ولعل أغرب وأعجب وأطرف ما وقفت عليه في هذا الباب ما ذكره شيخ الإسلام
ابن تيمية في مؤلفه المشهور (الصارم المسلول على شاتم الرسول) (ص: 134)،
قال رحمه الله: وقد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به، كانت تقصد من سبه من
الجن الكفار فتقتله، فيقرها على ذلك، ويشكر لها ذلك!
ونقل عن أصحاب المغازي أن هاتفًا هتف على جبل أبي قبيس بشعر فيه تعريض
بالنبي صلى الله عليه وسلم، فما مرت ثلاثة ايام حتى هتف هاتف على الجبل
يقول:
نحن قتلنا في ثلاث مسعرا إذ سفه الحق وسن المنكرا
قنّعتُهُ سيفًا حسامًا مبتـرا بشتمـه نبينـا المطهـرا
ومسعر ـ كما في الخبر ـ اسم الجني الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن صور كلاءة الله لنبيه ممن تعرض له بالأذى أن يحول بين المعتدي وبين
ما أراد بخوف يقذفه في قلبه، أو ملك يمنعه مما أراد.. وقد روي أن غورث بن
الحرث قال لأقتلن محمدًا، فقال له أصحابه، كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني
سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمّه،
فأعطاه إياه فرعدت يده، فسقط السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"حال الله بينك وبين ما تريد" الدر المنثور 3/119).)
ومثل ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسيره (4/530) من أن أبا جهل قال لقومه:
واللات والعزى لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في
التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته، فما
فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه! فقيل: مالك؟ فقال: إن
بيني وبينه خندقًا من نار وهولاً وأجنحة! فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا".
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجالاً من قريش اجتمعوا في الحجر، ثم
تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف أن لو قد رأوا
محمدًا لقد قمنا إليه مقام رجل واحد فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنته
فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ
من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل واحد
إلا قد عرف نصيبه من دمك. فقال: "يا بنية ائتيني بوضوء"، فتوضأ، ثم دخل
عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: هاهو ذا، وخفضوا أبصارهم ، وسقطت أذقانهم
في صدورهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم منهم إليه رجل، فأقبل النبي
صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، وأخذ قبضة من التراب ثم قال:
"شاهت الوجوه"، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصا حصاةٌ إلا
قتل يوم بدر كافرًا. (دلائل النبوة 1/65).
لا إله إلا الله..
صدق الله.. إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ
ومن صور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكفايته إياه استهزاء
المستهزئين أن يصرف الشتيمة والذم والاستهزاء إلى غيره.. فإذا بالشاتم
يريد أن يشتمه فيشتم غيره من حيث لا يشعر!!
قال صلى الله عليه وسلم :ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم،
يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمدٌ"! (البخاري)، قال ابن حجر
(الفتح 6/558): كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله
عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون:
مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم. ومذمم ليس اسمه، ولا يعرف
به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره!
لا إله إلا الله..
صدق الله.. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ
ومن صور الحماية الربانية أن يغير الله السنن الكونية صيانة لنبيه صلى
الله عليه وسلم ورعاية له.
وشاهد ذلك قصة الشاه المسمومة، فهذه زينب بنت الحارث جاءت للنبي صلى الله
عليه وسلم، بشاة مشوية دست فيها سمًا كثيرًا، فلما لاك النبي صلى الله
عليه وسلم منها مضغة لم يسغها، وقال: "إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم"!
ثم دعا باليهودية فاعترفت.
فانظر كيف خرم الله السنن الكونية من جهتين:
أولاهما: أنه لم يتأثر صلى الله عليه وسلم بالسم الذي لاكه.
وثانيتهما: أن الله أنطقَ العظم فأخبره عليه الصلاة والسلام بما فيه.
ومن صور الكفاية الربانية لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم ممن آذاه أن
يقذف الله في قلب هذا المؤذي المعتدي الإسلام، فيؤوب ويتوب، حتى يكون
الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس
أجمعين!!
ومن أعجب الأمثلة في ذلك قصة أبي سفيان بن الحارث أخي النبي صلى الله
عليه وسلم من الرضاع، وكان يألف النبي صلى الله عليه وسلم أيام الصبا
وكان له تربًا، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم عاداه أبو سفيان
عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا
أصحابه.. ثم شاء الله أن يكفي رسوله صلى الله عليه وسلم لسان أبي سفيان
وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايته!! قال أبو سفيان عن نفسه: ثم إن الله
ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت
وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ملأ عينيه مني
أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى.
قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع
ابني جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول الله
أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم رق لهما فدخلا عليه. (انظر سيرة ابن هشام 4/41).
فسبحان من حوّل العداوة الماحقة إلى حب وتذلل، وملازمة للباب طلبًا
للرضا!!
لا إله إلا الله..
صدق الله.. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات