الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #38
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات


الشعلة الثالثة

هذه الشعلة لها ثلاثة اضواء

الضياء الاول

لقد وضّح في ((الكلمة الثالثة عشرة)) وجهٌ عظيم من وجوه اعجاز القرآن المعجز البيان، فاُخذ هنا وادرج مع سائر اخوته من وجوه الاعجاز.

اذا شئت ان تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ اعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد اسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، اذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في اذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ] يسبّح لله ما في السموات وما في الارض الملك القدوس العزيز الحكيم[ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم ان وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين، بصدى قوله تعالى ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ[ الى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الارض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسـبــيــح والتــقديــس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحــة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري الى ذلك العصر تتذوق دقائق الاعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا متعارفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشـمـس الــقــرآن. أي اذا نـظـرت الى الآيـات من خــلال ســتــار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

واذا اردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه:

لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من اجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فاذا قام احدٌ - من قبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورة لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً، فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى اجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - الى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق انما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

فلنمثل - ولله المثل الاعلى - الاسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وافعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتــد دائــرة عظــمتـها من الازل الى الابد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى اجراءاتها من حدود ] فالق الحب والنوى[ (الانعام:95) ] ويحوُل بين المرء وقلبه[ (الانفال:24) ] وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (آل عمران:6) الى ] خلق السموات والارض في ستة أيام[ ( هود:7) والى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) والى ] وسخّر الشمس والقمر[ (الزمر:5)

فنرى ان القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها واغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم: سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه.

فلو اخذنا مثلاً اركانَ الايمان الستة التي تتوجه الى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الالهي والتي تعد غصناً من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها واغصانها وثمراتها وازاهيرها مراعياً في تصويره انسجاماً بديعاً بين ثمراتها وازاهيرها معّرفاً طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الانسان عاجزاً عن ادراك ابعاده ومبهوتاً أمام حسن جماله.

ثم ان الاسلام الذي هو فرع من غصن الايمان، أبدع القرآن الكريم واتى بالرائع المعجب في تصوير ادق فروع اركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على ابسط ادابها ومنتهى غاياتها واعمق حِكَمها واصغر فوائدها وثمراتها. وابهر دليل على ذلك هو:

كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن اشاراته ورموزه.. فكمال انتظام هذه الشريعة الـغــراء وجمــال توازنها الدقيــق وحــسن تناسب احكامها ورصانتها، كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابداً على أحقية القرآن الكريم؛ بمعنى:

ان البيانات القرآنية لا يمكن ان تستند الى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان اميّ، بل لابد ان تستند الى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الاشياء معاً..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالازل والابد معاً والشاهد على جميع الحقائق في آن واحد.. آمنا.



الضياء الثاني

ان فلسفة البشر التي تحاول ان تتصدى لحكمة القرآن الكريم وتسعى لمعارضتها، قد سقطت وهوت امام حكمة القرآن السامية.. كما اوضحنا ذلك في ((الكلمة الثانية عشرة)) في اسلوب حكاية تمثيلية، واثبتناه اثباتاً قاطعاً في كلمات اخرى.

لذا نحيل الى تلك الرسائل، إلاّ اننا سنعقد هنا موازنة جزئية بسيطة بينهما من جانب آخر وهو جانب نظرتهما الى الدنيا؛ كالآتي:

ان فلسفة البشر وحكمته تنظر الى الدنيا على انها: ثابتة دائمة، فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكراً مفصلاً مسهباً، بينما لو ذكرتْ وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فانها تذكرها ذكراً مجملاً مقتضباً. أي انها تفصّل في ذكر نقوش كتاب الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماماً كبـيراً.

أما القرآن الكريم فانه ينظر الى الدنيا، على أنها: عابرة سيّالة، خدّاعة سيّارة، متقلبة لا قرار لها ولا ثبات، لذا يذكر خواص الموجودات وماهياتها المادية الظاهرة ذكراً مجملاً مقتضباً، بينما يفصل تفصيلاً كاملاً لدى بيانه وظائفها التي تنمّ عن عبوديتها التي اناطها بها الصانع الجليل، ولدى بيانه مدى انقياد الموجودات للاوامر التكوينية الإلهية، وكيف وبأي وجه من وجوهها تدل على أسماء صانعها الحسنى.

ففي بحثنا هذا، سنلقي نظرة عجلى على الفرق بين نظرة الفلسفة ونظرة القرآن (الى الدنيا والموجودات) من حيث هذا الاجمال والتفصيل؛ لنرى اين يقف الحق الابلج والحقيقة الساطعة.

ان ساعتنا اليدوية التي يبدو عليها الاستقرار والثبات تنطوي على تغيرات وتبدلات واهتزازات عديدة، سواءً في حركات التروس الدائمة أو في اهتزازات الدواليب والآلات الدقيقة. فكما ان الساعة هكذا، فالدنيا كذلك، كأنها ساعة عظيمة أبدعتها القدرة الإلهية، فعلى الرغم من انها تبدو ثابتة مستقرة، فهي تتقلب وتتدحرج في تغيّر واضطراب دائمين، ضمن تيار الزوال والفناء؛ اذ لما حل ((الزمان)) في الدنيا، اصبح ((الليل والنهار)) كعقرب الثواني ذي الرأس المزدوج لتلك الساعة العظمى، تتبدل بسرعة.. وصارت (السنة) كأنها عقرب الدقائق لتلك الساعة.. وغدا (العصر) كأنه عقرب الساعات لها.. وهكذا ألقى (الزمانُ) الدنيا على ظهر امواج الزوال والفناء، مستبقياً الحاضر وحده للوجود مسلّماً الماضي والمستقبل الى العدم.

فالدنيا - علاوة على هذه الصورة التي يمنحها الزمان - فهي كالساعة ايضاً متغيرة وغير ثابتة، من حيث (المكان)؛ اذ إن (الجو) - كمكان - في تبدل سريع وفي تغيّر دائم، وفي تحول مستمر، حتى انه قد يحدث في اليوم الواحد مراتٍ عدة امتلاء الغيوم بالامطار ثم انقشاعها عن صحو باسم. أي كأن الجو بسرعة تغيّره وتحوله يمثل عقرب الثواني لتلك الساعة العظمى.

و (الارض) التي هي ركيزة دار الدنيا، فان (وجهها) كمكان في تبدل مستمر، من حيث الموت والحياة، ومن حيث ما عليه من نبات وحيوان، لذا فهو كعقرب الدقائق تبين لنا: ان هذه الجهة من الدنيا عابرة سائرة زائلة.

وكما ان الارض من حيث وجهها في تبدل وتغير، فان ما في (باطنها) من تغيرات وزلازل وانقلابات تنتهي الى بروز الجبال وخسف الارض، جعلها كعقرب الساعات التي تسير ببطء نوعاً ما إلاّ أنها تبين لنا: ان هذه الجهة من الدنيا ايضاً تمضي الى زوال.

أما (السماء) التي هي سقف دار الدنيا، فان التغيرات الحاصلة فيها - كمكان - سواءً بحركات الاجرام السماوية، أو بظهور المذنبات وحدوث الكسوف والخسوف، وسقوط النجوم والشهب وامثالها من التغيرات تبين: ان السماء ليست ثابتة ولا مستقرة، بل تسير نحو الهرم والدمار. فتغيراتها كعقرب الساعة العادَّة للاسابيع، الدالة على مضيها نحو الخراب والزوال رغم سيرها البطئ.

وهكذا، فالدنيا - من حيث انها دنيا (أي باعتبار نفسها) - قد شُيّدت على هذه الاركان السبعة، هذه الاركان تهدّها في كل وقت وتزلزلها كل حين، إلاّ ان هذه الدنيا المتزلزلة المتغيرة المتبدلة باستمرار عندما تتوجه الى صانعها الجليل، فان تلك التغيرات والحركات تغدو حركات قلم القدرة الإلهية لدى كتابتها رسائل صمدانية على صفحة الوجود وتصبح تبدلات الاحوال مرايا متجددة تعكس انوار تجليات الاسماء الإلهية الحسنى، وتبين شؤونها الحكيمة وتصفها بأوصاف متنوعة مختلفة لائقة بها.

وهكذا فالدنيا من حيث انها دنيا، متوجهة نحو الفناء والزوال، وساعية سعياً حثيثاً نحو الموت والخراب، ومتزلزلة متبدلة باستمرار. فهي عابرة راحلة كالماء الجاري في حقيقة امرها. إلاّ أن الغفلة عن الله اظهرت ذلكالماء جامداً ثابتاً، وبمفهوم (الطبيعة) الماديّ تعكّر صفوه وتلوث نقاؤه، حتى غدت الدنيا ستاراً كثيفاً يحجُب الآخرة.

فالفلسفة السقيمة؛ بتدقيقاتها الفلسفية وتحرياتها، وبمفهوم الطبيعة المادي، وبمغريات المدنية السفيهة الفاتنة، وهوساتها وعربدتها.. كثّفت تلك الدنيا وزادتها صلابة وتجمداً، وعمّقت الغفلة في الانسان، وضاعفت من لوثاتها وشوائبها حتى أنستْه الصانع الجليل والآخرة البهيجة.

أما القرآن الكريم، فانه يهزّ هذه الدنيا - وتلك حقيقتهاــ هزاً عنفياً - من حيث انها دنيا - حتى يجعلها كالعهن المنفوش، وذلك في قوله تعالى: ] القارعة ما القارعة..[ و ] اذا وقعت الواقعة..[ و] والطور^ وكتاب مسطور..[ وامثالها من الآيات الجليلة.

ثم انه يمنح الدنيا شفافية وصفاءً رائقاً مزيلاً عنها الشوائب والاكدار، وذلك ببياناتها الرائعة في قوله تعالى: ] أوَ لم ينظروا في ملكوت السموات والارض..[ (الاعراف:185) ] أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها..[ (ق:6) ] أوَلم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقاً...[ (الانبياء:30) وامثالها من الآيات الحكيمة.

ثم انه يذيب تلك الدنيا الجامدة بنظر الغفلة عن الله بعباراته النورانية اللامعة في قوله تعالى: ] الله نورُ السموات والارض... [ وما الحياة الدنيا إلاّ لعبٌ ولهو... وامثالها من الآيات العظيمة.

ثم انه يزيل توهم الابدية والخلود في الدنيا بعباراته التي تنم عن زوال الدنيا وموتها في قوله تعالى: ] اذا السماء انفطرت... [ ] اذا الشمس كوّرت.. [ ] اذا السماء انشقت... [ ] ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلاّ مَن شاء الله.. [ (الزمر:68) وأمثالها من الآيات الكريمة.

ثم انه يبدد الغفلة المولّدة لمفهوم (الطبيعة) المادي، ويشتتها بنداءاته المدوية كالصاعقة في قوله تعالى: ] يعلم ما يَلجُ في الارض وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها وهو معكم اينما كنتم والله بما تعملون بصير[ (الحديد:4)، ] وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربّك بِغافل عمّا تعملون[ (النمل:93).. وامثالها من الآيات النيرة.

وهكذا فان القرآن الكريم بجميع آياته المتوجهة للكون (اي الآيات الكونية)يمضي على هذا الاساس، فيكشف عن حقيقة الدنيا كما هي، ويبيّنها للانظار. ويصرف نظر الانسان ببيانه إلى مدى دمامة وجه الدنيا القبيح - بتلك الآيات - ليتوجه الى الوجه الصبوح الجميل للدنيا الجميلة، ذلك الوجه المتوجه الى الصانع الجليل. فيوجّه نظر الانسان الى هذا الوجه، ملقناً اياه الحكمة الصائبة والفلسفة الحقّة بما يعلّمه من معاني كتاب الكون الكبير مع التفاته الى حروفه ونقوشه، من دون ان يبدد جهوده فيما لا يعنيه من امور نقوش الحروف الزائلة كما تفعله الفلسفة الثملة العاشقة للقبح، حيث أنستْه النظر الى المعنى والمغزى.



الضياء الثالث

لقد اشرنا في الضياء الثاني الى انهزام حكمة البشر وسقوطها امام حكمة القرآن، كما اشرنا فيه الى اعجاز حكمة القرآن. وفي هذا الضياء سنبين درجة حكمة تلاميذ القرآن، وهم العلماء الاصفياء والاولياء الصالحون والمنوّرون من حكماء الاشراقيين(1) امام حكمة القرآن مشيرين من هذا الجانب الى اعجاز القرآن اشارة مختصرة.

ان اصدق دليل على سمو القرآن الحكيم وعلوه، واوضح برهان على كونه صدقاً وعدلاً واقوى علامة وحجة على اعجازه هو:

ان القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع اقسامه مع جميع مراتب تلك الاقسام وجميع لوزامه، ولم يخل باتزان أيٍ كان منها.. ثم انه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الاحكام التي تقتضيها الاسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الاحكام.. ثم انه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والالوهية.

فهذه ((المحافظة والموازنة والجمع)) خاصيةٌ لا توجد قطعاً في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج افكار اعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الاولياء الصالحين النافذين الى عالم الملكوت، ولا في كتب الاشراقيين الموغلين في بواطن الامور، ولا في معارف الروحانيين الماضين الى عالم الغيب؛ بل كل قسم من اولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من اغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كلياً مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت الى غيره من الاغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته اليه. وكأن هناك نوعاً من تقسيم الاعمال فيما بينهم.

نعم! ان الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. اذ تلزم نظراً كلياً كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم - ولو يتلقى الدرس منه - لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلاّ طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخلّ بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالافراط أو بالتفريط. ولقد بينا هذه الحقيقة بتمثيل عجيب في الغصن الثاني من الكلمة الرابعة والعشرين. أما هنا فسنورد مثالاً آخر يشير الى المسألة نفسها، هو:

لنفرض ان كنزاً عظيماً يضم ما لا يحــد من الجـواهر الثمينة في قعر بحر واسع. وقد غاص غواصون مهرة في اعماق ذلك البحر بحثاً عن جواهر ذلك الكنز الثمين. ولكن لأن عيونهم معصوبة فلا يتمكنون من معرفة انواع تلك الجواهر الثمينة إلاّ بايديهم.. ولقد لقيت يدُ بعضهم ألماساً طويلاً نسبياً، فيقضي ذلك الغواص ويحكم: ان الكنز عبارة عن قضبان من الماس. وعندما يسمع من اصدقائه اوصافاً لجواهر غيرها يحسب أن تلك الجواهر التي يذكرونها ما هي إلاّ توابع ما وجده من قضبان الالماس وما هي إلاّ فصـوصه ونــقــوشــه. ولنفرض أن آخــرين لقوا شيئاً كروياً من الياقوت، واخرين وجدوا كهرباً مربعاً.. وهكذا..فكل واحد من هؤلاء الذين رأوا تلك الجواهر والاحجار الكريمة بايديهم - دون عيونهم - يعتقد أن ما وجده من جوهر نفيس هو الأصل في ذلك الكنز ومعظمه. ويزعم ان ما يسمعه من اصدقائه زوائدُه وتفرعاتُه، وليس اصلاً للكنز.

وهكذا تختل موازنة الحقائق، ويضمحل التناسق ايضاً، ويتبدل لون كثير من الحقائق اذ يضطر مَن يريد أن يرى اللون الحقيقي للحقيقة الى تأويلات وتكلفات. حتى قد ينجر بعضهم الى الانكار والتعطيل. فمن يتأمل في كتب حكماء الاشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون ان يزنوها بموازين السنة المطهرة يصدّق حكمنا هذا دون تردد.

اذاً فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن، ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلاّ أن النقص يلازم آثارهم، لأنها ليست قرآناً.

فالقرآن الكريم الذي هو بحر الحقائق، آياته الجليلة غوّاصة كذلك في البحر تكشف عن الكنز، إلاّ أن عيونها مفتحة بصيرة تحيط بالكنز كله، وتبصر كل ما فيه، لذا يصف القرآن الكريم باياته الجليلة ذلك الكنز العظيم وصفاً متوازناً يلائمه وينسجم معه فيظهر حُسنه الحقيقي وجماله الاخاذ. فمثلاً:

ان القرآن الكريم يرى عظمة الربوبية الجليلة ويصفها بما تفيده الآيات الكريمة ] والارض جميعاً قبـضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) ] يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب[ (الانبياء:104) وفي الوقت نفسه يرى شمول رحمته تعالى ويدل عليها بما تفصح عنه الآيات الكريمة ] ان الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء^ هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (ال عمران: 5ـ6) ] ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها[ (هود:56) ] وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم[ (العنكبوت: 60).

ثم انه مثلما يرى سعة الخلاقية الإلهية ويدل عليها بما تعبّر عنها الآية الكريمة ] خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور[ (الانعام: 1) فانه يرى شمول تصرفه تعالى في الكون واحاطة ربوبيته بكل شئ وتدل عليها بما تبينه الآية الكريمة ] خلقكم وما تعملون[ (الصافات: 96)

ثم انه مثلما يرى الحقيقة العظمى التي تدل عليها الآية الكريمة ] يحيى الارض بعد موتها[ (الروم: 50) فانه يرى حقيقة الكرم الواسع التي تعبر عنها الآية الكريمة ] واوحى ربك الى النحل.. [ (النحل:68) ويدل عليها، ويرى في الوقت نفسه حقيقة الحاكمية المهيمنة ويدل عليها بــ] والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره[ (الاعراف: 54) ومثلما يرى الحقيقة الرحيمة المدبرة التي تفيدها الآية الكريمة ] أوَلم يروا الى الطير فوقهم صافات ويقـبـضن ما يمسكهن إلاّ الرحمن انه بكل شيء بصير[ (الملك:19) يرى الحقيقة العظمى التي تفيدها الآية الكريمة ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما.. [ (البقرة:255) في الوقت الذي يرى حقيقة الرقابة الإلهية في تعبير الآية ] وهو معكم اين ما كنتم[ (الحديد:4) كالحقيقة المحيطة التي تفصح عنها الآية ] هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم[ (الحديد:3) ويرى أقربيته سبحانه التي يعبر عنها قوله تعالى ] ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد[ (ق: 16) مع ما تشير اليه من حقيقة سامية الآية الكريمة ] تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة[ (المعارج:4) كالحقيقة الجامعة التي تدل عليها وتفيدها الآية الكريمة ] ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي[ (النحل: 90) وامثالها من الآيات الكريمة التي تضم الدساتير الدنيوية والاخروية والعلمية والعملية.

فالقرآن يرى جميع الدساتير التي تحقق سعادة الدارين ويبيّنها مع بيانه كل ركن من اركان الايمان الستة بالتفصيل، وكل ركن من اركان الاسلام الخمسة بقصدٍ وجدّ محافظاً على الموازنة فيما بينها جميعاً مديماً تناسبها، فينشأ من منبع الجمال والحسن البديع الحاصل من تناسب مجموع تلك الحقائق وتوازنها اعجازٌ معنوي رائع للقرآن.

فمن هذا السر يتبين: أن علماء الكلام، وإن تتلمذوا على القرآن الكريم وألّفوا الوف الكتب - بعضها عشرات المجلدات - إلاّ انهم لترجيحهم العقل على النقل كالمعتزلة، عجزوا عن ان يوضحوا ما تفيده عشرُ آيات من القرآن الكريم وتثبته اثباتاً قاطعاً بما يورث القناعة والاطمئنان، ذلك لأنهم يحفرون عيوناً في سفوح جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء الى اقصى العالم بوساطة انابيب، أي بسلسلة الاسباب، ثم يقطعون تلك السلسلة هناك، فيثبتون وجود واجب الوجود والمعرفة الإلهية التي هي كالماء الباعث على الحياة!! أما الآيات الكريمة فكل واحدة منها كــعصا موســى تستــطيع ان تـفــجّر المـــاء ايــنما ضــربت، وتــفــتــح من كل شـــئ نافذةً تــدل على الصانع الجليل وتعرّفه. وقد أثبتت هذه الحقيقة بوضوح في سائر الكلمات وفي الرسالة العربية (قطرة) المترشحة من بحر القرآن.

ومن هذا السر ايضاً نجد ان جميع ائمة الفرق الضالة الذين توغلوا في بواطن الامور واعتمدوا على مشهوداتهم من دون اتباع السنة النبوية، فرجعوا من اثناء الطريق، وترأسوا جماعة وشكلوا لهم فرقةً ضالة.. هؤلاء قد زلّوا الى مثل هذه البدع والضلالة وساقوا البشرية الى مثل هذه السبل الضالة لانهم لم يستيطعوا ان يحافظوا على تناسق الحقائق وموازنتها.

إن عجز جميع هؤلاء يبين اعجازاً للآيات القرآنية.



الخاتمة

لقد مضت لمعتان اعجازيتان من لمعات اعجاز القرآن، في الرشحة الرابعة عشرة من الكلمة التاسعة عشرة وهما حكمة التكرار في القرآن، وحكمة اجماله في مضمار العلوم الكونية، وتبين بوضوح هناك ان كلاً منهما منبع من منابع الاعجاز بخلاف ما يظن بعض الناس انهما سبب نقص وقصور كما قد وضحت بجلاء لمعةٌ من اعجاز القرآن التي تتلألأ على وجه معجزات الانبياء عليهم السلام، وذلك في المقام الثاني من الكلمة العشرين، وذكرت كذلك امثال هذه اللمعات في سائر (الكلمات) وفي رسائلي العربية. فنكتفي بها، ولكن نقول: ان معجزة قرآنية اخرى هي:

كما ان معجزات الانبياء بمجموعها أظهرت نقشاً من نقوش اعجاز القرآن، فان القرآن كذلك بجميع معجزاته معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، وان معجزاته e جميعها ايضاً هي معجزة قرآنية. اذ انها تشير الى نسبة القرآن الى الله سبحانه وتعالى، أي أنه كلام الله. وبظهور هذه النسبة تكون كل كلمة من كلمات القرآن معجزة، لأن الكلمة الواحدة آنذاك يمكن أن تتضمن بمعناها شجرة من الحقائق فهي بمثابة النواة.. ويمكن ان تكون ذات علاقة مع جميع اعضاء الحقيقة العظمى، بمثابة مركز القلب.. ويمكن أن تنظر وتتوجه بحروفها وهيئتها وكيفيتها وموقعها الى مالا يحد من الامور وذلك لاستنادها الى علم محيط وارادة غير متناهية.

ومن هنا يدّعى علماء علم الحروف: انهم استخرجوا من حرف من القرآن اسراراً كثيرة تسع صفحة كاملة، ويثبتون دعواهم لأهل ذلك الفن.

والآن تذكّر ما مضى في هذه الرسالة من أولها الى هنا وانظر بمنظار مجموع ما فيها من الشُعَل والاشعة واللمعات والانوار والاضواء الى نتيجة الدعوى المذكورة في اول الرسالة، تجدها تعلنها اعلاناً باعلى صوتها وتقرأها، تلك هي:

] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعـضهم لبعضٍ ظهيـراً[ .

] سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا انك انت العليم الحكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا[

] رب اشرح لي صدري^ ويسر لي امرى^ واحلل عقدة من لساني^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلّ وسلّم أفـضل واجمل وانبل، واظهر وأطهر، وأحسن وأبرّ، واكرم واعـزّ، واعظم واشرف، واعلى وأزكى، وابرك وألطف صلواتك، وأوفى واكثر وأزيد، وأرقى وارفع وأدوم سلامك، صلاةً وسلاماً، ورحمةً ورضواناً، وعفواً وغفراناً تمتد وتزيد بوابل سحائب مواهب جودك وكرمك، وتنمو وتزكو بنفائس شرائفِ لطائف جودك ومننك، أزلية بأزليتك لا تزول، ابدية بابديتك لا تحول، على عبدك وحبيبك ورسولك محمد خير خلقك، النور الباهر اللامع، والبرهان الظاهر القاطع، والبحر الزاخر، والنور الغامر، والجمال الزاهر، والجلال القاهر، والكمال الفاخر، صلاتك التي صلّيت بعظمة ذاتك عليه وعلى آله واصحابه كذلك، صلاةً تغفر بها ذنوبنا، وتشرح بهاصدورنا، وتطهّر بها قلوبنا وتروّح بها ارواحنا وتقدس بها اسرارنا، وتنزّه بها خواطرنا وافكارنا، وتصفّي بها كدورات ما في اسرارنا وتشفي بها امراضنا، وتفتح بها اقفال قلوبنا.

] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب[

] وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين[

آمين .. آمين ... آمين

الذيل الاول

المرتبة السابعة عشرة من الشعاع السابع ((رسالة الآية الكبرى)) اُلحقت ذيلاً بالكلمة الخامسة والعشرين ((المعجزات القرآنية))

ان السائح الذي لا يناله تعب ولا شبع والذي علم ان غاية الحياة في هذه الدنيا، بل حياة الحياة انما هو الايمان، حاور هذا السائح قلبه قائلاً:

ان الكلام الذي نبحث فيه هو أشهر كلام في هذا الوجود واصدقه وأحكمه، وقد تحدى في كل عصر مَن لا ينقاد اليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع اذاً هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول... ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالم الجميل لنبحث فيما يجعلنا نستيقن أنه كتاب خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق والبحث.

وحيث ان هذا السائح من المعاصرين فقد نظر أولاً الى ((رسائل النور)) التي هي لمعات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، فرأى:

ان هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية، اذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها الزاهية.

ورغم ان رسائل النور نشرت الحقائق القرآنية بجهاد متواصل الى الآفاق كافة، في هذا العصر العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت ان القرآن الكريم الذي هو رائدها ومنبعها، ومرجعها، وشمسها، انما هو سماوي من كلام الله رب العالمين، وليس بكلام بشر، حتى ان ((الكلمة الخامسة والعشرين)) وختام ((المكتوب التاسع عشر)) وهما حجة واحدة من بين مئات الحجج، تقيمها ((رسائل النور)) لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهاً إثباتاً حيّر كل من نظر اليها، فقدّرها واعجب بها - ناهيك عن انهم لم ينقدوها ولم يعترضوا عليها قط - بل اثنوا عليها كثيراً. هذا وقد احال السائح اثبات وجه الاعجاز للقرآن الكريم، وانه كلام الله سبحانه حقاً الى ((رسائل النور))، إلاّ انه انعم النظر في بضع نقاط تبين باشارة مختصرة:



عظمة القرآن الكريم:

النقطة الاولى: مثلما ان القرآن الكريم بكل معجزاته وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد عليه الصلاة والسلام، فان محمداً عليه الصلاة والسلام بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة أيضاً للقرآن الكريم وحجة قاطعة على ان القرآن الكريم كلام الله رب العالمين.

النقطة الثانية: ان القرآن الكريم قد بدّل الحياة الاجتماعية تبديلاً هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً عظيماً سواء في نفوس البشر وفي قلوبهم، أو في أرواحهم وفي عقولهم، أو في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين آية تتُلى منذ أربعة عشر قرناً في كل آن بألسنة أكثر من مائة مليون شخص في الأقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفي قلوبهم، ويمنح الأرواح إنكشافاً ورقياً، والعقول إستقامة ونوراً، والحياة حياةً وسعادةً. فلا شك أنه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولا شبيه له ولا مثيل. فهو خارق، وهو معجز.

النقطة الثالثة: ان القرآن الكريم قد أظهر بلاغة - أيّما بلاغة - منذ ذلك العصر الى زماننا هذا، حتى انه حطّ من قيمة (المعلقات السبع) المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، كتبت بالذهب وعُلقت على جدران الكعبة، حتى ان ابنة (لبيد) أنزلت قصيدة أبيها من على جدار الكعبة قائلة : (أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام).

وكذا عندما سمع أعرابيٌ الآية الكريمة: ] فاصْدَع بما تُؤمَر[ (الحجر: 94) خر ساجداً. فقيل له:

أأسلمـت؟ قال:

لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية.

وكذا، فان آلافاً من أئمة البلاغة وفحول الأدب، أمثال عبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، والزمخشري، قد أقرّوا بالاجماع والاتفاق:

((ان بلاغة القرآن فوق طاقة البشر ولا يمكن أن يُدرك)).

وكذا، فان القرآن الكريم منذ نزوله - كان وما زال كذلك - يتحدى كل مغرور ومتعنت من الأدباء والبلغاء، وينال من عتوّهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. أو ان يرضوا بالهلاك والذل في الدنيا والآخرة..

وبينما يعلن القرآن تحديه هذا، اذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة والاتيان بسورة من مثله،سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الأرواح والاموال، مما يثبت اختيارهم هذا: انه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.

وكذا، ففي متناول الأيدي ملايين الكتب العربية التي كتبها أولياء القرآن بشغف اقتباس اسلوبه وتقليده أو كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب، ويكتب، مع التقدم والرقي في الاسلوب الناشئ من تلاحق الأفكار - ومنذ ذلك الوقت الى الآن - لا يمكن ان يضاهي أو يدانى أيٌّ منها أسلوب القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يتلى من القرآن الكريم لاضطر الى القول: ان هذا القرآن لا يشبه أيّاً من هذه الكتب، ولا في مرتبتها. فاما أن بلاغته تحت الجميع، أو أنها فوق الجميع. ولن يستطيع انسان كائناً من كان، ولا كافر، ولا أحمق ان يقول: انها أسفل الجميع، فلابد اذاً ان مرتبة بلاغته فوق الجميع. حتى قد تلا أحدهم الآية الكريمة:

] سَبّح لله ما في السموات والارض[ ( الحديد:1) ثم قال:

- ((اني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية الكريمة)).

فقيل له:

((عد بخيالك - كهذا السائح - الى ذلك العصر واستمع اليها هناك)).

وبينما هو يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، اذا به يرى:

ان موجودات العالم ملقاة في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام، ولكن حالما أنصت الى هذه الآية الكريمة وتدبرها اذا به يرى:

ان هذه الآية قد كشفت حجاباً مسدلاً عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقاً ساطعاً، فألقى هذا الكلام الأزلي والأمر السرمدي درساً على جميع أرباب المشاعر المصطفين حسب العصور كلها مظهراً لهم:

ان هذا الكون هو بحكم مسجد كبير، وان جميع المخلوقات - ولا سيما السموات والارض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل وظائفهم بكل شوق ونشوة وهـم ينجزونها بكل سعادة وإمتـنان.

هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة، فأدرك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الارض وخمس البشرية، وعلم حكمة واحدة من آلاف الحكم لديـمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان دون إنقطاع.

النقطة الرابعة: ان القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات اصالة وحقيقة بحيث ان التكرار الكثير - المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء - لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته، وهذا أمر مسلّم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال.

وكذا فقد اظهر القرآن الكريم من الطراوة، والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شاباً نضراً وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع انهم يجدونه في متناول ايديهم وينهلون منه كل حين، ويقتفون أثر اسلوب بيانه، يرونه محافظاً دائماً على الجدة نفسها في اسلوبه والفتوة عينها في طُرز بيانه.

النقطة الخامسة: ان القرآن الكريم قد بسط أحد جناحيه نحو الماضي والآخر نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق عليها الأنبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدقهم ويؤيدهم، وهم بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.

وكذلك فان الأولياء الصالحين، والعلماء الاصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم، فتكاملهم الحيوي يدل على ان شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء، وذات فيض دائم وذات حقيقة واصالة، فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعـاشــوا فــي ظــلالــه من أصحاب جميــع طـرق الـولاية الحـقة، واربــاب جميع العلوم الاسلامية الحقة يشهدون ان القرآن هو عين الحق، ومجمع الحقائق، ولا مثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة باهرة.

النقطة السادسة: ان الجهات الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبين صدقه وعدله.

نعم، فمن تحته أعمدة الحجج والبراهين، وعليه تتألق سكة الاعجاز وبين يديه - وهدفه - هدايا سعادة الدارين، ومن خلفه - أي نقطة استناده - حقائق الوحي السماوي، وعن يمينه تصديق ما لايحد من أدلة العقول المستقيمة، وعن يساره الاطمئنان الجاد والانجذاب الخالص والاستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.

واذ تثبت - تلك الجهات الست - ان القرآن الكريم حصن سماوي حصين في الأرض لا يقوى على خرقه خارق ولا ينفذ من جداره نافذ، فهناك أيضاً ستة " مقامات " تؤكد انه الصدق بذاته والحق بعينه، وانه ليس بكلام بشر قط، وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأول تلك المقامات: تأييد مصرّف هذا الكون ومدبّره له، الذي اتخذ إظهار الجميل وحماية البر والصدق ومحق الخداعين وازالة المفترين، سنة جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد سبحانه وصدّق هذا القرآن بما منحه من مقام إحترام وتعظيم وأولاه من مرتبة توفيق وفلاح هو أكثر قبولاً وأعلى مرتبة وأعظم هيمنة في العالم.

ومن ثم فان الاعتقاد الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة للرسول الكريم e نحو القرآن الكريم يفوق الجميع وهو منبع الاسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما يتنزل عليه الوحي فيتنزل عليه دون ارادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم مشابهته له الى حدّ رغم أنه أفصح الناس، وبيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولما سيأتي منها مع أميّته، من دون تردد وبكل إطمئنان. وعدم ظهور أية حيلة أو خطأ أو ما شابهها من الأوضاع منه مهما صغرت رغم انه بين أنظار أشد الناس إنعاماً للنظر في تصرفاته.. فايمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم e وتصديقه بكل قوته لكل حكم من أحكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة أي شئ له مهما عظم يؤيد ويؤكد أن القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.

وكذا فان ارتباط خمس البشرية، بل الشطر الأعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهد أمامهم، إرتباط انجذاب وتديّن، واستماعهم اليه بجد وشوق ولهفة، وتوافد الجن والملائكة والروحانيين اليه والتفافهم حوله عند تلاوته التفاف الفراشة العاشقة للنور بشهادة امارات ووقائع وكشفيات صادقة كثيرة، كل ذلك تصديق بان هذا القرآن هو محل رضى الكون واعجابه، وان له فيه اسمى مقام وأعلاه.

وكذا فان أخذ كل طبقة من طبقات البشر ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي، الى الذكي الحاد الذكاء والعالم نصيبها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم، وفهمهم منه أعمق الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الاسلامية، وبخاصة مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي اصول الدين وعباقرة علم الكلام وامثالهم، واستخراجهم الاجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم، انما هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.

وكذا فان عدم معارضة أدباء العرب الذين هم في المقدمة في الأدب ولا سيما الذين لم يدخلوا في الاسلام مع رغبتهم الملحة في المعارضة، وعجزهم عجزاً تاماً أمام وجه واحد، - وهو الوجه البلاغي - من بين وجوه الاعجاز السبعة الكبرى للقرآن، وعجزهم عن الاتيان بسورة واحدة فقط من سور القرآن الكريم، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن أتى من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحد الآن لاي وجه من وجوه الاعجاز - مع رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة - وسكوتهم بعجز واحجامهم عن ذلك، لهو حجة قاطعة على ان القرآن الكريم معجزة فوق طاقة البشر.

نعم ان قيمة الكلام وعلوه وبلاغته تتوضح في بيان: ((من قاله؟ ولمن قاله؟ ولِمَ قاله؟)).

وبناء على هذا فان القرآن الكريم لم يأت ولن يأتي مثله ولن يدانيه شئ قط؛ ذلك لأن القرآن الكريم انما هو خطاب من رب العوالم جميعاً وكلام من خالقها، وهو مكالمة لا يمكن تقليدها - باي جانب كان من الجوانب - وليس فيه امارة تومئ بالتصنع.

ثم ان المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو أكرم من أصبــح مخــاطــباً وأرفعهــم ذكراً، وهــو الــذي ترشـــح الاسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرج به الى قاب قوسين أو أدنى فنزل مكللاً بالمخاطبة الصمدانية.

ثم ان القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضّح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الايمان السامي الواسع الذي يضم الحقائق الاسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلباً إياه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه، معلِّماً الانسانَ صانعَه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته. فلا ريب ولابد انه لا يمكن الاتيان بمثل هذا القرآن أبداً، ولا يمكن مطلقاً ان تُنال درجة إعجازه.

وكذا فان الآلاف من العلماء الأفذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات بلغ قسم منها ثلاثين أو أربعين مجلداً بل سبعين مجلداً، وبيانهم بأسانيدهم ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لايحد من المزايا السامية والنكات البليغة والخواص الدقيقة والاسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والاخبارات الغيبية الكثيرة بأنواعها المختلفة، وإظهار كل هؤلاء لتلك المزايا واثباتهم لها دليل قاطع أن القرآن الكريم معجزة إلهية خارقة وبخاصة اثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة مائة وثلاثين كتاباً لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة إثباتاً قاطعاً بالبراهين الدامغة، ولاسيما رسالة (المعجزات القرآنية)، و(المقام الثاني من الكلمة العشرين) الذي يستخرج كثيراً من خوارق الحضارة من القرآن الكريم أمثال القطار والطائرة. و(الشعاع الاول) المسمى (بالاشارات القرآنية) الذي يبين اشارات آيات الى رسائل النور والى الكهرباء، والرسائل الصغيرة الثمانية المسماة (بالرموزات الثمانية) التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم، وكم هي ذات أسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها بخمسة وجوه من حيث الاخبار الغيبي، وأمثالها من الرسائل.. فان إظهار كل جزء من أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم، ولنور من أنواره كل ذلك تصديق وتأكيد بان القرآن الكريم ليس له مثيل، وانه معجزة وخارقة، وانه لسان الغيب في عالم الشهادة هذا، وانه كلام علاّم الغيوب.

وهكذا، لأجل مزايا وخواص القرآن الكريم هذه التي أشير اليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والاحترام مضيئة وجوه العصور ومنورة وجه الأرض أيضاً، طوال ألف وثلاثمائة سنة. ولأجل تلك الخواص أيضاً نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث ان لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في الأقل، وعشر ثمار خالدة، بل ان كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة أو ألفاً أو أكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الأوقات المباركة من عشرة الى المئات.. وامثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه قائلاً:

- حقاً إن هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد باجماع سوره وباتفاق آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى أسمائه الحسنى، حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع أهل الايمان من تلك الشهادة.

وهكذا، فقد ذكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الأول اشارة قصيرة لما تلقاه السائح هذا، من درس التوحيد والايمان من القرآن الكريم:

لا إله إلا الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دَلَّ على وجوب وجوده في وحدتهِ: القرآن المعجز البيان، المقبولُ المرغوبُ لأجناس المَلَكِ والإنس والجانِ، المقروء كل آياته في كل دقيقة بكمال الاحترام، بألسنة مئات الملايين من نوع الانسان، الدّائم سَلطنتهُ القدسيةُ على أقطار الأرض والاكوان، وعلى وجوهِ الاعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الأرض وخُمس البشر في أربعة عشر عصراً بكمال الاحتشام.. وكذا شَهِدَ وبرهن باجماع سورِهِ القدسية السماوية، وباتفاق آياته النورانية الإلهية وبتوافق أسراره وأنواره وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشاهدة والعيان.

الذيل الثاني

المسألة العاشرة من الشعاع الحادي عشر ((رسالة الثمرة))

زهرة اميرداغ

[ رد شاف ومقنع على اعتراضات ترد حول التكرار في القرآن الكريم ]

اخواني الاعزاء الأوفياء!

كنت اعاني من حالة مضطربة بائسة حينما تناولت هذه المسألة بالكتابة، لذا اكتنفها شئ من الغموض لكونها بقيت كما جاءت عفو الخاطر. ولكني ادركت ان تلك العبارات المشوشة تنطوي على اعجاز رائع. فيا اسفى اذ لم استطع ان اوفي حق هذا الاعجاز من الأداء والتعبير. فعبارات الرسالة مهما كانت خافتة الانوار إلاّ انها تعد - من حيث تعلقها بالقرآن الكريم – (عبادة فكرية) و (صَدَفَة) تضم لآلئ نفيسة سامية، فالرجاء ان تصرفوا النظر عن قشرتها وتنعمـوا النظر بما فيها من لآلئ ساطعة. فان وجدتموها جديرة حقاً فاجعلوها (المسألة العاشرة) لرسالة الثمرة، وإلاّ فاقبلوها رسالة جوابية عن تهانيكم.

ولقد اضطررت الى كتابتها في غاية الاجمال والاقتضاب، لما كنت اكابد من سوء التغذية وأوجاع الامراض، حتى انني ادرجت في جملة واحدة منها حقائق وحججاً غزيرة، واتممتها - بفضل الله - في يومين من إيام شهر رمضان المبارك فارجو المعذرة عما بدر مني من تقصير(1).

اخوتي الاوفياء الصادقين!

حينما كنت اتلو القرآن - المعجز البيان - في الشهر المبارك رمضان، تدبّرت في معاني الآيات الثلاث والثلاثين - التي وردت اشاراتُها الى رسائل النور في (الشعاع الأول) - فرأيت أن كل آية منها - بل آيات تلك الصفحة في المصحف وموضوعها - كأنها تطل على رسائل النور وطلابها من جهة نيلهم غيضا من فيضها وحظاً من معانيها - لا سيما آية النور في سورة النور ، فهي تشير بالاصابع العشر الى رسائل النور، كما أن الآيات التي تعقبها - وهي آية الظلمات - تطل على معارضي الرسائل واعدائها بل تعطيهم حصة كبرى، اذ لا يخفى ان مقام تلك الآيات وأبعادها ومراميها غير قاصرة على زمان ومكان معينين بل تشمل الأزمنة والامكنة جميعها، أي تخرج من جزئية الامكنة والازمنة الى كلّيتهما الشاملة، لذا شعرت ان رسائل النور وطلابها انما يمثلون في عصرنا هذا - حق التمثيل - فرداً واحداً من افراد تلك الكلية الشاملة.

ان خطاب القرآن الكريم قد اكتسب الصفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والاحاطة الشاملة؛ لصدوره مباشرة من المقام الواسع المطلق للربوبية العامة الشاملة للمتكلم الازلي سبحانه.. ويكتسبها من المقام الواسع العظيم لمن اُنزل عليه هذا الكتاب، ذلكم النبي الكريم e الممثل للنوع البشري والمخاطب باسم الأنسانية قاطبة، بل باسـم الكائنات جميعاً.. ويكتسبها ايضاً من توجه الخطاب الى المقام الواسع الفسيح لطبقات البشرية كافة وللعصور كافة.. ويكتسبها أيضاً من المقام الرفيع المحيط النابع من البيان الشافي لقوانين الله سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة،بالارض والسماء، بالازل والابد، تلك القوانين التي تخص ربوبيته وتشمل امور المخلوقات كافة.

فهذا الخطاب الجليل الذي اكتسب من السعة والسمو والاحاطة والشمول ما اكتسب، يبرز اعجازاً رائعاً وإحاطة شاملة، بحيث:

ان مراتبه الفطرية والظاهرية التي تلاطف أفهام العوام البسيطة - وهم معظم المخاطبين - تمنح في الوقت نفسه حصة وافرة لأعلى المستويات الفكرية ولأرقى الطبقات العقلية، فلا يهب لمخاطبيه شيئاً من ارشاداته وحدها، ولا يخصهم بعبرة من حكاية تأريخية فقط، بل يخاطب مع ذلك كل طبقة في كل عصر - لكونها فرداً من افراد دستور كلي - خطاباً ندياً طرياً جديداً كأنه الآن ينزل عليهم.

ولا سيما كثرة تكراره: ((الظالمين... الظالمين..)) وزجره العنيف لهم وانذاره الرهيب من نزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الأنظار - بهذا التكرار - الى مظالم لا نظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعاً من العذاب والمصائب النازلة على قوم عاد وثمود وفرعون. وفي الوقت نفسه يبعث السلوان والطمأنينة الى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاة رسل كرام امثال ابراهيم وموسى عليهما السلام.

ثم ان هذا القرآن العظيم يرشد كل طبقة من كل عصر ارشاداً واضحاً باعجاز رائع مبيناً:

ان (الازمنة الغابرة) والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين واد من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرة مندرسة أليمة كئيبة، يعرضها صحيفة حية تطفح عبراً ودروساً، وعالماً عجيباً ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه الى أقصاه، ومملكِة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر فيبينها - باعجازه البديع - واضحة جليلة كأنها مشهودة تعرض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلة شاخصة أمامنا، وتارة يأخذنا الى تلك العصور.

ويبين بالاعجاز نفسه (الكون) الذي يراه الغافلون فضاء موحشاً بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبينه القرآن: كتاباً بليغاً، كتبه الأحد الصمد، ومدينة منسقة عمرها الرحمن الرحيم، ومعرضاً بديعاً أقامه الرب الكريم لإشهار مصنوعاته. فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لإمداد الآخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكل شئ مسخر وكل شئ انيط به وظيفة وواجب.. وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنور الى الانس والجن والملائكة كافة. فلا ريب ان هذا القرآن العظيم - الذي له هذا الاعجاز في البيان - قمين بأن يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية، امثال:

في كل حرف منه عشر حسنات، بل ألف حسنة أحياناً، بل ألوف الحسنات في احيان أخرى.. وعجز الجن والأنس عن الأتيان بمثله ولو اجتمعوا له.. ومخاطبته بني آدم جميعهم بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة.. وحرص الملايين من الناس في كل عصر على حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة.. وعدم الســأم من تــلاوته الكثيــرة رغم تــكراراتــه.. واســتــقراره الـتــام في اذهــان الصغــار اللطيــفة البسيطــة مع كثرة ما فيه من جمل ومواضع تلتبس عليهم.. وتلذذ المرضى والمحتضرين - الذين يتألمون حتى من أدنى كلام - بسماعه، وجريانه في اسماعهم عذباً طيباً.. وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قرّاءه وتلاميذه انواعاً من سعادة الدارين.

ويظهر اعجازه الجميل ايضاً في (اسلوب ارشاده البليغ) حيث راعى أحسن الرعاية أمية مبلغه الكريم e باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من ان يدنو منه تكلف او تصنع او رياء - مهما كان نوعه - فجاء اسلوبه مستساغاً لدى العوام الذين هم اكثرية المخاطبين ملاطفاً بساطة اذهانهم بتنزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم.. باسطاً امامهم صحائف ظاهرة ظهوراً بديهياً كالسموات والارض.. موجهاً الانظار الى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الامور والاشياء.

ثم ان القرآن الكريم يظهر نوعاً من اعجازه البديع ايضاً في (تكراره البليغ) لجملة واحدة، او لقصة واحدة، وذلك عند ارشاده طبقات متباينة من المخاطبين الى معان عدة، وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة، فاقتضى التكرار حيث أنه: كتاب دعاء ودعوة كما انه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار، فكل ما كرر في القرآن الكريم اذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة.

ويظهر إعجازه ايضاً عند تناوله (حوادث جزئية) وقعت في حياة الصحابة الكرام اثناء نزوله وارسائه بناء الاسلام وقواعد الشريعة فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبيناً بها: أن أدق الامور لأصغر الحوداث جزئية انما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلا عن انه يظهر بها سنناً إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة. زد على ذلك ان تلك الحوادث - التي هي بمثابة النويات عند تأسيس الإسلام والشريعة ستثمر فيما يأتي من الازمان ثماراً يانعة من الأحكام والفوائد.

ان تكرر الحاجة يستلزم التكرار، هذه قاعدة ثابتة، لذا فقد أجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة فارشد باجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المخاطبين. فهو يكرر جملاً تملك ألوف النـتــائـج، ويكرر ارشادات هي نتيجة لأدلة لاحد لها، وذلك عند ترسيخه في الأذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الاجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلا من هذا العالم الفاني.

ثم انه يكرر تلك الجمل والآيات ايضاً عند اثباته: ان جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات الى النجوم انما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه.

ويكررها ايضاً عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني على الانسان المرتكب للمظالم عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها.

لذا فان تكرار تلك الجمل والآيات عند بيان امثال هذه الأمور العظيمة الهائلة لايعد نقصاً في البلاغة قط، بل هو اعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة - بل فصاحة - مطابقة تطابقاً تاماً لمقتضى الحال، فعلى سبيل المثال:

C ان جملة ] بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ[ هي آية واحدة تتكرر مائة واربع عشرة مرة في القرآن الكريم ذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نوراً وضياء وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق - كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة - فما من أحد إلاّ وهو بحاجة مسيسة الى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات، فالحاجة ما زالت قائمة باقية لا ترتوي. اذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي ايضاً كالهواء والضياء الذي يُضطر اليه ويشتاق كل دقيقة.

C وان الآية الكريمة ] وان ربك لهو العزيز الرحيم[ تتكرر ثماني مرات في سورة (الشعراء). فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على الوف الحقائق في سورة تذكُر نجاة الأنبياء عليهم السلام وعذاب اقوامهم، انما هو لبيان:

ان مظالم اقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض الى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذابَ تلك الأقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية الوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق اليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات اعجاز وايجاز.

C وكذلك الآية الكريمة ] فبأي آلاء ربكما تكذبان[ المكررة في سورة (الرحمن) والآية الكريمة ] ويل يومئذ للمكذبين[ المكررة في سورة (المرسلات) تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن اعلاناً صريحاً في اقطار السموات والأرض أن كفر الجن والأنس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات ويجعل الأرض والسموات في حنق وغيظ عليهم... ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه.. ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الالوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من امثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا الوف المرات في خطاب عام موجه الى الجن والانس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة اليها ما زالت موجودة باقية. فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة.

C (ومثال آخر نسوقه حول حكمة التكرار في الحديث النبوي e ) فالمناجاة النبوية المسماة بالجوشن الكبير مناجاة رائعة مطابقة لحقيقة القرآن الكريم ونموذج مستخلص منه. نرى فيها جملة: سبحانك يا لا إله إلاّ انت الأمان الأمان خلصنا من النار.. اجرنا من النار.. نجّنا من النار، هذه الجمل تتكرر مائة مرة، فلو تكررت الوف المرات لما ولدت السأم، إذ أنها تنطوي على أجل حقيقة في الكون وهي التوحيد. وأجل وظيفة للمخلوقات تجاه ربهم الجليل وهي التسبيح والتحميد والتقديس، واعظم قضية مصيرية للبشرية وهي النجاة من النار والخلاص من الشقاء الخالد. وألزم غاية للعبودية وللعجز البشري وهي الدعاء.

وهكذا نرى امثال هذه الأسس فيما تشتمل عليه انواع التكرار في القرآن الكريم. حتى نرى أنه يعبر اكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد - صراحة أو ضمناً - في صحيفة واحدة من المصحف وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة الى الافهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق الى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوة وسمواً من دون أن يورث سأماً أو مللاً.

ولقد أوضحت اجزاء رسائل النور حكمة التكرار في القرآن الكريم وبينت حججها واثبتت مدى ملاءمة التكرار وانسجامه مع البلاغة، ومدى حسنه وجماله الرائع.

C أما حكمة إختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الاعجاز ومن حيث التفصيل والاجمال فهي كما يأتي:

ان الصف الاول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم اميون لاكتاب لهم، فاقتضت البلاغة اسلوباً عالياً قوياً واجمالاً معجزاً مقنعاً، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الافهام؛ لذا بحثت اغلب السور المكية اركان الايمان ومراتب التوحيد باسلوب في غاية القوة والعلو، وبايجاز في غاية الاعجاز، وكررت الايمان بالله والمبدأ والمعاد والاخرة كثيراً، بل قد عبرت عن تلك الاركان الايمانية في كل صحيفة أو اية، او في جملة واحدة، او كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر. فاثبتت اركان الايمان في أمثال تلك الحالات والهيئات البلاغية إثباتاً جعل علماء البلاغة وائمتها يقفون حيارى مبهوتين أمام هذا الأسلوب المعجز. ولقد وضّحت رسائل النور ولاسيما ((الكلمة الخامسة والعشرون (المعجزات القرآنية) مع ذيولها)) اعجاز القرآن في أربعين وجهاً من وجوهها، وكذلك تفسير ((إشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) باللغة العربية الذي يبين بياناً رائعاً اعجاز القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة. فاثبتت كلتا الرسالتين فعلاً علو الأسلوب البلاغي الفذ وسمو الايجاز المعجِز.

أما الآيات المدنية وسورها فالصف الاول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله. فاقتضت قواعد البلاغة واساليب الإرشاد واسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقاً لواقع حالهم، فجاء باسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الأصول والاركان (الايمانية) - لأن تلك الجزئيات هي منشأ الاحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الأختلافات في الشرائع والاحكام. لذا فغالباً ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة باسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم. ولكن ذكر القرآن فذلكة قوية أو نتيجة ملخصة أو خاتمة رصينة أو حجة دامغة تعقيباً على حادثة جزئية فرعية، يجعل تلك الحادثة الجزئية قاعدة كلية عامة، ومن بعد ذلك يضمن الامتثال بها بترسيخ الايمان بالله الذي يحققه ذكر تلك الفواصل الختامية الملخصة للتوحيد والايمان والاخرة. فترى أن ذلك المقام الواضح السلس يتنور ويسمو بتلك الفواصل الختامية. (ولقد بينت ((رسائل النور)) واثبتت حتى للمعاندين مدى البلاغة العالية والميزات الراقية وانواع الجزالة السامية الدقيقة الرفيعة في تلك الفذلكات والفواصل وذلك في عشر مميزات ونكت في النور الثاني من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن). فان شئت فانظر الى ] ان الله على كل شيء قدير[ ، ] ان الله بكل شيء عليم[ ] وهوالعزيز الحكيم[ ] وهو العزيز الرحيم[ وامثالها من الآيات التي تفيد التوحيد وتذكر بالاخرة، والتي تنتهي بها اغلب الآيات الكريمة، ترَ أن القرآن الكريم عند بيانه الاحكام الشرعية الفرعية والقوانين الاجتماعية يرفع نظر المخاطب الى آفاق كلية سامية، فيبدل ـ بهذه الفواصل الختامية - ذلك الأسلوب السهل الواضح السلس اسلوباً عالياً رفيعاً، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة الى درس التوحيد. فيثبت أن القرآن: كتاب شريعة واحكام وحكمة، كما هو كتاب عقيدة وايمان، وهو كتاب ذكر وفكر، كما هو كتاب دعاء ودعوة.

وهكذا ترى أن هناك نمطاً من جزالة معجزة ساطعة في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الأرشاد والتبليغ.

فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: ] ربك[ و ] رب العالمين[ إذ يعلّم الأحدية بتعبير ] ربك[ ويعلّم الواحدية بـ ] رب العالمين[ ، علما ان الواحدية تـتضمن الأحدية.

بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة فيريك في آية واحدة مثلا نفوذ علمه الى موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقع الشمس في كبد السماء، واحاطة قدرته التي تضع بالآلة الواحدة كلاً في مكانه، جاعلة من الشمس كأنها عين السماء فيعقب ] وهو عليم بذات الصدور[ بعد آية ] يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل[ (الحديد:6) أي يعقب نفوذ علمه سبحانه الى خفايا الصدور بعد ذكره عظمة الخلق في السموات والأرض وبسطها أمام الأنظار. فيقر في الأذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلاقيته للسموات والأرض وتدبيره لشؤونها. فهذا التعقيب: ] وهو عليم بذات الصدور[ لون من البيان يحول ذلك الأسلوب السهل الواضح الفطري - القريب الى افهام العوام - الى ارشاد سامٍ وتبليغ عام جذاب.

سؤال: ان النظرة السطحية العابرة لا تستطيع ان ترى ما يورده القرآن الكريم من حقائق ذات اهمية، فلا تعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكة تعبر عن توحيد سام أو تفيد دستوراً كلياً، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعض ان هناك شيئاً من قصور في البلاغة، فمــثــلاً لا تظهــر المناســبة البلاغية في ذكر دســـتور عظـيم:

] وفوق كل ذي علم عليم[ تعقيباً على حادثة جزئية وهي ايواء يوسف عليه السلام أخاه اليه بتدبير ذكي. فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته؟

الجواب: ان اغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لا تكتفي بمقصدين او ثلاثة من مقاصد القرآن الاربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصد الأربعة معاً، أي كل منها: كتاب ذكر وايمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية. فكل سورة من تلك السُوَر تتضمن كُتباً عدة، وترشد الى دروس مختلفة متنوعة. فتجد ان كل مقام - بل حتى الصحيفة الواحدة - يفتح أمام الإنسان ابواباً للايمان يحقق بها اقرار مقاصد أخرى حيث أن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في اعماق المؤمن احاطة ربوبيته سبحانه بكل شئ، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس. لذا فان ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية فتتلاحق مناسبات وثيقة وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهراً، فيكون الاسلوب مطابقاً تماماً لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.

سؤال آخر: ما حكمة سَوق القرآن الوف الدلائل لاثبات امور الآخرة وتلقين التوحيد واثابة البشر؟ وما السر في لفته الانظار الى تلك الامور صراحة وضمناً واشارة في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام؟

الجواب: لأن القرآن الكريم ينبه الانسان الى اعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تأريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده الى اعظم مسألة تخصه وهو الحامل للامانة الكبرى وخلافة الأرض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي تدور عليه سعادته وشقاوته الأبديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيل الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشد انواع الجحود والانكار المقيت.

لذا لو قام القرآن بتوجيه الانظار الى الأيمان بتلك الأنقلابات المدهشة وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم لو قام به آلاف المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات لايعد ذلك منه إسرافاً في البلاغة قط، كما أنه لايولد سأماً ولا مللاً ألبتة، بل لا تنقطع الحاجة الى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.

فمثلاً: ان حقيقة الآية الكريمة: ] ان الذين امنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير[ (البروج:11) هي بشرى السعادة الخالدة تزفها هذه الآية الكريمة الى الانسان المسكين الذي يلاقي حقيقة الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت اعداماً أبدياً، وتنجيه - وعالمه وجميع أحبته - من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة ابدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة ملياراً من المرات لايعد تكرارها من الاسراف قط، ولا يمس بلاغتها شئ.

وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج امثال هذه المسائل القيمة ويسعى لاقناع المخاطبين بها باقامة الحجج الدامغة، يعمق في الأذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها أمامهم سهلة واضحة كتبدل المنزل وتغير شكله. فلابد أن لفت الأنظار الى أمثال هذه المسائل - صراحة وضمناً واشارة - بالوف المرات ضروري جداً بل هو كضرورة الإنسان الى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته اليها دائماً.

C ومثلاً: ان حكمة تكرار القرآن الكريم: ] والذين كفروا لهم نار جهنم[ (فاطر:36) ] ان الظالمين لهم عذاب أليم) (ابراهيم:22) وأمثالها من آيات الانذار والتهديد. وسوقها باسلوب في غاية الشدة والعنف، هي ] مثلما اثبتناها في رسائل النور اثباتاً قاطعاً[ :

ان كفر الانسان انما هو تجاوز - أيّ تجاوز - على حقوق الكائنات واغلب المخلوقات، مما يثير غضب السماوات والارض، ويملأ صدور العناصر حنقاً وغيظاً على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع اولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيم تغضب عليهم غضباً تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: ] اذا القوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور^ تكاد تميز من الغيظ..[ (الملك: 7-8). فلو يكرر سلطان الكون في اوامره تلك الجناية العظمى (الكفر) وعقوبتها باسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عد ذلك اسـرافاً مــطلقاً ولا نقصاً في البلاغــة، نظراً لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة اظهار اهمية حقوق رعيته سبحانه وابراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. اذ لا يكرر ذلك لضآلة الأنسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه.

ثم اننا نرى ان مئات الملايين من الناس منذ الف ومئات من السنين يتلون القرآن الكريم بلهفة وشوق وبحاجة ماسة اليه دون ملل ولاسأم.

نعم، ان كل وقت وكل يوم إنما هو عالمٌ يمضي وباب ينفتح لعالم جديد لذا فان تكرار (لا إله إلا الله) بشوق الحاجة اليها ألوف المرات لأجل اضاءة تلك العوالم السيارة كلها وانارتها بنور الايمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في سماء تلك العوالم والايام. فكما أن الأمر هكذا في (لا إله إلاّ الله) كذلك تلاوة القرآن الكريم فهي تبدد الظلام المخيم على تلك الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وتزيل التشوه والقبح عن صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الاوضاع المقبلة شهوداً له يوم القيامة لا شهوداً عليه. وترقّيه الى مرتبة معرفة عِظَم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النذر المخفية لسلطان الازل والابد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه الى الخلاص من طغيان النفس الأمارة بالسوء.. فلأجل هذه الحكم كلها يكرر القرآن الكريم ما يكرر في غاية الحكمة، مظهراً ان النذر القرآنية الكثيرة الى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطان من توهمها باطلا، ويهرب من تخيلها عبثاً. نعم ان عذاب جهنم لهو عين العدالة لأولئك الكفار الذين لا يعيرون للنذر سمعاً.

C ومن المكررات القرآنية ((قصص الانبياء)) عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام. - مثلاً - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء انما هي لاثبات الرسالة الأحمدية وذلك بأظهار نبوة الانبياء جميعهم حجةً على احقية الرسالة الاحمدية وصدقها؛ حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعاً. فذكرها اذن دليل على الرسالة.

ثم إن كثيراً من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون الى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتـوسـطة بمـثــابة قرآن مصغر، ومن ثم تــكرار الـقــصص فيهــا بمثـل تكرار أركان الايمان الضرورية. أي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه اسراف قط. زد على ذلك فان فيه تعليماً بأن حادثة ظهور محمد e أعظم حادثة للبشرية واجلّ مسألة من مسائل الكون.

C نعم! ان منح ذات الرسول الكريم e اعظم مقام واسماه في القرآن الكريم، وجعل (محمد رسول الله) - الذي يتضمن اربعة من اركان الايمان - مقروناً بـ (لا إله إلاّ الله) دليل وأي دليل على أن الرسالة المحمدية هي اكبر حقيقة في الكون، وان محمداً e لهو اشرف المخلوقات طراً. وان الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية لمحمد e هي السراج المنير للعالمين كليهما، وانه e أهل لهذا المقام الخارق، كما قد اثبت ذلك في أجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة اثباتاً قاطعاً. نورد هنا واحداً من الف منها. كما يأتي:

ان كل ما قام به جميع أمة محمد e من حسنات في الازمنة قاطبة يكتب مثلها في صحيفة حسناته e ، وذلك حسب قاعدة ((السبب كالفاعل)).

وان تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي اتى به لا يجعل الجن والأنس والملائكة وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم بل يجعل الكون برمته والسماوات والأرض جميعاً راضية عنه محدثة بفضائله.

وان ما يبعثه صالحو الامة - الذين يبلغون الملايين - يومياً من أدعية فطرية مستجابة لا ترد - بدلالة القبول الفعلي المشاهد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وادعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة - ومن ادعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه ، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هداياً، انما تقدم اليه اولاً.

فضلاً عما يدخل في دفتر حسناته e من أنوار لا حدود لها بما تتلوه أمته - بمجرد التلاوة - من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه - التي تزيد على ثلاثمائة الف حرف - عشر حسنات وعشر ثمار اخروية، بل مائة بل الف من الحسنات..

نعم! ان علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة e ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الأهمية العظمى حيث هو المستحق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في اوامره بأن نيل شفاعته انما هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو أعظم مسألة من مسائل الأنسان. بل أخذ بنظر الاعتبار - بين حين وآخر - اوضاعه الانسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.

وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، الاّ مَن مرض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:

قد ينكر المرء ضوء الشمس من رمد وينكــر الفم طعم الـماء مـن سـقم





خاتمة هذه المسألة العاشرة في حاشيتين:

الحاشية الاولى:

طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، ان زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده باقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! الى آخره من الافكار السامة. الا أن رسائل النور بفضل الله قد شلت تلك الفكرة واجهضت تلك الخطة بحججها الدامغة وبأنتشارها الواسع في كل مكان، فاثبتت اثباتاً قاطعاً أنه:

لا يمكن قطعاً ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وان أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وان الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - بأي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة الى الألف، لذا لا يمكن مطلقاً تلاوة الترجمة بدلاً منه.

بيد ان المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا التقي احداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، الاّ ان اغلب ظني ان ما أوردته آنفاً هو السبب الذي دعا الى إملاء هذه (المسألة العاشرة) علي، رغم ما يحيط بي من ضيق.

الحاشية الثانية:

كنت جالساً ذات يوم في الطابق العلوي من فندق (شهر) عقب اطلاق سراحنا من سجن (دنيزلي) أتأمل فيما حوالي من اشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جذلانة بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها وأغصانها، وتهتز اوراقها بادنى لمسة من نسيم. فبدت أمامي بابهى صورة واحلاها، وكأنها تسبح لله في حلقات ذكر وتهليل.

مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وانا مغموم لانفرادي وبقائي وحيداً.. فخطر على البـال – فجأة – موســما الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، اذ ستتناثر الاوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأت أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، واتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألما شديداً حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات!.

وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة اذا بالنور الذي اتت به الحقيقة المحمدية e يغيثني - مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه - فبدّل تلك الأحزان والغموم التي لا حدود لها مسرات وأفراحاً لاحد لها، فبتّ في امتنان أبدي ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي انقذني فيض واحد من فيوضات انوارها غير المحدودة فنشر ذلك الفيض السلوان في ارجاء نفسي واعماق وجداني، وكان ذلك كالآتي:

ان تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الاوراق الرقيقة والاشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولا مهمة، لا نفع لها ولا جدوى، وانها لا تهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتبّاً لها من نظرة غافلة اصابت صميم ما هو مغروز فيّ - كما هو عند غيري - من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا الى جهنم معنوية، والعقل الى عضو للشقاء والتعذيب. فبينما كنت اقاسي هذا الوضع المؤلم، اذا بالنور الذي أنار به محمد e البشرية جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكَماً ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جداً تبلغ عدد اوراق الحَوَر. وقد اثبتت رسائل النور ان تلك الوظائف والحكم تنقسم الى ثلاثة أقسام:

القسم الاول: وهو المتوجه الى الاسماء الحسنى للصانع الجليل. فكما ان صانعاً ماهراً اذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميع ويقدرون صنعته ويباركون ابداعه، فان تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعها وتثني عليه بلسان حالها، وذلك باراءتها النتائج المقصودة منها اراءة تامة.

اما القسم الثاني: فهو المـتوجه الى انظــار ذوي الحياة وذوي الشعـور من المخلوقات أي يكون موضــع مطالعة حلــوة وتأمل لذيذ، فيــكون كل شــئ كأنه كتاب معرفة وعـلـم، ولا يغادر هذا العالَم - عالم الشهادة - الاّ بعد وضع معانيه في اذهان ذوي الشعور، وطبع صوره في حافظتهم، وانطباع صورته في الالواح المثالية لسجلات علم الغيب، أي لا ينسحب من عالم الشهادة الى عالم الغيب إلا بعد دخوله ضمن دوائر وجود كثيرة ويكسـب انواعا من الوجود المعنـوي والغيـبي والعلمي.

نعم ما دام الله موجوداً، وعلمه يحيط بكل شئ، فلابد ان لا يكون هناك في عالم المؤمن عدم، واعدام، وانعدام، وعبث، ومحو، وفناء، من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الالسنة من قول مشهور هو: ((من كان له الله كان له كل شئ، ومن لم يكن له الله لم يكن له شئ)).

الخلاصة: ان الايمان مثلما ينقذ الانسان من الاعدام الأبدي اثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص ايضاً من ظلمات العدم والانعدام والعبث. بينما الكفر - ولا سيما الكفر المطلق - فانه يعدم ذلك الانسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت. ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محولاً لذائذ حياته آلاماً وغصصاً.

فلْترنّ آذان الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة، وليأتوا بعلاج لهذا الامر ان كانوا صادقين، أو ليدخلوا حظيرة الايمان ويخلصوا انفسهم من هذه الخسارة الفادحة.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[



أخوكم الراجي دعواتكم والمشتاق اليكم

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس