذن فالانسان الذي خُلق في (أحسن تقويم) إذا حَصَر فكرَه في الحياة الدنيا وحدَها فسيهبط ويتَّضع ويصبح أقل شأناً بمائة درجة من حيوان كالعصفور وان كان أسمى وأتم من الحيوان من حيث رأسماله بمائة درجة. ولقد وضّحتُ هذه الحقيقة بمَثَلٍ أوردتُه في موضع آخر وسأعيدُه هنا بالمناسبة:

ان رجلاً منح خادَمه عشرَ ليراتٍ ذهبية وأمره أن يفصّل لنفسه بدلةً من أجود أنواع الأقمشة. وأعطى لخادمه الآخر ألفَ ليرة ذهبية الاّ انه أرفق بالمبلغ قائمة صغيرة فيها ما يطلبُه منه، ووضع المبلغَ والقائمةَ في جيب الخادم. وبعثهما الى السوق. اشترى الخادم الأول بدلةً أنيقة كاملة من أفخر الأقمشة البديعة بعشر ليرات. أما الخادمُ الثاني فقد قلّد الخادم الأول وحذا حذوه، ومن حماقته وسخافة عقله لم يراجع القائمة الموجودة لديه، فدفع لصاحب محلٍ كلَّ ما عنده ألفَ ليرة. وطلب منه بدلةً رجاليةً كاملة، ولكن البائع غيرَ المُنصف اختار له بدلةً من أردأ الأنواع، وعندما قفل هذا الخادمُ الشقيُ راجعاً الى سيّده، ووقف بين يديه، عنَّفه سيدُه أشدَّ التعنيف وأنّبه أقسى التأنيب وعذَّبه عذاباً أليماً.

فالذي يملك أدنى شعورٍ وأقلَّ فطنةٍ يدرك مباشرةً بأن الخادم الثاني الذي مُنح ألف ليرة لم يُرسَل الى السوق لشراء بدلة، وانما للأتّجار في تجارة مهمة جداً.

فكذلك الانسان الذي وُهب له هذه الاجهزةُ المعنوية واللطائف الانسانية التي إذا ما قيست كلُّ واحدةٍ منها بما في الحيوان لظهرتْ انها أكثرُ انبساطاً واكثرُ مدى بمائة مرّة. فمثلاً: أين عينُ الانسان التي تميّز جميعَ مراتب الحسن والجمال؟ وأين حاستُه الذوقية التي تميّز بين مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقلُه الذي ينفذ الى قرارة الحقائق والى أدق تفاصيلها؟ وأين قلبُه المشتاق المتلهّف الى جميع انواع الكمال؟ أين كل هذه الأجهزة وأمثالها مما في الآلات الحيوانية البسيطة التي قد لا تنكشف الاّ لحد مرتبتين اوثلاث!! فيما عدا الاعمال الخاصة المناطة بجهاز خاص في حيوان معين، والذي يؤدي عمله بشكل قد يفضل ما عند الانسان الذي ليس من مهمته مثل هذه الاعمال والوظائف.

والسرُّ في وَفْرَةِ الأجهزة التي مُنحت للانسان وغِناها هو: ان حواسَّ الانسان ومشاعره قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافاً وانبساطاً اكثر؛ لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيراً مدى استقطاب حواسه،نظراً لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيُسه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محوراً لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومداراً للتوجّه الى مقاصدَ شتّى.. ونظراً لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت اجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيأة لشتى انواع العبادة فقد مُنح استعداداً جامعاً لبذور الكمال؛ لذا لا يمكن ان تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة الى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابد أن الغايةَ القصوى لهذا الانسان هي أن يفي بوظائفه المتطلعة الى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عجزَه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وان يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ماتمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر اليها نظر العبرة والاعجاب.

فيا عابدَ الدنيا وعاشقَ الحياة الفانية الغافلَ عن سر (أحسَنِ تقويم)! استمع الى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها (سعيد القديم) فحوّلته الى (سعيد الجديد) وهي:

رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي اُرسَل الى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ الى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك - وهي عشرُ ليرات - في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والاعجاب. فاصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتجّر بشئ، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج اليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة اذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

(أنفقَت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب الى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فان كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكــانــك ان تدّخر نصـــف ما تحــصـل علــيه، مما بقي لك من الـلــيرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج اليه في ذلك المكان..) فاستشرتُ نفسي فاذا هي غير راضية بذلك، فقال الرجل:

- ((فادّخر اذن ثُلُثَه)). ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا ايضاً. فقال:

- ((فادّخر ربُعَهَ)). فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي اُبتلَيت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأن الأمور قد تغيّرت. فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الارض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي - كالاغبياء - نحوَها اُحاول قطفَ أزهارها واحصل على ثمراتها، الاّ انها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: ((اعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فانك تخسر بجروحك هذه اضعافَ اضعافِ ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن ان هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث أنك تقطفها من غير إذن.)) فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت اتطلّع من النافذة الى الامام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد أحلّت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار الى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات اُقيمَ على طرفيه حجرٌ اشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت اليها بكل دقة وامعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم ((سعيد)) فصرختُ من فرقي وحيرتي: يا ويلاه!! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

((هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟)) فقلت:

((نعم ولكن بعد فوات الاوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة)).

فقال:

- ((تُب وتوكّل)) فقلت:

- ((قد فعلت)).

ثم أفقتُ وقد أختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً.

ونرجو من الله أن يجعل هذه الواقعة الخيالية خيراً. وسأفسر قسماً منها وعليك تفسير الباقي وهو:

ان ذلك السفر هو السفرُ الذي يمرُّ من عالَم الأرواح، ومن أطوار عالم الرَّحم، ومن الشباب، ومن الشيخوخة، ومن القبر، ومن البرزخ، الى الحشر والى الصراط والى أبد الآباد.

وتلك الليرات الذهبية البالغة ستين هي العمر البالغ ستين عاماً. وحينما رأيت تلك الواقعة الخيالية كنت في الخامسة والأربعين من العمر حسب ظني، ولم يكن لي سندٌ ولا حجةٌ من أن أعيش الى الستين من العمر، إلاّ أنه أرشدني أحدُ تلاميذ القرآن المخلصين أن اُنفق نصفَ ما بقي من العمر الغالب - وهو خمسة عشر عاماً - في سبيل الآخرة.

وذلك الفندق هو مدينةُ استانبول بالنسبة اليّ.

وذلك القطار هو الزمن، وكلُّ عامٍ بمنزلة عربة منه.. وذلك النفقُ هو الحياة الدنيا.. وتلك الأزهارُ والثمار الشائكة هي اللذات غير المشروعة واللهو المحظور حيث أن الألمَ الناشئ من تصوّر زوالها يُدمي القلبَ ويَجرح النفسَ فيقاسي الانسان من توقّع فراقِها مرارةَ العذاب. وان معنى ما قاله الخادم في القطار: ((اعطني خمسة قروش اعطك من أحسن ما تحتاجه)) هو: ان اللذات والأذواقَ التي يحصل عليها الانسانُ عن طريق السعي الحلال ضمن الدائرة المشروعة كافيةٌ لسعادته وهنائه وراحته فلا يدع مجالاً للدخول في الحرام.. ويمكنك ان تفسّر ما بقي.

C النكتة الرابعة

ان الانسان في هذا الكون أشبَه ما يكون بالطفل الضعيف المحبوب يحمل في ضعفِه قوةً كبيرةً وفي عجزه قدرةً عظيمة؛ لأنه بقوة ذلك الضعفِ وقدرةِ ذلك العجز سُخِّرت له هــذه الموجــوداتُ وانقــادت. فإذا ما أدرك الانســانُ ضعفَه ودعــا ربَّه قولاً وحالاً وطـوراً، وأدرك عجزَه فاستــنجد واســتغاث ربَّه، وادّى الشــكرَ والثناءَ على ذلك التسخير، فسيوفّق الى مطلوبه وستخضع له مقــاصدُه وتتحــقـق مآربُه وتأتي اليه طائعةً منقادةً مع أنه يعجز عن أن ينال بقدرته الذاتية الجزئية المحدودة بل ولا يتسنّى له عُشر معشار ذلك. الاّ انه يحيل خطأً أحياناً ما ناله بدعاء لسان الحال الى قدرته الذاتية. وعلى سبيل المثال: ان القوة الكامنة في ضعف فرخ الدجاج تجعل أمَّه تدفع عنه الأسدَ بما تملك من قوة. وان القوة الكامنة في ضعف شبل الأسد تسخِّر أمَّه المفترسة الضارية لنفسه، بحيث يبقى الأسدُ يتضوَّرُ من الجوع بينما يشبع هو مع صِغَره وضَعفه. وانه لجدير بالملاحظة؛ القوةُ الهائلةُ في الضعف، بل حريٌّ بالمشاهدة والاعجاب: تجلي الرحمة في ذلك الضعف.

وكما ان الطفل المحبوبَ الرقيقَ يحصل بضعفه على شفقة الآخرين، وببكائه على مطالبه، فيَخضع له الأقوياءُ والسلاطين فينال ما لا يمكنه أن ينال واحداً من الألف منه بقوته الضئيلة. فضعفُه وعجزُه اذن هما اللذان يحرّكان ويثيران الشفقة والحماية بحقه حتى إنه يذلّل بسبابته الصغيرة الكبارَ وينقاد اليه الملوكُ والأمراءُ. فلو أنكر ذلك الطفلُ تلك الشفقةَ واتّهم تلك الحمايةَ وقال بحماقة وغرور: ((أنا الذي سخرتُ كل هؤلاء الأقوياء بقوتي وارادتي))! فلاشك انه يستحق أن يقابَلَ باللطمة والصفعة. وكذلك الانسانُ اذا أنكر رحمةَ خالقه وأتهم حكمتَه وقال مثل ما قال قارون جاحداً النعمة. ] إنّما اُوتيتُهُ على عِلمٍ عندي[ (القصص: 78) فلاشك انه يعرِّض نفسَه للعذاب. فهذه المنزلة والسلطنة التي يتمتع بها الانسانُ اذن وهذه الترقيات البشرية والآفاق الحضارية ليست ناشئة من تفّوقه وقوةِ جدالِه وهيمنةِ غلبتِه ولا هو بجالب لها، بل مُنحت للانسان لضَعفه ومُدّت له يدُ المعاونة لعجزه، واُحسنتُ اليه لفقره، واُكرم بها لإحتياجه. وأن سبب تلك السلطنةِ ليس بما يملك من قوةٍ ولا بما يقدِرُ عليه من علمٍ بل هو الشفقةُ الربانيةُ ورأفتُها والرحمةُ الإلهية وحكمتُها التي سَخَّرت له الأشياءَ وسلَّمتْها اليه. نعم ان الانسان المغلوبَ أمام عقرب بلا عيون وحية بلا ارجل ليست قدرتُه هي التي ألبَستْه الحريرَ من دودة صغيرة واطعمته العسلَ من حشرة سامة، وانما ذلك ثمرةُ ضعفه الناتجة من التسخير الرباني والإكرام الرحماني.

فيا أيها الانسان! ما دامت الحقيقة هكذا فدع عنك الغرورَ والأنانية، وأعلن أمامَ عتبة باب الألوهية عجزَك وضعفَك، اعلنهما بلسان الإستمداد، وأفصِح عن فقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء، وأظهِر بانك عبدٌ لله خالص قائلاً:

((حَسْبُنا الله ونِعَم الوكيلُ)) فارتفعْ وارتقِ في مدارج العلا.

ولا تقل: ((أنا لست بشئ وما أهميتي حتى يُسخرَّ لي هذا الكون من لدن الحكيم العليم عن قصد وعناية وحتى يطلب مني الشكر الكلي)).

ذلك وان كنتَ بحسب نفسِك وصورتِك الظاهرية في حكم المعدم، إلاّ انك بحسب وظيفتك ومنزلتك مُشاهدٌ فَطِنٌ، ومتفرجٌ ذكي على الكائنات العظيمة. وانك اللسانُ الناطق البليغ ينطق باسم هذه الموجودات الحكيمة.. وانك القارئ الداهي والمطالعُ النبيه لكتاب العالم هذا.. وانك المشرف المتفكر في هذه المخلوقات المسبّحة.. وانك بحكم الاستاذ الخبير والمعمار الكريم لهذه المصنوعات العابدة الساجدة.

نعم ايها الانسان! انك من جهة جسمِك النباتي ونفسِك الحيوانية جزءٌ صغير وجزئيٌ حقيرٌ ومخلوقٌ فقير وحيوانٌ ضعيف تخوض في الأمواج الهادرة لهذه الموجودات المتزاحمة المدهشة. إلاّ أنك من حيث انسانيتك المتكاملة بالتربية الاسلامية المنوَّرة بنور الايمان المتضمن لضياء المحبة الإلهية سلطانٌ في هذه العبدية.. وانك كليٌ في جزئيتك.. وانك عالمٌ واسع في صغرك.. ولك المقامُ السامي مع حقارتك فانت المشرفُ ذو البصيرة النيرّة على هذه الدائرة الفسيحة المنظورة، حتى يمكنك القول: ((ان ربيَ الرحيمَ قد جعلَ لي الدنيا مأوىً ومسكناً، وجعل لي الشمس والقمر سراجاً ونوراً، وجعل لي الربيعَ باقةَ وردٍ زاهية، وجعلَ لي الصيفَ مائدةَ نعمةٍ، وجعل لي الحيوانَ خادماً ذليلاً، وأخيراً جعل لي النباتَ زينةً واثاثاً وبهجة لداري ومسكني)).

وخلاصة القول:

انك اذا ألقيتَ السمعَ الى النفس والشيطان فستسقط الى أسفل سافلين واذا أصغيتَ الى الحق والقرآن فسترتقي الى أعلى عليين وكنتَ ((أحسن تقويم)) في هذا الكون.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان اُرسل الى الدنيا ضيفاً وموظفاً ووُهبتْ له مواهبٌ واستعدادات مهمة جداً، وعلى هذا اسُندت اليه وظائفٌ جليلة. ولكي يقوم الانسانُ باعماله وليكدّ ويسعى لتلك الغايات والوظائف العظيمة فقد رُغِّب ورُهَّب لإنجاز عمله.

سنجمل هنا الوظائف الانسانية وأساسات العبودية التي أوضحناها في موضع آخر، وذلك لفهم وادراك سر ((أحسن تقويم)) فنقول:

ان الانسان بعد مجيئه الى هذا العالم له عبوديةٌ من ناحيتين:

الناحية الاولى: عبوديةٌ وتفكرٌ بصورة غيابية.

الناحية الثانية: عبوديةٌ ومناجاةٌ بصورة مخاطبة حاضرة.

الناحية الاولى هي:

تصديقُه بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون والنظرُ الى كماله سبحانه ومحاسنه باعجاب وتعظيم.

ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش اسمائه الحسنى القدسية وإعلانها ونشرها واشاعتها.

ثم وزنُ جواهر الاسماء الربانية ودررها - كلُّ واحدٍ منها خزينة معنوية خفية - بميزان الإدراك والتبصّر وتقييمها بانوار التقدير والعظمة والرحمة النابعة من القلب.

ثم التفكر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة.

ثم النظرُ باستحسان بالغ الى زينة الموجودات والصنائع الجميلة اللطيفة التي فيها والتحببُ لمعرفة الفاطر ذي الجمال والتلهّفُ الى الصعود الى مقام حضورٍ عند الصانع ذى الكمال ونيل التفاته الرباني.

الناحية الثانية هي:

مقامُ الحضور والخطاب الذي ينفذ من الأثر الى المؤثر، فيرى أن صانعاً جليلاً يريد تعريف نفسه اليه بمعجزات صنعته. فيقابله هو بالايمان والمعرفة.

ثم يرى أن ربّاً رحيماً يريد أن يحبب نفسه اليه بالأثمار الحلوة اللذيذة لرحمته، فيقابله هو بجعل نفسه محبوباً عنده بالمحبة الخالصة والتعبد الخالص لوجهه.

ثم يرى: أن مُنعماً كريماً يغرقه في لذائذ نِعَمِه المادية والمعنوية، فيقابله هو بفعله وحاله وقوله بكل حواسه وأجهزته - ان استطاع - بالشكر والحمد والثناء عليه.

ثم يرى: أن جليلاً جميلاً يُظهر في مرآة هذه الموجودات كبرياءَه وعظمتَه وكمالَه ويُبرز جلالَه وجمالَه فيها بحيث يجلب اليها الأنظار فيقابل هو ذلك كله: بترديد ((الله اكبر.. سبحان الله..)) ويسجد سجودَ مَن لا يمل بكل حيرة واعجاب وبمحبة ذائبة في الفناء.

ثم يرى: ان غنياً مطلقاً يعرض خزائنه وثروتَه الهائلة التي لا تنضب في سخاء مطلق، فيقابله هو بالسؤال والطلب بكمال الافتقار في تعظيم وثناء.

ثم يرى: ان ذلك الفاطرَ الجليل قد جعل الأرض معرضاً عجيباً لعرض جميع الصنائع الغريبة النادرة فيقابل هو ذلك بقوله (ما شاء الله) مستحسناً لها، وبقوله (بارك الله) مقدراً لها، وبقوله (سبحان الله) معجباً بها، وبقوله (الله اكبر) تعظيماً لخالقها.

ثم يرى: أن واحداً يختم على الموجودات كلها ختمَ التوحيد وسكّتَه التي لا تقلد وطغراءَه الخاصة به، وينقش عليها آيات التوحيد، وينصبُ رايةَ التوحيد في آفاق العالم معلناً ربوبيتَه، فيقابله هو بالتصديق والايمان والتوحيد والاذعان والشهادة والعبودية.

فالانسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح انساناً حقاً ويُظهر نفسه أنه في (أحسن تقويم) فيصير بيُمن الايمان وبركته لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض.

فيا أيها الانسان الغافلُ المخلوقُ في (أحسَن تقويم) والذي ينحدر أسفلَ سافلين لسوء اختياره ونزقه وطيشه. اسمعني جيداً وانظر الى اللوحتين المكتوبتين في المقام الثاني من (الكلمة السابعة عشرة) حتى ترى أنت ايضاً كيف كنتُ أرى الدنيا مثلَك حلوةً خضرة عندما كنتُ في غفلة الشباب وسُكره. ولكن لما أفقتُ من سكر الشباب وصحوتُ منه بصبحِ المشيب رأيت أن وجهَ الدنيا غير المتوجه الى الآخرة والذي كنتُ اعدُّه جميلاً رأيته وجهاً قبيحاً. وان وجه الدنيا المتوجه الى الآخرة حسن جميل.

فاللوحة الأولى:

تصوّر دنيا أهل الغفلة. فقد رأيتها من دون أن اسكر فيها شبيهة بدنيا اهل الضلالة الذين اَطبقت عليهم حجب الغفلة.



اللوحة الثانية:

تشير الى حقيقة أهل الهداية وذوى القلوب المطمئنة.

فلم ابدل شيئاً من تلكما اللوحتين بل تركتهما كما كانتا من قبل، وهما وان كانتا تشبهان الشعر الاّ انهما ليسا بشعر.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربّ اشرح لي صدري ^ ويسر لي امري ^

واحلل عقدةً من لساني ^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلِّ على الذات المحمدية اللطيفة الأحدية شمسِ سماء الأسرار، ومَظهرِ الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطبِ فلكِ الجمال.

اللّهم بسرّه لديك، وبسيره إليكِ، آمِنْ خوفي، واَقِل عَثرتي، واَذهِب حُزني وحرصي، وكُن لي، وخذني إليك مني، وارزقني الفناءَ عني، ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي، واكشف لي عن كل سرّ مكتوم.

ياحي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم.

وارحمني وارحم رفقائي وارحم اهلَ الايمان والقرآن.

آمين آمين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس