الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #10
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة العاشرة



مبحث الحشر





تنبيه

ان سبب ايرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني الى الأذهان من ناحية، واظهار مدى معقولية الحقائق الاسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية اخرى، فمغزى الحكايات انما هو الحقائق التي تنتهي اليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي اذن ليست حكايات خيالية وانما حقائق صادقة.













بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَانْظُرْ اِلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ اْلاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَـمُحْيىِ اْلـمَوْتىَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ[ (الروم: 50)

يا أخي!

إِن رمتَ ايضاح أمر الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي الى هذه الحكاية القصيرة.

ذهب اثنان معاً الى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) واذا بهما يَريان ان أهلها قد تركوا ابواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالاموال والنقود في متناول الايدي دون ان يحميها أحد. بدأ أحدهما - بما سوّلت له نفسه - يسرق حيناً ويغصب حيناً آخر مرتكباً كل انواع الظلم والسفاهة، والاهلون لا يبالون به كثيراً.

فقال له صديقه:

- ويحك ماذا تفعل؟ انك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الاموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد اصبحوا - بعوائلهم واطفالهم - جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيراً. إعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر الى التوسل.

ولكن صاحبه الأبله عاند قائلاً:

- دعني يا صاحبي، فهذه الاموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد ان يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الاشياء الجميلة المنثورة امامي. واعلم اني لا اصدّق بما لا تراه عيناي...

وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة(1). وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد اذ سأل المغفل:

- وما السلطان؟ فانا لا اعرفه. فردّ عليه صاحبه:

- انك بلاشك تعلم انه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: انه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطاراً مشحوناً بالارزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب(1)! أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة اعلانات السلطان وبياناته، واعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الاموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو انك تعلمت شيئاً من لغة الافرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الاسلامية ولا ترغب ان تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال اذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والاوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلاً:

- لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن ان تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم اني لا أرى هنا عقاباً من سجن أو ما يشبهه!

أجابه صاحبه:

- يا هذا، ان هذه المملكة التي نراها ما هي الاّ ميدان اِمتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جداً.. ألا ترى ان قافلة تأتي يومياً وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، انها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائياً وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل اليها الناس جميعاً فيثاب أو يُعاقب كلٌ حسب عمله.

ومرة اخرى تمرّد صديقه الخائن الحائر قائلاً:

- أنا لا أؤمن ولا اصدق! فهل يمكن ان تُباد هذه المملكة العامرة، ويرحل عنها أهلُها الى مملكة اخرى؟ وعندها قال له صديقه الناصح الامين:

- يا صاحبي ما دمتَ تعاند هكذا وتصرّ، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى مجملةً في اثنتي عشرة صورة تؤكد لك ان هناك محكمة كبرى حقاً، وداراً للثواب والاحسان، واخرى للعقاب والسجن، وانه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يوماً بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيه منهم نهائياً وتباد كليّاً.

C الصورة الأولى

أمن الممكن لسلطنةٍ - ولاسيما كهذه السلطنة العظمى - أن لا يكون فيها ثوابٌ للمطيعين ولا عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه الدار..

فلابد اذن من محكمةٍ كبرى في دارٍ اخرى.

C الصورة الثانية

تأمل سير الاحداث والاجراءات في هذه المملكة، كيف يوزَّع الرزقُ رغداً حتى على أضعف كائن فيها وأفقره، وكيف ان الرعاية تامة والمواساة دائمة لجميع المرضى الذين لا معيل لهم. وانظر الى الاطعمة الفاخرة والاواني الجميلة والأوسمة المرصعة والملابس المزركشة.. فالموائد العامرة مبثوثة في كل مكان.. وانظر! الجميع يتقنون واجباتهم ووظائفهم اِلا أنت وأمثالك من البلهاء، فلا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، فأعظم شخص يؤدي ما أنيط به من واجب بكل تواضع، وفي غاية الطاعة، تحت ظل جلال الهيبة والرهبة. اذن فمالِكُ هذه السلطنة ومليكها ذو كرم عظيم، وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف سامٍ. ومن المعلوم ان الكرم يستوجب اِنعاماً، والرحمة لا تحصل دون احسان، والعزة تقتضي الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما لا يتحقق في هذه المملكة جزء واحد من ألفٍ مما يليق بتلك الرحمة ولا بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظلوم في ذله وخنوعه.

فالقـضية اذن مؤجلة الى محكمة كبرى.

C الصورة الثالثة

انظر، كيف تُنجز الاعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف يُنظر الى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقة وميزانٍ صائب. ومن المعلوم ان حكمة الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالة المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير انه لا يبدو هنا اِلا جزءٌ ضئيلٌ من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة. فأمثالك من الغافلين سيغادرون هذه المملكة دون أن يرى اغلبهم عقاباً.

فالقـضية اذن مؤجلة بلا ريب الى محكمة كبرى.

C الصورة الرابعة

انظر الى ما لا يعد ولا يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه المعارض، والاطعمة الفريدة اللذيذة المزيّنة بها الموائد، مما يُبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءً غير محدود، وخزائن ملأى لا تنضب.. ولكن مثل هذا السخاء الدائم، ومثل هذه الخزائن التي لا تنفد، يتطلبان حتماً دار ضيافة خالدة أبدية، فيها ما تشتهيه الانفس. ويقتضيان كذلك خلود المتنعمين المتلذذين فيها، من غير ان يذوقوا ألم الفراق والزوال؛ اذ كما ان زوال الألم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.. وانظر الى هذه المعارض، ودقق النظر في تلك الاعلانات، واصغ جيداً الى هؤلاء المنادين الدعاة الذين يصفون عجائب مصنوعات السلطان - ذي المعجزات - ويعلنون عنها، ويظهرون كماله، ويفصحون عن جماله المعنوي الذي لا نظير له، ويذكرون لطائف حسنه المستتر.

فلهذا السلطان اذن كمال باهر، وجمال معنوي زاهر، يبعثان على الاعجاب. ولاشك ان الكمال المستتر الذي لا نقص فيه يقتضي اعلانه على رؤوس الاشهاد من المعجبين المستحسنين، ويتطلب اعلانه امام انظار المقدّرين لقيمته. أما الجمال الخفي الذي لا نظير له، فيستلزم الرؤية والاظهار، أي رؤية جماله بوجهين.

احدهما: رؤيته بذاته جمالَه في كل ما يعكس هذا الجمال من المرايا المختلفة.

ثانيهما: رؤيته بنظر المشاهدين المشتاقين والمعجبين المستحسنين له. وهذا يعني ان الجمال الخالد يستدعي رؤية وظهوراً، مع مشاهدةٍ دائمةٍ، وشهودٍ أبدي.. وهذا يتطلب حتماً خلودَ المشاهدين المشتاقين المقدّرين لذلك الجمال، لأن الجمال الخالد لا يرضى بالمشتاق الزائل. ولأن المشاهد المحكوم عليه بالزوال يبدل تصور الزوال محبته عداءً، واعجابه استخفافاً، وتوقيره اهانةً، اذ الانسان عدو لما يجهل ولما يقصر عنه.. ولما كان الجميع يغادرون دور الضيافة هذه بسرعة ويغيبون عنها بلا ارتواء من نور ذلك الجمال والكمال، بل قد لا يرون اِلا ظلالاً خافتة منه عبر لمحات سريعة..

فالرحلة اذن منطلقة الى مشهد دائم خالد.

C الصورة الخامسة

تأمل، كيف ان لهذا السلطان - الذي لا نظير له - رأفة عظيمة تتجلى في خضم هذه الأحداث والامور، اذ يغيث الملهوف المستغيث، ويستجيب للداعي المستجير، واذا ما رأى أدنى حاجة لأبسط فرد من رعاياه فانه يقضيها بكل رأفة وشفقة، حتى انه يرسل دواءً او يهيئ بيطاراً لإسعاف قدم نعجة من النعاج.

هيا بنا يا صاحبي لنذهب معاً الى تلك الجزيرة، حيث تضم جمعاً غفيراً من الناس. فجميع اشراف المملكة مجتمعون فيها.. انظر فها هو ذا مبعوث كريم للسلطان متقلّد اعظم الأوسمة وأعلاها يرتجل خطبة يطلب فيها من مليكه الرؤوف أموراً، وجميع الذين معه يوافقونه ويصدّقونه ويطلبون ما يطلبه.

أنصت لما يقول حبيب الملك العظيم، انه يدعو بأدبٍ جم وتضرّع ويقول:

يا من اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا سلطاننا، أرنا منابع واصولَ ما أريتَه لنا من نماذج وظلال.. خذ بنا الى مقر سلطنتك ولا تهلكنا بالـضياع في هذه الفلاة.. أقبلنا وارفعنا الى ديوان حـضورك.. ارحمنا... اطعمنا هناك لذائذ ما أذقتنا اياه هنا، ولا تعذبنا بألم التنائي والطرد عنك.. فهاهم اولاء رعيتك المشتاقون الشاكرون المطيعون لك، لا تتركهم تائهين ضائعين، ولا تفنِهم بموت لا رجعة بعده..

أسمعت يا صاحبي ما يقول؟. تُرى أمن الممكن لمن يملك كل هذه القدرة الفائقة، وكل هذه الرأفة الشاملة، ان لا يعطي مبعوثه الكريم ما يرغب به، ولا يستجيب لأسمى الغايات وانبل المقاصد؟ وهو الذي يقضي بكل اهتمامٍ أدنى رغبة لأصغر فرد من رعاياه؟ مع أن ما يطلبه هذا المبعوث الكريم تحقيق لرغبات الجميع ومقاصدهم، وهو من مقتضيات عدالته ورحمته ومرضاته. ثم انه يسير عليه وهيّن، فليس هو بأصعب مما عرضه من نماذج في متنزهات هذه المملكة ومعارضها.. فما دام قد انفق نفقات باهظة وأنشأ هذه المملكة لعرض نماذجه عرضاً مؤقتاً، فلابد أنه سيَعرِض في مقر سلطنته من خزائنه الحقيقية ومن كمالاته وعجائبه ما يبهر العقول. اذن فهؤلاء الذين هم في دار الامتحان هذه ليسوا عبثاً، وليسوا سدى، بل تنتظرهم قصورُ السعادة السرمدية الخالدة، او غياهب السجون الابدية الرهيبة.

C الصورة السادسة

تعال، وانظر الى هذه القاطرات الضخمة، والى هذه الطائرات المشحونة، والى هذه المخازن الهائلة المملوءة، والى هذه المعارض الانيقة الجذابة.. وتأمل في الاجراءات وسير الامور.. انها جميعاً تبيّن ان هناك سلطنة عظيمة حقاً(1) تحكم من وراء ستار. فمثل هذه السلطنة تقتضي حتماً رعايا يليقون بها. بينما تشاهد انهم قد اجتمعوا في هذا المضيف - مضيف الدنيا - والمضيف يودّع يومياً صنوفاً منهم ويستقبل صنوفاً. وهم قد حضروا في ميدان الامتحان والاختبار هذا، غير أن الميدان يُبدّل كل ساعة، وهم يلبثون قليلاً في هذا المعرض العظيم، يتفرجون على نماذج آلاء المليك الثمينة وعجائب صنعته البديعة، غير ان المعرض نفسه يحوّل كل دقيقة، فالراحل لا يرجع والقابل يرحل كذلك.. فهذه الامور تبين بشكل قاطع ان وراء هذا المضيف الفاني، ووراء هذه الميادين المتبدلة، ووراء هذه المعارض المتحولة، قصور دائمة خالدة، ومساكن طيبة ابدية وجنائنُ مملوءة بحقائق هذه النماذج، وخزائن مشحونة باصولها.

فالاعمال والافعال هنا اذن ما هي الا لأجل ما اُعدّ هنالك من جزاء. فالملك القدير يكلف هنا ويجازي هناك، فلكل فردٍ لون من السعادة حسب استعداده وما اقدم عليه من خير.

C الصورة السابعة

تعال، لنتنزه قليلاً بين المدنيين من الناس لنلاحظ احوالهم، وما تجري حولهم من امور. انظر، فها قد نُصبَت في كل زاوية آلاتُ تصوير عديدة تلتقط الصور، وفي كل مكان كتّاب كثيرون يسجلون كل شئ، حتى أهون الامور.

هيا انظر الى ذاك الجبل الشاهق فقد نصبت عليه آلة تصوير ضخمة تخص السلطان نفسه(1) تلتقط صور كل ما يجري في هذه المملكة. فلقد اصدر السلطان أوامره لتسجيل الامور كلها، أو تدوين المعاملات في مملكته. وهذا يعني ان السلطان المعظم هو الذي يملي الحوادث جميعها، ويأمر بتصويرها.. فهذا الاهتمام البالغ، وهذا الحفظ الدقيق للأمور، وراءه محاسبة بلا شك، اذ هل يمكن لحاكمٍ حفيظ - لا يهمل أدنى معاملة لأبسط رعاياه - أن لا يحفظ ولا يدوّن الاعمال العظيمة لكبار رعاياه، ولا يحاسبهم ولا يجازيهم على ما صنعوا مع انهم يُقدمون على اعمال تمسّ الملك العزيز، وتتعرض لكبريائه، وتأباه رحمته الواسعة؟.. وحيث انهم لا ينالون عقاباً هنا..

فلابد انه مؤجل الى محكمة كبرى.

C الصورة الثامنة

تعال، لأتلو عليك هذه الأوامر الصادرة من السلطان. انظر، انه يكرر وعده ووعيده قائلاً: لآتينّ بكم الى مقر سلطنتي، ولأسعدنّ المطيعين منكم، ولأزجنّ العصاة في السجن، ولأدمرنّ ذلك المكان الموقت، ولأنشأن مملكة اخرى فيها قصور خالدة وسجون دائمة.. علماً ان ما قطعه على نفسه من وعد، هين عليه تنفيذه، وهو بالغ الأهمية لرعاياه. أما اِخلاف الوعد فهو منافٍ كلياً لعزته وقدرته.

فانظر ايها الغافل: اِنك تصدق اكاذيب أوهامك، وهذيان عقلك، وخداع نفسِك، ولا تصدّق مَن لا يحتاج الى مخالفة الوعد قطعاً، ومَن لا تليق المخالفة بغيرته وعزته اصلاً، ومَن تشهد الامور كافة على صدقه.. انك تستحق العقاب العظيم بلاشك، اذ إن مَثلكَ في هذا مثل المسافر الذي يغمض عينيه عن ضوء الشمس، ويسترشد بخياله، ويريد ان ينير طريقه المخيف ببصيص عقله الذي لا يضئ الا كضياء اليراعة (ذباب الليل).

وحيث انه قد وعد، فسيفي بوعده حتماً، لأن وفاءه سهل عليه وهين، وهو من مقتضيات سلطنته، وهو ضروري جداً، لنا ولكل شئ.

اذن هناك محكمة كبرى وسعادة عظمى.

C الصورة التاسعة

تعال، لننظر الى رؤساء(1) من هذه الدوائر، قسم منهم يمكنهم الاتصال بالسلطان العظيم مباشرة، بهاتف خاص. بل لقد ارتقى قسم آخر وسما الى ديوان قدسه.. تأمل ماذا يقول هؤلاء؟ انهم يخبروننا جميعاً ان السلطان قد أعدّ مكاناً فخماً رائعاً لمكافأة المحسنين وآخر رهيباً لمعاقبة المسيئين. وانه يَعِد وعداً قوياً ويُوعِد وعيداً شديداً، وهو أجلّ وأعزّ من أن يذلّ الى خلاف ما وعد وتوعد. علماً بأن اخبار المخبرين قد وصلت من الكثرة الى حد التواتر ومن القوة الى درجة الاتفاق والاجماع فهم يبلغوننا جميعاً: بأن مقر هذه السلطنة العظيمة التي نرى آثارها وملامحها هنا، انما هو في مملكة اخرى بعيدة. وان العمارات في ميدان الامتحان هذا بنايات وقتية، وستُبدّل الى قصور دائمة، فتبدل هذه الارض بغيرها. لأن هذه السلطنة الجليلة الخالدة - التي تُعرف عظمتُها من آثارها - لا يمكن ان تقتصر هيمنتُها على مثل هذه الامور الزائلة التي لا بقاء لها ولا دوام ولا كمال ولا قرار ولا قيمة ولا ثبات. بل تستقر على ما يليق بها وبعظمتها من امور تتّسم بالديمومة والكمال والعظمة.

فاذن هناك دار اخرى.. ولابد ان يكون الرحيل الى ذلك المقر.

C الصورة العاشرة

تعال يا صاحبي، فاليوم يوم عيد ملكي عظيم(2).. ستحدث تبدلات وتغيرات وستبرز أمور عجيبة.. فلنذهب معاً للنزهة، في هذا اليوم البهيج من ايام الربيع الى تلك الفلاة المزدانة بالازهار الجميلة.. انظر! هاهم الناس متوجهون الى هناك.. انظر! هاهنا امر غريب عجيب، فالعمارات كلها تنهار وتتخذ شكلاً آخر! حقاً انه شئ معجز! اذ العمارات التي انهارت قد أعيد بناؤها هنا فوراً، وانقلبت هذه الفلاة الخالية الى مدينة عامرة! انظر.. انها تريك كل ساعة مشهداً جديداً وتتخذ شكلاً غير شكلها السابق - كشاشة السينما - لاحظ الأمر بدقة لترى روعة هذا النظام المتقن في هذه الشاشة التي تختلط فيها المشاهد بكثرة وتتغير بسرعة فهي مشاهد حقيقية يأخذ كل شئ مكانه الحقيقي في غاية الدقة والانسجام، حتى المشاهد الخيالية لا تبلغ هذا الحد من الانتظام والروعة والاتقان، بل لا يستطيع ملايين الساحرين البارعين من القيام بمثل هذه الاعمال البديعة.. اذن فللسلطان العظيم المستور عنا الشئ الكثير من الامور الخارقة.

فيا أيها المغفل! انك تقول: كيف يمكن ان تدمّر هذه المملكة العظيمة وتعمّر من جديد في مكان آخر؟.

فها هو ذا أمامك ما لا يقبله عقلك من تقلبات كثيرة وتبدلات مذهلة، فهذه السرعة في الاجتماع والافتراق، وهذا التبدل والتغير، وهذا البناء والهدم.. كلها تنبىء عن مقصد، وتنطوي على غاية، اذ يُصرف لأجل اجتماع في ساعة واحدة ما ينفق لعشر سنوات ! فهذه الاوضاع اذن ليست مقصودة لذاتها، بل هي أمثلة ونماذج للعرض هنا. فالسلطان يُنهي اعماله على وجه الاعجاز، كي تؤخذ صورها، وتُحفظ نتائجها وتُسجل كما تُسجل وتُحفظ كل ما في ميدان المناورات العسكرية. فالأمور والمعاملات اذن ستجري في الاجتماع الاكبر وتستمر وفق ما كانت هنا. وستعرض تلك الامور عرضاً مستمراً في المشهد الاعظم والمعرض الاكبر. أي ان هذه الاوضاع الزائلة تنتج ثماراً باقية وتولّد صوراً خالدة هناك.

فالمقصود من هذه الاحتفالات اذن هو بلوغ سعادة عظمى، ومحكمة كبرى، وغايات سامية مستورة عنا.

C الصورة الحادية عشرة

تعال أيها الصديق المعاند، لنركب طائرة أو قطاراً، لنذهب الى الشرق او الى الغرب - أي الى الماضي أو الى المستقبل - لنشاهد ما اظهره السلطان من معجزات متنوعة في سائر الاماكن. فما رأيناه هنا في المعرض، أو في الميدان، أو في القصر، من الأمور العجيبة له نماذج في كل مكان، اِلاّ انه يختلف من حيث الشكل والتركيب. فيا صاحبي، أنعم النظر في هذا، لترى مدى ظهور اِنتظام الحكمة، ومبلغ وضوح اشارات العناية، ومقدار بروز امارات العدالة، ودرجة ظهور ثمرات الرحمة الواسعة، في تلك القصور المتبدلة، وفي تلك الميادين الفانية، وفي تلك المعارض الزائلة. فَمَن لم يفقد بصيرته يفهم يقيناً أنه لن تكون - بل لا يمكن تصور - حكمة أكملَ من حكمة ذلك السلطان ولا عناية اجملَ من عنايته، ولا رحمة أشمل من رحمته، ولا عدالة أجلّ من عدالته.. ولكن لما كانت هذه المملكة - كما هو معلوم - قاصرةً عن اظهار حقائق هذه الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، ولو لم تكن هناك في مقر مملكته - كما توهمت - قصور دائمة، وأماكن مرموقة ثابتة، ومساكن طيبة خالدة، ومواطنون مقيمون، ورعايا سعداء تحقق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، يلزم عندئذٍ اِنكار ما نبصره من حكمة، وانكار ما نشاهده من عناية، وانكار ما نراه من رحمة، وانكار هذه الامارات والاشارات للعدالة الظاهرة البينة.. انكار كل ذلك بحماقة فاضحة كحماقة من يرى ضوء الشمس وينكر الشمس نفسَها في رابعة النهار! ويلزم أيضاً القول بأن القائم بما نراه من اجراءات تتسم بالحكمة وافعالٍ ذات غايات كريمة وحسنات ملؤها الرحمة انما يلهو ويعبث ويغدر - حاشاه ثم حاشاه - وما هذا الا قلب الحقائق الى أضدادها، وهو المحال باتفاق جميع ذوي العقول غير السوفسطائي الابله الذي يُنكِر وجودَ الاشياء، حتى وجودَ نفسه.

فهناك اذن ديار غير هذه الديار، فيها محكمة كبرى ، ودار عدالة عليا، ومقرَّ كرم عظيم، لتظهر فيها هذه الرحمة وهذه الحكمة وهذه العناية وهذه العدالة بوضوح وجلاء.

C الصورة الثانية عشرة

تعال فلنرجع الآن يا صاحبي، لنلتقي ضباطَ هذه الجماعات ورؤساءها، انظر الى معدّاتهم.. أزوّدوا بها لقضاء فترة قصيرة من الزمن في ميدان التدريب هذا، أم انها وُهبَت لهم ليقضوا حياة سعيدة مديدة في مكان آخر؟ ولما كنا لا نستطيع لقاء كل واحد منهم، ولا نتمكن الاطلاع على جميع لوازمهم وتجهيزاتهم، لذا نحاول الاطلاع على هوية وسجل أعمال واحد منهم كنموذج ومثال. ففي الهوية نجد رتبة الضابط، ومرتّبه، ومهمته، وامتيازاته، ومجال اعماله، وكل ما يتعلق بأحواله.. لاحظ، ان هذه الرتبة ليست لأيام معدودة بل لمدة مديدة.. ولقد كتب في هويته انه يتسلّم مرتّبه من الخزينة الخاصة بتاريخ كذا.. غير أن هذا التاريخ بعيد جداً، ولا يأتي الا بعد انهاء مهام التدريب في هذا الميدان.. أما هذه الوظيفة فلا توافق هذا الميدان الموقت ولا تنسجم معه، بل هي للفوز بسعادة دائمة في مكان سامٍ عند الملك القدير.. أما الواجبات فهي كذلك لا يمكن ان تكون لقضاء ايام معدودة في دار الضيافة هذه، وانما هي لحياة أخرى سعيدة أبدية.. يتضح من الهوية بجلاء، ان صاحبها مهيأ لمكان أخر، بل يسعى نحو عالم آخر.

انظر الى هذه السجلات التي حدّدت فيها كيفية استعمال المعدّات والمسؤوليات المترتبة عليها، فان لم تكن هناك منزلة رفيعة خالدة غير هذا الميدان، فلا معنى لهذه الهوية المتقنة، ولا لهذا السجل المنتظم، ولسقط الضابط المحترم والقائد المكرم والرئيس الموقر الى درك هابط ولقي الشقاء والذلة والمهانة والنكبة والضعف والفقر.. وقس على هذا، فأينما انعمت النظر متأملاً قادك النظر والتدبر الى أن هناك بقاء بعد هذا الفناء..

فيا صديقي! ان هذه المملكة المؤقتة ما هي إلا بمثابة مزرعة، وميدان تعليم، وسُوق تجاري، فلابد ان تأتي بعدها محكمة كبرى وسعادة عظمى. فاذا انكرتَ هذا، فسوف تضطر الى انكار كل الهويات والسجلات التي يمتلكها الضابط، وكل تلك العُدد والاعتدة والتعليمات، بل تضطر الى انكار جميع الأنظمة في هذه المملكة، بل اِنكار وجود الدولة نفسها، وينبغي عند ذلك أن تكذّب جميع الاجراءات الحادثة. وعنده لا يمكن ان يُقال لك انك انسان له شعور. بل تكون اذ ذاك أشد حماقة من السوفسطائيين.

وإياك اِياك أن تظـن أن دلائـل واشـارات تبـديل المملكة منحصـرة في((اثنتي عشرة)) صورة التي أوردناها، اذ ان هناك ما لايعد ولا يحصى من الامارات والادلة على أن هذه المملكة المتغيرة الزائلة تتحول الى اخرى مستقرة باقية، وهناك الكثير الكثير من الاشارات والعلامات تدل على أن هؤلاء الناس سينقلون من دار الضيافة المؤقتة الزائلة الى مقر السلطنة الدائمة الخالدة.

يا صاحبي! تعال لأقرر لك برهاناً اكثر قوة ووضوحاً من تلك البراهين الاثنى عشر التي انبأت عنها تلك الصور المتقدمة. تعال، فانظر الى المبعوث الكريم، صاحب الأوسمة الرفيعة الذي شاهدناه في الجزيرة - من قبل - انه يبلّغ أمراً الى الحشود الغفيرة التي تتراءى لنا على بُعد. فهيّا نذهب ونصغيِ اليه.. انتبه! فها هو يُفسّر للملأ البلاغ السلطاني الرفيع ويوضحه قائلاً لهم:

تهيأوا! سترحلون الى مملكة اخرى خالدة، ما اعظمها من مملكة رائعة! ان مملكتنا هذه تعدّ كالسجن بالنسبة لها. فاذا ما اصغيتم الى هذا الامر بامعان، ونفّذتموه باتقان ستكونون اهلاً لرحمة سلطاننا واحسانِه في مستقره الذي تتجهون اليه، والا فالزنزانات الرهيبة مثواكم جزاء عصيانكم الأمر وعدم اكتراثكم به..

انه يذكّر الحاضرين بهذا البلاغ، وانت ترى على ذلك البلاغ العظيم ختمَ السلطان الذي لا يُقلّد. والجميع يدركون يقيناً - إلا أمثالك من العميان - ان ذلك المبعوث المجلل بالأوسمة الرفيعة هو مبلِّغ أمين لأوامر السلطان، بمجرد النظر الى تلك الأوسمة.

فيا ترى هل يمكن الاعتراض على مسألة تبديل هذه المملكة التي يدعو اليها ذلك المبعوث الكريم بكل ما أوتي من قوة، ويتضمنه البلاغ الملكي السامي؟ كلا.. لا يمكن ذلك أبداً، اِلا اذا انكرتَ جميع ما تراه من أمور وحوادث.

فالآن ايها الصديق! لك أن تقول ما تشاء.

ماذا عساي أن أقول؟ وهل بقي مزيد من قول لقائل امام هذه الحقائق! وهل يقال للشمس وهي في كبد السماء، اين هي؟. ان كل ما أريد أن أقوله هو: الحمد لله، وألف شكر وشكر، فقد نجوت من قبضة الأوهام والاهواء، وتحررت من أسار النفس والسجن الابدي، فآمنت بأن هناك دار سعادة عند السلطان المعظم، ونحن مهيأون لها بعد هذه الدار الفانية المضطربة.

وهكذا تمت الحكاية التي كانت كناية عن الحشر والقيامة. والآن ننتقل بتوفيق العلي القدير الى الحقائق العليا، فسنبينها في (اثنتي عشرة حقيقة) وهي متسانده مترابطة مقابل الصور الاثنتي عشرة، بعد ان نمهد لها بمقدمة.















المقدمة

نشير اشارات فحسب الى بعض المسائل التي أوضحناها في اماكن اخرى، أي في الكلمات الثانية والعشرين، والتاسعة عشرة، والسادسة والعشرين.

` الاشارة الأولى

هناك ثلاث حقائق للمغفل ولصديقه الناصح الأمين المذكورَين في الحكاية:

الاولى: هي نفسي الامارة وقلبي.

الثانية: متعلمو الفلسفة وتلاميذ القرآن الكريم.

الثالثة: ملة الكفر والامة الاسلامية.

ان عدم معرفة الله سبحانه وتعالى هو الذي أوقع متعلمي الفلسفة وملة الكفر والنفس الامارة في الضلالة الرهيبة. فمثلما قال الناصح الامين - في الحكاية - انه لا يمكن ان يكون حرف بلا كاتب، ولا قانون بلا حاكم، كذلك نقول:

انه محال ان يكون كتاب بلا كاتب، ولا سيما كتاب كهذا الذي تتضمن كل كلمة من كلماته كتاباً خُطّ بقلم دقيق، والذي تحت كل حرف من حروفه قصيدة دُبجت بقلم رفيع. وكذلك من أمحل المحال أن يكون هذا الكون من غير مبدع، حيث ان هذا الكون كتاب على نحو عظيم تتضمن كل صحيفة فيه كتباً كثيرة، لا بل كل كلمة منها كتاباً، وكل حرف منها قصيدةً.. فوجه الارض صحيفة، وما اكثر ما فيها من كتب! والشجرة كلمة واحدة، وما اكثر ما فيها من صحائف! والثمرة حرف، والبذرة نقطة.. وفي هذه النقطة فهرس الشجرة الباسقة وخطة عملها. فكتاب كهذا ما يكون الا من ابداع قلم صاحب قدرة متصف بالجمال والجلال والحكمة المطلقة. أي أن مجرد النظر الى العالَم ومشاهدته يستلزم هذا الايمان، الاّ مَنْ أسكَرته الضلالة!.

ومثلما لا يمكن ان تكون دار بلا بنّاء، لاسيما هذه الدار التي زيّنت بأبدع زينة، ونقشت بأروع نقوش وأعجبها وشيّدت بصنعة خارقة، حتى ان كل حجر من أحجارها يتجسم فيه فن ما في البناء كله. فلا يقبل عـاقل أن تكـون دار مثل هذه الدار بلا بنّاء ماهر، وبخاصة أنه يشيِّد في هذا الديوان - في كل ساعة - مساكنَ حقيقية في غاية الانتظـام والتنـاسـق، ويغيّرها بانتـظـام وسهـولة كاملين - كسهولة تبديل الملابـس - بل انه ينـشئ فـي كل ركن غـرفـاً صغيـرة عدة في كـل مشهد حقيقي.

فلابد لهذا الكون العظيم من خالق حكيم عليم قدير مطلق، لأن هذا الكون انما هو كالقصر البديع؛ الشمسُ والقمر مصابيحه، والنجوم شموعه وقناديله، والزمن شريط يعلق عليه الخالق ذو الجلال - في كل سنة - عالماً آخر يبرُزه للوجود، مجدّداً فيه صوراً منتظمة في ثلاثمائة وستين شكلاً وطرازاً، مبدلاً اِياه بانتظام تام، وحكمة كاملة، جاعلاً سطح الارض مائدة نِعَمٍ، يزيّنها في كل ربيع بثلاثمائة ألف نوع من أنواع مخلوقاته، ويملؤها بما لا يعد ولا يحصى من آلائه، مع تمييز كلٍ منها تمييزاً كاملاً، على الرغم من تداخلها وتشـابكها.. وقس على هذه الاشياء الامور الاخرى.. فكيف يمكن التغافل عن صانع مثل هذا القصر المنيف؟

ثم، ما اعظم بلاهة من ينكر الشمس في رابعة النهار، وفي صحوة السماء! في الوقت الذي يُرى تلألؤ أشعتها، وانعكاس ضوئها، على زَبَد البحر وحَبابه، وعلى مواد البر اللامعة وعلى بلورات الثلج الناصعة، لأن انكار الشمس الواحدة ورفضها - في هذه الحالة - يستلزم قبول شُميسات حقيقية اصيلة، بعدد قطرات البحر وبعدد الزَبَد والحباب وبعدد بلورات الثلج! ومثلما يكون قبول وجود شمسٍ عظيمة في كل جزيئة - وهي تسع ذرة واحدة - بلاهةً، فان عدم الايمان بالخالق ذي الجلال، ورفض التصديق بأوصاف كماله سبحانه - مع رؤية هذه الكائنات المنتظمة المتبدلة والمتعاقبة بحكمة في كل آن والمتجددة بتناسق وانتظام في كل وقت - ضلالة ادهى ولاشك، بل هذيان وجنون.. لأنه يلزم اذ ذاك قبول ألوهية مطلقة في كل شئ حتى في كل ذرة!.

لأن كل ذرة من ذرات الهواء - مثلاً - تستطيع أن تدخل في كل زهرة، وفي كل ثمرة، وفي كل ورقة، وتتمكن ان تؤدي دورها هناك. فلو لم تكن هذه الذرة مأمورةً ومسخرةً للزم أن تكون على علمٍ باشكال ما تمكنت من الدخول فيه، وبصورته وتركيبه، وهيئته، أي يجب ان تكون ذات علم محيط، وذات قدرة شاملة كي تستطيع القيام بذلك!!

وكل ذرة من ذرات التراب - مثلاً - يمكـن ان تكون سـبباً لنشـوء البـذور ونمو أنواعها جميعاً. فلو لم تكـن مأمورة ومسـخّرة للزم أن تحـتوي آلات وأجهزة معنوية بعدد انواع الاعشاب والاشجار، أو يجب منحها قدرة ومهارة بحيث تعلم جميع اشكال تراكيبها، فتصنعها، وتعرف جميع صورها، فتنسجها.. وقس على هذا سائر الموجودات، حتى تفهم أن للوحدانية دلائل واضحة باهرة في كل شئ.

نعم، ان خلق كل شئ من شئ واحد، وخلق شئ واحد من كل شئ، انما هو عمل يخصّ خالق كل شئ. فتدبر وتأمل في قوله تعالى ] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[ . واعلم ان عدم الاعتقاد بالإله الواحد الأحد يستلزم الاعتقاد بآلهة عدة بعدد الموجودات!

` الاشارة الثانية:

لقد جاء في الحكاية ذكر مبعوث كريم، وذُكر أن من لم يكن أعمى يفهم من رؤية أوسمته: أنه شخص عظيم، لا يأتمر الاّ بأمر السلطان، فهو عامله الخاص.. فهذا المبعوث انما هو رسولنا الاعظم e .

نعم، يلزم ان يكون لمثل هذا الكون البديع ولصانعه القدوس، مثل هذا الرسول الكريم، كلزوم الضوء للشمس. لانه كما لا يمكن للشمس الاّ ان تشع ضياءً كذلك لا يمكن للألوهية إلاّ ان تظهر نفسها بارسال الرسل الكرام عليهم السلام.

فهل يمكن ان لا يرغب جمالٌ في غاية الكمال في اظهار نفسه بوسيلة ودليل يعرّفه؟

ام هل يمكن ان لا يطلب كمالٌ في غاية الجمال الاعلانَ عنه بوساطة يلفت الانظار اليه؟

أم هل يمكن ان لا تطلب سلطنةٌ كلية لربوبية عامة شاملة اعلان وحدانيتها وصمدانيتها على مختلف الطبقات بوساطة مبعوث ذي جناحين؟ أي ذي صفتين: صفة العبودية الكلية، فهو ممثل طبقات المخلوقات عند الحضرة الربانية. وصفة الرسالة والقرب اليه، فهو مُرسل من لدنه سبحانه الى العالمين كافة.

ام هل يمكن لصاحب جمال مطلق ان لا يروم ان يشهد هو ويُشهِد خلقه محاسن جماله ولطائف حسنه في مرايا تعكس هذا الجمال؟ أي بوساطة رسول حبيب؛ فهو حبيب لتودده الى الله سبحانه بعبوديته الخالصة، وهو رسول حبيب لأنه يحبب الله سبحانه الى الخلق باظهار جمال اسمائه الحسنى.

أم هل يمكن ان لا يريد مَن يملك خزائن مشحونة بأغلى الاشياء واعجبها وبما يدهش العقول، اظهارَ كماله المستتر. وان لا يطلب عرضه على انظار الخلق اجمعين، وكشفَه على مرأى منهم، بوساطة معرّف حاذق ومعلن وصّاف؟

أم هل يمكن لِمَن زيّن هذا الكون بمخلوقات معبّرة عن كمال اسمائه الحسنى، وجعله قصراً رائعاً، وجمّله ببدائع صنعته المذهلة، وعرضه على الأنظار، ثم لا يكل أمر ايضاحه الى مرشد معلم رائد؟.

أم هل يمكن ان لا يبيّن مالك هذا الكون بوساطة رسول: ما الغاية من تحولات هذا الكون وما القصد من هذا الطلسم المغلق؟ وان لا يجيب بوساطته عن ألغاز الاسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات، وهي: من أين؟ والى أين؟ ومن تكون؟

ام هل يمكن للخالق ذي الجلال الذي عرّف نفسه الى ذوي الشعور بهذه المخلوقات الجميلة، وحبّبها اليهم بنعمه الغالية، أن لا يبيّن لهم بوساطة رسول ما يريد منهم وما يرضيه ازاء هذه النعم السابغة؟

ام هل يمكن للخالق الذي ابتلى النوع الانساني باختلاف المشاعر والاتجاهات، وهيأ استعداده للعبودية التامة الكلية، أن لا يطلب توجيه انظار هذا النوع من الكثرة الى التوحيد بوساطة مرشد مرسل؟

وهكذا فان هناك دلائل اخرى زيادة على ما تقدم، كلها براهين قاطعة تبين: ((وظائف النبوة ومهامها))، وتوضّح: ان الالوهية لا تكون بلا رسالة.

والآن، فهل ظهر في العالم مَن هو اكثر اهلية، واجمع لتلك الاوصاف والوظائف التي ذكرت، من محمد الهاشمي e ؟ ام هل هناك احد أليق منه e لمنصب الرسالة ومهمة التبليغ؟ وهل اظهر الزمان احداً اعظم أهلية منه؟ كلا. ثم كلا.. فهو امام جميع المرسلين، وقرة عين كل الاصفياء، وسلطان جميع المرشدين، وزبدة كل المختارين والمقربين، صاحب الوف المعجزات كشق القمر، ونبعان الماء من بين اصابعه الشريفة، مما عدا دلائل نبوته واماراتها التي لا تحصى، مما هو محل اجماع اهل الفضل والعلم، وعدا القرآن العظيم الذي هو بحر الحقائق والمعجزة الكبرى، اذ انه كالشمس الساطعة دليل قاطع على صدق رسالته.. ولقد اثبتنا اعجاز القرآن بما يقرب من أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز في ((رسائل النور)) ولاسيما في ((الكلمة الخامسة والعشرين)).



` الاشارة الثالثة

لا يخطرنّ على بال أحد ويقول: ما أهمية هذا الانسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة وتفتح دنيا اخرى لمحاسبته على اعماله!

لأن هذا الانسان، هو سيد الموجودات رغم انه صغير جداً، لما يملك من فطرة جامعة شاملة.. فهو قائد الموجودات،و الداعي الى سلطان الوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة ومظهرها، لذا فان له اهمية عظمى.

ولا يخطرن على البال كذلك: كيف يكون هذا الانسان محكوماً بعذاب أبدي، مع أن له عمراً قصيراً جداً؟.

لأن الكفر جريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، حيث انه يهبط بقيمة الكائنات ودرجتها - التي توازي قيمة مكاتيب صمدانية ودرجتها - الى هاوية العبث، ويوهم عدم وجود الغاية من ايجادها.. انه تحقير بيّن للكائنات كلها وانكارٌ لما يشاهد من انوار الاسماء الحسنى كلها، وانكار آثارها في هذه الموجودات، ومن ثم فانه تكذيب ما لا يحصى من الادلة الدالة على حقيقة وجود ذات الحق سبحانه وتعالى، وكل هذا جناية لا حدود لها، والجناية التي لا حدود لها توجب عذاباً غير محدد بحدود.

` الاشارة الرابعة

لقد رأينا في الحكاية بصورها الاثنتي عشرة:

انه لا يمكن بوجه من الوجوه أن تكون لسلطان عظيم مملكة مؤقتة - كأنها دار ضيافة - ثم لا تكون له مملكة اخرى دائمة مستقرة، ولائقة لأبهته وعظمته ومقام سلطنته السامية.

كذلك لا يمكن بوجه من الوجوه أن لا ينشئ الخالق الباقي سبحانه عالماً باقياً بعد أن أوجد هذا العالم الفاني.

ولا يمكن ايضاً ان يخلق الصانع السرمدي هذه الكائنات البديعة الزائلة، ولا ينشئ كائنات أخرى دائمة مستقرة.

ولا يمكن ايضاً ان يخلق الفاطر الحكيم القدير الرحيم هذا العالم الذي هو بحكم المعرض العام وميدان الامتحان والمزرعة الوقتية ثم لا يخلق الدار الآخرة التي تكشف عن غاياته وتظهر اهدافه!

ان هذه الحقيقة يتم الدخول فيها من ((اثنى عشر باباً)). وتفتح تلك الابواب بـ (اثنتي عشرة حقيقة)، نبدأ بأقصرها وأبسطها.



الحقيقة الأولى

باب الربوبية والسلطنة

وهو تجلي اسم ((الرَّب))

أمن الممكن لـمَن له شأن الربوبية وسلطنة الالوهية، فأوجد كوناً بديعاً كهذا الكون؛ لغايات سامية ولمقاصد جليلة، اظهاراً لكماله،ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالايمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!



الحقيقة الثانية

باب الكرم والرحمة

وهو تجلي اسم ((الكريم والرَّحيم))

أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي أظهر بآثاره كرماً بلا نهاية، ورحمة بلا نهاية، وعزة بلا نهاية، وغيرة بلا نهاية، ان لا يقدّر مثوبة تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، ولا يقرر عقوبة تناسب عزته وغيرته للمسيئين؟.. فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً (1) وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد ان كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزاً ألطف الارزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والاغداق المستمر، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، ان يداً كريمة خالدة هي التي تعمل وتدير الامور.

فمثلاً: ان اكــساء الأشجــار جمـيعاً بحلل شبيـهة بالسـندس الخـضر - كأنها حور الجنة - وتزيينَها بمرصعات الازهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرَها لخدمتنا بانتاجها ألطف الاثمار المتنوعة وألذها في نهايات اغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ - الذي فيه شفاء للناس - من حشرة سامة.. واِلباسَنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.

وكذا، ان سعي جميع المخلوقات، صغيرها وكبيرها - عدا الانسان والوحوش الكاسرة - لإنجاز وظائفها بانتظام تام ودقة كاملة، ابتداءً من الشمس والقمر والارض الى اصغر مخلوق، بشكل لا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، ضمن الطاعة التامة والانقياد الكامل المحفوفَين بهيبة عظيمة، يظهر لنا ان هذه المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن الا بأمر العظيم ذي العزة والجلال.

وكذا، ان عناية الامهات بأولادهن الضعاف العاجزين - سواء في النبات أو الحيوان أو البشر - عناية ملؤها الرأفة والرحمة(1)، وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.

فما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وان العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب اِكراماً غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شئ تستدعي احساناً يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير الا جزء ضئيل جداً هو كقطرة من بحر.

فلابد ان تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. والا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كانكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا رجعة بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقة مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألماً، والعقل المحمود عضواً مشؤوماً.

وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالباً ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.

فالامر اذن ليس اِهمالاً قط، وِان اُمهلَت الى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فانزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا ان الانسان ليس متروكاً زمامه، يسرح وفق ما يملى عليه هواه، بل هو معرّض دائماً لصفعات ذي العزة والجلال.

نعم، ان هذا الانسان الذي انيط به - من بين جميع المخلوقات - مهام عظيمة، وزود باستعدادات فطرية كاملة، اِن لم يعرف ربه ((بالايمان)) بعد ان عرّف سبحانه نفسَه اليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وان لم ينل محبته بالتقرب اليه بـ ((العبادة)) بعد أن تحبب اليه سبحانه بنفسه وعرّفها اليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وان لم يقم بالتوقير والاجلال اللائقين به ((بالشكر والحمد)) بعد ان اظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة... نعم، اِن لم يعرف هذا الانسان ربه هكذا، فكيف يُترك سدى دون جزاء، ودون ان يعدّ له ذو العزة والجلال داراً للعقاب؟

وهل من الممكن ان لا يمنح ذلك الرب الرحيم دار ثوابٍ وسعادة ابدية، لأولئك المؤمنين الذين قابلوا تعريفَ ذاته سبحانه لهم بمعرفتهم اياه بـ ((الايمان)) ومحبته لهم، بالحب والتحبب له بـ ((العبادة))، ورحمته لهم بالاجلال والتوقير له بـ ((الشكر))؟

















الحقيقة الثالثة

باب الحكمة والعدالة

وهو تجلي اسم ((الحكيم والعادل))

أمن الممكن(1) لخالق ذي جلال أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. ان لا يعامل بالاحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وان لا يجازي اولئك الذين عصوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالة؟.

بينما الانسان لا يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة الا نادراً، بل يؤخر، اذ يرحل اغلب أهل الضلالة دون ان يلقوا عقابهم، ويذهب اكثر اهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد ان تناط القضية بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل الى سعادة عظمى.

نعم، انه لواضح ان الذي يتصرف في هذا الكون انما يتصرف فيه بحكمة مطلقة. أفتطلب برهاناً على هذا؟.. فانظر الى رعايته سبحانه للمصالح والفوائد في كل شئ!.. ألا ترى ان اعضاء الانسان جميعاً سواء العظام منها أو العروق وحتى خلاياه الجسمية وكل جزء منه ومكان، قد روعيت فيه فوائد وحكم شتى، بل ان في اعضاء جسمه من الفوائد والاسرار بقدر ما تنتجه الشجرة الواحدة من الثمار، مما يدل على ان يد حكمة مطلقة تدير الامور. فضلاً عن التناسق البديع في صنعة كل شئ والانتظام الكامل فيها اللذان يدلان على ان الامور تؤدى بحكمة مطلقة.

نعم، ان تضمين الخطة الدقيقة لزهرة جميلة في بُذيرتها الصغيرة، وكتابة صحيفة اعمال شجـرة ضخمة وتاريخ حياتها وفهرس اجهـزتها، في نويّتـها بقلم القَدَر المعنوي.. يرينا بوضوح ان قلم حكمةٍ مطلقة هو الذي يتصرف في الأمر.. وكذا، وجود روعة الصنعة الجميلة وغاية حُسنها في خلقة كل شئ، يُظهر ان صانعاً حكيماً مطلقاً هو صاحب هذا الابداع وهذه النقوش..

نعم، ان ادراج فهرس الكائنات جميعاً، ومفاتيح خزائن الرحمة كافة ومرايا الاسماء الحسنى كلها، في هذا الجسم الصغير للانسان، لمما يدل على الحكمة البليغة في الصنعة البديعة.. فهل من الممكن لمثل هذه الحكمة المهيمنة على مثل هذه الاجراءات والشؤون الربانية ان لا تحسن معاملة أولئك الذين استظلوا بظلها وانقادوا لها بالايمان، وان لا تثيبهم اثابة أبدية خالدة؟.

وهل تريد برهاناً على انجاز الاعمال بالعدل والميزان؟

ان منح كل شئ وجوداً بموازين حساسة، وبمقاييس خاصة، وإلباسَه صورة معينة، ووضعَه في موضع ملائم.. يبيّن بوضوح ان الامور تسير وفق عدالة وميزان مطلقين.

وكذا، اعطاء كل ذي حق حقه وفق استعداده ومواهبه، أي اعطاء كل ما يلزم، وما هو ضروري لوجوده، وتوفير جميع ما يحتاج الى بقائه في افضل وضع، يدلّ على أن يد عدالة مطلقة هي التي تُسيّر الامور.

وكذا، الاستجابة المستمرة والدائمة لما يُسأل بلسان الاستعداد او الحاجة الفطرية، أو بلسان الاضطرار، تُظهر ان عدالةً مطلقة، وحكمة مطلقة هما اللتان تُجريان عجلة الوجود.

فالآن، هل من الممكن أن تهمل هذه العدالة وهذه الحكمة تلك الحاجة العظمى، حاجة البقاء لأسمى مخلوق وهو الانسان؟ في حين انهما تستجيبان لأدنى حاجة لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن ان تردّا أهم ما يرجوه الانسان واعظم ما يتمناه، وألاّ تصونا حشمة الربوبية وتتخلفا عن الاجابة لحقوق العباد؟.

غير ان الانسان الذي يقضي حياة قصيرة في هذه الدنيا الفانية لا ينال ولن ينال حقيقة مثل هذه العدالة. وانما تؤخّر الى محكمة كبرى. حيث تقتضي العدالة الحقة أن يلاقي هذا الانسان الصغير ثوابَه وعقابه لا على اساس صغره، بل على اساس ضخامة جنايته، وعلى اساس أهمية ماهيته، وعلى اساس عظمة مهمته.. وحيث ان هذه الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن أن تكون محلاً لمثل هذه العدالة والحكمة بما يخص هذا الانسان - المخلوق لحياة ابدية - فلابد من جنة أبدية، ومن جهنم دائمة للعادل الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجلال.





الحقيقة الرابعة

باب الجود والجمال

وهو تجلي اسم ((الجواد والجميل))

أمن الممكن لجود وسخاء مطلقين، وثروة لا تنضب، وخزائن لا تنفد، وجمال سرمدي لا مثيل له، وكمال ابدي لا نقص فيه، ان لا يطلب دار سعادةٍ ومحل ضيافةٍ، يخلد فيه المحتاجون للجود، الشاكرون له، والمشتاقون الى الجمال، المعجبون به؟

ان تزيين وجه العالم بهذه المصنوعات الجميلة اللطيفة، وجعل الشمس سراجاً، والقمر نوراً، وسطح الارض مائدة للنعم، وملأها بألذ الأطعمة الشهية المتنوعة، وجعل الاشجار أواني وصحافاً تتجدد مراراً كل موسم.. كل ذلك يظهر سخاءً وجوداً لا حد لهما. فلابد ان يكون لمثل هذا الجود والسخاء المطلقين، ولمثل هذه الخزائن التي لا تنفد، ولمثل هذه الرحمة التي وسعت كل شئ، دارَ ضيافة دائمة، ومحل سعادة خالدة يحوي ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين وتستدعي قطعاً ان يخلد المتلذذون في تلك الدار، ويظلوا ملازمين لتلك السعادة ليبتعدوا عن الزوال والفراق، اذ كما ان زوال اللذة ألم فزوال الألم لذة كذلك، فمثل هذا السخاء يأبى الايذاء قطعاً.

أي ان الامر يقتضي وجود جنة أبدية، وخلود المحتاجين فيها؛ لأن الجود والسخاء المطلقين يتطلبان احساناً وانعاماً مطلقين، والاحسان والانعام غير المتناهيين يتطلبان تنعماً وامتناناً غير متناهيين، وهذا يقتضي خلود انعام مَن يستحق الاحسان اليه، كي يظهر شكره وامتنانه بتنعمه الدائم ازاء ذلك الانعام الدائم.. وإلا فاللذة اليسيرة - التي ينغّصها الزوال والفراق - في هذه الفترة الوجيزة لا يمكن أن تنسجم ومقتضى هذا الجود والسخاء.

ثم انظر الى معارض اقطار العالم التي هي مشهد من مشاهد الصنعة الإلهية، وتدبّر في ما تحمله النباتات والحيوانات على وجه الارض من اعلانات ربانية(1) وانصت الى الداعين الادلاء الى محاسن الربوبية وهم الانبياء عليهم السلام والاولياء الصالحون، كيف انهم يرشدون جميعاً الناس لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجلال بتشهيرهم صنعته البديعة ويلفتون انظارهم اليها.

اذن، فلصانع هذا العالم كمال فائق عظيم مثير للاعجاب، خفي مستتر، فهو يريد اظهاره بهذه المصنوعات البديعة، لأن الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الاعلان عنه على رؤوس اشهادٍ مقدّرين مستحسنين معجبين به. وان الكمال الدائم يقتضي ظهوراً دائماً، وهذا بدوره يستدعى دوام المستحسنين المعجبين، اذ المعجب الذي لا يدوم بقاؤه تسقط في نظره قيمة الكمال(2).

ثم ان هذه الموجودات العجيبة البديعة الدقيقة الرائعة المنتشرة في هذا الكون تدل بوضوح - كدلالة ضوء النهار على وجود الشمس - على محاسن الجمال المعنوي الذي لا مثيل له، وتريك كذلك لطائف الحسن الخفي الذي لا نظير له(3). وان تجلي ذلك الحُسن الباهر المنزّه، وذلك الجمال الزاهر المقدس يشير الى كنوز كثيرة خفية موجودة في الاسماء الحسنى، بل في كل اسم منها.

ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسنه في مرآة عاكسة ويشهد قِيَم حُسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق اليه، فانه يريد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب ايضاً بأنظار الآخرين. أي أن النظر الى جمال ذاته يستدعي أن يكون من جهتين:



الاولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الالوان.

والاخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين.

أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والإشهاد (الرؤية والاراءة) وهذا الشهود والإشهاد يستلزمان وجود المشاهدين المشتاقين والمستحسنين المعجبين.. ولما كان الجمال والحسن خالدَين سرمديين فانهما يقتضيان خلود المشتاقين وديمومتهم. لأن الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل. لذا فالمشاهد الذي يشعر بالزوال - وقضى على نفسه بعدم العودة الى الحياة - تتحول بمجرد تصوره الزوال محبته عداءً، واعجابه استخفافاً، واحترامه اهانةً، لأن الشخص الاناني مثلما يعادي مايجهله يعادي ما لا تصل اليه يده ايضاً، فيضمر عداءً وحقداً وانكاراً لذلك الجمال الذي ينبغي ان يقابَل بما يستحقه من محبة بلا نهاية وشوق بلا غاية واِعجاب بلا حدّ. ومن هذا يُفهم سرّ كون الكافر عدواً لله سبحانه وتعالى.

ولما كان ذلك الجود في العطاء غير المحدود، وذلك الحسن في الجمال الذي لا مثيل له، وذلك الكمال الذي لا نقص فيه.. يقتضي خلود الشاكرين، وبقاء المشتاقين المستحسنين، ونحن نشاهد رحلة كل شخص واختفاءه بسرعة في دار ضيافة الدنيا هذه، دون أن يستمتع باحسان ذلك السخاء اِلا نزراً يسيراً بما يفتح شهيته فقط، ودون أن يرى من نور ذلك الجمال والكمال اِلاّ لمحة خاطفة. اذن الرحلة منطلقة نحو متنزهات خالدة ومَشاهدَ أبدية.

الخلاصة: مثلما أن هذا العالم يدل بموجوداته دلالة قاطعة يقيناً على صانعه الكريم ذي الجلال، فصفاته المقدسة سبحانه واسماؤه الحسنى تدل كذلك على الدار الآخرة بلا ريب وتظهرها، بل تقتضيها.





الحقيقة الخامسة

باب الشفقة وعبودية محمدe

وهو تجلي اسم ((المجيب والرَّحيم))

أمن الممكن لرب ذي رحمة واسعة وشفقة غير متناهية يبصر أخفى حاجة لأدنى مخلوق، ويسعفه من حيث لا يحتسب برأفة غير متناهية ورحمة سابغة، ويسمع أخفت صوت لأخفى مخلوق فيغيثه، ويجيب كل داعٍ بلسان الحال والمقال، أمن الممكن الا يقضى هذا الرب المجيب الرحيم أهم حاجة لأعظم عباده(1) وأحب خلقه اليه، ولا يسعفه بما يرجوه منه؟

فحُسن تربية صغار الحيوانات وضعافها، واعاشتها بسهولة ولطف ظاهريين ترياننا ان مالك هذه الكائنات يسيّرها بربوبية لا حدّ لرحمتها. فهل يعقل لهذه الربوبية المتصفة بكمال الشفقة والرأفة الاّ تستجيب لأجمل دعاء لأفضل مخلوق؟..

وكما بينتُ هذه الحقيقة في ((الكلمة التاسعة عشرة)) أعيد بيانها هنا:

فيا صديقي الذي يسمعني مع نفسي! لقد ذكرنا في الحكاية: ان هناك اجتماعاً في جزيرة، وان مبعوثاً كريماً يرتجل خطبة هناك، فحقيقة ما أشارت اليه الحكاية هي ما يأتي:

تعال! لنتجرد من قيود الزمان، ولنذهب بأفكارنا الى عصر النبوة، وبخيالنا الى تلك الجزيرة العربية كي نحظى بزيارته e ، وهو يزاول وظيفته بكامل عبوديته. انظر! كيف انه سبب السعادة بما اتى به من رسالة وهداية، فانه e هو الداعي لايجاد تلك السعادة وخلق الجنة بدعائه وبعبوديته.

انظر الى هذا النبي الكريم إلامَ يدعو.. انه يدعو الى السعادة الابدية في صلاة كبرى شاملة، وفي عبادة رفيعة مسـتغرقة، حتى أن الجـزيرة العـربيـة، بل الارض برمّتها، كأنها تصلي مع صلاته، وتبتهل الى الله بابتهاله الجميل، ذلك لأن عبوديتهe تتضمن عبودية جميع أمته الذين اتبعوه، كما تتضمن - بسـر الموافـقة في الاصـول - سرّ العبودية لجميع الانبياء عليهم السـلام. فهو يؤم صلاة كبــرى - ايّما صلاة - ويتضرع بدعاء - ويا له من تضــرع رقيق - فــي خـلـق عظـيـم، كـأن الـذين تنوروا بنور الايمان - من لدن آدم عليه السلام الى الآن والى يوم القيامة - اقتدوا به، وأمّنوا على دعائه(1).

انظر! كيف يدعو الله حاجة عامة كحاجة البقاء والخلود!. هذه الدعوة التي لا يشترك فيها معه أهل الارض وحدهم، بل أهل السموات ايضاً، لا بل الموجودات كافة. فتقول بلسان الحال: ((آمين اللهم آمين استجب يا ربنا دعاءه، فنحن نتوسل بك ونتضرع اليك مثله)).

ثم انظر! انه يسأل تلك السعادة والخلود بكل رقة وحزن، وبكل حب وود، وبكل شوق والحاح، وبكل تضرع ورجاء، يُحزن الكون جميعاً ويبكيه فيُسهمه في الدعاء.

ثم انظر وتأمل! انه يدعو طالباً السعادة لقصد عظيم، ولغاية سامية.. يطلبها لينقذ الانسان والمخلوقات جميعاً من التردي الى هاوية أسفل سافلين وهو الفناء المطلق والضياع والعبث، ويرفعه الى أعلى عليين وهو الرفعة والبقاء وتقلّد الواجبات وتسلّم المسؤوليات، ليكون أهلاً لها ويرقى الى مرتبة مكاتيب صمدانية.

انظر! كيف انه يطلب الاستعانة مستغيثاً ببكاء، متضرعاً راجياً من الاعماق، متوسلاً بإلحاح.. حتى كأنه يُسمع الموجودات جميعاً، بل السموات، بل العرش، فيهزّهم وجداً وشوقاً الى دعائه ويجعلهم يرددون: آمين اللّهم آمين(2).

وانظر! انه يسأل السعادة والبقاء الابدي، ويرجوهما من قدير سميع كريم، ومن عليم بصير رحيم يرى ويسمع أخفى حاجة لأضعف مخلوق فيتداركه برحمته، ويستجيب له، حتى إن كان دعاءً بلسان الحال.

نعم، انه يستجيب له ببصيرة ورحمة ويغيثه بحكمة، مما ينقي أية شبهةٌ بأن تلك الرعاية الفائقة ليست الاّ من لدن سميع بصير، وان ذلك التدبير الدقيق ليس اِلاّ من عند كريم رحيم.

نعم، ان الذي يقود جميع بنى آدم على هذه الارض متوجهاً الى العرش الاعظم، رافعاً يديه، داعياً بدعاء شامل لحقيقة العبودية الأحمدية التي هي خلاصة عبودية البشرية.. تُرى ماذا يريد؟ ماذا يريد شرف الانسانية، وفخر الكائنات، وفريد الازمان والاكوان؟!. لننصت اليه.. انه يسأل السعادة الابدية لنفسه ولأمته، انه يسأل الخلود في دار البقاء، انه يسأل الجنة ونعيمها.. نعم، يسألها ويرجوها مع تلك الاسماء الإلهية المتجلية بجمالها في مرآة الموجودات.. انه يستشفع تلك الاسماء الحسنى كما ترى.

أرأيت ان لم يكن شئ من اسباب موجبة لا تعد ولا تحصى للآخرة ولا شئ من دلائل وجودها، أليس دعاء واحد من هذا النبي الكريم e سبباً كافياً لايجاد الجنة(1) التي هي سهلة على قدرة خالقنا الرحيم، كسهولة اعادة الحياة الى الارض في ايام الربيع؟.

نعم، ان الذي جعل سطح الارض في الربيع مثالاً للحشر، فاوجد فيه مائة نموذج من نماذجه بقدرته المطلقة، كيف يصعب عليه ايجاد الجنة؟.. اذن فكما كانت رسالته e سبباً لايجاد دار الامتحان هذه، وصارت بياناً وايضاحاً لسر ((لَوْلاَك لَوْلاَكَ لَمَا خَلَقْتُ الافْلاَكَ))(2) فان عبوديته كذلك اصبحت سبباً لخلق تلك الدار السعيدة الابدية.

فهل من الممكن يا ترى لانتظام العالم البديع الذي حيّر العقول والصنعة المتقنة وجمال الربوبية الشاملة في اطار رحمته الواسعة، ان يقبل قبحاً فظيعاً وظلماً شنيعاً وفوضى ضاربة اطنابها، بعدم استجابة ذلك الدعاء أي أن لا يراعي ولا يسمع ولا ينجز اكثر الرغبات اهمية، واشدها ضرورة في حين انه يراعي باهتمام بالغ ابسط الرغبات وأصغرها، ويسمع أخفت الاصوات وادقها ويقضي لكل ذي حاجة حاجته! كلا ثم كلا الف ألف مرة، ان مثل هذا الجمال يأبى التشوه ولن يكون قبيحاً(1).

فالرسول e اذن يفتح بعبوديته باب الآخرة مثلما فتح برسالته باب الدنيا.

عليه صلوات الرحمن ملء الدنيا ودار الجنان.

اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك، ذلك الحبيب الذي هو سيد الكونين، وفخر العالمين، وحياة الدارين، ووسيلة السعادتين، وذو الجناحين، ورسول الثقلين وعلى آله وصحبه اجمعين، وعلى اخوانه من النبيين والمرسلين. آمين.





الحقيقة السادسة

باب العظمة والسرمدية

وهو تجلي اسم ((الجليل والباقي))

أمن الممكن لرب جليل يدير الموجودات ويسخّرها من الشموس الى الاشجار والى الذرات والى ما هو اصغر منها، كأنها جنود مجندة، أن يقصر نشر سلطانه على مساكين فانين يقضون حياة مؤقتة في دار ضيافة الدنيا هذه ولا ينشئ مقراً سامياً سرمدياً ومدار ربوبية جليلة باقية له؟!

ان ما نشاهده في هذا الكون من الاجراءات الجليلة الضخمة امثال تبدل المواسم.. ومن التصرفات العظيمة امثال تسيير النجوم.. ومن التسخيرات المدهشة امثال جعل الارض مهاداً والشمس سراجاً.. ومن التحولات الواسعة امثال اِحياء الأرض وتزيينها بعد جفافها وموتها.. ليبيّن لنا بجلاء ان وراء الحجاب ربوبية جليلة عظيمة تحكم وتُهيمن بسلطانها الجليل. فمثل هذه السلطنة الربانية تستدعي رعايا يليقون بها، ومظاهر تناسبها. بينما ترى ان مَن لهم افضل المزايا وأجمعها من الرعايا والعباد قد اجتمعوا مؤقتاً منهوكين في مضيف الدنيا، والمضيف نفسه يملأ ويفرغ يومياً، والرعايا لا يلبثون فيه اِلاّ بمقدار أداء تجربة مهماتهم في ميدان الاختبار هذا. والميدان نفسه يتبدل كل ساعة. فالرعايا يقفون دقائق معدودة لرؤية ما في معارض سوق العالم من نماذج الآلاء الثمينة للخالق ذي الجلال، ومشاهدين - لأجل التجارة - بدائع صنعه سبحانه في هذا المعرض الهائل، ومن ثم يغيبون، والمعرض نفسه يتبدل ويتغير كل دقيقة!. فمَن يرحل فلا عودةََ له، والقابل راحل. فهذا الوضع يبين بوضوح وبشكل قاطع ان وراء هذا المضيف الفاني، وخلف هذا الميدان المتغير، وبعد هذا المعرض المتبدل، قصوراً دائمة تليق بالسلطنة السرمدية، ومساكن ابدية ذات جنان، وخزائن ملأى بالأصول الخالصة الراقية للنماذج التي نراها في الدنيا؛ لذا فالدأب والسعي هنا انما هو للتطلع الى ما هناك.. والاستخدام هنا لقبض الاجرة هناك. فلكلٍ حسب استعداده واجتهاده سعادة وافرة ان لم يفقدها.

نعم، انه محال ان تظل مثل هذه السلطنة السرمدية مقصورة على هؤلاء الفانين الاذلاء..

فانظر الى هذه الحقيقة من خلال منظار هذا المثال:

هب انك تسير في طريق، وتشاهد أن عليها (فندقاً فخماً) بناه ملك عظيم لضيوفه، وهو ينفق مبالغ طائلة لتزيينه وتجميله كي يُدخل البهجة في قلوب ضيوفه، ويعتبروا بما يرون. بيد أن اولئك الضيوف لا يتفرجون الا على أقل القليل من تلك التزيينات، ولا يذوقون الا أقل القليل من تلك النعم، حيث لا يلبثون الا قليلاً ومن ثم يغادرون الفندق دون ان يرتووا ويشبعوا. سوى ما يلتقطون من صور أشياء في الفندق بما يملكون من آلة تصــوير وكـذلك يفـعل عمال صاحب الفندق وخدامه حيث يلتقطون حركات هؤلاء النــزلاء وسكنــاتهم بكل دقة وأمــانة ويســجلونها. فهــا أنت ذا ترى ان الملك يهدّم يومياً اغلب تلك التزيينات النفيسة، مجدداً اِياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد. أفبعد هذا يبقى لديك شك في مَن بنى هذا الفـندق على قارعة هذه الطريق يملك قصوراً دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع. وان ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه الى ما عنده من اشياء، ولتنبيه رغباتهم وتحريكها لما أعدّ لهم من هدايا؟.

فان تأملت من خلال هذا المثال في أحوال فندق الدنيا هذه، وانعمت النظر فيها بوعي تام فستفهم الاسس التسعة الآتية:



الاساس الاول:

انك ستفهم ان هذه الدنيا - الشبيهة بذلك الفندق - ليست لذاتها. فمحال أن تتخذ لنفسها بنفسها هذه الصورة والهيئة. وانما هي دار ضيافة تملأ وتفرغ، ومنزل حلّ وترحال، أنشئت بحكمة لقافلة الموجودات والمخلوقات.



الأساس الثاني:

وستفهم ان ساكني هذا الفندق هم ضيوف مسافرون، وان ربهم الكريم يدعوهم الى دار السلام.



الاساس الثالث:

وستفهم ان التزيينات في هذه الدنيا ليست لأجل التلذذ والتمتع فحسب، اذ لو اذاقتك اللذة ساعة، اذاقتك الالم بفراقها ساعات وساعات، فهي تذيقك مثيرة شهيتك دون ان تشبعك، لقصر عمرها أو لقصر عمرك، اذ لا يكفي للشبع.

اذن فهذه الزينة الغالية الثمن والقصيرة العمر هي للعبرة(1)، وللشكر، وللحض على الوصول الى تناول اصولها الدائمة، ولغايات اخرى سامية.

الاساس الرابع:

وستفهم ان هذه الزينة في الدنيا(1) بمثابة صور ونماذج للنعم المدّخرة لدى الرحمة الإلهية في الجنة للمؤمنين.

الاساس الخامس:

وستفهم ان هذه المصنوعات الفانية ليست للفناء، ولم تخلق لتشاهَد حيناً ثم تذهب هباءً، وانما اجتمعت هنا، واخذت مكانها المطلوب لفترة قصيرة كي تُلتقط صورها، وتُفهم معانيها، وتُدوّن نتائجها، ولتُنسج لأهل الخلود مناظر أبدية دائمة ولتكون مداراً لغايات اخرى في عالم البقاء.

ويفهم من المثال الآتي، كيف ان هذه الاشياء لم تخلق للفناء بل للبقاء، بل ان فناءها الظاهري ليس اِلاّ اطلاقاً لسراحها بعدما انهت مهامّها، وكيف أن الشئ يفنى من جهة الا انه يبقى من جهات كثيرة:

تأمل في هذه الزهرة - وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية - انها تنظر الينا مبتسمة لنا لفترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء. فهي كالكلمة التي نتفوه بها، التي تودع آلافاً من مثيلاتها في الآذان وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدت وظيفتها، وهي افادة المعنى. فالزهرة ايضاً ترحل بعد أن تودع في ذاكرة كل من شاهدها صورتها الظاهرة، وبعد ان تودع في بذيراتها ماهيتها المعنوية، فكأن كل ذاكرة وكل بذرة، بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها، ومحل اِدامة بقائها.

فلئن كان المصنوع وهو في أدنى مراتب الحياة يعامل مثل هذه المعاملة للبقاء، فما بالك بالانسان الذي هو في أسمى طبقات الحياة، والذي يملك روحاً باقية، ألا يكون مرتبطاً بالبقاء والخلود؟ ولئن كانت صورة النبات المزهر المثمر، وقانون تركيبه – الشبيه جزئياً بالروح – باقية ومحفوظة في بُذيراتها بكل انتظام، في خضم التقلبات الكثيرة، أفلا يُفهم كم تكون روح الانسان باقية، وكم تكون مشدودة مع الخلود، علماً انها قانون أمري، وذات شعور نوراني، تملك ماهية راقية، وذات حياة، وذات خصائص جامعة شاملة، وقد اُلبست وجوداً خارجياً؟!



الاساس السادس:

وستفهم ان الانسان لم يترك حبله على غاربه، ولم يترك طليقاً ليرتع اينما يريد، بل تُسجّل جميع اعماله وتُلتقط صورها، وتدوّن جميع أفعاله ليحاسب عليها.



الاساس السابع:

وستفهم أن الموت والاندثار الذي يصيب في الخريف مخلوقات الربيع والصيف الجميلة، ليس فناءً نهائياً، واعداماً أبدياً، وانما هو اعفاء من وظائفها بعد اكمالها وإيفائها، وتسريح منها(1)، وهو افساح مجالٍ وتخليةُ مكانٍ لما سيأتي في الربيع الجديد من مخلوقات جديدة. فهو تهيؤ وتهيأة لما سيحل من الموجودات المأمورة الجديدة.

وهو تنبيه رباني لذوي المشاعر الذين أنسَتهم الغفلة مهامهم، ومنعهم السُكر عن الشكر.



الاساس الثامن:

وستفهم ان الصانع السرمدي لهذا العالم الفاني له عالم غير هذا، وهو عالم باقٍ خالد، ويشوّق عباده اليه، ويسوقهم اليه.



الاساس التاسع:

وستفهم ان الرحمن الرحيم جل جلاله سوف يكرم في ذلك العالم الفسيح عباده المخلصين بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. آمنا.



الحقيقة السابعة

باب الحفظ والحفيظية

وهو تجلي اسم ((الحفيظ والرَّقيب))

أمن الممكن لحفيظ ورقيب يحفظ بانتظام وميزان ما في السماء والارض، وما في البر والبحر، من رطب ويابس فلا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً الا احصاها، ان لا يحافظ ولا يراقب اعمال الانسان الذي يملك فطرة سامية، ويشغل رتبة الخلافة في الارض، ويحمل مهمة الامانة الكبرى؟. فهل يمكن ان لا يحافظ على افعاله التي تمس الربوبية؟ ولا يفرزها بالمحاسبة؟ ولا يزنها بميزان العدالة؟ ولا يجازي فاعلها بما

نعم، ان الذي يدير امر هذا الكون هو الذي يحافظ على كل شئ فيه ضمن نظام وميزان. والنظام والميزان هما مظهران من مظاهر العلم والحكمة مع الارادة والقدرة، لاننا نُشاهد أن أيّ مصنوع كان لم يُخلق ولا يُخلق اِلاّ في غاية الانتظام والميزان، وان الصور التي يغيّرها طوال حياته في انتظام دقيق كما أن مجموعها ايضاً ضمن نظام متقن محكم. ونرى ايضاً ان الحفيظ ذا الجلال يحفظ صور كل شئ حالما يختم عمره مع انتهاء وظيفته ويرحل من عالم الشهادة، يحفظها سبحانه في الاذهان التي هي أشبه ما تكون بالالواح المحفوظة(1) وفي ما تشبه بمرايا مثالية، فيكتب معظم تاريخ حياته في بذوره وينقشه نقشاً في ثماره، فيديم حياته ويحفظها في مرايا ظاهرة وباطنة..فذاكرة البشر، وثمر الشجر، ونواة الثمر، وبذر الزهر.. كل ذلك يبين عظمة احاطة الحفيظية.

ألا ترى كيف يُحافَظ على كل شئ مزهر ومثمر في الربيع الشاسع العظيم، وكيف يُحافظ على جميع صحائف اعماله الخاصة به، وعلى جميع قوانين تركيبه ونماذج صوره، كتابةً في عدد محدود من البُذيرات. حتى اذا ما أقبل الربيع تُنشر تلك الصحائف وفق حساب دقيق يناسبها فيخرج الى الوجود ربيعاً هائلاً في غاية الانتظام والحكمة؟ ألا يبين هذا مدى نفوذ الحفظ والرقابة، ومدى قوة احاطتهما الشاملة؟ فلئن كان الحفظ الى هذا الحد من الاتقان والاحاطة فيما لا أهمية له وفي أشياء مؤقتة عادية، فهل يُعقل عدم الاحتفاظ بأعمال البشر، التي لها ثمار مهمة في عالم الغيب وعالم الآخرة وعالم الأرواح، ولدى الربوبية المطلقة؟! فهل يمكن اهمالها وعدم تدوينها؟ حاش لله...

نعم، يفهم من تجلي هذه الحفيظية، وعلى هذه الصورة الواضحة، ان لمالك هذه الموجودات عناية بالغة لتسجيل كل شئ وحفظه، وضبطِ كل ما يجري في ملكه، وله منتهى الرعاية في حاكميته، ومنتهى العناية في سلطنة ربوبيته، بحيث انه يكتب ويستكتب أدنى حادثة وأهون عمل محتفظاً بصور كل ما يجري في ملكه في محافظَ كثيرة. فهذه المحافظة الواسعة الدقيقة تدل على انه سيُفتح بلاشك سجلٌ لمحاسبة الاعمال، ولاسيما لهذا المخلوق المكرّم والمعزّز والمفطور على مزايا عظيمة، ألا وهو الانسان. فلابدّ ان تدخل اعماله التي هي عظيمة، وافعاله التي هي مهمة ضمن ميزان حساس ومحاسبة دقيقة، ولابد ان تُنشر صحائف اعماله.

فيا ترى هل يقبل عقل بأن يُترك هذا الانسان الذي أصبح مكرّماً بالخلافة والامانة، والذي ارتقى الى مرتبة القائد والشاهد على المخلوقات، بتدخله في شؤون عبادة أغلب المخلوقات وتسبيحاته باعلانه الوحدانية في ميادين المخلوقات الكثيرة وشهوده شؤون الربوبية الكلية.. فهل يمكن ان يُترك هذا الانسان، يذهب الى القبر لينام هادئاً دون أن ينبّه ليُسأل عن كل صغيرة وكبيرة من اعماله، ودون ان يُساق الى المحشر ليحاكم في المحكمة الكبرى؟ كلاّ ثم كلاّ!.

وكيف يمكن ان يذهب هذا الانسان الى العدم، وكيف يمكن ان يتوارى في التراب فيفلت من يد القدير ذي الجلال الذي تشهد جميع الوقائع التي هي معجزات قدرته في الازمنة الغابرة على قدرته العظيمة لما سيحدث من الممكنات في الازمنة(1) الآتية. تلك القدرة التي تحدث الشتاء والربيع الشبيهين بالقيامة والحشر؟ ولما كان الانسان لا يحاسَب في هذه الدنيا حساباً يستحقه، فلابدّ انه سيذهب يوماً الى محكمة كبرى وسعادة عظمى.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس