الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #39
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

واهم سبب لهذا الالتباس هو كون بعض مقامات الاولياء فيه شئ من خواص ((المهدي)) ووظائفه، ويشاهد فيه انتساب خاص مع القطب الاعظم وعلاقة خاصة بالخضر، فهناك مقامات لها علاقات وروابط مع بعض المشاهير، حتى يطلق على تلك المقامات ((مقام الخضر)) و((مقام اويس)) و((مقام المهدية)). وعليه فالواصلون الى ذلك المقام، والى جزء منه، او الى ظل من ظلاله، يتصورون انفسهم انهم هم اولئك الافذاذ المشهورون، فيعتبر الواحد منهم انه هو الخضر او المهدي، او يتخيل انه القطب الاعظم.

فان كانت الانانية فيه قد مُحقت حتى لم يعد لها استشراف وتطلع لحب الجاه والتفاخر على الاخرين فلا يُدان، ونعتبر دعاواه الخارجة عن حده ((شطحات)) قد لا يكون مسؤولا عنها، ويمكن التجاوز عنها.

اما هذه الدعاوى عند الشخص الذي ما زالت الانانية فيه متوفزة، متطلعة لحب الجاه، فستغلبه هذه الانانية وتأخذ بيده الى منازل الفخر مخلفاً وراءه مقام الشكر، ومن هناك يتردى تدريجياً الى هاوية الغرور الماحق للحسنات. فاما ان يتردى الى الجنون، او يضل ضلالاً بعيداً، وذلك لانه جعل نفسه في عداد اولئك الاولياء العظام، وهذا بحد ذاته سوء ظن بهم، لانه يخلع ما في نفسه من قصور، تدركه النفس مهما اغترت على اولئك الاولياء الافذاذ الذين يراهم بمنظار نفسه القاصرة، فيتوهم ان اولئك العظام مقصرون مثله، فيقل احترامه لهم، وبالتالي قد يقل احترامه حتى للانبياء عليهم السلام.

فيجب على هؤلاء المتلبسين ان يمسكوا ميزان الشريعة بايديهم ليزنوا اعمالهم، ويقفوا عند حدود ما حده علماء اصول الدين من دساتير، ويسترشدوا بتعليمات الامام الغزالي والامام الرباني وامثالهم من الاولياء المحققين العلماء، وان يضعوا انفسهم دائماً موضع التهمة، ويعرفوا ان القصور والعجز والفقر ملازم للنفوس مهما ارتقت وتسامت.

فما في هذا المشرب من شطحات عند بعض السالكين، منبعه حب النفس، حتى ليتعاظم هذا الحب فيظن الواحد منهم صفاء نفسه، ولمعان ذاته قطعة الماس رغم انها ليست الا قطعة زجاج تافهة في الحقيقة، اذ عين الرضا كليلة عن العيوب.

هذا وان اخطر المهالك في هذا النوع من السلوك هو: ان المعاني الجزئية التي ترد على قلب السالك بشكل الهام، يتخيلها - هذا السالك - كلام الله، ويعبر عن كل الهام وارد بــ ((آية)) فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية العليا للوحي.

نعم ان كل الهام ابتداء من الهام النحل والحيوانات الى الهام عوام الناس والى الهام خواص البشرية، والى الهام عوام الملائكة، والى الهام المقربين الخواص منهم، انما هو نوع من الكلمات الربانية، ولكن الكلام الرباني تجلي الخطاب الرباني المتنوع المتلمع من خلال سبعين الف حجاب حسب قابليات المظاهر والمقامات.

اما ((الوحي)) فهو الاسم الخاص لكلام الله جل وعلا، وابهر مثاله المشخص، هو الذي اطلق على نجوم القرآن، وكل منجمة منه ((آية)) كما ورد توقيفاً. فتسمية هذه الانواع من الالهام بــ (الايات) خطأ محض. اذ بمقدار النسبة بين صورة الشمس الصغيرة الخافتة المتسترة المشاهدة في المرآة الملونة في ايدينا مع الشمس الحقيقية الموجودة في السماء، تكون النسبة بين الالهام الموجود في قلوب اولئك الادعياء وبين آيات شمس القرآن الكريم التي هي كلام إلهي مباشر [كما بينا واثبتنا ذلك في كل من الكلمات الثانية عشرة والخامسة والعشرين والحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات))].

نعم: اذا قيل ان صورة الشمس الظاهرة في مرآة هي صورتها حقاً وذات علاقة مع الشمس الحقيقية، فهذا الكلام لا غبار عليه وهو حق، الا انه لا يمكن ربط الكرة الارضية الضخمة بهذه الشموس ((المرآتية)) المصغرة، ولا يمكن شدها الى جاذبيتها.

C التلويح الخامس:

يعتبر ((وحدة الوجود)) التي تضم ((وحدة الشهود)) من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود ((واجب الوجود))، اي ان الموجود الحق هو: ((واجب الوجود)) سبحانه فحسب، وان سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لاتستحق اطلاق صفة الوجود عليها حيال ((واجب الوجود)) لذا فان اهل هذا المشرب يذهبون الى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، اي: ((ترك ما سوى الله تعالى)) حتى انهم يتطرفون ويذهبون الى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الاسماء الحسنى.

ان اهم حقيقة يحتويها هذا المشرب هي: ان الموجودات الممكنة ((الممكنات والمخلوقات)) تصغر وتتضاءل عند اصحابها من كبار الاولياء الذين وصلوا الى مرتبة حق اليقين بقوة ايمانهم بحيث تنزل عندهم الى درجة العدم والوهم، اي انهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله تعالى الذي هو واجب الوجود.

غير ان هناك محاذيرومخاطر عدة لهذا المشرب، اولها واهمها:

ان اركان الايمان ستة، فهناك عدا ركن الايمان بالله، اركان اخرى كالايمان بالاخرة، فهذه الاركان تستدعي وجود الممكنات اي ان هذه الاركان المحكمة لايمكن ان تقوم على اساس خيالي.

فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم ان عليه الا يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي الى اسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لان الدساتير العقلية.والقوانين العلمية، واصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها ان تتحمل هذا المشرب، ولاتتسع لامكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في اهل الصحوة الايمانية من الخلفاء الراشدين، والائمة المجتهدين، والعلماء العاملين من اجيال السلف الصالح من هذه الامة، اذن فليس هذا المشرب في اعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو الا انه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال ايحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون ـــ باستشرافات نفوسهم ـــ انه اعلى المراتب واسماها.

ولكوننا قد تناولنا شيئاً من اسس هذا المشرب وماهيته في رسالة نقطة من نور معرفة الله جل جلاله وفي ((الكلمات)) و((المكتوبات)) فاننا نكتفي بذلك، ونقصر الكلام هنا على بيان ورطة خطرة قد يقع فيها قسم من الحائمين حول ((وحدة الوجود)) وهي:

ان هذا المشرب يصلح لأخص الخواص عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الاسباب المادية، ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والاشياء.

ولكن اذا نزل هذا المشرب من علياء الاذواق والمواجيد، والاشواق القلبية الى دائرة المذاهب الفكرية والعلمية وعرض بشكله العلمي والعقلاني على انظار الذين استهوتهم الحياة الدنيا، وغرقوا في الفلسفات المادية والطبيعية، فانه سيكون اغراقاً في الطبيعة والمادة، وابعاداً عن حقيقة الاسلام.

فالشخص المادي المتعلق بالاسباب، والمغرم بالدنيا، يتشوق الى اضفاء صفة الخلود على هذه الدنيا الفانية، لانه يعز عليه ان يرى محبوبته وهي تتبخر بين يديه وتذوب، فيسبغ صفة البقاء والوجود الدائم على دنياه، انطلاقاً من فكرة "وحدة الوجود" فلا يتورع - عندئذٍ - من رفع محبوبته - الدنياــ الى درجة المعبود بعد ان اسبغ عليها صفات الدوام والخلود والبقاء الابدي، فينفتح المجال امامه الى انكار الله سبحانه والعياذ بالله.

ولما كان الفكر المادي قد ترسخت دعائمه في هذا العصر، واستولى على غالبية النشاطات العقلية والعلمية، حتى غدت المادة - عند اصحابه - هي اصل كل شئ ومرجعه، لذا فان ترويج مذهب ((وحدة الوجود)) في هذا العصر - الذي يرى فيه اهل الايمان الخواص الماديات تافهة الى حد العدم - ربما يعطي للماديين حجة ليكونوا دعاة للمذهب نفسه فيخاطبوا اصحابه من اهل الايمان: ((نحن وانتم سواء، نحن ايضاً نقول هكذا ونفكر هكذا)) علما انه لا يوجد مشرب في العالم بعيد عن منهج المادييين وعبدة الطبيعة من مشرب ((وحدة الوجود)). ذلك لان اصحابه يؤمنون بالله ايماناً عميقاً الى درجة يعدون الكون وجميع الموجودات معدوماً بجانب حقيقة الوجود الإلهي، بينما الماديون يولون الموجودات من الاهمية الى حد انهم ينكرون معها وجود الله سبحانه وتعالى... فأين هؤلاء من اولئك؟!

C التلويح السادس: وهو ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اتباع السنة النبوية المطهرة هو اجمل وألمع طريق موصلة الى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل اقومها واغناها. والاتباع يعني: تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته واعماله، والاستهداء بالاحكام الشرعية في جميع معاملاته وافعاله. فان اعماله اليومية ومعاملاته العرفية وتصرفاته الفطرية الاعتيادية تأخذ بهذا الاتباع شكل العبادة، فضلا عن ان اتباع السنة وتحري شرع الله في شؤون المؤمن جميعها يجعله في صحوة دائمة، وتذكر للشرع مستمر، وتذكّر الشرع هذا يؤدي الى ذكر صاحب الشرع الذي يؤدي الى تذكر الله سبحانه، وذكر الله سبب لسكينة القلب واطمئنانه. اي ان ساعات العمر ودقائقه يمكن ان تنقضي كلها في عبادة دائمة مطمئنة.

لذلك فان اتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح.

النقطة الثانية:

الاخلاص هو أهم اساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة، ذلك لان الاخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي. فمن لم يحمل اخلاصاً في ثنايا قلبه فلا يستطيع ان يتجول في تلك الطرق، كما ان ((المحبة)) تشكل امضى قوة في تلك الطرق..

نعم، المحبة! فالمحب لا يبحث عن نقص، بل لا يرغب في ان يرى نقصاً في محبوبه، بل يرى اضعف الدلائل والامارات على كمال محبوبه من اقوى الادلة والحجج، لكونه جانب محبوبه على الدوام.

وبناء على هذا السر، فان الذين يتوجهون بقلوبهم الى معرفة الله عن طريق المحبة، لا يصغون الى الاعتراضات ويجاوزون سريعاً العقبات والشبهات، وينقذون انفسهم بسهولة ويحصنونها من الظنون والاوهام، حتى لو اجتمع عليهم آلاف شياطين الارض، فلن يستطيعوا ان يزيلوا امارة او علامة واحدة تدل على كمال محبوبه الحقيقي وسموه. ومن دون هذه المحبة يتلوى الانسان تحت وساوس نفسه وشيطانه، وينهار امام ما تنفثه الشياطين من اعتــراضات وشــبه. فلا يعصمه شـئ سـوى مـتـانـة ايمــانـه وقوتـه، وشدة انتباهـه وحذره.

اذن فالمحبة النابعة من معرفة الله هي جوهر جميع مراتب الولاية واكسيرها. الا ان هناك ورطة كبيرة للمحبة وهي:

انه يُخشى ان ينقلب المحب من التضرع والتذلل لله - اللذين هما سر العبودية - الى الادلال والطلب والدعاوى. فيطيش صوابه ويتحرك مختالاً بمحبته دون ضوابط او موازين.. ويخشى كذلك ان تتحول المحبة لديه من ((المعنى الحرفي)) الى ((المعنى الاسمي)) اثناء توجهه بالمحبة الى ما سوى الله، فتنقلب عندئذِ من داء شاف الى سم زعاف، اذ يحدث احياناً ان المحب يتوجه الى صفات المحبوب - من دون الله - والى كماله الشخصي وجماله الذاتي، اي يكون الحب بمعناه الاسمي - لذاته - اي يستطيع ان يحبه ايضاً من دون تذكر الله ورسوله! مع ان الواجب عليه عند التوجه بالحب لما سوى الله ان يكون هذا الحب في الله ولله، فيربط قلبه به من حيث كونه مرآة لتجلي اسمائه الحسنى.

ان مثل هذا الحب بالمعنى الاسمي لا يكون وسيلة لحب الله، بل ستاراً من دونه. بينما الحب بالمعنى الحرفي اي بسبب من حب الله، فانه يكون وسيلة الى زيادة حب الله، بل يصح القول انه تجل من تجلياته سبحانه.

النقطة الثالثة:

ان الدنيا هي دار العمل ودار الحكمة، وليست داراً للمكافأة والجزاء. فجزاء الاعمال والبر الذي يحصل هنا يكون في الحياة البرزخية والدار الاخرة، فتؤتي هناك اكلها وثمراتها. فما دامت الحقيقة هكذا يجب عدم المطالبة بثمرات الاعمال الاخروية وجزائها في هذه الدنيا، ولو اعطيت يجب اخذها وقبولها من يد الرب سبحانه بفرح مشوب بالحزن، وسرور ممزوج بالأسى، وليس بفرح وسرور خالصين، ذلك لانه ليس من الحكمة تناول ثمرات الاعمال - التي لن تنفد عند تناولها في الجنة - في مثل هذه الحياة الفانية، اذ يشبه ذلك العزوف عن مصباح خالد النور والاضاءة والتعلق بمصباح لا يتوهج نوره الا دقيقة ثم ينطفئ!

وبناء على هذا السر الدقيق - اي انتظار الاجر في الحياة الآخرة - فان الاولياء يستعذبون مشاق الاعمال ومصاعبها والمصائب والبلايا، فلا يشكون ولا يتذمرون.

بل لسانهم دائماً وابداً يردد: الحمدلله على كل حال. واذا وهب الله لهم كرامة او كشفاً او نوراً او ذوقاً فانهم يتناولونه بأدب جم ويعدونه التفاتاً وتكرماً منه سبحانه اليهم، فيحاولون ستر الكرامة واخفاءها ولا يظهرونها ولا يفاخرون بها، بل يسارعون الى زيادة شكرهم وتعميق عبوديتهم، وكثيرون منهم يجأرون الى الله ان يحجب هذه الاحوال عنهم ويحجبهم عنها ويتمنوا ذهابها واختفاءها خوفاً من ان يتعرض الاخلاص في عملهم للخلل.

حقاً ان افضل نعمة إلهية يمكن ان ينالها شخص مقبول عند الله هي التي توهب له من دون ان يشعر بها، لكي لا يتحول من حال التضرع والدعاء الى حال الادلال بعباداته وطلب الاجر عليها، ولئلا يتحول من موقع الشكر والحمد الى موقع الدل والفخر.

فاستناداً الى هذه الحقيقة فان الذين يرغبون في سلوك طريق الولاية والطريقة ان كانوا يرغبون في تناول بعض الثمرات الجانبية للولاية، امثال اللذات المعنوية او الكرامات، ويتوجهون اليها ويطلبونها ويلتذون بها.. فان هذا يعني رغبتهم في تناول تلك الثمرات في هذه الحياة الفانية، وهي - اذا حصلت لهم - ثمرات فانية على اي حال كان. وبذلك يفقدون الاخلاص في اعمالهم الذي به ينالون ثمرة الولاية. كما انهم يمهدون السبيل لفقدان الولاية نفسها.

C التلويح السابع

يتضمن اربع نكات

النكتة الاولى:

ان الشريعة هي نتيجة الخطاب الإلهي الصادر مباشرة - دون حاجز او ستار - من الربوبية المطلقة المتفردة بالاحدية.

لذا فان اعلى مراتب الطريقة واسمى درجات الحقيقة لا يعدوان كونهما اجزاء من كلية الشريعة. اما نتائجهما وما يؤولان اليه فهي الاوامر الشرعية المحكمة. فهما دائماً وابداً يظلان بحكم الخادم للشريعة ووسيلة اليها ومقدمة لها.

فالسالك في الطريقة يرتفع تدريجياً الى اعلى المراتب التي ينال فيها ما في الشريعة نفسها من معنى الحقيقة وسر الطريقة. وعندئذ تكون الطريقة والحقيقة اجزاء الشريعة الكبرى.

لذا فليس صحيحاً ما يتصوره قسم من المتصوفة من ان الشريعة قشر ظاهري، وحقيقتها هي لبها ونتيجتها وغايتها.

نعم، يتنوع انكشاف الاحكام الشرعية ويختلف بالنسبة لمستويات الناس وفهمهم وطبقات مداركهم، فما يظهر منها وينكشف للعوام هو غير ما يظهر وينكشف للخواص..

انه من الخطأ توهم ما يظهر من الشريعة للعوام هو حقيقة الشريعة، واطلاق اسم ((الحقيقة)) و((الطريقة)) على مرتبة الشريعة المنكشفة للخواص.

فالشريعة لها مراتب متوجهة الى جميع طبقات البشر.

وبناء على هذا السر، فان اهل الطريقة، واصحاب الحقيقة كلما تقدموا في مسلكهم وارتقوا في معارجهم، وجدوا انفسهم منجذبين اكثر الى الحقائق الشرعية، متبعين لها، مندرجين ضمن غاياتها ومقاصدها. حتى انهم يتخذون ابسط انواع السنة النبوية الشريفة كأعظم مقصد وغاية، ويسعون الى اتباعها وتقليدها.

لانه بمقدار سمو الوحي وعلوه على الالهام، فالآداب الشرعية التي هي ثمرة الوحي هي اسمى واعلى من آداب الطريقة التي هي ثمرة الالهام، لذا فان اهم اساس للطريقة هو اتباع السنة النبوية المطهرة.

النكتة الثانية:

ينبغي الا تتحول الطريقة والحقيقة من كونهما وسيلتين الى غايتين بحد ذاتهما (تستحوذانعلى قلب السالك وفكره ووجدانه). فاذا اصبحتا - الطريقة والحقيقة - مقصودتين بالذات، فان الاعمال الشرعية المحكمة، وآداب السنة السنية، تنحسر حتى تأخذ الدرجة الثانية من الاهتمام لدى السالك، وتصبح صورية شكلية بانشغال القلب بالتوجه الى آداب الطريقة ورسومها. اي ان المرء - عندئذِ - يفكر بحلقة الذكر اكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب الى اوراده اكثر من انجذابه الى الفرائض، ويلزم نفسه بتجنب مخالفة آداب الطريقة اكثر من التزامه بتجنب الكبائر، والحال ان اداء فريضة واحدة التزاماً بالاوامر الشرعية لا يمكن ان توازيها اوراد الطريقة او تحل محلها.

فآداب الطريقة، واوراد التصوف، وما يحصل للسالك منهما من اذواق ينبغي ان تكون مدخلاً لأذواق أحلى وأعلى وأسمى، يحصل عليها هذا السالك من اداء الفرائض والسنن.

أي ان ما يأخذه المرء من التكية من اذواق، لا بد ان تكون استهلالاً لاذواق الصلاة التي يؤديها في الجامع، بقيامه بأركانها وأدائها على الوجه المطلوب، وإلا فالذي تشغله اذواقه في التكية عن صلاته في الجامع، فيؤديها بخفة وسرعة صورية وشكلية لا حرارة فيها ولا روح، انما يبتعد عن الحقيقة.

النكتة الثالثة:

سؤال: هل يمكن ان توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة واحكام الشريعة؟

الجواب: نعم ولا!

نعم، لأن عدداً من الاولياء الكاملين قد اعدموا بسيف الشريعة. ولا، لأن الاولياء المحققين قد اتفقوا على القاعدة التي ذكرها سعدي الشيرازي(1) شعراً:

محالست سعدى براه صفا ظفر بردن جز در بى مصطفى

اي محال ان يصل احد الى الانوار الحقيقية للحقيقة خارج الصراط الذي اختطه الرسول e ، ومن دون اتباع لخطواته.

وسر هذه المسألة هو الآتي:

ما دام الرسول e هو خاتم الانبياء والمرسلين وقد خاطبه الله سبحانه باسم البشرية وممثلا عنها، فلا بد ألاّ تسير البشرية خارج الصراط الذي بينه، فالانضواء تحت لوائه ضروري.

ولكن ما دام اهل الجذب والاستغراق ليسوا مسؤولين عن مخالفاتهم، لما في الانسان من لطائف لا ترضخ للتكاليف الشرعية، فعندما تتحكم فيه تلك اللطيفة لا يبقى مسؤولا امام التكاليف الشرعية، ومادام في الانسان لطائف اخرى لا ترضخ لارادة الانسان كعدم رضوخها للتكاليف، بل لا تنقاد لتدبير العقل ولا تذعن لاوامر القلب والعقل.. فلا بد ان تلك اللطيفة عندما تستحوذ على شخص ما فانه لا يسقط من مرتبة الولاية بمخالفته الشرع، وانما يعد معذوراً - في تلك الاثناء فقط - بشرط الا يصدر عنه شئ ينافي حقائق الشرع وقواعد الايمان انكاراً او تزييفاً او استخفافاً. وينبغي ان يصدق بأحقية الشرع وان لم يكن يؤدي حقه حق الاداء.. والا اذا غلبت عليه الحال، وصدر عنه ما يشم منه التكذيب والانكار لتلك الحقائق المحكمة - نعوذ بالله - فذلك علامة الهلاك.

حاصل الكلام: ان اهل الطريقة الذين هم خارج دائرة الشرع قسمان:

قسم منهم كما ذكرناه آنفاً، فهؤلاء اما ان يكون قد غلب عليه الحال والاستغراق والجذب والسكر. او يكون مغلوباً لسيطرة لطائف لا تنقاد للتكاليف ولا تعير بالاً للارادة، فيخرج من دائرة الشرع.

ولكن هذا الخروج لا ينشأ من عدم الرضى بالشرع، او من رفض الاحكام الشرعية، بل يترك تلك الاحكام اضطراراً دون ارادة منه، فهناك اولياء من هذا القسم، فضلاً عن ان اولياء كباراً قد قضوا فترة بينهم متلبسين بهذه الحال. بل من هذا النوع مَن حكم عليهم اولياء محققون، انهم ليسوا خارجين عن دائرة الشرع وحدها، بل منهم مَن هو خارج عن دائرة الاسلام. الا بشرط ألاّ يكذبوا بجميع ما جاء به الرسول e مِن احكام، مع انهم لا يؤدون حقها، إما لعدم تفكرهم بها، او لعدم استطاعتهم التوجه اليها، او لعدم تمكنهم من معرفتها، او عدم فهمها. ولكن اذا عرفها احد منهم ورفضها فقد هلك.

اما القسم الثاني: فهم المنجذبون لنشوة الاذواق البراقة للطريقة والحقيقة فلا يبالون بالحقائق الشرعية التي هي ارقى من مستوى مذاقهم. ويعتبرها احدهم غير ذات مذاق لعجزه عن بلوغها. فيؤديها صورية شكلية، وهكذا يبلغ به الامر تدريجياً الى ان يظن ان الشريعة مجرد قشر ظاهري، وان ما وجده من الحقيقة هو الاساس والغاية والقصد، فيقول: حسبي ماوجدته. فيقوم بافعال مخالفة لما يأمر به الشرع! فالذين لم يفقدوا شعورهم وعقولهم من هذا القسم مسؤولون عن اعمالهم، ويدانون، بل يهلكون، حتى يكون قسم منهم موضع هزء وسخرية للشيطان.

النكتة الرابعة:

ان اشخاصاً من الفرق الضالة والمبتدعة يكونون من المقبولين بنظر الامة، غير ان امثالهم تردّهم الامة وترفضهم دون ان يكون هناك فرق ظاهري بينهما!!

كنت في حيرة من هذا الامر، فالزمخشري(1) المعتزلي الشديد التعصب لمذهبه لا يكفره اهل التحقيق من اهل السنة ولا يدرجونه في صفوف الضالين على الرغم من اعتراضاته القاسية عليهم، بل يجدون له مبرراً ومجالاً للنجاة، الا ان أبا علي الجبائي(1) وهو ايضاً من ائمة المعتزلة يطرده اهل السنة المحققون ويعدون آراءه مردودة مع انه اخف تعصباً من السابق بكثير، كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيرى، ثم فهمت بلطف إلهي:

ان اعتراضات الزمخشري على أهل السنة نابعة من محبة الحق الذي يدعو اليه مسلكه، الذي يظنه حقاً كقوله: ان التنزيه الحقيقي لله سبحانه هو بأن يكون الاحياء - في نظره - هم خالقين لافعالهم، لذا فلمحبته الناشئة من تنزيه الحق سبحانه يرد قاعدة اهل السنة في خلق الافعال. اما سائر ائمة الاعتزال المرفوضين فانهم ما انكروا سبيل اهل السنة لفرط محبتهم الحق، وانما لقصور عقولهم عن دساتير اهل السنة السامية، وعجز عقولهم الضيقة عن استيعاب قوانين اهل السنة الواسعة. لذا فأن اقوالهم مردودة وهم مطرودون.

فكما ان مخالفة المعتزلة لاهل السنة هذه بشكلين، وهي الواردة في كتب علم الكلام فان اهل الطريقة الخارجين عن السنة المطهرة ومخالفتهم لها ايضاً من جهتين:

الاولى: ان ينجذب الولي لحاله ونهجه كانجذاب الزمخشري لمذهبه غير مهتم الى حد ما بآداب الشرع التي لم يبلغ اذواقها بعد.

الثانية: ان ينظر الولي الى آداب الشريعة انها غير ذات اهمية اصلاً بالنسبة لدساتير الطريقة وقواعدها (حاش لله) لكونه قد عجز عن ان يستوعب تلك الاذواق الواسعة، فمقامه القصير لا يستطيع ان يبلغ تلك الآداب الرفيعة.

C التلويح الثامن:

وفيه ثمانية مزالق وورطات:

الاولى:

ان الورطة التي يسقط فيها سالكون من الطرق الصوفية - ممن لا يتبعون السنة النبوية على الوجه الصحيح - هي اعتقادهم بأرجحية الولاية على النبوة!! ولقد اثبتنا مدى سمو النبوة على الولاية وخفوت ضوء الاخيرة امام نور النبوة الساطع في الكلمة الرابعة والعشرين والكلمة الحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات)).



الثانية:

وهي تفضيل قسم من المفرطين، الاولياء على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بل رؤيتهم في مرتبة الانبياء عليهم السلام. وقد شرحنا في الكلمة الثانية عشرة والكلمة السابعة والعشرين ((الاجتهاد)) وفي ذيلها الخاص بالصحابة كيف ان للصحابة الكرام خواص متميزة بسبب الصحبة النبوية، بحيث لا يمكن للاولياء ان يبلغوا مرتبتهم اصلاً فضلاً عن ان يتفوقوا عليهم. ولا يمكنهم ان يبلغوا قطعاً مرتبة الانبياء.



الثالثة:

وهي ترجيح بعض المتطرفين والمتعصبين جداً للطريقة لأوراد طريقتهم وآدابها على اذكار السنة النبوية الشريفة، فيسقطون بذلك الى منزلق مخالفة السنة النبوية وتركها، في الوقت الذي يظلون متشبثين بأوراد طريقتهم، أي انهم يسلكون سلوك غير المبالي بآداب السنة النبوية الشريفة فيهوون في الورطة، وكما اثبتنا في كلمات كثيرة، وكما اكد كبار محققي الطرق كالامام الغزالي والامام الرباني:

((ان اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولاً عند الله اعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة. اذ كما ان فرضاً واحداً يرجح الفاً من السنن، فان سنة واحدة من السنن النبوية ترجح الفاً من آداب التصوف)).



الرابعة:

ان بعض المتطرفين من اهل التصوف يظنون خطأً ان ((الالهام)) بمرتبة ((الوحي))، كما يعتبرون الالهام نوعاً من انواع الوحي فيسقطون في هذا المزلق الخطير، وقد برهنّا سابقاً في (( الكلمة الثانية عشرة)) و((الكلمة الخامسة والعشرين)) المتعلقة باعجاز القرآن وفي رسائل اخرى؛ كيف ان الوحي سام وعال وساطع وضاء وكلي شامل بينما الالهام بالنسبة اليه جزئي وخافت.



الخامسة:

ان بعض المتصوفين ممن لم يدركوا تماما سر الطريقة - في كونها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها - قد ينجذبون ويتوجهون الى ما يفاض عليهم من الكرامات والاذواق والانوار، تلك التي توهب ولا تسأل اذ يمنحها الله سبحانه تقوية للضعفاء، وتشجيعاً للمتكاسلين، وتخفيفاً من المشقة والسأم - الذي يعتريهم من شدة الاجهاد في العبادة - فينجرون الى تفضيل تلك الكرامات والاذواق والانوار على فروض الدين والخدمة تحت لوائه وقراءة الاذكار والاوراد، فيسقطون في هذا المزلق.

وقد سبق ان اجملنا في النقطة الثالثة من التلويح السادس وفي كلمات اخرى، بأن هذه الدنيا هي دار خدمة وعمل وليس دار ثواب ومكافأة، فالذين يرغبون في قطف ثمار اعمالهم في هذه الحياة الفانية، انما يستبدلون المكافأة الدنيوية الفانية بثمار الاخرة الابدية الباقية، فضلاً عن ان هذا يدل على بقايا تعلق بالدنيا ورغبة في الاستمتاع بها، ويكون هذا سبباً في خفوت شوقهم وتطلعهم الى الحياة البرزخية، بل يريدون هذه الحياة، اذ يجدون فيها نوعاً من ثمار الآخرة.



السادسة:

وهي المنزلق الذي يقع فيه قسم من سالكي الطرق الصوفية من غير اهل الحقيقة عندما يلتبس عليهم الامر فيتوهمون بان ظلال مقامات الولاية ونماذجها المصغرة كأنها هي المقام الحقيقي والكلي والاصلي..

ولقد اثبتنا في الغصن الثاني من ((الكلمة الرابعة والعشرين)) وفي كلمات اخرى بما لاشك فيه؛ ان الشمس وان تعددت صورها بتعدد المرايا التي تنعكس عليها، فهذه الصور تملك ضياء الشمس وحرارتها ولكن ليس هو الضياء الاصلي نفسه، ولا هي الحرارة نفسها فهي باهتة الانوار بالنسبة للشمس الحقيقية.

كذلك فان لمقام النبوة ولمقام كبار الاولياء، شيئاً من الظلال التي يمكن لاهل الطرق ان يستظلوا بها، ولكنهم يظنون اثناء دخولهم فيها انهم اعظم درجة من كبار الاولياء، بل حتى من الانبياء - والعياذ بالله - فيسقطون في مزلق.

ولانقاذ انفسهم من جميع هذه المزالق المذكورة سابقاً عليهم ان يضعوا اصول الايمان واسس الشرع نصب اعينهم ويتخذوها مرشداً دائماً لهم، وان يخالفوا اذواقهم ومشهوداتهم ويتهموها عند تعارضها مع تلك الاسس.



السابعة:

وهي المزلق الذي يقع فيه قسم من اهل الاذواق والاشواق من اصحاب الطرق عندما ينصرفون الى الفخر والادعاء واشاعة الشطحات وطلب توجه الناس ونيل المرجعيات الدينية، ويفضلون هذه العجالات على الشكر والتضرع والحمد والاستغناء عن الناس، بينما عبودية محمد e هي اسمى مرتبة في العبودية، تلك العبودية التي نستطيع وصفها بالمحبوبية، او عبودية المحبة.

فأساس العبودية وسرها هو التضرع والحمد والدعاء والخشوع والعجز والفقر والاستغناء عن الناس، وبهذا فقط يمكن الوصول الى كمال تلك الحقيقة، حقيقة العبودية.

نعم ان عدداً من الاولياء الكبار اضطروا - دون اختيار منهم لغلبة الحال وبشكل موقت فقط - الى الخروج الى ساحة الفخر والطلب والشطحات، لذا فلا يجوز اتباعهم اختياراً في حالهم هذه، فهم مهتدون، ولكنهم هنا وفي هذه النقطة بالذات ليسوا قدوة في الهداية، لذا لا يمكن السير وراءهم والاقتداء بهم.



الثامنة:

وهي الورطة التي يتورط فيها قسم من المتعجلين والقاصدين المنافع الذاتية من اهل الطرق من الذين يرغبون في تناول ثمرات الولاية في الدنيا بدلاً من قطفها في الآخرة. وعندما يدل سلوكهم على هذه الرغبة، وتتكشف نيتهم من خلال هذا السلوك يكونون فعلاً قد سقطوا في هذه الورطة. علماً ان آيات كثيرة في القرآن الكريم من امثال } وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور{ (آل عمران:185) تدل بوضوح ما اثبتناه سابقاً في عدة ((كلمات)) من ان ثمرة واحدة من ثمرات عالم البقاء ترجح الف بستان في هذه الحياة الفانية، لذا فالافضل عدم تناول تلك الثمرات المباركة هنا، وان اعطيت دون توجه ورغبة فيها، فيجب ابداء الحمد والشكر في قبولها - لا على انها مكافأة - بل على انها احسان وفضل من الله وهبت للتشويق.

C التلويح التاسع:

نذكر هنا مجملاً تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها:

الاولى:

هي ظهور الحقائق الايمانية وانكشافها ووضوحها الى درجة عين اليقين بوساطة الطريقة الصحيحة المستقيمة. هذه الحقائق التي هي منابع خزائن ابدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها.



الثانية:

هي تحقيق الوجود الحقيقي للانسان بانسياق لطائفه جميعاً الى ما خُلقت لأجله. وذلك بأن تكون الطريقة واسطة لتحريك قلب الانسان الذي يعتبر مركزاً لجسمه ولولباً لحركته وتوجيهه الى الله. فيندفع بهذا كثير من اللطائف الانسانية الى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الانسان.



الثالثة:

التخلص من وحشة الانفراد والوحدة في السير والسلوك، والشعور بالانس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ بالالتحاق باحدى سلاسل الطريقة عند سيرها وتوجهها وسفرها نحو الحياة البرزخية ونحو الحياة الاخروية، وعقد اواصر الصداقة والمحبة بتلك القافلة النورانية في طريق أبد الآباد، فتندفع الاوهام والشبه عن النفس باستناد المريد الى اجماعهم واتفاقهم باعتبار كل استاذ مرشد حجة قوية وسنداً لا يضعف في دفع الاضاليل والاوهام التي ترد الى الذهن.



الرابعة:

وهي خلاص الانسان من الوحشة الهائلة التي تكتنفه في حياته الدنيا، والانسلال من الغربة الاليمة التي يحسها ازاء الكون، وذلك بما تقوم به الطريقة الصائبة الصافية من تفجير ينابيع محبة الله ومعرفته في الايمان.

وقد سبق ان اثبتنا في كلمات عدة بأن سعادة الدارين، واللذة التي لايشوبها ألم، والانس الذي لا تخالطه وحشة، والسعادة الحقيقية لا توجد الا في حقائق الايمان والاسلام التي تسعى الطريقة للوصول اليها كما اننا بينا في ))الكلمة الثانية(( بان الايمان يحمل بذرة شجرة طوبى في الجنة.

نعم فبالتربية الموجودة في الطريقة تنمو تلك البذرة وتكبر.



الخامسة:

الشعور بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله، كما يعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة. وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.



السادسة:

نيل مقام التوكل، ودرجة الرضى، ومرتبة التسليم. هذه المقامات هي السبيل الى تذوق السعادة الحقيقية والتسلية الخالصة واللذة التي لا يشوبها حزن، والانس الذي لا تقربه وحشة.



السابعة:

وهي نجاة الانسان من الشرك الخفي والرياء والتصنع وامثالها من الرذائل وذلك بالاخلاص الذي هو اهم شرط لدى سالك الطريقة واهم نتيجة لها. وكذا التخلص من اخطار النفس الامارة بالسوء ومن أدران الانانية بتزكية النفس التي هي السلوك العملي في الطريقة.



الثامنة:

هي جعل الانسان عاداته اليومية بحكم العبادات واعماله الدنيوية بمثابة اعمال اخروية، والاحسان في استغلال رأس مال عمره من الحياة بدقائقها وجعلها بذوراً تتفتح عن زهرات الحياة الاخروية وسنابلها.

وذلك بدوام الذكر القلبي، والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الارادة، والنية الصافية، والعزيمة الصادقة التي تلقنها الطريقة.

التاسعة:

وهي العمل للوصول الى مرتبة الانسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي الى الله طوال سيره وسلوكه، واثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، اي الوصول الى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، اي نيل حقيقة الايمان والاسلام لا صورتيهما، ثم ان يكون الانسان عبداً خالصاً لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلاً عن الكائنات من جهة، وولياً للّه وخليلاً له، حتى كانه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي احسن تقويم حقاً فيقيم الحجة على افضلية بني آدم على الملائكة.

وهكذا يطير بجناحي الايمان والعمل بالشريعة الى المقامات العليا والتطلع من هذه الدنيا الى السعادة الابدية بل الدخول فيها.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صلّ على الغوث الاكبر في كل العصور والقطب الأعظم في كل الدهور سيدنا محمد الذي تظاهرت حشمة ولايته ومقام محبوبيته في معراجه واندرج كل الولايات في ظل معراجه وعلى آله وصحبه اجمعين

آمين والحمد لله رب العالمين

ذيـل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم بالرغم من فهمي القاصر طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله ((الرحمن)).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله ((الرحيم)).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله ((الحكيم)).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولاسيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

} فلا تُزكّوا انفُسَكم{ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

} ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم{ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

} ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِ{ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

} كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه{ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة } فلا تزكوا انفسكم{ وهي عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما أودعه الله فيه من اجهـزة لحمده سبحـانه وتقديسه الـى نفسه، فيصيبه وصـف الآية الكريمة: } من اتّخذ الهَه هَواه{ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها. فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: } ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم{ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.

والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: } ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك{ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماًمنه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هـذه المرتبة هـي فـي سـر هذه الآية الـكريمة: } قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها{ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: } كُلُّ شَيٍء هالكٌ إلا وجْهَه{ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في ((الكلمات الست والعشرين)) السابقة من كتاب ((الكلمات)) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى ((القدير)) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل ((وحدة الوجود)) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: ((لا موجود الا هو)) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل ((وحدة الشهود)) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: ((لا مشهود الا هو)) للوصول الى الاطمئنان القلبي والحضور الدائمي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.

المكتوب الثلاثون

وهو (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) باللغة العربية

المكتوب الحادي والثلاثون

وقد انقسم الى إحدى وثلاثين لمعة ضمّت في كتاب (اللمعات).

المكتوب الثاني والثلاثون

وهو(اللوامع) المنشورة ختام (الكلمات).

المكتوب الثالث والثلاثون

رسالة (النوافذ) المطلة الى المعرفة الإلهية.نشرت ضمن (الكلمات)، ولم تدرج هنا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس