الموضوع: الخلوة
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-11-2010
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

4ـ أقوال العلماء في أهمية الخلوة وفوائدها:

إن للخلوة فوائد جليلة وآثاراً هامة، وإنما يدركها من ذاق حلاوتها وجنى ثمارها. فمن فوائدها:

تهذيب النفس وتزكيتها، ورياضتها على طاعة الله تعالى، والاستئناس بمجالسته ؛ لأن من طبائع النفس الأمارة حب مجالسة الناس، والميلَ إلى اللهو والعبث والبطالة، وكراهيةَ الخلوة مع الله، والنفورَ من الانفراد للمحاسبة على الهفوات واللوم على الأخطاء. فإذا جاهدناها على ذلك، فإنها تشعر بالضيق والضجر في بادىء أمرها، ولكن سرعان ما تُذعِنُ وتخضع، ثم تذوق حلاوة الأنس بالله ولذة مناجاته، وخصوصاً عندما تنطلق، وتتحرر من قيود المادة، وتسبح في عوالم الملكوت ؛ إذ الخلوة تروض النفسَ على الإذعان لبارئها والأنس بربها.

ألا ترى الطير البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، ثم حين يُصاد ويلقى في البيت، وتخاط عيناه حتى ينقطع عن الطيران، ويربى باللحم، ويرفق به، حتى يأنس بصاحبه، ويألفه إلفاً ؛ إذا دعاه فسمع صوته أجابه، حتى إذا أرسله وحثَّه على الطيران طار، فصاد وأمسك صيده، تحرياً لموافقة مولاه، ثم إن دعاه من الطيران رجع، وآثر هوى صاحبه على هوى نفسه.

أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمداً وعبرة وأسفاً على فوت هذا من نفسه، أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشد تحرياً لموافقته وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه.

والخلوة تريح القلب والفكر والعقل من الشواغل الدنيوية المتعاقبة، وهمومها المتلاحقة، وعند ذلك يذوق العبد طعم الإيمان، ويستنشق نسيم السعادة والطمأنينة. وإليك بعض أقوال السادة العلماء في ذلك:

الفيروز أبادي صاحب القاموس:

قال العلامة الكبير الفيروز أبادي رحمه الله تعالى صاحب القاموس في ذكر حال حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي: (ولما قربت أيام الوحي أحب الخلوة والانفراد، فكان يتخلى في جبل حراء، وهو على ثلاثة أميال من الكعبة، وبه غار صغير طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلث في بعض المواضع، وفي بعضها أقل، واختار محل الخلوة هناك.

وللعلماء في عبادته في خلوته قولان: قال بعضهم: كانت عبادته بالفكر. وقال بعضهم: بالذكر. وهذا القول هو الصحيح، ولا تعريج على الأول ولا التفات إليه ؛ لأن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:

الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كوناً من الأكوان، أو فكَّر فيه فليس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلستُ معه في خلوة. ومن ثَمَّ يُعلم سر "أنا جليس مَنْ ذكرني". وشرط هذه الخلوة أن يذكر بنفسه وروحه، لا بنفسه ولسانه.

الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة، وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة، وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم للذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان، ومهما وُجِدَ الفكر إلى صاحب الخلوة فينبغي أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهي، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.

الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا، فلذلك اختاروا الخلوة.

الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة توجد في الخلوة.

وخلوة حضرة صاحب الرسالة من القسم الأول، وكان بعيداً جداً من جميع المخالطات حتى الأهل والمال وذات اليد، واستغرق في بحر الأذكار القلبية، وانقطع عن الأضداد بالكلية، وظهر له الأنس والجلوة بتذكر مَنْ لأجله الخلوة، ولم يزل في ذلك الأنس، ومرآة الوحي تزداد من الصفاء والصقال حتى بلغ أقصى درجات الكمال) ["كتاب سفر السعادة" للفيروز أبادي المتوفى سنة 826هـ ص3 ـ 4].

الإمام الشافعي:

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذي ليس معهم إنصاف ولا أدب) ["بستان العارفين" للإمام الفقيه الحافظ أبي زكريا محي الدين النووي المتوفى 676هـ ص47].

الإمام الغزالي:

وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه ؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة) ["الإحياء" للغزالي ج3/ص66].

وعندما يسلم من علله وأمراضه وتعلقاته ومشاغله، وخواطر الشيطان ووساوسه، يستحق نعيم قربه ويستعد لتلقي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والنفحات النورانية.

وقال الغزالي أيضاً: (وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره ليُنتفعَ به، أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصْوَبُ الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء، وحكمة العلماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سَيْرِهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به) ["المنقذ من الضلال" لحجة الإسلام الغزالي ص131 ـ 132].

الشيخ الأكبر:

وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (رحمه الله تعالى): (فإن المتأهب الطالب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: {عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا علماً} [الكهف: 65]. وقال تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]. قال تعالى: {إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً} [الأنفال: 29]. وقال: {ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به} [الحديد: 28].

وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت ؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة.

وقال أبو يزيد: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه الحالة) ["الفتوحات المكية" ج1/ص31].

محمد السفاريني:

وقال العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى شارحاً قصيدة "منظومة الآداب": (وقد أكثر الناس من مدح الخلوة، وكفِّ رِجْلِ الرجل عن الاختلاط بالناس:

أنستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي فدام الأُنسُ لي ونما السرورُ

["غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" للشيخ الإمام محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188هـ. ج2/ص388].


الدكتور مصطفي السباعي:

وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه "مذكرات في فقه السيرة": (يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفَيْنة والفَيْنة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله. ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصرت في خير، أو زلت في اتجاه، أو جانبت سبيل الحكمة، أو أخطأت في منهج أو طريق، أو انغمست مع الناس في الجدال والنقاش، حتى أنْسَتْهُ تذكُّرَ الله والأنس به، وتذكر الآخرة وجنتها ونارها والموتِ وغصصه وآلامه. ولذلك كان التهجد وقيام الليل فرضاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، مستحباً في حق غيره. وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته. وللخلوة والقيام لله بالعبودية في أعقاب الليل لذة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها. وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول في أعقاب تهجده وعبادته: نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها) ["مذكرات في فقه السيرة" للدكتور مصطفى السباعي ص18].

عماد الدين الواسطي:

ويقول الشيخ الإمام عماد الدين أحمد الواسطي: (وليكن لنا جميعاً من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه، فمن كان له مع ربه حال، تحركت في تلك الساعة عزائمه، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه. وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده. فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار لَمَا احتوشته من الهموم الدنيوية ذواتُ الآصار، فليعلم أنه ليس له ثَمَّ رابطة علوية، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية، فليبك على نفسه، ولا يرض منها إلا بنصيب من قرب ربه وأُنسه. فإذا خلصت لله تلك الساعة ؛ أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة، بساعة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج)["غذاء الألباب" ج1/ص47].
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس