عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حباب

المثنوي العربي النوري - ص: 185
ثم مع ذلك ان الاستبعاد والاستغراب الموهومَين في الاسناد الاول، ينقلبان في الاسناد الثاني الى محالات متسلسلة.
من بعض المحالات: فرض صفات الواجب في كل ذرة؛ اذ كمال الصنعة ونقوشها واتقانها تقتضي علماً محيطاً، وبصراً مطلقاً، وقدرة تامةً وارادةً شاملةً..
ومنها فرض شركاء غير متناهية في الالوهية والوجوب اللذين لايقبلان الشركة اصلاً؛ إذ لو لم تُسند الاشياء الى الواحد الواجب، للزم ان يكون لكل واحدٍ وفي ضمنه واحد من الآلهة..
ومنها فرض كل ذرة حاكماً على الكل، ومحكوماً للكل ولكلٍ، كالاحجار في البناء المعقد لو انتفى الباني، لزِمَ ان يكون كل حجر كالباني عالماً مهندساً بانياً؛ اذ النظام والانتظام والاتقان والحِكمُ هكذا تقتضي، لامحل للتصادف فيها..
ومنها فرض الشعور المحيط والعلم التام والبصر المطلق في كل ذرة وسبب؛ اذ الموازنة والتناظر والتساند والتعاون يقتضي شعوراً محيطاً وبصراً مطلقاً وهكذا، من الصفات المحيطة. فلو اسندت الاشياء الى انفسها لزم تصوّر هذه الصفات في انفسها، ولو اسندت الى الاسباب لزم تصور هذه الصفات في اسبابها، بل في كل ذرة من ذراتها.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والاباطيل التي تمجها الاوهام.
واما اذا اسندت الى صاحبها الحقيقي وهو صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لايلزم الاّ أن تصير الذرات ومركباتها - كقطرات المطر الحاملة لتماثيل الشمس بالانعكاس - مظاهر لتجليات لمعات القدرة النورانية المطلقة المحيطة الازلية الغير المتناهية، المستندة بل المتضمنة للعلم والارادة الازليين الغير المتناهيين. وهي القدرة التي شهدت عليها معجزات المخلوقات، التي لمعتها الفذة اجلّ من شمس الامكان والكثرة بسر التجزء والتوزيع والانقسام في جانب الامكان والكثرة، دون جانب الوجود والوحدة. وان ذرةَ تلك القدرة اعظم من جبال الاسباب، بسر ان جزء تجلي النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كليٌّ، ولو في جانب الامكان، حتى ترى


المثنوي العربي النوري - ص: 186
الشمس بتمامها في ذرة زجاجية. فكيف نور الانوار المتظاهر من جانب الواجب الوجود الواحد الاحد؟!
فالفرق بين الاسناد الاول والاسناد الثاني، كالفرق بين تجلي الشمس بخاصيتها في قطرة بل في ذرة بالتجلي. وبين دعوى وجود شمس بالأصالة في تلك القطرة؛ ومحالية هذه الدعوى اظهر من ان تُخفى.. ومع كل ذلك لا كلفة ولامعالجة ولاتَعَمّلَ في عمل تلك القدرة المجهولة الازلية، بل تتساوى بالنسبة اليها الذراتُ والنجوم والجزء والكل والفرد والنوع والقليل والكثير والصغير والكبير وانت والعالم والنواة والشجرة. والسر في انه لاكلفة بالنسبة اليها؛ ان تلك القدرة لازمة ذاتية ضرورية ناشئة للذات الازلي، فلذاتيتها محالٌ تداخل ضدّها في مابينها. فاذ لاعجزَ فلا مراتب فيها، فاذ لامراتب فيها تتساوى بالنسبة اليها اصغرُ الاشياء واعظمها.
فان شئت تقريب هذه الحقيقة الى الفهم بتمثيلات في دائرة الامكان والكثرة، فاستمع مثلا: (ولله المثل الاعلى):
يتساوى في اخذ تجلي الشمس في تمثالها الذراتُ الزجاجية، والبحور الارضية، والسيارات السماوية بسر "الشفافية".. وان المصباح المركزي للمرايا المحيطة يتساوى بالنسبة الى المصباح زجاجةٌ من زجاجات اصغر دائرة، ومجموع الزجاجات في اكبر الدائرة، بسر "المقابلة".. وان النور والنوراني تتساوى بالنسبة الى الاستضاءة والاستفاضة، الواحدُ والالوفُ لاتزاحم فيه بسر "النورانية"، فلنوع نورانيةٍ في لطافة الكلمة يتساوى في الاستماع الواحدُ والالوف.. ومثلاً: ان الميزان الحساس بدرجةٍ يتحسس بذرة، لو كان في كفتيه شمسان او جوزتان، ما تفاوت بين رفع كفةٍ الى الثريا وكفة الى الثرى، بوضع جوزة اخرى في كفة بسر "الموازنة".. ومثلاً: ان اعظم السفن لايتعسر سوقها وتحريكها على صبي كما لايتعسر عليه تحريك سفينته التي هي ملعبته في كفه، او تحريك ساعته بسر "الانتظام".. ومثلاً: ان (القماندان) 1 لافرق في أمره بـ(آرش) 2 بين نفر وفيلق، يتساوى في التحريك والتحرك النفرُ، وكلُ العسكر بسر التزام "الامتثال".. ومثلاً: ان الماهية المجردة في الانواع والكليات،
_____________________
1 القائد العسكري.
2 ايعاز عسكري يعني تقدّم للهجوم.




المثنوي العربي النوري - ص: 187
يتساوى بالنسبة اليها فردٌ من اصغر الافراد واكبرُ الافراد وكلُ الافراد الغير المحدودة بسر "التجرد".. وهكذا من الامثلة الدالة على انه يمكن عدم التفاوت بين القليل والكثير والصغير والكبير بالنسبة الى شئ. 1
فبسر "شفافية" الملكوتية في كل شئ، وبسر "مقابلة" وجه كل شئ للقدرة، وبسر "نورانية" تلك القدرة، وبسر "الموازنة" الامكانية، وبسرّ "الانتظام" بقوانين القضاء والقدر، وبسر "امتثال" كل ذرة من ذرات الكائنات بكمال الشوق واللذة للاوامر التكوينية المندمجة في امر "كن"، وبسرّ "تجرد" الواجب الوجود عن الماديات. فبهذه الاسرار الستة تتساوى بالنسبة الى قدرته احياء البعوضة واحياء الارض وخلق النحلة وخلق السماوات والارض وايجاد الذرة وايجاد الشمس. بل ان التساوي وعدم التفاوت ثابت بالحدس القطعي والمشاهدة؛ اذ تلك القدرة المجهولة بماهيتها، والمعلومة بمعجزاتها تفعل بمثل غصن دقيق - كخيط رقيق - امثال العناقيد التمرية والعنبية وغيرهما، تلك الخوارق الحيوية التي لو أحيلت صنعتها على الاسباب لاحتاجت الى مالايحد من التكلفات، وتتجلى تلك القدرة بجلوات الوجود في سُمّ الخياط على الشفافات والعيون الناظرة الى الخيال بالتماثيل البرزخية، لو احيلت على الاسباب لامتنعت او لاحتاجت الى مالايحد من المعالجات.
الحاصل: ان مايُرى من ايجاد القدرة للاشياء الحيوية والوجودية والنورية يدل على امور ثلاثة:
الاول: ان الوسائط والاسباب الظاهرية حُجُبٌ ضعيفة وضِعَت لمحافظة عزة القدرة في المباشرة الظاهرية في وجه المُلك الكثيف الخسيس فقط..
والثاني: ان الحياة والوجود والنور - لشفافية وجه مُلكها كملكوتيتها - ما وضعت الحُجُب الكثيفة على يد القدرة، بل ترقرقت الوسائط فيها..
والثالث: لاتكلّف ولاتَعمّل ولامعالجة في تأثير تلك القدرة؛ اذ من يصنع بنواة تينةٍ، شجرة تينة بعظمتها، وبخيط دقيق عنقوداً من حبات العنب، وكل حبة فيها ما فيها؛ لايتعسر عليه شئ.. ولاريب في الحقيقة ان ظهور صاحب تلك القدرة الازلية

_____________________
1 ) في الكلمة العاشرة والتاسعة والعشرين توضيح وافٍ لهذه الاسرار الستة.



المثنوي العربي النوري - ص: 188
اشد بمراتب من ظهور الكائنات. اذ كل مصنوع دلالته على نفسه بوجوه قليلة مرئية، وعلى صانعه بوجوه كثيرة مشهودة وعقلية وغيرهما. واي مصنوع كان لو أحيل على الاسباب، واجتمعت عليه الاسباب الارضية والسماوية لم يَأتُوا بمِثلِهِ وَلَو كانَ بعضُهَمْ لبَعضٍ ظهيراً. اذ حبة نواة في حبة تينة ليست باقل جزالة من شجرة تينة، وليس الانسان اقل جزالة وادنى صنعة من الارض. فالقدرة التي اوجدت النواة والانسان لايتعسر عليها ابراز الشجر والعالم.
فيا من ضلّ بالاستبعاد والاستغراب والحيرة والاستنكاف في جانب الحق، فقد سمعت بهذه التحقيقات ان الاستبعاد بلا نهاية، والاستغراب بلا غاية، والحيرة بلا حد، وتحقق الكلفة بما لايحصى مع محالات عجيبة، فقد سمعتَها موجودة في جانب باطلك الذي ابتليت به من نسبة الاشياء بالاصالة الى انفسها واسبابها. فاضطرابات الارواح والعقول الناشئة من هذه الضلالة؛ تلجئ القلوب الى الفرار بالتسليم الى الواجب الوجود الواحد الاحد الذي لايحصل ايضاح شئ من الاشياء الاّ باضافته الى قدرته، ولايحصل فتح شئ من المغلقات الاّ باتصاله بارادته، ولايطمئنُ قلبٌ ولايستقر يقينٌ في مسألة من المسائل الاّ بربطها بذكره واسمه جل جلاله..
اعلم! ان ميدان اشتغال الانسان، ومساير جولان الهمة، اوسع من ان يُحاط به. فقد يجول في ذرة، ويسبَح في قطرة، وينحبس في نقطة، مع انه قديضع العالَم نصب عينيه، وقد يُدخل الكائنات في عقله حتى يتطاول الى رؤية الواجب الوجود ومشاهدته. فقد يكون الانسانُ اصغر من ذرة، وقد يصير اكبرَ من السموات، فيدخُلُ في القطرة مع انه يدخل فيه الفِطرةُ بانواعها واركانها..
اعلم! ان كل ما انعم الله به على الانسان، له شرائط ومفاتيح بعضها آفاقي وبعضها انفسي. مثلاً: ان الله انعم بالضياء والهواء والغذاء والصدى، وعلّق الاستفادة منها على فتح العين والانف والفم والسمع وهكذا.. مع ان هذه الفتوح الأنفسية من كسبنا، فلا يتحصل الاّ بخلقه وايجاده تعالى. فلا تتخيّلن ايها الغافل هذه النعم سدىً مهملة تسئم 1 فيها كيف تشاء بلا منّة ولا حساب. كلا!.. بل
_____________________
1 الكلمة مأخوذة من سامت الماشية ، اي: خرجت الى المرعى ، وليست من سئم ، بمعنى ملّ وضجر.



المثنوي العربي النوري - ص: 189
تُساق اليك بقصدِ مُنعمها فتلتقم باختيارك ثم تنتشر على مظان حاجاتك بارادة مُحسنها عمّ نواله..
اعلم! ان اواخر الاشياء ونهاياتها ليست باقلّ انتظاماً واتقاناً من اوائلها؛ ولا ظواهرها ولاصورها باحسن صنعة وحكمة من بواطنها. فلا تحسبنَّ اواخر الاشياء وبواطنها سدىً مهملةً تلعب بها يد التصادف. ألا ترى الثمرة مع الزهرة، اظهر حكمةً من الجرثوم النابت من النواة. فالصانع جل جلاله هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
اعلم! ان اعجاز القرآن، حَفظَ القرآن عن التحريف، فلا يتيسر لكلام مفسِّر او مؤلّفٍ او مترجم او محرّف وغيرهم، ان يلتبس بالآيات او يلبسَ زيّها كما التبست واختلطت سائر الكتب المنزلة حتى صارت محرفة..
اعلم! ان تكرار آية:
(فبأيّ الآءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في مقاطع الآيات التنزيلية المشيرة الى الآيات التكوينية المتنوعة المختلفة في سورة "الرحمن" يدل على ان اكثر عصيان الجن والانس وأشدَّ طغيانهما وأعظم كفرانهما يتولد من: عدم رؤية الانعام في النعمة.. والغفلة عن المنعم.. وإسناد النعم الى الاسباب والتصادفات.. حتى يصيرا مكذّبين بالآء الله. فلابد للمؤمن من ان يبسمل بَدء كلّ نعمةٍ قاصداً بها أنها منه، أنا آخذها بأسمه وبحسابه، لابحساب الوسائط، فله الشكر والمنة.
اعلم! ايها المتوسوس المتخطر بالقاآت الشيطان، واخطار مرض القلب والخيال، وبامرار خسة النفس ولؤمها مزخرفاتٍ 1 شتّى على عين عقلك عند توجهك الى الحقائق الالهية، حتى قد تمر على عينيك سحائبُ مظلمة ممطرة رذائل وفواحش، وشتوماً تقشعر منها عند نظرك الى شمس الحقائق، كأنك تمدّ يد التنزيه والتقديس، وترسل عينك للتسبيح والتمجيد؛ والحال ان يدك تتنجس بارجاس خيالك، ويستقذر نظرك ممّا يمر عليه من سفاسف خبث نفسك، ثم تنعكس تلك المستقذرات على المقدسات في نظرك، فتتألم فتتأمل في المستقذرات.لاتيأس ولاتتأثر ولاتلقِ نفسك في الغفلة للفرار من هذه الحال، والنجاة من هذا اللوم الأليم؛ اذ لاضررَ الاّ ضررُ توهّمِ الضرر،فتتكرر فتتضرر.ألا ترى انك اذا نظرت الى الشمس وضيائها، والسماء ونجومها والجنة وازاهيرها في مسامات ثوب مستقذر بمزخرفات شتى،
_____________________
1 مزخرفات: المقصود بها المستقذرات.



المثنوي العربي النوري - ص: 190
لايمكن ان تسري تلك اليها وتتكدر هي بها بل تنفعل انت منها. فلا تهتم بها لتذهب؛ اذ هذه الوهميات والهوائيات كالهوام والزنابير؛ إن دافعتَهم قاتلوك، وإن تركتهم فارقوك..
اعلم! ايها المتفلسف المرجِّح للعقل على النقل، فتؤِّل النقل بل تحرِّف؛ اذ لم يسعه عقلُك المتفسخ بالغرور والتغلغل في الفلسفيات! انني كنتُ في حينٍ كما كنتَ، ثم شاهدتُ قصراً شاهقاً شارقاً اتصل سطحهُ بسقف السماء، قد أرسلت متدلية من شبابيكها العالية زنابيل 1 متفاوتة، حبالها في المبدأ والمنتهى. فبعضها قريب من الارض فيقذف الانسان الموفّق نفسه في ذلك الزنبيل فيرتفع الى اعلى المنازل، وبعضها اخفض مبدأ وارفع منتهى. وهكذا.. ثم رايت بعض الناس الخاسرين المغرورين لايبالون بتلك الزنابيل، فيتشبثون للصعود بجمع الاحجار والاشياء ويضعونها تحت ارجلهم، فيتصاعدون قليلاً ثم يتساقطون، وأنّى لهم الصعود!.. وشاهدت بعض المعتمدين على انفسهم المتفرعنة، يدقون مسامير في جدار القصر فيضعون ارجلهم عليها متصاعدين فيخرّون فتندق اعناقهم وهكذا.. ورأيت ان ما جُهزوا به من مكاسبهم والآتهم انما اعطوها ليستعملوها على قدر الاستعداد والتوفيق في الصعود الى الزنبيل، لا الى المنازل. فعقلكَ عقالُكَ، وبالنقل نقلتُك. مَن توكّل على الله فهو حسبه..
اعلم! يا من تحير في سبب غلبة الفجار على الابرار، وتفوّق الطالحين على الصالحين في الحياة الدنيوية. اني قد شاهدت في واقعةٍ قصوراً، في كل قصر سرادقات متداخلة متصاعدة، سكان طبقاتها متفاوتون في اللطافة والعلوية والنورانية، فمن في المركز العالي كالسلطان، وتحته منازل فيها سكان متفاوتون في القيمة والنورانية، وهكذا الى الباب. ومن عند الباب خادم مظلم كثيف، وقدام الباب كلب متملق. ثم رأيت بعض القصور تلألأت ساحة بابه، فتأملت فيها فرأيت ملك القصر يلعب مع الكلب قدّام الباب، والمخَدّرات 2 يداعبن مكشوفات رؤوسهن مع الصبيان وقد تعطلت الوظائف النزيهة في الطبقات، وتشعشعت وظائف الكلب والصبيان وسَفَلة الخدام، فتفتق القصر عن مكنوناته متفسقاً، مشرقاً
_____________________
1 ان ايضاح هذه المسألة قد ذكر في بيان الطرق الثلاثة في آخر »الفاتحة« في رسالة "أنا " [الكلمة الثلاثون] وفي [اللوامع] في سياحة خيالية ختام "الكلمات". والزنابيل المتدلية اشارة الى الحقائق القرآنية التي هي الصراط المستقيم.. (المؤلف).
2 اي النساء .




المثنوي العربي النوري - ص: 191
مقتدراً قوياً ظاهر الباب، مظلماً معطلاً ذليلاً في الداخل. وفسوقه كفتوق فلقتي الرمان مثلا عن حباته. فعلمت ان تلك القصور هي الاناسي، حتى رأيت كل انسان قصراً، حتى رأيت نفسي العاصية ايضاً قصراً.. وسقوط اهل القصور على مراتب مختلفة نزولاً ادنى فأدنى. فشاهدت ان مايزعم اهل المدنية: ترقيا ما هو الاّ سقوط، واقتداراً ما هو الا ابتذال، وانتباهاً ما هو الاّ انغماس في نوم الغفلة، و(نزاكة) 1 ماهي الاّ رياء نفاقي، و(ذكاوة) 2 ماهي الاّ دسيسة شيطانية، وانسانية ماهي الاّ قلب الانسانية حيوانيةً. لكن يلوح على هذا الشخص الساقط العاصي لوائح اللطافة والجاذبية لاختلاط لطائفه النورانية بنفسه الظلمانية؛ خلافاً للمتدين المطيع الذي عند الباب نفسهُ المتكدرة فقط. الاّ انه قد يتنازل لطائف الصالح ايضاً، لا للهوسات السفلية، بل لإرشاد الناس الخارجين من الحدود وامدادهم بارجاعهم الى ماهم خلقوا لأجله، ان الله سبحانه، اذا احب عبداً لايحبب اليه محاسن الدنيا بل يُكرهها اليه بالمصائب.
ايواه! واأسفا!. قد اظهرت هذه المدنية السفيهة خوارق جلابة وملاهي جذابة، يتساقط اليها سكان قصور الانسان ومخدراتها، كتساقط الفراش على النور المشرق المنقلب الى النار المحرقة..
اعلم! ايها السعيد الشقي! ماهذا الغرور والغفلة والاستغناء؟ ألا ترى ان ليس لك من الاختيار الاّ شعرة، وليس من الاقتدار الاّ ذرة، وليس من هذه الحياة الاّ شعلة تنطفئ، وليس من العمر الاّ قليل مثل دقيقة تنقضي، وليس من الشعور الاّ لمعة تزول، وليس من الزمان الا آن يسيل، وليس من المكان الا مقدار القبر!.. ولك من العجز ما لايُحدّ، ومن الاحتياج مالايتناهي، ومن الفقر ما لايُحصى، ومن الآمال ما لاغاية لها، وهكذا.. فمن كان بهذه الحالة من العجز، وفي هذه الدرجة من الحاجة، هل يتوكل على ما في يده ويعتمد على نفسه.. او يتوكل على الله الرحمن الرحيم الذي من ظروف خزائن رحمته وصناديق نعمته: هذه الشموس وهؤلاء الاشجار المملوءة من الانوار والاثمار، ومن موازيب حوض فيضه ومسيلات رحمته: الماء والضياء.
_____________________
1 اللطف والرأفة .
2 الذكاء والفطنة.




المثنوي العربي النوري - ص: 192
اعلم! يامن يستعظم النتيجة ويستضعف دليلها! انه ما من دليل يشهد على حقيقةٍ من الحقائق الايمانية، الاّ ويزكيّه ويؤيّده ويقوّيه ويمدّه كلُّ ما قام على صدق شئ ما من الاسلامية. فكأن كلَّ مالايعد من الشواهد والشهداء والبراهين والامارات، كل منها يضعُ امضاءه على سند كلٍ من اخواتها، فيختم كلٌّ منها خاتمَ تصديقه على منشور كلِّ واحدٍ بسرّ مامرّ - في بداية هذه الرسالة - خلافاً للنافي؛ اذ للمنافاةِ بين النافي والمثبتِ يُنفى منَ النَّافي مايُثبِتُ للمُثبتِ. فالفُ نافٍ كفردٍ..
اعلم! انه قد تصير شدة محبة الشئ سبباً لانكاره، وكذا شدة الخوف، وكذا غاية العظمة، وكذا عدم احاطة العقل..
اعلم! اني قد تيقنتُ كأني شاهدتُ بحدس قطعي: ان جهنم مندمجةٌ بالقوة 1 في بذر الكفر كاندماج شجرة الحنظلة في نواتها.. وان الجنة مندمجة في حبة الايمان كاندراج شجرة النخلة في نواتها. فكما لاغرابة في استحالة النواة وانقلابها الى شجرة الحنظلة أو شجرة النخلة، كذلك لا استبعاد في تحول معنى الضلالة متجسماً جهنماً 2 تعذِّب، ولافي تمثل انوار الهداية جنةً تُستَعذب. وفي [اللوامع] 3 نبذة من هذه الشهود في هذا العالم ايضاً..
اعلم! كما ان الحبة من بذور الحبوبات ونوى الثمرات اذا ثقبت في قلبها، لاتتكبر بالتنبت. كذلك حبة "انا" اذا ثُقبت بشعاع ذكر: الله.. الله.. لاتتعاظم تلك الانانية متفرعةً بالانتعاش ومتفرعنةً بالغفلة، ومستحصنةً ومستندةً بآثار النوع، ومبارزةً بالعصيان لجبّار السموات والارض. والاولياء النقشبنديون موفَّقون لفتح حبة القلب وكشف طريقٍ قصير بثقب جبل (انا) وكسر رأس النفس بمثقاب الذكر الخفي. كما ان بالذكر الجهري تُخرّب طاغوت الطبيعة أو تمزَّق..
اعلم! أن أبعد واوسع وأرق دوائر الكثرة وطبقاتها يتلألأ عليها ايضاً اثرُ الحكمة والاتقان والاهتمام. فان شئتَ فانظر الى نهاية ما انبسط وانتشر اليه التكثر من جلد الانسان وصورته، لترى كيف يحشّي قلم القدرة صحيفة جبهته ووجهه وكفيه

_____________________
1 المقصود بالقوة : بالاستعداد والقابلية الكامنة في الشئ. اما بالفعل فيعني: بالمشاهدة والماثل امام العين.
2 لا تنصرف جهنم الاّ إن نكرّت فتنصرف.
3 اللوامع - كل الالام في الضلالة وكل اللذائذ في الايمان ص890 من "الكلمات".



المثنوي العربي النوري - ص: 193
بخطوط ونقوش وآلات دالات على معانى في روح الانسان، وعلى طائره المعلق في عنقه المشير الى القَدر المكتوب في فطرته، حتى لم يترك هذه التحشيةُ منفذاً لدخول التصادف الاعمى والاتفاقية العوراء..
اعلم! يامن ابتلي بحب هذه الحياة حتى حسبتَ ان العلة الغائية في الحياة وبقائها، وان كل ما اودعته القدرة الازلية في جوهر الانسانية وذوي الحياة من الجهازات العجيبة والتجهيزات الخارقة، انما اعطاها الفاطر الحكيم لحفظ هذه الحياة السريعة الزوال، ولاجل البقاء. كلا ثم كلا!. اذ لو كان بقاء الحياة هو المقصود من كتاب الحياة، لصار اظهر وابهرُ وانورُ دلائل الحكمة والعناية والانتظام وعدم العبثية باجماع شهادات نظامات الكائنات؛ اعجَبَ واغربَ وانسَب مثال العبثية والاسراف، وعدم الانتظام وعدم الحكمة. كمثل شجرٍ - كجبل - ليس لها الاّ ثمرة فردة كخردلة. بل يرجع الى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعة الى المحيي جل جلاله بالمظهرية لتجليات اسمائه، وباظهار الوان وانواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الاخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..
اذ كما ان الشخص الموظف لأن يجس ويضع اصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لايرجع اليه من فوائد السفينة الا بمقدار علاقته وخدمته، اي من الالوف واحداً.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن ان يستحق من الالوف واحداً، لكن لايستحق بالذات هنا من ملايين ملايين واحداً ايضاً..
اعلم! يا قلبي ان لذائذ الدنيا وزينتها بدون معرفة خالقنا ومالكنا ومولانا ولو كانت جنة، فهي جهنم. هكذا ذقت وشاهدت. حتى في نعمة الشفقة كما في "قطرة" ومعرفته تُغني عن كل ما في الدنيا حتى عن الجنة ايضاً..
اعلم! يا قلبي: إن كل مايجري في هذه الدنيا له وجهان: وجه الى الدنيا والنفس والهوى، ووجه الى الآخرة. فاما الوجه الدنيوي فاعظم الامور واثقلها واثبتها هو في نفس الامر بدرجة من الصغر والخفة والزوال، بحيث لايساوي ولايوازي ولايليق لان يُشوَّش له القلب (بالمرق) والتضجر، والتألم وشدة التأمل..


المثنوي العربي النوري - ص: 194
اعلم! ياقلبي هل ترى احمق وابله واجهل ممن يرى تمثال الشمس مثلاً في ذرة شفافة، او تجليها في صبغة زهرة؛ ثم يطلب في الشُميسة المرئية في الذرة ومن لون الزهرة وصبغتها، كلَّ لوازمات السراج الوهاج في سقف العالم، حتى جذبها للسيارات ومركزيتها للعالم. ثم اذا زال بعارضٍ مارآه في هذه الذرة والزهرة شرع - بسبب قصر النظر وانحصاره - ينكر وجود الشمس في وسط النهار، مع وجود شهادات سائر الذرات وكل (الشبنمات) 1 والرشاشات والقطرات والحبابات والحياض والبحور والسيارات في ضحوة النهار الصحو.
ثم ان ذلك الاجهل يلتبس عليه "الوجود الظلي بالتجلي" بمقدار لياقة قابلية الشئ المرسمة بالقَدَر "بالوجود بالاصالة". فاذا رأى الشمس في ذرة شفافة يقول: اين عظمة الشمس، واين حرارتها الخارقة، وكيف وكيف؟. الى آخر بلاهاته!..
وقد يريد ان يقتبس من نارها او يحسها بيده او يؤثر في ذاتها تأثيراً بوجه ما، ولايتفطن ان قربها منه بالتأثير فيه، لايستلزم قربه منها حتى تتأثر الشمس من فعله. ثم انه يرى في صغار الاشياء وخسائسها اتقاناً عجيباً واهتماماً غريباً وصنعة فائقة وحكمة رائقة، فيزعم بالقياس الباطل ان صانع هاتيك تكلَّف في صنعها وتعمَّل كثيراً؛ فيقول: ما قيمة الذباب مثلا، حتى يُصرف له هذا المصرف المهم من صانع حكيم؟ حتى يصير ذلك المسكين سوفسطائياً.
فيا هذا
(ولله المَثَلُ الأعلى) 2 (الله خالقُ كلّ شيءٍ وَهُوَ على كلّ شيءٍ وكيل) 3 لابد ان تعلم اموراً اربعة ينحل بها الاشكال.
الاول: ان كل شئ من الذرات الى الشموس يصفه تعالى بما له 4 في كمال ربوبيته، لكن لايتصف بماله لاجل مظهريته لتجليه..
الثاني: انه ينفتح من كل شئ الى نوره تعالى بابٌ، لكن بانسداد باب واحد في نظر قاصر لاينسد مالايحد من الابواب، وإن امكن فتح الكل بفتح واحدٍ.
_____________________
1 الندى.
2 النحل : 60
3 الزمر : 62
4 بما له من صفات جليلة.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس