عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - ذرة


المثنوي العربي النوري - ص: 295
الرسالة الثامنة
ذرة
من شعاع هداية القرآن 1
_____________________
1 طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "اوقاف" باستانبول سنة 1340هـ (1922)م



المثنوي العربي النوري - ص: 296
في (ط1)
اعلم! ان هذه الرسالة محادثات مع نفسي الامارة المرائية ، ورشاشات من شرارات "القطرة " اظن اني مأذون في نشرها. اذ يتكرر الاحتياج للمعالجة في كل (رمز ) مادام لم يكتب . فاذا كتب يزول الاحتياج، لكن يبقى نوع تمايل للمناقشة مادام لم ينشر . فاذا نشر زال ذلك واطمأن القلب. فيدل على انه ليس لي فقط ، بل فيه للغير حصة. فلهذا اتجاسر على نشرها لعل فيها نفعاً لبعض الناس ان شاء الله تعالى.
ولتنوع الرموز يمكن الاستفادة للكثير فـ "ما لايُدرك كله لا يُترك كله" . ولترك التصنع تركتُ الخاطرات في الصور التي برزتْ فيها اول ما خطرت في القلب . ومن الله الهداية.


المثنوي العربي النوري - ص: 297
بسم الله الرحمن الرحيم
يـا مـن لـه الملك ولـه الحمد صلّ وسلم على سيد البشر الذي قلتَ لـه: (يا ايها النبيّ) 1
فقال: لبيك !.. بحيث اسمع من عرفاتٍ ملائكةَ السموات العليا.. فقلتَ : بشّر وأنذر. فنادى بـ
(يَا ايّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم) 2 بحيث اسمع ادوار الزمان واطراف المكان.. اذ صار (بشيراً ونذيراً) 3 بطور المشاهِد.. اذ يشاهد فيشهد منادياً لاجيال البشر خلف الاعصار والاقطار.. اذ اسمع فهذا صدى صُوته يُسمَع باعلى صوته.. اذ قد ملأ الدنيا بنداء القرآن وبجميع قوّته.. اذ قد استولى على نصف الارض وبكمال جديته بشهادة سِيَره، وبغاية وثوقه بشهادة زهده في الدنيا، ونهاية اطمئنانه بشهادة قوة دساتيره ومعالمه، وبكمال ايمانه بشهادة انه كان اعبدَ واتقى من الكل.
اعلمى ! يا ايتها النفس الجاهلة ! ان الابواب المفتوحه النظارة الى الله عدد طبقات العالم وصحائفه، وعدد المركبات المتصاعدة والمتنازلة. فما اجهلك اذا انسد في وجهك بابٌ عادي تتوهمين انسداد كل الابواب. مَثَلك كمثل مَن إذا لم يَرَ أو لم يعرف في بلد فرسان العسكر مع وجود سائر جيوش السلطان وخدامه ودوائر حكومته ، يشرع ينكر وجود السلطان ويؤِّل كل شعائره ومعالمه .
اعلم! ان الدليل على ان الباطن أعلى وأتم شعوراً وأقوى حياة، وأزيَن واعلم واكمل واحسن وألطف من الظاهر.. وان ما على الظاهر من الحياة والشعور والكمال وامثالها، انما هو ترشحٌ ضعيف من الباطن - لا الباطن جامدٌ ميت اثمَر حيّا عليماً !- كون بطنك اكمل انتظاماً من بيتك، وجلدك احسنُ نسجاً من ثوبك، وحافظتك اتم
_____________________
1 الانفال : 64
2 البقرة : 21
3 البقرة : 119



المثنوي العربي النوري - ص: 298
نقشًا من كتابك. فقس على هذه الجزئيات عالمَ الملك وعالمَ الملكوت وعالمَ الشهادة، وعالمَ الغيب والدنيا والاخرة. فيا حسرةً على النفوس! ان النفس الامارة النظارة بعين الهوى ترى الظاهر حياً مونساً مفروشاً، على باطنٍ ميت عميق مظلم موحش..
اعلم! ان وجهك يتضمن من العلامات الفارقة عدد افراد الانسان الماضية والآتية، بل لو وجد الغير المتناهي من الافراد لتصادف كلُّ واحدٍ في وجهك ما يميزك عنه - مع التوافق في اركان اجزاء الوجه - كأن الوحدة تجلت من وجهك في كثرة غير متناهية.
فالتوافق في اساسات اعضاء افراد الانسان والحيوان يدل بالبداهة على ان الصانع واحد احد. والتخالف في التعّينات المنتظمة يدل بالضرورة على ان الصانع مختار حكيم.
ويتعاظم هذا السر بالنظر الى كل فردٍ فردٍ.. ومن أبعد المحالات وابطلها ان لا يكون هذا التمييز الحكيم والتخالف المثمر والتفريق المفيد بقصدِ قاصدٍ واختيارِ مختارٍ وارادة مريد وعلم عليم.
فسبحان من ادرج وكتب الغير المتناهي في صحيفة الوجه ، بحيث يُقرأ بالبصر ولا يحاط بالعقل. نعم يقرأ بالنظر واضحاً مفصلاً ولا يُرى بالنظر إجمالُهُ، بل ولا بالعقل ايضاً. فهو المعلوم المُبْصر، المجهولُ المطلق، والمشهودُ الغائب. فمحالٌ بمراتب ان يكون هذا التخالف المنتظم المفيد في نوع الانسان، والتوافق المطّرد المتناظر في انواع امثال الحنطة والعنب، وكذا النحل والنمل والسّمك، بالتصادف الاعمى والاتفاقية العوراء، كلاَّ ثم كلاَّ. انه لصنعةُ سميعٍ، بصير، عليم، حكيم.
فاذا كان اوسعُ اطوار الكثرة وابعدها وارقاها وانسب مراتب الكثرة لجولان التصادف - لو كان - واكثرها انتشارا وادناها اهمية هكذا غير مُهمَل ولا سدىً، بل محفوظاً من يد التصادف، حتى صار ميدانا لجولان القصد الحكيم والاختيار العليم والارادة السميعة البصيرة. فيا ايها التصادف لا محل لك في ملك الله فاذهب مع اخيك الطبيعة وابيك الشرك الى جهنم العدم والفناء بل الامتناع. وآية
(وَمِنْ آيَاته خَلْقُ السَّمــواَتِ والارْضِ وَاخْتلاف اَلْسِنَتِكُمْ وَالْوانكُمْ) 1 اشارت الى أول مراتب تجلّي الحكمة والى آخرها..
_____________________
1 الروم :22



المثنوي العربي النوري - ص: 299
اعلم! ان مما يوسوس به الشيطان، انه يقول: ان البقر مثلا لو كان مُلكاً ونَقشاً للقدير الازلي العليم لما كان هكذا مسكيناً، اذ حينئذ تحت جلده وداخل بيته يحكم قلمُ قدير عليم مريد على الاطلاق؛ فكيف صار فوق الجلد وخارج البيت هكذا عاجزاً جاهلاً يتيماً مسكيناً ؟
قيل له : ايها الشيطان الإنسي الذي صار استاذاً لشياطين الجن!.
اولاً: لو لم يكن صنعة القدير الازلي الذي يعطي كل شئٍ ما يليق به بمقدار المصلحة ، لزم ان يكون اذن حمارك اعقل واحذق منك ومن اساتيذك، ولزم ان يكون في داخل اصبعك مثلا: شعوراً واقتداراً يزيدان على شعورك واختيارك بمراتب. فمَن قيَّدَهما في حدِّهما مع ان شأن هذه اللطائف الانبساط والانتشار.
وثانيا: إنّ القدر يرسم مقداراً وقالباً، يُنشئ منه قابليةً، تقبل من الفيض المطلق مقدار قالبه، وكل ما يترشح من الداخل الى الخارج فبمقياس الجزء الاختياري وميزانه، وبقدر الاحتياج ودرجته، وبمساعدة القابلية وتحملها، وبميزان نظام حاكمية الاسماء وتقابلها. فليس المصنوع البقر فقط، خارجُه داخل آخرٍ. ففي كل شئ الداخل مظهر المطلق، والخارج مظهر المقيد. ومن طلب اضاءة الدنيا وجذب السيارات ومركزية العالم وامثالها من لوازم عظمة الشمس وحشمتها، من شميسة الحباب انعزل عن العقل.
نعم، يصف الحباب تلك اللوازم ولا يتصف..
اعلم! انك صنعة شعورية بحكمة، حتى كأنك بوضوح الدلالة على صفات الصانع؛ مُجَسَّم الحكمة النقاشة، ومتجسَّدُ العلم المختار، ومُنجَمَدُ القدرة البصيرة بما يليق بك، وثمرة الرحمة السميعة لنداء حاجاتك، ومتصلّب الفعل المريد لما يريده استعدادك، ومتكاثَف الانعام العليم بمطالبك، وصورة القدر المرسِّم المهندس الخبير بما يناسب بناءك. فكيف يمكن لك ان تذهب بجزئك الجزئي الاختياري والشعرة الشعورية، وتخلص عن احكام الكل وتصير حراً برأسك. ثم ترجع تقيس الكل على الجزء؟ وكيف يتيسر أن تتغافل عن مالكك المالك لكل شئ ؟ وكيف تتوهم مع هذا العلم ان ليس عليك رقيب، سميع، بصير، عليم، مجيب، مغيث.. يسمع انيناتك يبصر فاقاتك ويعلم جناياتك ؟


المثنوي العربي النوري - ص: 300
يا نفسي المسكينة ، لم تتوهمين نفسك خارجة؟ 1 حتى يلزم عليك مراعاة كل حي واحترامه، او ظلم الكل بعدم الاهمية. فهذا حمل ثقيل لا يطاق حمله، فحينئذٍ لابد ان تتركي الاجنبية الشركية 2 وتدخلي في دائرة ملك الله، لتستريحي بالاخوة، بل تصيرين اختا كبيرة محترمة. ألا ترين ان مثلك كمثل من كان في سفينة مشحونة بمال السلطان وقد فُوّض اليه تدبير جزئي من دواليبه، فوضع الشخص الابله ذلك الدولاب المربوط بالسفينة مع ارزاقه على ظهره بكمال الاهتمام. فان كان له جزء من العقل لقال: اني ايضا في السفينة فاطرح فيها ما لي مع مال مالكها.. وكذا واحملي الدساتير الاسلامية على سفينة دماغ عالم الاسلام لتستفيدي وانت مستريحة مطمئنة...
اعلم! ان من خلقك لا يبعد منه ولا يستغرب ان يخلق العالم بجميع ما فيه، لانه فيك ما فيه، 3 بل يجب ان يكون خالقك هو الخالق لكل شئ، لامتناع ان يكون خالق البطيخ غير خالق نواته التي هي انموذجه المصغر المتلخص منه المحاط به...
اعلم! انك مقيد بالتعين، في مقيد بالبدن، بمقيد بالعمر، محدود الحياة في محدود البقاء بمحدود الاقتدار. فحينئذ لابد ان لا تصرف هذا العمر القصير القليل الفاني للفاني حتى يفنى، بل للباقي ليبقى؛ اذ الاستفادة منه هنا تصير مائة سنة، كمائة نواة نخلة تتآكل مع يبوستها وقلة نفعها واضاعة فوائد الغرس على آكلها، وان وجّهت الى الآخرة وسقيت بماء الشريعة صارت مائة نخل باسقات.. الحق ان من يشترى بمائة نخل باسقات، مائة نواة يابسات.. فهو لائق لان يكون حطب الحُطَمَة..
اعلم! ان مخزن الاوهام والشبهات بل الضلالات فرضُ النفس نفسَها خارج الدائرة التي تجلى القدرُ والصفات الالهية فيها، ثم تفرضُ النفسُ نفسَها الاجنبية 4 في موقع الشئ الذي تعلّق به القدرُ وتجلى عليه اسمٌ من الاسماء الالهية فتفنى فيه،
_____________________
1 خارجة عن دائرة الاوامر الالهية (ت: 166)
2 الشرك الذي هو اجنبي عن الفطرة (ت: 166)
3 فانه خلقك وخلق فيك ، وهو يخلق العالم ايضاً بما فيه فأن فيك ما فيه (ت: 166)
4 حيث فرضت نفسها اولاً خارج الدائرة.



المثنوي العربي النوري - ص: 301
ثم بصبغة الاجنبية تشرع تُخرج ذلك الشئ ايضا عن ملكِ الله، وتصرِّف قدرتَه بتأويلاتٍ تصير بها استاذ الشياطين، وتعكس حالاتها المترشحة من شركها الخفي في ذلك الشئ المعصوم. فالنفس الامارة كالنعامة ترى فيما عليها، لها وجهاً، 1 وكالسوفسطائي تقول للمتخاصميَن: يا هذا دليل خصمك يردّك، وكذا: ياذا دليل هذا يبطلك، فلا حق لكما.. 2
اعلم! ان النفس تديم الغفلة بربط الدنيا بالآخرة، كأنها منتهاها، كلا بل معكوستها. فبتصور الآخرة - ولو مع الشك - تتخلص من دهشة فناء الدنيا وألم الزوال، وبسبب الغفلة او الشك تريد الخلاص من كلفة العمل للآخرة وتنظر الى الاسلاف الميّتين، كأنهم احياء غائبون، فلا تعتبر بالموت. وكثيراً ما يثبت عروق مطالبها الدنيوية في ارض الآخرة للتأبيد بدسيسة ، ان تلك المطالب لها وجهان: وجه الى الدنيا لاثباتَ له، بل هباء منثوراً. ووجه الى الآخرة تتصل اساساته بارضها فتدوم، كالعلم مثلا له وجه مظلم ووجه مضئ. فالنفس الشيطانة تريك المضئ وتُبلعك المظلم. 3 اذ النفس نعامة (دوه قوشي) والشيطان سوفسطائي، والهوى بيطاشي.. 4
اعلم! اني قد تيقنت بلا ريب انه لو لم تصدق "الموجبة الكلية" لزم صدقُ "السالبة الكلّية" في مسألة خلق الاشياء؛ اذ كل الخلق بالتساند المنتظم كلّ لا يقبل التجزي، فإما وإما. 5 مع ان الوهم الذي يطيق ان يتوهم عدمَ العلة في كل شئ اهون بمراتب من نسج العنكبوت، فالقبول في شئ ما، يستلزم بالحدس الصادق القبول في كل شئ.
وكذا ان الخالق إما واحد واما غير متناه، لا وسط قطعاً، اذ الصانع لو لم يكن واحداً حقيقياً، لكان بالضرورة كثيراً حقيقياً. وهو ما لا يتناهى. وعلى الثانى مع محالات عجيبة يلزم عدم التركيب وفقد الوحدة مطلقاً وامتناع الوجود.
_____________________
1 تظن ان في الامور التي تدينها وجها يؤيدها ويسندها (ت: 66)
2 اي: دليل الواحد يرد الاخر، فلا يبقى دليل لأحد (ت: 166)
3 اي: تريك الوجه المضئ من العالم بأن له فوائد ستظهر في الآخرة وإن لم تظهر في الدنيا. وذلك ليُبلعك الوجه المظلم منه (ت: 166)
4 التشبيه هنا مبني على اسس معينة؛ فالنفس تغمر رأسها في الغفلة كالنعامة لئلا يصيبها الاجل، والسوفسطائي ينكر كل شيء كالشيطان، والبكتاشي كالهوى يغيّر معاني الاشياء فيقول: مثلاً: الصلاة ليست مفروضة، اذ قال الله (لا تقربوا الصلاة) ولا يتم الآية (وانتم سكارى).
5 فإما أن الله خالق كل شئ وإما أنه ليس بخالق شئ (ت: 167)




المثنوي العربي النوري - ص: 302
اعلم! انه كما ان من المحال الظاهر ان يكون منيرٌ غير متنور. والموجد غير موجود، والموجب غير واجب.. كذلك محال ان يكون مُنعِم العلم غير عالم، ومحسن الشعور غير ذي شعور ، ومُعطي الاختيار غير مختار. ومفيض الارادة غير مريد ، وصانع المكمل غير كامل. وهل يمكن ان يكون مرسم العين ومصور البصر ومنور النظر غير بصير ؟ بل من الواجب ان يكون ما في المصنوع من انواع الكمال من فيض الكمال المناسب للصانع.. والمكروب الذي لايعرف من الطيور الا البعوضة اذا رأى البازي يقول ليس بطير اذ ليس له ما للبعوضة..
اعلم! ان اشد ما تطلبه النفس الناطقة البقاء والدوامَ، حتى لو لم تنخدع بتوهم الدوام ما التذت بشئ. فيا طالبةَ الدوام اشتملى على ذكر الدائم لتدومي، وكوني زجاجة لنوره لئلا تنطفي، وصدفاً لدرّه لتصطفي وبدنا لنسيم ذكره لتحيى، وتمسكي بالخيط النوراني الذي هو شعاع من اسم من الاسماء الالهية لئلا تسقطي في فضاء العدم. فالثمرة الغافلة اذا لم تتوجه الى ما تقوم به، وانجذبت الى التشعشع الاجنبي وضحكهم في وجهها، انقطعت وسقطت على رأسها !..
يا نفس استندى على ما يقوّمك، اذ الى عهدته منك من الالف تسعمائة وتسعة وتسعون، واليك واحد فقط. فاطرحي واحدك ايضا في سفينة ماله واستريحي..
اعلم! انك اذا لم تُطق ان تفعل لنفسك، ولم تصل يدُك اليك. فالناس والاسباب البعداء - بالطريق الأولى - لا يطيقون ولا تصل ايديهم الى خويِّصة ذاتك، فجرب نفسك هل تقدر ان تصنع لسانك الذي هو شجرة الكلمات وحوض الاذواق و(سانترال) المخابرات، فان لم، ولم 1.. فلا تشرك بالله
(ان الشرك لظلم عظيم). 2
اعلم! ان العالم دكان ومخزن الهي يوجد فيه كل نسجٍ وطرز وشكل وقشر، كثيف ورقيق وزائل ودائمى، ولب صلب ومايع وهوائي ، بعضها نَسجُ الايجاد وبعضها ترسيم التجلي. قد ضلت الفلاسفة في الايجاب بالذات، بادراج الايجاد في التجلّي...
_____________________
1 فان لم تصنع ولن تصنع (ت: 68)
2 لقمان : 13



المثنوي العربي النوري - ص: 303
اعلم! ان الشرك الخفي الناشئ من الانانية، اذا تصلب انقلب الى شرك الاسباب، 1 وهو اذا استمر تحوّل الى الكفر، وهو اذا دام تبدل الى التعطيل، والعياذ بالله...
اعلم! ان طلَب الضياء في طور الظلمة مع محافظة النفس عليها وتطبعها بها اليم شديد، مخل بحرمة الضياء، ومُلوث له. فلابد من التعري والانسلال من الظلمة. ثم النظر منها - لا فيها - الى الضياء ..
اعلم! ان من الاعاجيب: ان الانسان خُلق ليكون فاتحاً وكاشفاً مريئاً، وبرهاناً نيّراً، ودليلاً مبصّراً، ومعكساً نورانياً، وقمراً مستنيراً للقدير الازلي، ومرآة شفافة لتجلي الجمال الازلي. وقد انجلت وتصيقلت بحمل الامانة التي تدهّشتْ من حملها السموات والارض والجبال. اذ من مضامين تلك الامانة صيرورة الانسان واحداً قياسياً لفهم الصفات المحيطة، وصيرورة ما فيه من "انا" - الذي هو النقطة السوداء بالغفلة والشرك الخفي - مفتاحاً لتنوير الصفات. فكيف ولأي شئ صار اكثر الانسان حجاباً وباباً وسداً. وكان لازماً عليه ان يفتح فاغلق.. وان ينوِّر فاظلم.. وان يوحِّد فاشرك.. وان ينظر بمرصاده الى الله فيسلم الملك اليه ، لكن نظر الى الخلق بمرصاد "انا"، فقسّم ملك الله عليهم.. نعم، ان الانسان لظلوم جَهُول.
اعلم! يا نفسي، ان ارضيتِ خالقك بالتقوى والعمل الصالح، كفاك ارضاء الخلق. فان رضوا منك بحسابه تعالى فنافعٌ، وبحساب انفسهم فلا فائدة. اذ هم عاجزون مثلك. فان اردت الشق الاول فارض ربك، وان أردت الثاني اشركت بلا فائدة.
الا ترين ان مَن ذهب الى مقر سلطان مطلق لمصلحة، ان ارضاه تمت بلا كلفة، مع محبة الرعية له. وان طلبها ممن تحت حكمه المطلق يتعسر، بل يتعذر ارضاء الكل واتفاقهم على ايفاء مصلحته. ثم بعد الاتفاق يحتاج الى اذن السلطان، واذنُه يتوقف على ارضائه ان كان اكراما، وان كان استدراجاً فلا بحث..
_____________________
1 المقصود بالانانية: الغرور وتفسير كل شئ وفق ما يطلبه »أنا« اما شرك الاسباب فيعني اعطاء الامور والتصرف بيد الاسباب. والفقرتان التاليتان توضحان المسألة .



المثنوي العربي النوري - ص: 304
اعلم! ان الواجب الوجود كما لا يشبه الممكن في الذات والماهية، كذلك لا يشبهه في افعاله.
مثلا: لا فرق بالنسبة اليه بين القريب والبعيد، والقليل والكثير، والصغير والكبير، والفرد والنوع، والجزء والكل بالحدس الشهودي. وكذا لا كلفة ولا معالجة ولا مزاولة ولا مباشرة في فعله، خلافا للممكن. ولهذا يتحير العقل في فهم كنه افعاله تعالى فيظن الفعل لا فعلا. 1
.. .. .. .. 2
اعلم! ان انياب الاسد كما تدل ان من شأنه الافتراس، وان لطافة البطيخ على انه للأكل، كذلك استعداد الانسان يدل على ان وظيفته الفطرية العبودية. وان علوية روحانيته واشتياقه الى البقاء والابدية تدل على ان الانسان خُلق اولا في عالم ألطف من هذا العالم، واُرسل الى هنا، ليتجهز ويعود اليه. وان كونه ثمرة شجرة الخلقة يدل على ان من الانسان من هو نواة انبت منها الصانعُ شجرة الخلقة، وما تلك النواة الا من اتفق كل الكُمّل بل نصف البشر - بسر انصباغ العالم بصبغته المعنوية - على انه افضل الخلق بالتمام، وهو نور سيد الانام الفاتح الخاتم عليه الصلاة والسلام..

_____________________
1 فينكر الفاعل (ت: 169)
2 في (ط1) : (اعلم) : ان الوجدان "قلب كاذب " للنفس، يبنى من انقاض القلب، بعد خرابه بالغفلة وموته بالهوى ، وموقع هذا الوجدان بين الجنبين تحت الصدر فوق رأس المعدة.



المثنوي العربي النوري - ص: 305
القطعة الثانية
مـن ذرة
من شعاع هداية القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم! ان ناظم السموات والارض، ومكوّر الليل والنهار على جمجمة ارضنا ومهدنا كالعمامة المخططة.كيف يليق بالوهيته ان يفوض بعضَ صفحات العالم الى ممكن مسكين؟ وهل يمكن ان يتصرف بالذات في ما تحت العرش، غير رب العرش؟ كلاّ. اذ لا تتقاصر تلك القدرة عن الاحاطة. فلا فُرجةَ للغير للمداخلة، مع ان عزة الجبروت والاستقلالية ومحبة التودد والتعرّف لا تساعد 1 للغير - كائناً ما كان - ان يكون حجاباً وواسطة اسمية تجلب الى نفسه انظار عباد الله.
على ان التصرفات في الكل والجزء والنوع والفرد متداخلة متساندة لايمكن التفريق ولو بين فاعلين متفقين، اذ ناظم العالم في عين الوصف يدبر مهدنا، وفي عين الحال يربي الانسان، وفي عين الوقت يتصرف في شؤونات الانواع، وفي عين الآن يصنع حجيرات البدن، وفي عين الزمان يخلق الذرات بتلك القدرة المتوجهة الى جميع الصفحات. بل بعين النظم يدبر، وبنفس التدبير يربّي، وفي عين التربية يتصرف ويخلق.
_____________________
1 بمعنى لا تسمح



المثنوي العربي النوري - ص: 306
فكما لا يمكن ان تنور الشمسُ وجهَ البحر دون خدود الحبابات، وعيون القطرات، وأناسى الرشاشات. 1 كذلك لايمكن مداخلة شئ من الاشياء في ذرة من حجيرة من عضو من جزئي من ساكني الارض، بغير القدرة التي تكوّر ليلها ونهارها. ومن صوَّر وانشأ ونظم دماغ الذباب وعين المكروب، لايترك افعالك غاربها على عنقها 2 سُدىً ومهملة بل يكتبها في إمام مبين، فيحاسبك عليها.
اعلم! ان ما يُتحدس ويُرى في كل مصنوع، بل في كل ذرة من التصرف المطلق، والقدرة المحيطة، والحكمة البصيرة - بجميع ما يتعلق بها وما ينظم معها في سلك - برهانٌ باهر وآية بينة؛ على ان صانع كل شئ واحد لا شريك له، وليس لاقتداره توزيعٌ ولا انقسام ولا تجزؤ اللازمة للانتهاء، اذ لو كان الممكن صانعاً، لكان في تصرفه توزيع وفي قوته انقسام وفي توجّه اقتداره واختياره تجزؤ، مع ان ما يتعلق من الثلاثة بالنحلة مثلا بحيثية لا يمكن - لو كان من الممكن المتجزي المتجاوز - ان لا يتجاوز. مع ان النحلة تتكشف عن اقتدار صانعها بوجهٍ لا يتعسر على ذلك الاقتدار خلق عوالم. فكيف ينحبس فيها ولا يتجاوز الى المجاور، فلا بد بالضرورة ان يكون الصانع واجبَ الوجود واحداً لا نهاية ولا حد ولا انقسام لقدرته التي تجري في ميزان قدره، وتكتب على مسطره..
اعلم! ان كون البعوضة والعنكبوت والبرغوث وامثالها اذكى بمراتب، واجزل فطرة، واتم صنعة من الفيل والجاموس والابل، مع قصر اعمار هؤلاء، وعدم نفعها ظاهراً، بخلاف اولئك.. برهان باهر وآية نيرة على ان الصانع لا كُلفةَ ولا معالجة ولا تعمُّل في خلقه الاشياء، بَل يقول: كن فيكون، ولا يحكم عليه شئ، يفعل ما يشاء لا اله الا هو.
اعلم! ان شُميسة الحباب كما انها جزء كذلك جزئي؛ اذ هي شمسٌ بالهوية الظلّية دون الماهية الاصلية فهي لا هي ولا غيرها. فاشتراك الكائنات في الشمس لا ينقص من حصة الحباب شيئاً سواء وجودها وعدمها بالنسبة اليه. فللحباب ان يقول: الشمس بالتمام لي وفيّ، متوجهة الىّ..
_____________________
1 أناسي: جمع انسان: وهو هنا انسان العين اي سوادها ومقلتها. اي: ان مُقل الحبيبات المائية المتطايرة من رشاش الماء والشلال.
2 اصل المثل: حبلكِ على غاربكِ.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس