الموضوع: معارك الشام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-09-2012
  #2
admin
مدير عام
 الصورة الرمزية admin
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: uae
المشاركات: 717
معدل تقييم المستوى: 10
admin تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: معارك الشام

فنظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرار وهو أسير فعظم الأمر عليهم وقاتلوا قتالاً شديداً ليخلصوه فما وجدوا إلى ذلك سبيلاً وأرادوا الهرب. فقال رافع بن عميرة الطائي: يا أهل القران إلى أين تريدون? أما علمتم أن من ولى ظهره لعدوه فقد باء بغضب من الله، وإن الجنة لها أبواب لا تفتح إلا للمجاهدين، الصبر الصبر، الجنة الجنة، يا أهل الكتاب كروا على الكفار عناد الصلبان، وها أنا معكم في أوائلكم، فإن كان صاحبكم أسر أو قتل فإن الله حي لا يموت، وهو يراكم بعينه التي لا تنام، فرجعوا وحملوا معه...
قال: ووصل الخبر إلى خالد أن ضرار قد أسر بيد الروم، وأنه قتل من الروم خلقاً كثيراً فعظم ذلك على خالد، وقال: في كم العدو? قالوا: في اثني عشر ألف فارس. فقال: والله ما ظننت إلا أنهم في عدد يسير، ولقد غررت بقومي، ثم سأل عن مقدمهم من يكون? فقيل وردان صاحب حمص، وقد قتل ضرار ولده همدان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم أرسل إلى أبي عبيدة يستشيره فبعث إليه أبو عبيدة يقول له: اترك على الباب الشرقي من تثق به وسر إليهم فإنك تطحنهم بإذن الله تعالى. فلما وصل الجواب إلى خالد قال: والله ما أنا ممن يبخل بنفسه في سبيل الله ثم أوقف بالمكان ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه ومعه ألف فارس، وقال له: أحذر أن تنفذ من مكانك. فقال ميسرة: حباً وكرامة، وعطف خالد بالناس، وقال لهم: أطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة فإذا أشرفتم على العدو فاحملوا حملة واحدة ليخلص فيها ضرار إن شاء الله تعالى إن كانوا أبقوا عليه، والله إن كانوا عجلوا عليه لنأخذن بثأره إن شاء تعالى وأرجو أن لا يفجعنا به، ثم تقدم أمام القوم وجعل يقول:
الـيوم فـاز فـيه مـن صـدق
لا أرهب الموت إذا الموت طرق
لأروين الرمح من ذوي الحـدق
لأهتكن البيض هتكـاً والـدرق
عسى أرى غداً مقام من صـدق
في جنة الخلد وألقى من سـبـق
خولة بنت الأزور
فبينما خالد يترنم بهذه الأبيات، إذ نظر إلى فارس على فرس طويل وبيده رمح طويل وهو لا يبين منه إلا الحدق والفروسية تلوح من شمائله وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق لامته وقد خرم وسطه بعمامة خضراء وسحبها على صدره ومن ورائه وقد سبق أمام الناس كأنه نار، فلما نظره خالد قال: ليت شعري من هذا الفارس وايم الله إنه لفارس شجاع، ثم اتبعه خالد والناس، وكان هذا الفارس أسبق الناس إلى المشركين. قال وكان رافع بن عمير الطائي رضي الله عنه في قتال المشركين وقد صبر لهم هو ومن معه إذ نظر خالداً ولد أنجده هو ومن معه من المسلمين، ونظر إلى الفارس الذي وصفناه وقد حمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم، ثم غاب في وسطهم فما كانت إلا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء جمن الروم، وقد قتل رجالاً وجندل أبطالاً وقد عرض نفسه للهلاك، ثم اخترق القوم غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم في الناس وكثر قلقهم عليه، فأما رافع بن عميرة ومن معه فما ظنوا إلا أنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد فهم على ذلك إذ أشرف عليهم رضي الله عنه وهو في كبكبة من الخيل، فقال رافع بن عميرة: من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته. فقال خالد: والله إنني أشد إنكاراً منكم له ولقد أعجبني ما. ظهر منه ومن شمائله. فقال رافع: أيها الأمير إنه منغمس في عسكر الروم يطعن يميناً وشمالاً.
فقال خالد: معاشر المسلمين احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله. قال فأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة والتصق بعضهم ببعض وخالد أمامهم إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار والخيل في أثره، وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل، فعند ذلك حمل خالد ومن معه ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين. قال فتأملوه فرأوه قد تخضب بالدماء فصاح خالد والمسلمون: لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله وأظهر شجاعته على الأعداء، اكشف لنا عن لثامك. قال فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون، وقالوا: أيها الرجل الكريم، أميرك يخاطبك وأنت تعوض عنه اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيماً فلم يرد عليهم جواباً، فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال له: ويحك لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك، من أنت. قال فلما لج عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث، وقال: إنني يا أمير لم أعرض عنك إلا حياء منك لأنك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد زائدة الكمد. فقال لها: من أنت. قالت: أنا خولة بنت الأزور المأسور بيد المشركين أخي وهو ضرار وإني كنت مع بنات العرب وقد أتاني الساعي بأن ضرار أسير فركبت وفعلت ما فعلت. قال خالد: نحمل بأجمعنا ونرجو من الله أن نصل إلى أخيك فنفكه. قال عامر بن الطفيل: كنت عن يمين خالد بن الوليد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة. ولما حمل خالد ومن معه إذا بالروم قد اضطربت جيوشهم ونظر وردان إليهم. فقال لهم: اثبتوا للقوم فإذا رأوا ثباتكم ولوا عنكم ويخرج أهل دمشق يعينونكم على قتالهم. قال فثبت المسلمون لقتال الروم وحمل خالد بالناس حملة منكرة وفرق القوم يميناً وشمالاً وقصد خالد مكان صاحبهم وردان عند اشتباك الأعلام والصلبان وإذا حوله أصحاب الحديد والزرد النضيد وهم محدقون به، فحمل خالد عليهم حملة منكرة واشتبك المسلمون بقتال الروم وكل فرقة مشغولة بقتال صاحبها. وأما خولة بنت الأزور فإنها جعلت تجول يميناً وشمالاً وهي لا تطلب إلا أخاها وهي لا ترى له أثراً ولا وقفت له على خبر إلى وقت الظهر وافترق القوم بعضهم عن بعض وقد أظهر الله المسلمين على الكافرين وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. قال وتراجعت كل فرقة إلى مكانها وقد كمدت أفئدة الروم ما ظهر لهم من المسلمين وقد هموا بالهزيمة وما يمسكهم إلا الخوف من صاحبهم وردان، فلما رجع القوم إلى مكانهم أقبلت خولة بنت الأزور على المسلمين وجعلت تسألهم رجلاً رجلاً عن أخيها فلم تر من المسلمين من يخبرهما أنه نظره أو رآه أسيراً أو قتيلاً، فلما يئست منه بكت بكاءاً شديداً وجعلت تقول: يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي سنان طعنوك أم بالحسام قتلوك، يا أخي أختك لك الفداء لو أني أراك أنقذتك من أيدي الأعداء، ليت شعري أترى أني أراك بعدها أبداً، فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ، ليت شعري لحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء. قال فبكى الناس من قولها وبكى خالد وهم أن يعاود بالحملة إذ نظر إلى كردوس من الروم قد خرج من ميمنة العقبان فتأهب الناس لحربهم وتقدم خالد وحوله أبطال المسلمين. فلما قربوا من القوم رموا رماحهم من أيديهم والسيوف وترجلوا ونادوا بالأمان. فقال خالد: اقبلوا أمانهم وائتوني بهم فأتوا إليه. فقال خالد: من أنتم. فقالوا: نحن من جند هذا الرجل وردان ومقامنا بحمص وقد تحقق عندنا أنه ما يطيقكم ولا يستطيع حربكم فأعطونا الأمان واجعلونا من جملة من صالحتم من سائر المدن حتى نؤدي لكم المال الذي أردتم في كل سنة، فكل من في حمص يرضى بقولنا.
فقال خالد: إذا وصلت إلى بلادكم يكون الصلح إن شاء الله تعالى إن كان لكم فيه أرب، ولكن نحن ههنا لا نصالحكم ولكن كونوا معنا إلى أن يقضي الله ما هو قاض، ثم إن خالداً قال لهم: هل عندكم علم عن صاحبنا الذي قتل ابن صاحبكم? قالوا: لعله عاري الجسد الذي قتل منا مقتلة عظيمة وفجع صاحبنا في ولده. قال خالد: عنه سألتكم. قالوا: بعثه وردان عندنا أسيراً على بغل. ووكل به مائة فارس وأنفذه إلى حمص ليرسله إلى الملك ويخبره بما فعل. قال ففرح خالد بقولهم، ثم دعا برافع بن عميرة الطائي وقال: يا رافع ما أعلم أحداً أخبر منكم بالمسالك وأنت الذي قطعت بنا المفازة من أرض السماوة وأعطشت الإبل وأوردتها الماء وأوردتنا أركة وما وطئها جيش قبلنا لمفازتها، وأنت أوحد أهل الأرض في الحيل والتدبير فخذ معك من أحببت واقبع أثر القوم فلعلك أن تلحق بهم وتخلص صاحبنا من أيديهم، فلئن فعلت ذلك لتكونن الفرحة الكبرى. فقال رافع بن عميرة: حباً وكرامة، ثم إنه في الحال انتخب مائة فارس شداداً من المسلمين وعزم على المسير فأتت البشارة إلى خولة بمسير رافع بن عميرة ومن معه في طلب أخيها ضرار فتهلل وجهها فرحاً وأسرعت إلى لبس سلاحها وركبت جوادها وأتت إلى خالد بن الوليد، ثم قالت له: أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر محمد سيد البشر إلا ما سرحتني مع من سرحت فلعلي أن أكون مشاهدة لهم. فقال خالد لرافع: أنت تعلم شجاعتها فخذها معك. فقال له رافع: السمع والطاعة، وارتحل رافع ومن معه، وسارت خولة في أثر القوم ولم تختلط بهم، وسار إلى أن قرب من سليمة. قال فنظر رافع فلم يجد للقوم أثراً. فقال لأصحابه: أبشروا فإن القوم لم يصلوا إلى ههنا، ثم إنه كمن بهم في وادي الحياة، فبينما هم كامنون إذا بغبرة قد لاحت. فقال رافع لأصحابه: أيقظوا خواطركم وانتبهوا، فأيقظ القوم هممهم وبقوا في انتظار العدو وإذا بهم قد أتوا وهم محدقون بضرار، فلما رأى رافع ذلك كبر وكبر المسلمون معه وحملوا عليهم فلم يكن غير ساعة حتى خلص الله ضراراً وقتلوهم جميعاً وأخذوا سلبهم. قال وإذا بعساكر الروم قد أقبلت منهزمة وأولهم لا يلتفت إلى آخرهم، فعلم رافع أن القوم انهزموا فأقبل يلتقطهم بمن معه. قال وكان خالد لما أرسل رافع بن عميرة في طلب ضرار ليخلصه ومعه المائة فارس صدم وردان صدمة من يحب الشهادة ويبتغي دار السعادة وصدم المسلمون الروم، فما لبثوا أن ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وكان أولهم وردان واتبعهم المسلمون وأخذوا أسلابهم وأموالهم ولم يزالوا في طلبهم إلى وادي الحياة، فاجتمع المسلمون برافع بن عميرة الطائي وضرار بن الأزور وسلموا عليهم وفرحوا بضرار رضي الله عنه وهنأوه بالسلامة. قال وأثنى خالد على رافع خيراً ورجعوا إلى دمشق وفرح المسلمون بالنصر واتصل الخبر إلى الملك هرقل وأن وردان قد انهزم وقتل ولده همدان. قال فأيقن بزوال ملكه من الشام فكتب إلى وردان كتاباً يقول فيه: أما بعد فإني قد بلغني جياع الأكباد عراة الأجساد قد هزموك وقتلوا ولدك رحمه المسيح ورحمك، ولولا أني أعلم أنك فارس الحرب ومجيد الطعن والضرب وليس النصر آتيك لحل عليك سخطي والآن مضى ما مضى، وقد بعثت إلى أجنادين تسعين ألفاً، وقد أمرتك عليهم فسر نحوهم وانجد أهل دمشق وأنفذ بعضهم ليمنعوا من في فلسطين من العرب وحل بينهم وبين أصحابهم وانصر دينك وصاحبك. قال وأنفذ إليه الكتاب مع خيل البريد، فلما ورد عليه الكتاب وقرأه سرى عنه بعض ما كان يجده وأخذ الأهبة إلى أجنادين فسار فوجد الروم قد تجمعوا وأظهروا العدد والزرد وخرجوا إلى لقائه وسلموا عليه وتقدموا بين يديه وعزوه في ولده، فلما استقر قراره قرأ عليهم منشور الملك فأجابوا بالسمع والطاعة وأخفوا على أنفسهم.
قال: حدثني روح بن طريف قال: كنت مع خالد بن الوليد على باب شرقي حين رجعنا من هزيمة وردان وإذ قد ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي، وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصرى يعلم خالداً بمسير الروم إليه من أجنادين في تسعين ألف فارس فخذ أهبتك للقائهم. قال: فلما سمع خالد ذلك ركب إلى أبي عبيدة وقال له: يا أمين الأمة هذا عباد بن سعد الحضرمي قد بعث به شرحبيل بن حسنة يخبر أن طاغية الروم هرقل قد ولى وردان على من تجمع بأجنادين من الروم وهم تسعون ألفاً فما ترى من الرأي يا رسول الله. فقال أبو عبيدة: اعلم يا أبا سليمان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقون مثل شرحبيل بأرض حسنة بأرض بصرى، ومعاذ بن جبل بحوران، وبزيد بن أبي سفيان بالبلقاء، والنعمان بن المغيرة بأرض تدمر وأركة، وعمرو بن العاص بأرض فلسطين، والصواب أن تكتب إليهم ليقصدونا حتى نقصد العدو ومن الله نطلب المعونة والنصر. قال فكتب خالد إلى عمرو بن العاص كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن إخوانكم المسلمين قد عولوا على المسير إلى أجنادين فإن هناك تسعين ألفاً من الروم يريدون المسير إلينا "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون" الصف: 8، فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقدم علينا بمن معك إلى أجنادين تجدنا هناك إن شاء الله تعالى والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته، وكتب نسخة الكتاب إلى جميع الأمراء الذين ذكرناهم ثم أمر الناس بالرحيل فرفعت القباب والهوادج على ظهور الجمال وساقوا الغنائم والأموال. فقال خالد لأبي عبيدة: قد رأيت رأياً أن أكون على الساقة مع الغنائم والأموال والبنين والولدان وكن أنت على المقدمة مع خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة: بل أكون أنا على الساقة وأنت على المقدمة مع الجيش. فإن وصل إليك جيش الروم مع وردان يجدوك على أهبة فتمنعهم من الوصول إلى الحريم والأولاد فلا يصلون إلينا إلا وأنت قتلت فيهم وإلا كنت أنا ومن معي غنيمة لهم إذا كنت أنا في المقدمة. فقال خالد: لست أخالفك فيما ذكرت. ثم إن خالداً قال: أيها الناس إنكم سائرون إلى جيش عظيم فأيقظوا هممكم، وإن الله وعدكم النصر وقرأ عليهم قوله تعالى: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" البقرة: 249،.
ثم إن خالداً أخذ الجيش وسار في المقدمة وبقي أبو عبيدة في ألف من المسلمين، ونظر إلى ذلك أهل دمشق فعطفوا عليهم وأقبلوا بسيوفهم وهم يظنون أنهم منهزمون لأجل ما بلغهم من الجيش العظيم الذي هو بأجنادين. فقال لهم عقلاوهم: إن كانوا سائرين على طريق بعلبك فإنهم يريدون فتحها وفتح حمص، وإن كانوا على طريق مرج راهط فالقوم لا شك هاربون إلى الحجاز ويتركون ما أخذوا من البلاد. قال وكان بدمشق بطريق يقال له بولص وكان عظيماً عند النصرانية، وكان إذا قدم على الملك يعظمه، وكان الملعون فارساً وذلك أنهم كان عندهم شجرة فرماها بسهم فغاص السهم في الشجرة من قوة ساعده. ثم إن من عجبه كتب عليها: إن كل من يدعي الشجاعة فليرم بسهمه إلى جانب سهمي، وكان قد شاع ذكره بذلك ولم يحضر قتال المسلمين منذ دخلوا دمشق، فلما اجتمعوا عليه قال لهم بولص: ما الذي حل بكم. فأعلموه بما جرى عليهم من المسلمين وقالوا له: إن كنت تريد حياة الأبد عند الملك وعند المسيح وعند أهل دين النصرانية فدونك والمسلمين فاخرج إليهم وأخطف كل من تخلف منهم، وإن رأيت لنا فيهم مطمعاً قاتلناهم. فقال بولص: إنما كان سبب تخلفي عن نصرتكم لأنكم قليلو الهمة لقتال عدوكم فتخلفت عنكم والآن لا حاجة لي في قتال العرب.
فقالوا: وحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن سرت في مقدمتنا لنثبتن معك وما منا من يولي عنك وقد حكمناك فيمن ينهزم أن تضرب عنقه ولا يعارضك في ذلك أحد. قال فلما استوثق منهم دخل إلى منزله ولبس لامته. فقالت له زوجته: إلى أين عزمت. قال: أخرج في أثر العرب فقد ولآني أهل دمشق عليهم. فقالت: لا تفعل والزم بيتك ولا تطلب ما ليس لك به حاجة فإني رأيت لك في المنام رؤيا. فقال لها: وما الذي رأيت. قالت: رأيتك كأنك قابض قوسك وأنت ترمي طيوراً وقد سقط بعضها على بعض، ثم عادت صاعدة فبينما أنا متعجبة إذ أقبلت نحوك سحابة من الجو فانقضت عليك من الهواء وعلى من معك فجعلت تضرب هاماتهم ثم وتيتم هاربين، ورأيتها لا تضرب أحداً إلا صرعته ثم إني انتبهت وأنا مذعورة باكية العين عليك. فقال لها: ومع ذلك رأيتني فيمن صرع. قالت: نعم وقد صرعك فارس عظيم. قال: فلطم وجهها وقال: لا بشرك المسيح بخير لقد دخل رعب العرب في قلبك حتى صرت تحلمين بهم في النوم فلا بد أن اجعل لك أميرهم خادماً وأجعل أصحابه رعاة الغنم والخنازير. فقالت له زوجته: افعل ما تريد فقد نصحتك. قال فلم يلتفت إلى كلامها وخرج من عندها وركب وسار معه من كان في دمشق من الروم،، فعرضهم فإذا هم ستة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل من أهل النجدة والحمية وسار يطلب القوم.
معركة حول دمشق
وكان حنا أسد في المقدمة وأبو عبيدة يمشي مع الأموال والأغنام والجمال إذ نظر رجل من أصحابه، وهو يتأمل الغبرة من ورائهم، فسأله أبو عبيدة عن ذلك فقال: أظنها غبرة القوم. فقال أبو عبيدة: إن أهل الشام قد طمعوا فينا، وهذا العدو قاصد إلينا. قال فما استتم كلامه حتى بدت الخيل كأنها السيل وبولص في أوائلهم. فلما نظر إلى أبي عبيدة قصد ومعه الفرسان وأخوه بطرس قصد الحريم والمال فاقتطعوا منها قطعة. فلما احتوى عليها رجع بها بطرس نحو دمشق. فلما بعد جلس هناك لينظر ما يكون من أمر أخيه. وأما أبو عبيدة فإنه لما نظر إلى ما فاجأه من الروم. قال: والله لقد كان الصواب مع خالد لما قال دعني في الساقة فلم أدعه وإنه قد وصل إليه بولص وقصده والأعلام والصلبان على رأسه مشتبكة والنساء يولولن والصبيان يصيحون والألف من المسلمين قد اشتغلوا بالقتال وقد قصد عدو الله بولص أبا عبيدة واشتد بينهم الحرب ووقع القتال من أصحابه والروم وارتفعت الغبرة عليهم وهم في كر وفر على أرض سحوراً. قال وقد بلى أبو عبيدة بالقتال وصبر صبر الكرام، قال سهيل بن صباح، وكان تحتي جواد محجل من خيل اليمن شهدت عليه اليمامة فقومت السنان وأطلقت العنان فخرج كأنه الريح العاصف، فما كان غير بعيد حتى لحقت بخالد بن الوليد والمسلمين فأقبلت إليهم صارخاً وقلت: أيها الأمير أدرك الأموال والحريم. فقال خالد: ما وراءك يا ابن الصباح? فقلت: أيها الأمير إلحق أبا عبيدة والحريم فإن نفير دمشق قد لحق بهم، وقد اقتطعوا قطعة من النسوان والولدان وقد بلى أبو عبيدة بما لا طاقة لنا به. قال فلما سمع خالد ذلك الكلام من سهل بن صباح قال: إنما لله وإنا إليه راجعون، قد قلت لأبي عبيدة دعني أكون على الساقة، فما طاوعني ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ثم أمر رافع بن عميرة على ألف من الخيل. وقال له: كن في المقدمة وأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على ألفين. وقال له: أدرك العدو وسار خالد في أثره ببقية الجيش.
قال: فبينما أبو عبيدة في القتال مع بولص لعنه الله إذ تلاحقت به جيوش المسلمين وحملوا على أعداء الله وداروا بهم من كل مكان، فعند ذلك تنكست الصلبان، وأيقن الروم بالهوان، وتقدم الأمير ضرار بن الأزور كأنه شعله نار وقصد نحو بولص. فلما رآه عدو الله تبلبل خاطره ووقعت الرعدة في فرائصه، وقال لأبي عبيدة: يا عربي وحق دينك إلا ما قلت لهذا الشيطان يبعد عني وكان بولص قد سمع به ورآه من سور دمشق وما صنع بعسكر كلوس عزازير وسمع بفعاله في بيت لفيا، فلما رآه مقبلاً إليه عرفه. فقال لأبي عبيدة: قل لهذا الشيطان لا يقربني فسمعه ضرار رضي الله عنه فقال له: أنا شيطان إن قصرت عن طلبك، ثم إنه فاجأه وطعنه، فلما رأى بولص أن اللعنة واصلة إليه رمى نفسه عن جواده وطلب الهرب نحو أصحابه فسار ضرار في طلبه. وقال له: أين تروح من الشيطان وهو في طلبك? ولحقه وهم أن يعلوه بسيفه. فقال بولص: يا بدوي إبق علي ففي بقائي بقاء أولادكم وأموالكم. قال فلما سمع ضرار قوله أمسك عن قتله وأخذه أسير، هذا والمسلمون قد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة.
قال: حدثني أسلم بن مالك اليربوعي عن أبي رفاعة بن قيس. قال: كنت يوم وقعة سحوراً مع المسلمين وكنت في خيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال فسرنا بالروم من كل جانب وبدلنا أسيافنا في القوم، وكانوا ستة كتائب في كل كتيبة ألف فارس قال رفاعة بن قيس: فوالله لقد حملنا يوم فتح دمشق وأنه ما رجع منهم فوق المائة ووجه خبر لضرار أن خولة مع النسوان المأسورات فعظم ذلك عليه وأقبل على خالد وأعلمه بذلك، فقال له خالد: لا تجزع، لقد أسرنا منهم خلقاً كثيراً، وقد أسرت أنت بولص صاحبهم وسوف نخلص من أسر من حريمنا ولا بد لنا من دمشق في طلبهم، ثم أمر خالد أن يسيروا بالناس على مهل حتى ننظر ما يكون من أمر حريمنا. ثم إنه سار في ألف فارس جريدة وبعث العسكر كله إلى أبي عبيدة مخافة أن يلحقهم وردان بجيوشه فسار القوم وتوجه خالد بمن معه في طلب المأسورات، وقد قدم أمامه رافع بن عميرة الطائي وميسرة بن مسروق العبسي وضرار بن الأزور.
قال: حدثني سعيد بن عمر عن سنان بن عامر اليربوعي، قال: سمعت حبيب بن مصعب يقول: لما اقتطعوا من ذكرنا من نساء العرب سار بهم بطرس أخو بولص إلى أن نزل بهم إلى النهر الذي ذكرناه، ثم قال بطرس: أنا لا أبرح من ههنا حتى أنظر ما يكون من أمر أخي، ثم إنه عرض عليه النساء المأسورات فلم يعجبه منهن إلا خولة بنت الأزور أخت ضرار. قال بطرس: هذه لي وأنا لها لا يعارضني فيها أحد، فقال له أصحابه: هي لك وأنت لها. قال وكل من سبق إلى واحدة يقول هي لي حتى قسموا الغنيمة على ذلك، ووقفوا ينتظرون ما يكون من أمر بولص وأصحابه، وكان في النساء عجائز من حمير وتبع من نسل العمالقة والتتابعة وكن قد اعتدن ركوب الخيل فقالت لهن خولة بنت الأزور: يا بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيداً لأهل الشرك، فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن في أحياء العرب ومحاضر الحضر ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك، وإني أرى التقل عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكن من خدمة الروم الكلاب.
فقالت عفرة بنت غفار الحميرية: صدقت، ووالله يا بنت الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام، ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، وإنما دهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم، فقالت خولة: يا بنات التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم أو نستريح من معرة العرب، فقالت عفرة بنت غفار والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عموداً من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمود الخيمة وسعت من ورائها عفرة وأم أبان بنت عتبة وسلمة بنت زارع ولبنى بنت حازم ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت النعمان، ومثل هؤلاء رضي الله عنهن. فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهم. قال فهجمت خولة أمامهن، فأول ما ضربت رجلاً من القوم على هامته بالعمود فتجندل صريعاً والتفت الروم ينظرون ما الخبر، فإذا هم بالنسوة، وقد أقبلن والعمد بأيديهن فصاح بطريق: يا ويلكن ما هذا، فقالت عفرة: هذه فعالنا فلنضربن القوم بهذه الأعمدة ولا بد من قطع أعماركم وانصرام آجالكم يا أهل الكفر. قال فجاء بطرس، وقال: تفرقوا عن النسوة ولا تبذلوا فيهن السيوف ولا أحد منكم يقتل واحدة منهن وخذوهن أسارى ومن وقع منكم بصاحبتي فلا ينلها بمكروه، فتفرق القوم عليهن وحدقوا بهن من كل جانب وراموا الوصول إليهن فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً ولم تزل النساء لا يدنو إليهن أحد من الروم إلا ضربن قوائم فرسه فإذا تنكس عن جواده بادرت النساء بالأعمدة فيقتلنه ويأخذن سلاحه..
قال الواقدي: ولقد بلغني أن النسوة قتلن ثلاثين فارساً من الروم، فلما نظر بطرس إلى ذلك غضب غضباً شديداً وترتجل وترجلت أصحابه نحو النساء، والنساء يحرض بعضهن بعضاً ويقلن متن كراماً ولا تمتن لئاماً، وأظهر بطرس رأسه وتلهفه عندما نظر إلى فعلهن، ونظر إلى خولة بنت الأزور، وهي تجول كالأسد وتقول:
نحن بنات قبـع وحـمـير
وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعـر
اليوم تسقون العذاب الأكبر
قال: فلما سمع بطرس ذلك من قولها، ورأى حسنها وجمالها، قال لها: يا عربية أقصري عن فعالك فإني مكرمك بكل ما يسرك أما ترضين أن أكون أنا مولاك وأنا الذي تهابني أهل النصرانية ولي ضياع ورساتيق وأموال ومواش ومنزلة عند الملك هرقل، وجميع ما أنا فيه مردود إليك، أما ترضين أن تكوني سيدة أهل دمشق فلا تقتلي نفسك، فقالت له: يا ملعون ويا ابن ألف ملعون والله لئن ظفرت بك لأقطعن رأسك والله ما أرضى بك أن ترعى لي الإبل فكيف أرضاك أن تكون لي كفؤا. قال فلما سمع كلامها حرض أصحابه على القتال، وقال: أترون عاراً أكبر من هذا في بلاد الشام أن النسوة غلبنكم فاتقوا غضب الملك، قال فافترق القوم وحملوا حملة عظيمة وصبر النساء لهم صبر الكرام، فبينما هم على ذلك إذ أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من المسلمين، ونظروا إلى الغبار وبريق السيوف، فقال لأصحابه: من يأتيني بخبر القوم فقال رافع بن عميرة الطائي: أنا آتيك به قال ثم أطلق جواده حتى أشرف على النسوة وهن يقاتلن قتال الموت. قال: فرجع وأخبر خالداً بما رأى، فقال خالد: لا أعجب من ذلك إنهن من بنات العمالقة ونسل التبابعة، وما بينهن وبين تبع إلا قرن واحد، وتبع بن بكر بن حسان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وشهد له بالرسالة قبل أن يبعث، وقال:
شهدت بأحمد أنه رسـول
من الله بارئ كل النسـم
وأمته سميت في الزبـور
بأمة أحمد خـير الأمـم
فلو مد عمري إلى عصره
لكنت وزيراً له وابن عم
بطولة النساء
قال الواقدي: قال خالد: لا تعجب يا رافع واعلم أن هؤلاء النسوة لهن الحروب المذكورات والمواقف المشهورات، وإن يكن فعلهن ما ذكرت، فلقد سدن على نساء العرب إلى آخر الأبد وأزلن عنهن العار فتهللت وجوه الناس فرحاً ووثب ضرار بن الأزور عندما سمع كلام رافع. فقال خالد: مهلاً يا ضرار ولا تعجل فإنه من تأنى نال ما تمنى فقال ضرار: أيها الأمير لا صبر لي عن نصرة بنت أبي وأمي فقال خالد: قد قرب الفرج إن شاء الله تعالى، ثم إن خالداً وثب ووثب أصحابه، وقال: معاشر الناس إذا وصلتم إلى القوم فتفرقوا عليهم وأحدقوا بهم فعسى أن يخلص حريمنا، فقالوا: حباً وكرامة. ثم تقدم خالد. قال فبينما القوم في قتال شديد مع النسوة إذ أشرفت عليهم المواكب والكتائب والأعلام والرايات، فصاحت خولة: يا بنات التبابعة، قد جاءكم الفرج ورب الكعبة. ونظر بطرس إلى الكتائب المحمدية، وقد أشرفت فخفق فؤاده وارتعدت فرائصه وأقبل القوم ينظر بعضهم بعضاً. قال فصاح بطرس: يا معاشر النسوة إن الشفقة والرحمة قد دخلت في قلبي، لأن لنا أخوات وبنات وأمهات، وقد وهبتكن للصليب. فإذا قدم رجالكن فأخبرنهم بذلك. ثم عطف يريد الهرب إذ نظر إلى فارسين، قد خرجا من قلب العسكر أحدهما قد تكمى في سلاحه والآخر عاري الجسد، وقد أطلقا عنانهما كأنهما أسدان. وكانا خالداً وضراراً، فلما رأت خولة أخاها قالت له: إلى أين يا ابن أمي أقبل. فصاح بها بطرس: انطلقي إلى أخيك، فقد وهبتك له. ثم ولى يطلب الهرب. فقالت له خولة، وهي تهزأ به: ليس هذا من شيم الكرام تظهر لنا المحبة والقرب. ثم تظهر الساعة الجفاء والتباعد وخطت نحوه. فقال: قد زال عني ما كنت أجد من محبتك. فقالت له خولة: لا بد لي منك على كل حال. ثم أسرعت إليه، وقد قصده ضرار. فقال له بطوس: خذ أختك عني فهي مباركة عليك، وهي هدية مني إليك. فقال له الأمير ضرار: قد قبلت هديتك وشكرتها وإني لا أجد لك على ذلك إلا سنان رمحي فخذ هذه مني إليك. ثم حمل عليه ضرار، وهو يقول "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" النساء: 86، ثم همهم إليه بالطعنة ووصلت إليه خولة فضربت قوائم فرسه فكبا به الجواد ووقع عدو الله إلى الأرض فأدركه ضرار قبل سقوطه وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الجانب الآخر فتجندل صريعاً إلى الأرض لصاح به خالد: لله درك يا ضرار هذه طعنة لا يخيب طاعنها.
ثم حملوا في أعراض القوم وجميع المسلمين معهم فما كانت إلا جولة جائل حتى قتل من الروم ثلاثة آلاف رجل. قال حامد بن عامر اليربوعي: لقد عمدت لضرار بن الأزور في ذلك اليوم ثلاثين قتيلاً وقتلت خولة خمس وعفراء بنت غفار الحميرية أربعة. قال وانهزم بقية القوم، ولم يزالوا في أدبارهم والمسلمون على أثرهم إلى أن وصلوا إلى دمشق فلم يخرج إليهم أحد بل زاد فزعهم واشتد الأمر عليهم ورجع المسلمون وجمعوا الغنائم والخيل والسلاح والأموال، ثم قال خالد: الحقوا بأبي عبيدة لئلا يكون وردان وجيوشه قد لحقوا به، فسار ضرار والقوم، وقيل: جعل ضرار رأس البطريق على سنان رمحه، ولم يزل القوم سائرين إلى أن لحقوا بأبي عبيدة في مرج الصفر، وقد تخفف أبو عبيدة حتى أشرف المسلمون عليه، فكبر وكبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه المسلمون. فلما اجتمع الناس سلم بعضهم على بعض ورأوا المأسورات وقد خلصن، وأخبر خالد أبا عبيدة بما فعلت خولة وعفرة وغيرهن من الصحابة فاستبشر بنصر الله وعلموا أن الشام لهم. ثم دعا خالد ببولص، فقال له: أسلم وإلا فعلت بك كما فعلت بأخيك. فقال له: وما الذي صنعت بأخي? قال: قتلته، وهذه رأسه ورماها ضرار قدامه. فلما رأى أخيه بكى، وقال له: لا بقاء لي بعده حيا فألحقوني به، قال فقام إليه المسيب بن يحيى الفزاري رضي الله عنه فضرب عنقه بأمر خالد ثم رحل القوم.
قال الواقدي: حدثنا سعيد بن مالك. قال: لما بعث خالد الكتب إلى شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يزيد بن أبي سفيان وإلى عمرو بن العاص قرأ كل واحد من الأمراء كتابه. قال فساروا بأجمعهم إلى أجنادين لعون إخوانهم وجاءوا بعددهم وعديدهم. قال سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت في خيل معاذ بن جبل، فلما أشرفنا بأجمعنا على أجنادين كنا كلنا على سيارة واحدة في يوم واحد، وذلك في شهر صفر سنة 20 من الهجرة وتبادر المسلمون يسلم بعضهم على بعض، قال ورأينا جيوش الروم في عدد لا يحصى. فلما أشرفنا عليهم أظهروا لنا زينتهم وعددهم واصطفوا مواكب وكتائب ومدوا صفوفهم، فكانوا ستين صفاً في كل صف ألف فارس، قال الضحاك بن عروة: والله لقد دخلنا العراق ورأينا جنود كسرى فما رأينا أكثر من جنود الروم ولا أكثر من عددهم وسلاحهم. قال فنزلنا بإزائهم. قال فلما كان من الغد بادرت الروم نحونا. قال الضحاك: فلما رأيناهم، وقد ركبوا أخذنا على أنفسنا وتأهبنا، وأن خالداً ركب، وجعل يتخلل الصفوف: ويقول: اعلموا أنكم لستم ترون للروم جيشاً مثل هذا اليوم، فإن هزمهم الله على أيديكم فما يقوم لهم بعدها قائمة أبداً فأصدقوا في الجهاد وعليكم بنصر دينكم وإياكم أن تولوا الأدبار فيعقبكم ذلك دخول النار وأقرنوا المواكب ومكنوا المضارب ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة وأيقظوا هممكم.
قال الواقدي: ولقد بلغني ممن أثق به أن وردان لما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا وعولوا على حربهم جمع إليه الملوك والبطارقة وقال لهم: يا بني الأصفر اعلموا أن الملك يعول عليكم، وإذا انكسرتم لا تقوم لكم بعدها قائمة أبداً وتملك العرب بلادكم وتسبي حريمكم فعليكم بالصبر ولتكن حملتكم واحدة ولا تتفرقوا واعلموا أن كل ثلاثة منا بواحد منهم واستعينوا بالصليب ينصركم، فهذا ما كان من هؤلاء. وأما خالد رضي الله عنه فإنه مشى على أصحابه وقال: معاشر المسلمين من فيكما يحذر لنا القوم وينفرهم. فقال ضرار بن الأزور: أنا أيها الأمير. فقال خالد: أنت لها والله، ولكن يا ضرار إذا أشرفت على القوم فإياك أن تحمل نفسك ما لا تطيق، وأن تغزر بنفسك وتحمل على القوم فما أمرك الله بذلك، فقد قال الله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" البقرة: 195، قال فأطلق ضرار عنان جواده حتى أشرف على جيش الروم فرأى أثاثهم وخيامهم وشعاع البيض والطوارق والرايات كأجنحة الطيور، قال وكان وردان ينظر نحو جيش المسلمين إذ نظر إلى ضرار، وهو مشرف على القوم، فقال للبطارقة: إني أرى فارساً قد أقبل ولست أشك أنه طليعة القوم فأيكم يأتيني به فانتدب من القوم ثلاثين فارساً طلبوا ضراراً، كلما نظر إليهم ضرار ولى من بين أيديهما فتبعوه وظنوا أنه قد انهزم، وإنما أراد بذلك أن يبعدهم عن أصحابهم، فلما بعدوا علم أنه تمكن منهم فلوى رأس جواده إليهما وصوب السنان عليهم، فأول من طعن فارساً من القوم أرداه وثنى على الآخر فأعدمه الحياة وصال فيهم صولة الأسد على الغنم ودخل رعبه في قلوبهم فولوا منهزمين فتبعهم، وهو يصرع منهم فارساً بعد فارس إلى أن صرع منهم تسعة عشر فارساً.
فلما رأوا ذلك وقرب هو من جيوش الروم لوى راجعاً إلى خالد ومعه أسلابهم وخيولهم وأعلمه بما كان، فقال له خالد: ألم أقل لك لا تغزر بنفسك ولا تحمل عليهم، فقال: إن القوم طلبوني فخفت أن يراني الله منهزماً فجاهدت بإخلاص ولا جرم أن الله ينصرنا عليهم والله لولا خوفي من ملامك لأحملن على الجميع. واعلم أن القوم غنيمة لنا. قال فرتب خالد عسكره ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين فجعل في القلب معاذ بن جبل وفي الميمنة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وفي الميسرة سعيد بن عامر وفي الجناح الأيسر شرحبيل بن حسنة، وفي الساقة يزيد بن أبي سفيان في أربعة آلاف فارس حول الحريم والبنات والأولاد، ثم التفت إلى النسوة وهن عفراء بنت غفار الحميرية وأم أبان ابنة عتبة وكانت عروساً قد تزوج بها في هذا اليوم أبان بن سعيد بن العاص والخضاب في يدها والعطر في رأسها، وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت زارع وغيرهن من النسوة ممن عرفن بالشجاعة والبراعة.
فقال لهن خالد: يا بنات العمالقة وبقية التبابعة قد فعلتن فعلاً أرضيتن به الله تعالى والمسلمين، وقد بقي لكن الذكر الجميل، وهذه أبواب الجنة قد فتحت لكن، وأبواب النار قد أغلقت عنكن وفتحت لأعدائكن، واعلمن أني أثق بكن. فإن حملت طائفة من الروم عليكن فقاتلن عن أنفسكن، وإن رأيتن أحداً من المسلمين قد ولى هارباً فدونكن وإياه بالأعمدة وأرمين بولده وقلن له: أين تولي عن أهلك ومالك وولدك وحريمك فإنكن ترضين بذلك الله تعالى. فقالت عفراء بنت غفار: أيها الأمير والله لا يفرحنا إلا أن نموت أمامك، فلنضربن وجوه الروم ولنقاتلن إلى أن لا تبقى لنا عين تطرف، والله ما نبالي إذا رمينا الروم كله قال فجزاهن خيراً. ثم عاد إلى الصفوف فجعل يطوف بينهم بفرسه، ويحرض الناس على القتال، وهو ينادي برفيع صوته: يا معاشر المسلمين: انصروا الله ينصركم، وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا نفوسكم في سبيل الله ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة، ولتكن السهام إذا خرجت من كباد القسي كأنها من قوس واحدة. فإذا تلاصقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون منها سهم صائب، "واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" آل عمران: 200، واعلموا أنكم لم تلقوا بعد هذا عدوا مثله، وأن هذه الفئة جملتهم وأبطالهم وملوكهم فجردوا السيوف وأوتروا القسي وفوقوا السهام. ثم إن خالداً أقبل ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة وذي الكلاع الحميري وربيعة بن عامر ونظائرهم. قال فلما نظر وردان إلى جيش المسلمين قد زحف، زحفوا وكانوا ملء تلك الأرض في الطول والعرض من كثرتهم فترامى الجمعان وتلاقى الفريقان، وقد أظهر أعداء الله الصلبان والأعلام، ورفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير.
فلما قرب القوم بعضهم من بعض خرج من علوج الروم شيخ كبير وعليه قلنسوة سوداء. فلما قرب من المسلمين نادى بلسان عربي: أيكم المقدم فليخاطبني وليخرج إلي وعليه أمان. قال فخر إليه خالد بن الوليد. فقال له القس: أنت أمير القوم. فقال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله، وإن أنا غيرت أو بذلت فلا إمارة لي عليهم ولا طاعة. قال القس: بهذا نصرتم علينا، ثم قال: اعلم أنك توسطت بلاداً ما جسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها، وأن الفرس دخلوها ورجعوا خائبين، وأن التبابعة أتوها وأفنوا أنفسهم عليها وما بلغوا ما أرادوا، ولكنكم أنتم نصرتم علينا وإن النصر لا يدوم لكم وصاحبي وردان قد أشفق عليكم وقد بعثني إليكم وقال: إنه يعطي كل واحد منكم ديناراً وثوباً وعمامة ولك أنت مائة ديناراً ومائة ثوب ومائة عمامة وارحل عنا بجيشكم فإن جيشنا على عدد الذر ولا تظن أن هؤلاء مثل من لقيت من جموعنا، فإن الملك ما أنفذ في هذا الجيش إلا عظماء البطارقة والأساقفة. قال خالد: والله ما نرجع إلا بإحدى ثلاث خصال: إما أن تدخلوا في ديننا، أو تؤدوا الجزية، أو القتال. وأما ما ذكرت من أنكم عدد الذر فإن الله تعالى قد وعدنا النصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل ذلك في كتابه العزيز. وأما ما ذكرت من أن صاحبكم يعطي كل واحد منا ديناراً وعمامة وثوباً فعن قريب إن شاء الله نرى ثيابكم وبلادكم وعمائمكم كل ذلك في ملكنا وبأيدينا. فقال الراهب: إني راجع إلى صاحبي أخبره بجوابك، ثم لوى راجعاً وأخبر وردان بما كان من جواب خالد. فقال وردان: أيظن أننا مثل من لقيه من قبل وإنما هؤلاء لحقهم الطمع إذ تقاصرنا عن قتالهم والملك قد أرسل إليهم أكابر البطارقة وما بيننا وبينهم إلا جولة الجائل ثم نتركهم صرعى، ثم رتب أصحابه وزحف وقدم أمامه الرجالة صفا أمام القوم والخيالة وبأيديهم المزاريق والقسي. قال فصاح معاذ بن جبل: معاشر الناس إن الجنة قد زخرفت لكم والنار قد فتحت لأعدائكم والملائكة عليكم قد أقبلت والحور العين قد تزينت للقائكم فابشروا بالجنة السرمدية، ثم قرأ "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" التوبة: 111، بارك الله فيكم الحملة. فقال خالد: مهلا يا معاذ حتى أوصي الناس، ومشى في الصفوف ورتبها وقال: اعلموا أن هؤلاء أضعافكم فطاولوهم إلى وقت العصر، فإنها ساعة نرزق فيها النصر، وإياكم أن تولوا الأدبار فيراكم الله منهزمين، ازحفوا على بركة الله تعالى.
فلما تقارب الجمعان رمت الأروام سهامهم رمية واحدة. قال فقتلوا رجالاً وجرحوا أناساً، وخالد قد منع الناس من الحملة. فقال ضرار بن الأزور: وما لنا والوقوف والحق سبحانه وتعالى قد تجلى علينا، والله ما يظن أعداء الله إلا أننا قد فشلنا عنهم وجزعنا، فأمرنا بالحملة حتى نحمل معك. قال: فأنت لها يا ضرار، فخرج ضرار بن الأزور، وقال: والله ما من شيء أشهى إلى قلبي من ذلك. ثم حمل ضرار وقد تدرع بدرع كان لبطرس أخي بولص، وألقى الزرد على وجهه وركب جواده، وكان عليه يومئذ جبتان من جلود الفيلة كان قد أخذهما أيضاً من بطرس، وقد أخفى نفسه عن الروم بلباسه ذلك، وقد أطلق عنانه وقوم سنانه وحمل في صفوف الروم فرشقوه بالسهام فلم يصل إليه منهم أذى، وهو يخترق صفوفهم، فما كان قدر ساعة حتى قتل من الروم عشرين فارساً ومثلها رجالة. قال عنان بن عوف النجبي: كنت ممن يعد قتلى ضرار بن الأزور، وكنت كلما قتل فارساً من الروم أعده، فكان جملة قتل ضرار في حملته هذه فرساناً ورجالاً ثلاثين فارساً.
قال عمر بن سالم: هكذا حدثني نوفل بن زياد. ثم إنه رمى البيضة عن رأسه والزرد عن وجهه ونادى بأعلى صوته: أنا الموت الأصفر، أنا ضرار بن الأزور، أنا صاحبكم، أنا قاتل همدان بن وردان، أنا البلاء المسقط عليكم وعلى من أشرك بالرحمن. قال فلما سمعت الروم كلامه عرفوه وتقهقروا إلى ورائهم. قال فطمع فيهم وحمل على أثرهم، فعند ذلك انطبقت عليهم الروم. فقال وردان: من هذا البدوي، فقالوا: أيها الملك هذا الذي بقي طول عمره عاري الجسد، ومرة برمح ومرة بنبل. فلما سمع ذلك وبذكر ضرار بن الأزور تنفس الصعداء وقال: هذا قاتل ولدي، ولقد اشتهيت من يأخذ منه بثأري وله مني ما يريد. قال فبرز إليه بطريق، وكان صاحب طبرية، وقال لوردان: أنا آخذ لك بالثأر، ثم لوى عنانه وحمل على ضرار فجالا أكثر من ساعة، ثم طعنه ضرار طعنة صادقة خرق بها كبد عدو الله فتجندل صريعاً، فقال وردان لهم: ما أتى به ولو أتى به عينا ما صدقته، فإن هذا لا تطيق الإنس أن تقاتله، وأنا ما أرى لهذا غيري، ثم ترجل وغير لامته وألقى عليه درعاً، وجعل على رأسه التاج وركب جواداً من الخيول العربية وهم أن يخرج إلى ضرار بن الأزور، فتقدم إليه بطريق اسمه اصطفان، وهو صاحب عمان. قال وباس ركاب وردان وقال: أيها السيد إن آخذ بثأرك من هذا الذميم أو أسرته لك أتزوجني ابنتك? فقال له وردان: هي لك وأشهد عليه من حضر من ملوك الشام. فلما سمع اصطفان بذلك خرج كأنه شعلة نار وحمل على ضرار وقال له: ويلك قد نزل بك ما لا قدرة لك به. قال فلم يدر ضرار ما يقول غير أنه أخذ حذره منه، وقد أخرج اصطفان صليباً من الذهب، وجعله في عنقه في سلسلة من الفضة وجعل يقتله ويرفعه على رأسه فعلم ضرار أنه يستنصر به عليه، فقال ضرار رضي الله عنه: إن كنت تستنصر علي به فأنا استنصر بالقريب المجيب الذي هو ممن دعاه قريب. ثم حمل عليه وأرباً الناس أبواباً من الحرب حتى ضج الناس من قتالهما، فصاح خالد: يا ابن الأزور ما هذا التكاسل والتغافل والجنة قد فتحت لك والنار قد فتحت لأعدائك، وإياك الكسل فإن الله عز وجل يعينك قال فأيقظ ضرار نفسه وانقض من سرجه وحمل على خصمه وتصايحت الروم بصاحبها تشجعه وكلاهما في ضرب عظيم، ولد حميت الشمس وتعب الجوادان. فأشار البطريق إلى ضرار أن ترجل حمى نتقابل، فهم ضرار أن يترجل شفقة على الجواد، وإذا بصفوف الروم قد خرجت ورجل يقود جنيباً أمامهم، وكان ذلك كلام البطريق، فلما نظر إليه ضرار صاح في جواده، وقال له: اجلد معي ساعة وإلا شكوتك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحمحم الجواد وشمر أجنحته جرياً واستقبل ضرار غلام البطريق بطعنه فقتله وأخذ الجنيب فركبه وأطلق جواده نحو عساكر المسلمين فتناولوه وعاد ضرار نحو البطريق. فلما رآه أقبل إليه بعد ما قتل غلامه وركب جواده أيقن عدو الله بالهلاك وعلم أنه إن ولى قتله بلا محالة، وأن وقف أهلكه. فلما نظر ضرار إلى عدو الله علم ما عنده فهجم عليه إذ نظر إلى الروم وقد خرج منهم كردوس، وذلك أن وردان لما نظر إلى صاحبه وقد أشرف على الموت علم انه إن لم يدركه هلك، فقال لقومه. يا قوم إن هذا الشيطان قد أكل من كبدي قطعة، وإذا لم أقتله قتلت نفسي ولا بد لي من الخروج إليه. قال فخرج في عشرة من البطارقة وهم مدرعون، وفي أرجلهم أخفاف من الحديد وسواعد من الحديد، وبأيديهم أعمدة من الحديد ووردان قد لبس لامته وعلى رأسه تاج عظيم فخرجوا ووردان أمامهم كأنه شعلة نار ونظر أصطفان إلى من خرج فصرخ بضرار فلم يلتفت إلى من خرج إليه إلا أنه تأهب. فبينما هم كذلك إذ نظر خالد إلى القوم وخروجهم ونظر إلى التاج، وهو يلمع على رأس صاحبهم. فقال: إن التاج لا يكون إلا على رأس الملك ولا شك أنه صاحب القوم قد خرج إلى صاحبنا فما الذي يقعدنا عن نصرته? ثم قال لأصحابه: لا يخرج إلا عشرة حتى نساوي القوم، فخرج خالد في عشرة من أصحابه وأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة، قال ووصل الروم إلى ضرار فاستقبلهم بقلب أقوى من الحجر الجلمود، قال فناداه خالد: أبشر يا ضرار. فقد أسعدك الجبار ولا تجزع من الكفار، فقال ضرار رضي الله عنه: ما أقرب النصر من الله، وجاء خالد ومن معه والتقت الرجال بالرجال وانفرد كل واحد بصاحبه وطلب خالد وردان، ولم يبرح ضرار عن خصمه اصطفان، وقد كل ساعة وارتعدت فرائصه عندما نظر إلى خالد ومن معه، فنظر يميناً وشمالاً ليطلب الهرب فعلم ضرار منه ذلك فهجم عليه بسنانه، فلما أيقن بالموت ألقى نفسه إلى الأرض وولى هارباً فبادر إليه ضرار وألقى نفسه عن جواده وطلب عدو الله حتى لحقه وتقابضا على وجه الأرض، وكان عدو الله كالصخر الجلمود، وكان ضرار نحيف الجسم غير أن الله تعالى أعطاه قوة الإيمان. فلما طال بهم العراك ضرب بيده إلى مراق بطنه وقلعه من الأرض بحيلة وجلد به الأرض فصاح عدو الله وجعل يستنجد بوردان وقال بالرومية: أيها السيد انجدني مما أنا فيه فقد هلكت، فصاح وردان: يا ويلك ومن ينقذني أنا من هؤلاء السباع الكاسرة، فسمع خالد ذلك فسمع فيه وحمل على وردان وهم ضرار بخصمه ونظر إليهما الفريقان، وأقبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار فلم يمهل على خصمه دون أن برك على صدره وذبحه مثل البعير، وكل واحد مشتغل عن نصرة صاحبه. قال فأخذ ضرار رأس عدو الله وهو ملطخ بالدماء وركب جواده وحملت الروم على المسلمين ونادى سعيد بن زيد: يا معشر الناس اذكروا الوقوف بين يدي الله الملك الجبار فإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا دخول النار، يا أهل الإيمان يا حملة القرآن اصبروا. قال فزاد الناس بقوله نشاطاً وتزاحم الفريقان. قال: وجاء وقت العصر فافترقوا وقد قتل من الروم ثلاثة آلاف وعشرة من ملوكهم، ومنهم رومان صاحب الأميرة، ودمر صاحب نوى، وكوكب صاحب أرض البلقاء، ولاوي بن حنا صاحب غزة. قال ثم افترق القوم ورجع وردان إلى مكانه وقد امتلأ قلبه رعباً مما ظهر له من المسلمين من شدة صبرهم وقتالهم. فجمع البطارقة وقال لهم: يا أهل دين النصرانية ما تقولون في هؤلاء العرب فإني أراهم غالبين علينا وقد رأيت أسيافهم قاطعة وخيلهم صابرة وسواعدكم بليدة، وإن القوم أطوع منكم لربكم وما خذلتم إلا بالظلم والجور والغدر، وما مرادي منكم إلا أن تتوبوا إلى ربكم، فإن فعلتم ذلك رجوت لكم النصر من عدوكم، وإن لم تفعلوا ذلك فأذنوا بحرب من المسيح وبهلاك أنفسكم، فإن الله عاقبكم أشد عقوبة إذ سلط عليكم أقواماً لا نفكر بهم ولا نعدهم، لأن أكثرهم جياع وعبيد وعراة ومساكين أخرجهم إلينا قحط الحجاز وجوعه وشدة الضرر والبلاء، والآن قد أكلوا من خبز بلادنا وفواكه أرضنا وأكلوا العسل والتين والعنب، وأعظم ذلك سبي نسائكم وأموالكم.
قال الواقدي: فلما سمع القوم ذلك بكوا وقالوا: نقتل عن آخرنا ولا يصل إلينا هؤلاء القوم وإنا نرى أن نقاتلهم بالرماح. قال فلما سمع وردان ذلك منهم صاح بالبطارقة وقال لهم: ما عندكم من الرأي?. فقال رجل منهم: يا وردان اعلم أنك قد بليت بقوم لا تقوم لقتالهم، وقد رأيت الواحد منهم يحمل على عسكرنا ولا يبالي من أحد ولا يرجع حتى يقتل منهم، وقد قال لهم نبيهم إن من قتل منكم صار إلى الجنة. ومن قتل من الروم صار إلى النار، والموت والحياة عندهم سواء وما أرى لكم من القوم مطمعاً إلا أن نتحيل على صاحبهم فنقتله فإن قتلتموه ينهزم القوم وإنك لا تصل إليه إلا بحيلة توقعه فيها. فقال وردان: وأي حيلة ندخل بها على القوم والحيل والخداع والمكر منهم..
فقال له البطريق: أنا أقول لك شيئاً إن صنعته وصلت به إلى أمير العرب من حيث لا يصل إليك شيء ولا أذى، وذلك أنك تنتخب عشرة من الفرسان من ذوي الشدة والبأس ويكمنون في مكمن من جهة العسكر قبل خروجك إليه وبعد ذلك تخرج إليه وتشاغله بالحديث ثم اهجم عليه وأخرج قومك يبادرون من المكمن ويقطعونه إرباً إرباً وتستريح منه وبعد ذلك تتفرق أصحابه ولا يجتمع منهم أحد. قال فلما سمع وردان ذلك من البطريق فرح فرحاً عظيماً. وقال: ما هذا إلا رأي سديد فنعم ما أشرت به وقد أصبت فيما ذكرت غير أن هذا الأمر يعمل في جنح الليل ولا يأتي الصباح إلا وقد فرغنا مما نريد، ثم إن وردان دعا برجل من العرب المتنصرة اسمه داود وكان في سكنه. وقال له: يا داود أنا أعلم أنك فصيح اللسان وإني أريد أن تخرج إلى هؤلاء العرب وتسألهم أن يقطعوا الحرب بيننا وبينهم، وقل لهم لا يخرجون لنا بكرة النهار حتى أخرج بنفسي إليهم منفرداً عن قومي ولعلنا نصطلح مع العرب. فقال داود: ويحك وتخالف أمر الملك هرقل فيما أمرك به من الحرب وتصطلح أنت والعرب فإن الملك ينسبك إلى الجزع والفزع وما كنت بالذي أخاطب العرب في ذلك أبداً فيبلغ الملك أني كنت السبب في ذلك فيقتلني. فقال له وردان: يا ويلك إنما دبرت حيلة على أمير العرب حتى أصل بها إليه فأقتله وتتفرق هؤلاء العرب عنا ثم إنه حدثه بما عزم عليه من المكر بخالد بن الوليد. فقال لوردان: إن الباغي مخول في كل فعل فالق الجمع بالجمع واترك ما عزمت عليه، فقال وردان وقد غضب: ويلك أنت تعاندني فيما أمرتك به دع عنك المحاججة. فقال: حباً وكرامة، ثم إنه مضى وقال في نفسه: إن وردان قد عزم أن يلحق بولده، ثم أقبل حتى إنه وقف قريباً من المسلمين ونادى برفيع صوته، وقال: يا معاشر العرب حسبكم من القتل وسفك الدماء فإن الله تعالى يسألكم عن سفكها، وأريد أن يخرج إلي أمير العرب حتى أخاطبه بما أرسلت به. قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه خالد رضي الله عنه وهو كأنه شعلة نار.
فلما نظر إليه داود النصراني قال له: يا عربي على رسلك فما خرجت أحارب ولا أنا من رجال الحرب وما أنا إلا رسول. فلما سمع خالد مقالته قرب منه. وقال: أذكر مسألتك واستعمل الصدق تنج فمن صدق نجا ومن كذب هلك، فقال: صدقت يا عربي، إن أميرنا وردان كاره سفك الدماء، وقد رأى شدتكم ولا يريد حربكم، وقد نظر إلى من قتل من جماعته فكره أن يحاربكم، وقد رأى أن يدفع لكم مالاً ويحقن به دماء الناس لكن بشرط أن يكون بينك وبينه كتاب وتشهد عليك كبراء قومك أنك لا تتعرض له ولا لأحد من أصحابه ولا لحصن من حصونه، فإن فعلت ذلك وثق بقولك وهو يسألك أن تقطع الحرب بقية يومك، فإذا أصبحت فاخرج بنفسك ولا يكن معك أحد ويخرج هو أيضاً منفرداً فننظر ما تتفقان عليه عسى أن تحقنا دماء الناس بيننا وبينكم. قال فلما سمع خالد ما نطق به داود قال له: إن كان ما أخبر به صاحبكم يريد به حيلة أو مكيدة فنحن والله جرثومة الخداع وما مثلنا يأتي بحيلة ولا بخديعة، فإن كان ذلك ضميره واعتقاده فما هو إلا قرب أجله وانقطاع عمره وهلاك جموعكم والانفصال بيننا وبينكم، وإن كان ذلك حقاً من قوله فلست أصالحه إلا إذا أدى الجزية عن جماعته. وأما المال فلست براغب فيه إلا على ما ذكرته لكم وعن قريب نأخذ أموالكم ونملك بلادكم. فقال داود وقد عظم عليه كلام خالد: ما يكون الأمر إلا كما ذكرت فإذا توافقتم كان الانفصال بيننا، وها أنا راجع فأذكر له ما ذكرت ثم لوى راجعاً وقد امتلأ قلبه رعباً من خالد وفزع منه فزعاً شديداً، ثم قال في نفسه: صدق والله أمير العرب وأنا أعلم والله أن وردان أول مقتول ونحن من بعده وما لي إلا أن أصدق أمير العرب وآخذ لي ولأهلي منه أماناً، ثم رجع إلى خالد وقال له: يا أمير إني قد أضمرت على سر وأريد أن أبديه لك لأني أعلم أن البلاد لكم، إن وردان قد نوى على شيء، فقال خالد: وما هو? فقال: خذ لنفسك الحذر وكن مستيقظاً فإنه قد أضمر لك كيداً، ثم أخبره بالقصة من أولها إلى آخرها، ثم قال لخالد: أريد منك الأمان لي ولأهلي. فقال خالد: الأمان لك ولأهلك ولأولادك إن أنت لم تخبر القوم ولم تغدر قال داود: لو أردت أن أغدر لما حدثتك. فقال خالد: وأين كمين القوم.. قال: عند كثيب عن يمين عسكرهم، ثم إنه خلاه ورجع وأعلم وردان ففرح وقال: الآن أرجو أن يظفرني الصليب بهم، ثم إنه دعا بعشرة من الأبطال، وقال لهم: امضوا رجالة وأكمنوا وأمرهم أن يفعلوا ما دبروه. وأما خالد فإنه رجع فلقيه أمين الأمة أبو عبيدة فرآه ضاحكاً. فقال: يا أبا سليمان أضحك الله سنك ما الخبر? فحدثه بما جرى. فقال أبو عبيدة: على ماذا عزمت? قال: عزمت أن أخرج إلى القوم وحدي. فقال: يا أبا سليمان لعمرك إنك لكفء ولكن ما أمرك الله أن تلقي بنفسك إلى التهلكة والله تعالى يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" الأنفال: 60، وقد أعد لك عشرة، وهو حادي عشر وما آمن عليك من اللعين ولكن اندب له رجالة كما ندب لك رجالة ويكمنون قريباً من القوم، فإذا صرخ اللعين بقومه فاصرخ أنت بقومك ونكون نحن متأهبين على خيولنا، فإذا فرغت من عدو الله حملنا جميعاً ونرجو من الله النصر، ثم قال: والمسلمون هم رافع بن عميرة الطائي، ومعاذ بن جبل، وضرار بن الأزور، وسعيد بن زيد، وقيس بن هبيرة، وميسرة بن مسروق العبسي، وعدي بن حاتم حتى استتم العشرة وأخبرهم خالد بما قد عزم عليه الروم من الحيلة والمكيدة التي قد دبرها وردان. وقال: اخرجوا رجالة بحيث لا يدري بكم أحد حتى إنكم تأتون الكثيب الذي عن يمين العسكر فأكمنوا هناك، فإذا صرخت بكم فبادروا وانفروا للقوم كل واحد لواحد واتركوني لعدو الله فإنني إن شاء الله تعالى كفء له فقال ضرار: أيها الأمير أخاف أن يكثر عليك الجمع الكثير فلا نأمن أن يصلوا بشرهم إليك، وقد كنت أدبر لك حيلة أننا نسير من وقتنا هذا إلى مكمن القوم فإذا وجدناهم رقوداً قتلناهم وفرغنا منهم قبل الصباح ونكمن نحن في مواضعهم فإذا خلوت أنت بعدو الله خرجنا عليكم بغير مقالة.
فقال خالد: افعل يا أبا الأزور ما ذكرت إن وجدت إلى ذلك سبيلاً وخذ معك هؤلاء الذين ندبتهم وأنت الأمير عليهم، وأرجو أن الله يبلغك ما تطلبه، وخرج هو وأصحابه في جنح الليل رجالة وبأيديهم أسلحتهم وودعوا الناس، وكان وقت خروجهم قد مضى ثلث الليل، ثم سار ضرار حتى وصل الكثيب فأوقف أصحابه وقال: على رسلكم حتى أستخبر لكم خبر القوم. فلما أشرف عليهم من بعيد سمع غطيطهم وهم نيام سكرى غرقوا في النوم لما نالهم من التعب والنصب وقد أمنوا من أحد ينظرهم. فقال ضرار في نفسه: إن أنا دنوت من القوم لأقتلهم خشيت أن يوقظ بعضهم بعضاً. قال فرجع إلى أصحابه وقال لهم: أبشروا فقد أتاكم الله بما تريدون، وأذهب عنكم ما تحذرون، فجردوا سيوفكم وسيروا إلى القوم فاقتلوهم كيف شئتم، ثم تقدم ضرار أمامهم وهم في أثره إلى أن وصل بهم إليهم فوجدهم نياماً كل واحد منهم سلاحه عند رأسه فانفرد كل واحد منهم بواحد، فلم يلبثوا إلا وقد فرغوا منهم عن آخرهم وأخذ كل واحد سلاح غريمه وأخذوا كل ما معهم من الزاد وغيره، فقال لهم ضراراً: أبشروا فإن هذا أول النصر إن شاء الله تعالى، وأقبلوا بقية ليلتهم يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على عدوهم ولم يزل كل واحد منم في مصلاه إلى أن أضاء الفجر فصلوا صلاة الفجر. فلما فرغوا من الصلاة لبس كل واحد ثياب غريمه ولباسه وغيبوا القتلى مخافة أن يرسل إليهم وردان خبراً..
معركة أجنادين
قال الواقدي: فلما أصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب أصحابه لأهبة الحرب، فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال: يا معاشر العرب أريد أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين وحقق الدماء بينهما. قال فخرج إليه خالد بن الوليد. فقال له الفارس: إن وردان يريد أن تنتظره حتى تتكلم معه. فقال خالد: السمع والطاعة ارجع وأخبره، فعند ذلك خرج وردان وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج. فقال خالد عندما رآه: هذه غنيمة للمسلمين إن شاء الله تعالى. قال فلما نظر عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما، وقد جعل عدو الله سيفه على فخذه فقال له خالد: قل ما تشاء، واستعمل الصدق والزم طريق الحق، وأعلم أنك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل. فقل: ما تريد. فقال وردان: يا خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الأمر بيني وبينكم، فإن كنت تطلب منا شيئاً فلا نبخل به عليك صدقة منا عليكم لأننا ليس عندنا أمة أضعف منكم، وقد علمنا أنكم كنتم في بلاد قحط وجوع تموتون جوعاً فاقنع منا بالقليل وارحل عنا. فلما سمع منه خالد هذا الكلام قال له: يا كلب الروم إن الله عز وجل أغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم نتقاسمهما بيننا وأحل لنا نساءكم وأولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن أبيتم فالحرب بيننا وبينكم، أو الجزية عند يد وأنتم صاغرون، وبالله أقسم إن الحرب أشهى لنا من الصلح. وأما قولك يا عدو الله لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب? وإن الواحد منا يلقي ألفاً منكم بعون الله تعالى وما هذا خطاب من يطلب الصلح، فإن كنت ترجو أن تصل إلي بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما تريد.
قال: فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن يجرد سيفه وتشابكا وتقابضا وتعانقا. قال: فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال لأصحابه: بادروا الآن الصليب قد مكنني من أمير العرب، فما استتم كلامه حتى بادر إليه الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور، وقد رموا النشاب عنهم وجردوا سيوفهم وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه وهو يزأر كالأسد وأصحابه من ورائه فالتفت عدو الله ونظر إلى القوم وهم يتسابقون إليه وهو يظن أنهم قومه حتى أنهم وصلوا إليه ونظر في أوائلهم ضرار بن الأزور. فقال لخالد: سألتك بحق معبودك أن تقتلني أنت بيدك ولا تدع هذا الشيطان يقتلني. فقال خالد: هو قاتلك لا محالة فهز ضرار سيفه وقال: يا عدو الله أين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال خالد: اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله، ثم وصل إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزوا سيوفهم في وجهه ومرادهم أن يقتلوه ونظر عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير بإصبعه الأمان الأمان. فقال خالد: يا عدو الله لا نعطي الأمان إلا لأهل الأمان وأنت أظهرت لنا المكر والخديعة "والله خير الماكرين" آل عمران: 54، فلما سمع ضرار كلام خالد لم يمهله دون أن ضربه على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه، ثم أخذ التاج من على رأسه. وقال: من سبق إلى شيء كان أولى به ولقد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه إرباً إرباً وتبادروا إلى سيفه فأخذوه، ثم إن خالداً قال لأصحابه: إني أريد أن تحملوا على الروم لأنهم مشتاقون إلى أصحابهم. قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر الروم. فلما وصل خالد الصفوف نادى: يا أعداء الله هذا رأس صاحبكم وردان.. أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه رمى الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون. فلما رأى الروم رأس وردان ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار، ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى الغروب. قال عامر بن الطفيل الدوسي: كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع المنهزمين إلى طريق غزة إذ أشرف علينا خيل فظننا أنها نجدة من عند الملك هرقل فأخفنا على أنفسنا وإذا بالغبرة قد قربت منا، فإذا هي عسكر قد أرسلها أبو بكر الصديق، وما رأوا أحداً من المنهزمين إلا قتلوه ونهبوا جميع ما معه.
قال الواقدي: وكان الروم بأجنادين تسعين ألفاً فقتل منهم في ذلك اليوم خمسون ألفاً وتفرق من بقي منهم، فمنهم من انهزم إلى دمشق، ومنهم من انهزم إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها وأخذوا منهم صلبان الذهب والفضة، فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال خالد: لست أقسم عليكم شيئاً إلا بعد فتح دمشق إن شاء الله تعالى، وكانت الوقعة بأجنادين لليلة ست خلت من جمادى الأول سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية، وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة، ثم إن خالداً رضي الله عنه كتب كتاباً إلى أبي بكر يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلام عليك. أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأزيد حمداً وشكراً على المسلمين ودماراً على المتكبرين المشركين وانصداع بيعتهم، وإنا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم وتقاسموا بدينهم أن لا يفروا ولا ينهزموا... فخرجنا إليهم واستعنا بالله عز وجل متوكلين على الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر، وكتب الله على أعدائنا القهر فقاتلناهم في كل واد وسبسب، وجملة من أحصيناهم ممن قتل من المشركون خمسون ألفاً وقتل من المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة وخمسون رجلاً ختم الله لهم بالشهادة منهم عشرون رجلاً من الأنصار ومن أهل مكة ثلاثون رجلاً ومن حمير عشرون والباقي من أخلاط الناس، ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخر، ونحن راجعون إلى دمشق إن شاء الله تعالى فادع لنا بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته، وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الرحمن بن حميد وأمره بالمسير إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وسار خالد بالمسلمين طالب دمشق.
قال الواقدي رحمة الله عليه: ولقد بلغني أن أبا بكر الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد. فلما رآه تسابقت إليه أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت? قال: من الشام وإن الله قد نصر المسلمين فسجد أبو بكر الصديق لله شكراً، وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر وقال: يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سراً، فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهراً، فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب، فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس من كل مكان، فقرأه أبو بكر ثاني مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر، وأقبل إلى المدينة من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق بن وائل، وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم حقائد وضغائن، والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وأرادوا أن يطفوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ونحن مع ذلك نقول: ليس مع الله غالب. فلما أن أعز الله لديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفاً من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين، والصواب أن لا نقربهم. فقال أبو بكر: لا أخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً. قال وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا جمعهم إلى أبي بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره وعلي بن أبي طالب عن يمينه والناس حوله، فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه وجلسوا بين يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلاماً? فكان أول من تكلم أبو سفيان بن حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر كنت لنا مبغضاً في الجاهلية، فلما هدانا الله تعالى إلى الإسلام هدمنا ما كان في قلوبنا لأن الإيمان يهدم الشرك وأنت بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن الخطاب قديماً وحديثاً? أما آن لك أن تغسل ما بقلبك من الحقد والتنافر، وإنا لنعلم أنك أفضل منا وأسبق في الإيمان والجهاد، ونحن عارفون بمرتبتكم غير منكرين. قال: فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا الكلام. فقال أبو سفيان: إني أشهدكم أني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات مكة. فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون، واجزهم بأحسن ما يعملون وارزقهم النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم "إنك على كل شيء قدير" آل عمران: 26،.
قال الواقدي: فما تقدمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله، وكان مالك يحب سيدنا علياً، وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عوم على الخروج مع الناس إلى الشام.
كتاب أبو بكر إلى خالد
قال الواقدي: واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله إلى خالد بن الوليد ومن معه عن المسلمين. أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيكم وآمركم بتقوى الله في السر والعلانية، وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين من النصر وهلاك الكافرين وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر إلى حمص وأنطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته، وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر وانزل على المدينة العظمى أنطاكية، فإن بها الملك هرقل فإن صالحك فصالحه وإن حاربك فحاربه ولا تدخل الدروب، وأقول هذا وإن الأجل قد قرب ثم كتب "كل نفس ذائقة الموت" آل عمران: 185، ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن، وقال له: أنت كنت الرسول من الشام وأنت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته يطوي المنازل والمناهل إلى أن وصل إلى دمشق.
قال: حدثني نافع بن عميرة قال: لما بعث خالد بن الوليد الكتاب إلى أبي بكر الصديق ارتحل يريد دمشق، وكان أهلها قد سمعوا بقتل بطريقهم وأبطالهم وانهزام جيوشهم ومن أرسلهم الملك بأجنادين فخافوا وتحصنوا بدمشق وأعدوا آلة الحصار ورفعوا السيوف والطوارق وعلوا على الأسوار ونشروا الأعلام والصلبان، فلما أخذوا على أنفسهم أشرف عليهم الأمير خالد بن الوليد والجيش قد زاد عمرو بن العاص في تسعة آلاف ويزيد بن أبي سفيان في ألفين وشرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة في ألفين، وأقبل السواد من ورائهم معاذ بن جبل في ألفين، فلما رأى أهل دمشق عسكر المسلمين مثل البحر الزاخر أيقنوا بالهلاك، وأقبل خالد في جيش الزحف فنزل على الدير المعروف به، وبينه وبين المدينة أقل من ميل، فلما نزل هناك دعا بالأمراء فأحضرهم، فقال لأبي عبيدة: أنت تعلم ما ظهر لنا من غدر هؤلاء القوم عند انصرافنا عنهم وخروجهم في أثرنا فامض بمن معك من أصحابك وانزل بهم على باب الجابية ولا تسمح للقوم بالأمان فيأخذوك بمكرهم ولتكن متباعداً عن الباب وابعث إليهم فوجاً بعد فوج، واجعل قتال الناس دولاً ولا يضق صدرك من كثرة المقام ولا تبرح من مكانك واحفر من القوم الكافرين. فقال أبو عبيدة: حباً وكرامة، ثم إنه خرج حتى نزل بباب الجابية ونصب له بيتاً من الشعر بالبعد من الباب.
حول دمشق
قال الواقدي: حدثني مسلمة بن عوف عن سالم بن عبد الله عن حجاج الأنصاري. قال: قلت لجدي رفاعة بن عاصم، وكان ممن قاتل بدمشق، وكان في خيل أبي عبيدة فقلت: يا جداه ما منع أبا عبيدة أن ينصب له قبة من بعض قبب الروم مما أخذه من أجنادين ومن بصرى، فقد كان عندهم ألوف من ذلك، فقال: يا بني منعهم من ذلك التواضع ولم يتنافسوا في زينة الدنيا وملكها حتى ينظروا الروم أنهم لا يقاتلون طلباً للملك، وإنما يقاتلون رجاء ثواب الله تعالى وطلب الآخرة ونصرة للدين ولقد كنا ننزل فننصب خيامنا وخيام الروم بالبعد. قال: فلما نزل أبو عبيدة على باب الجابية أمر أصحابه بالقتال. ثم إن خالداً استدعى بيزيد بن أبي سفيان، وقال له: يا يزيد خذ صاحبك وانزل على الباب الصغير واحفظ قومك، وإن خرج إليك أحد لا يكون لك به طاقة فابعث إلي حتى أنجدك إن شاء الله تعالى. ثم استدعى بشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: انزل على باب توما. ثم توجه بقومه واستدعى بعمرو بن العاص وأمره أن يسير إلى باب الفراديس. ثم استدعي بعده بقيس بن هبيرة، وقال له: أذهب بقومك إلى باب الفرج. ثم نزل خالد إلى الباب الشرقي. ودعا بضرار بن الأزور رضي الله عنه وضم إليه ألفي فارس، وقال له تطوف حول المدينة بعسكرك، وإن دهمك أمر أو لاحت لك عيون القوم فأرسل إلينا. قال ثم سار ضرار واتبعه قومه وبقي خالد على الباب الشرقي. ثم قدم عبد الرحمن بن حميد من المدينة بكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعدل إلى ناحية خالد بن الوليد على الباب الشرقي وقد تقدم للقتال طائفة من أصحابه مع رافع بن عميرة. فلما رفع إليه الكتاب فرح بعد أن قرأه على المسلمين واستبشر بقدوم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وأبي سفيان بن حرب. قال وشاع الخبر عند جميع الناس وبعث خالد كتاب أبي بكر إلى كل باب فقرئ على الناس وبات الناس متأهبين للحرب يتحارسون إلى الصباح وضرار يطوف حولهم ولا يقف في مكان واحد مخافة أن يكبس بهم العدو.
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 04-09-2012 الساعة 10:29 PM
admin غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس