الموضوع: معارك الشام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-09-2012
  #3
admin
مدير عام
 الصورة الرمزية admin
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: uae
المشاركات: 717
معدل تقييم المستوى: 10
admin تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: معارك الشام

قال الواقدي: ولقد بلغني أن أهل دمشق اجتمعوا إلى كبارهم من البلد وتشاوروا فيما بينهم. فقال بعضهم: ما لنا إلا الصلح ونعطي العرب جميع ما طلبوه منا، وقال آخرون: ما نحن بأكثر من جموع أجنادين. فقال لهم بطريق من الروم: اطلبوا لنا صهر الملك توما نتشاور في هذا الأمر لنسمع ما يقول في نطلب منه أن يكشف عنا ما نحن فيه فإما أن يصالحهم، وإما أن يحامي عنا. قال فمضى القوم إلى توما وعليه رجال موكلون بالسلاح، فأقالوا لهم: ما الذي تريدون? فقالوا: نريد صهر الملك توما نشاوره في هذا الأمر. قال فأفنوا لهم فدخلوا عليه وقتلوا الأرض بين يديه. فقال لهم: ما التي تريدون? فقالوا: أيها السيد انظر ما نزل ببلادنا، وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به. في ما أن نصالح العرب على ما طلبوا. وإما أن نرسل إلى الملك فينجدنا أو يمانع عنا فقد أشرفنا على الهلاك، فلما سمع ذلك منهم تبسم ضاحكاً وقال: يا ويلكم أطمعتم العرب فيكم وحق رأس الملك ما أرى القوم أهلاً للقتال ولا هم خاطرون لي على بال فلو فتح لهم الباب ما جسروا أن يدخلوا. فقالوا: أيها السيد إن أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة والمائة وصاحبهم داهية لا تطاق. فإن كافي ولا بد فاخرج بنا لقتالهم، فقال لهم توما: إنكم أكثر منهم ومدينتنا حصينة ولكم مثل هذا العدد والسلاح، وأما القوم فهم حفاة عراة، فقالوا له: أيها السيد إن معهم من عددنا وأسلحتنا كثيراً مما أخذوه من واقعة فلسطين ومما أخذوه من بصرى ومن يوم لقائهم بكلوس وعزازير ومما أخذوه عن أجنادين، وأيضاً إن نبيهم قال لهم: إن من قتل منا صار إلى الجنة فلأجل ذلك يبقون عراة الأجساد ليصلوا إلى ما قال لهم نبيهم. قال فضحك عن مولهم، وقال لهم: لأجل ذلك أطمعتم العرب فينا ولو صدقتم في الحرب والصدام لقتلتموهم لأنكم أضعافهم مراراً.
فقالوا: أيها السيد اكفنا مؤونتهم كيف شئت، واعلم أنك إن لم تمنعهم عنا فتحنا لهم الأبواب وصالحناهم. فلما سمع توما كلامهم فكر طويلاً وخشي أن يفعل القوم ذلك. فقال: أنا أصرف عنكم هؤلاء العرب، اقتل أميرهم وأريد منكم أن تقاتلوا معي. قالوا: نحن معك وبين يديك نقاتل حتى نهلك عن آخرنا. فقال لهم: باكروا القوم بالقتال فانصرفوا عنه وهم له شاكرون ولأمره منتظرون، وباتوا بقية ليلتهم على الحصن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضعهم ولهم ضجة بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير، وخالد بن الوليد عند الدير ومعه النساء والعيال والأموال والغنائم التي غنموها من أعدائهم، ورافع بن عميرة على الباب الشرقي في عسكر الزحف وغيرهم ولم يزل الناس في الحرس إلي أن برق الصباح وصلى كل أمير بمن معه من قومه وصلى أبو عبيدة بمن معه. ثم أمر أصحابه بالزحف، وقال لهم: لا تخلوا عن القتال واركبوا الخيل.
حدثني رفاعة بن قيس، قال: سألت والذي قيسا، وكان ممن حضر فتوح دمشق الشام فقلت له: أكنتم تقاتلون في دمشق خيالة أو رجالة يوم حصار المسلمين، قال: ما كان أحد منا فارساً إلا زهاء ألفي فارس مع ضرار بن الأزور، وهو يطوف بهم حول العسكر وحول المدينة وكلما أتى باباً من الأبواب وقف عنده وحرض أهله على القتال، وهو يقول صبراً صبراً لأعداء الله. قال وأقبل توما صهر الملك هرقل من بابه الذي يدعى باسمه، وكان عندهم عابداً راهباً ولم يكن في بلاد الشرك أعبد منه ولا أزهد في دينهم وكان معظماً عند الروم فخرج ذلك اليوم من قصره والصليب الأعظم على رأسه وعلا به فوق البرج وأوقف البطارقة حوله والإنجيل تحمله ذوو المعرفة قال ونصبوه بالقرب من الصليب ورفع القوم أصواتهم، وتقدم توما ووضع يده على أسطر من الإنجيل. وقال: اللهم إن كنا على الحق فانصرنا ولا تسلمنا لأعدائنا واخذل الظالم منا فإنك به عليم اللهم إننا نتقرب إليك بالصليب ومن صلب على دينه، وأظهر الآيات الربانية والأفعال اللاهوتية انصرنا على هؤلاء الظالمين. قال وأمن الناس على دعائه. قال رفاعة بن قيس: هكذا حدثني شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فسر لنا هذا الكلام روماس صاحب بصرى، وكان في جيش شرحبيل بن حسنة يقاتل على باب توما، وكلما قال الروم شيئاً بلغتهم فسره لنا. قال ونهض شرحبيل وقصد الباب بحملته، وقد عظم عليه قول توما اللعين، وقال له: يا لعين لقد كذبت إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب أحياه متى شاء ورفعه متى شاء. ثم إن روماس ناوشه بالقتال، فقاتل توما قتالاً شديداً وهشم الناس بالحجارة ورمى النشاب رمياً متداركاً فجرح رجالاً، وكان ممن جرح أبان بن سعيد بن العاص أصابته نشابة، وكانت مسمومة فأحس بلهيب السم في بدنه فتأخر وحمله إخوانه إلى أن أتوا به إلى العسكر فأرادوا حل العمامة. فقال: لا تحلوها فان حللتم جرحي تبعتها روحي أما والله لقد رزقني الله ما كنت أتمناه. قال فلم يسمعوا قوله وحلوا عمامته. فلما حلوها شخص إلى السماء وصار يشير بإصبعيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله هنا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، فما استتمها حتى توفي إلى رحمة الله تعالى.
بطولة المرأة
وكانت زوجته بنت عمه، وكان قد تزوجها بأجنادين، وكانت قريبة العهد من العرس ولم يكن الخضاب ذهب من يدها، ولا العطر من رأسها، وكانت من المترجلات البازلات من أهل بيت الشجاعة والبراعة، فلما سمعت بموت بعلها أتته تتعثر في أذيالها إلى أن وقعت عليه، فلما نظرته صبرت واحتسبت، ولم يسمع منها غير قولها هنئت بما أعطيت ومضيت إلى جوار ربك الذي جمع بيننا ثم فرق، ولأجهدن حتى ألحق بك فإني لمتشوقة إليك، حرام علي أن يمسني بعدك أحد وإني قد حبست نفسي في سبيل الله عسى أن ألحق بك وأرجو أن يكون ذلك عاجلاً، ثم حفر له? دفن مكانه فقبره معروف، وصلى عليه خالد بن الوليد، فلما غيب في التراب لم تقف على قبره دون أن أتت إلى سلاحه ولحقت الجيش من غير أن تعلم خالداً بذلك، وقالت: على أي باب قتل بعلي? فقيل لها: على باب توما والذي قتله هو صهر الملك، قال فسارت إلى أصحاب شرحبيل بن حسنة فاختلطت بهم، وقاتلت مع الناس قتالاً لم ير مثله، وكانت أرمى الناس بالنبل، وكان قد جعل لها قوس وكنانة. قال شرحبيل بن حسنة: رأيت يوم حصار دمشق رجلاً على باب توما يحمل الصليب وهو أمام توما، وهو يشير إليه القهم انصر هذا الصليب ومن لاذ به، اللهم أظهر له نصرته وأعل درجته، قال شرحبيل بن حسنة: وأنا دائماً أنظر إليه إذ رمته زوجة أبان بنبلة فلم تخطئ رميتها، وإذا بالصليب قد سقط من يده وهوى إلينا وكأني أنظر لمعان الجوهر من جوانبه فما فينا إلا من بادر إليه ليأخذه وقد استتر بالدرق وتزاحم بعضنا على بعض كل منا يسبق إليه ليأخذه ونظر عدو الله توما إلى ذلك من تنكس الصليب الأعظم وإهوائه إلى المسلمين، فعند ذلك كفر وعظم عليه الأمر، وقال: يبلغ الملك أن الصليب الأعظم أخذ مني وملكته العرب، لا كان ذلك أبداً ثم إنه حزم وسطه وأخذ سيفه، وقال: من شاء منكم فليتبعني ومن شاء فليقعد فلا بد لي من القوم عسى أن أشفي صدري، ثم انحدر مسرعاً وأمر بفتح الباب، وكان هو أول مبادر. فلما نظرت الروم إلى ذلك لم يكن فيهم إلا من انحدر في أثره لما يعلمون من شجاعته وخرجوا كالجراد المنتشر. هذا والمسلمون محيطون بالصليب، فلما خرج الروم ووقع صياحهم حذر الناس بعضهم بعضاً، فلما نظر المسلمون إلى الروم سلموا الصليب إلى شرحبيل بن حسنة وانفردوا لأعدائهم وحملوا في أعراضهم وأخذهم النشاب والحجارة ومن كل مكان من أعلى الباب، فصاح شرحبيل بن حسنة: معاشر المسلمين تقهقروا إلى ورائكم لتأمنوا النشاب من أعداء الله العالين على الباب، قال فتقهقر الناس إلى ورائهم إلى أن أمنوا من ضرب النشاب فاتبعهم عدو الله توما، وهو يضرب يميناً وشمالاً وحوله أبطال المشركين من قومه، وهو يهدر كالجمل. فلما نظر شرحبيل بن حسنة ذلك صرخ بقومه، وقال: معاشر الناس كونوا آيسين من آجالكم طالبين جنة ربكم وأرضوا خالقكم بفعلكم. فإنه لا يرضى منكم بالفرار ولا أن تولوا الأدبار فاحملوا عليهم واقربوا إليهم بارك الله فيكم، قال فحمل الناس حملة منكرة واختلط الناس بعضهم ببعض وعملت بينهم السيوف وتراموا بالنبل، وتسامع أهل دمشق أن توما خرج إلى العرب من بابه وأن صليبه الأعظم سقط إليهم من كف حامله فجعلوا يهرعون إلى أن تزايد أمرهم وجعل عدو الله ينظر يميناً وشمالاً وينظر الصليب فحانت منه التفاتة فنظر فرآه مع شرحبيل بن حسنة، فلما نظر إليه لم يكن له صبر دون أن حمل وصاح: هات الصليب لا أثم لك، فقد لحقتك بوائقه.
قال: ونظر شرحبيل بن حسنة إلى عدو الله، وهو مقبل فرمى الصليب من يده وصادمه. فلما رأى عدو الله الصليب مرمياً على الأرض صرخ بأصحابه صرخة هائلة ونظرت زوجة أبان بن سعيد إلى حملة عدو الله على شرحبيل. فمالت: من هذا? قيل: هو صهر الملك، وهو قاتل بعلك أبان بن سعيد، فلما سمعت ذلك منهم حملت حملة منكرة إلى أن قاربته ورمته بنبلة، وكان الروم أرهبوها فلم تلتفت إليهم دون أن حققت نبلتها على صاحبها، وقالت: بسم الله وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أطلقتها، وكان عدو الله واصلاً إلى شرحبيل إذ جاءته النبلة فأصابت عينه اليمنى فسكنت النبلة فيها فتقهقر إلى ورائه صارخاً وهمت بأن ترميه بأخرى فتبادرت إليها الرجال واستتروا بالطوارق وتبادر إليها قوم من المسلمين يحامون عنها، فلما أمنت من شر الأعداء أخذت ترمي بالنبل. ثم إنها رمت علجاً من الروم فأصابت صدره فسقط هاوياً إلى الأرض، وكان عدو الله أول من تقهقر ذلك اليوم هارباً من شدة حرارة النبلة وصرخ صرخة عظيمة إلى أن دخل الباب ونظر شرحبيل إلى ذلك فصرخ بأصحابه: يا ويلكم دونكم وكلب الروم احملوا على الكلاب عسى أن تحركوا عدو الله. قال فحمل الناس على الروم إلى أن أوصلوهم إلى الباب فحماهم قومهم من أعلى الباب بالحجارة والنشاب. قال فتراجع الناس إلى مواضعهم، وقد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأخذوا أسلابهم وأموالهم وصليبهم، ودخل عدو الله توما إلى المدينة وأغلقوا الأبواب وجاء الحكماء يعالجون في قلع النبلة من عينه فلم تطلع فجذبوها فلم تنجذب، وهو يضج بالصراخ فلما طال على القوم ذلك ولم يجدوا حيلة في إخراجها نشروها وبقي النصل في عينه ولم تزل في مكانها وسألوه المسير إلى منزله فأبى وجلس داخل الباب إلى أن سكن ما به وخف عنه الألم، فقالوا له: عد إلى منزلك بقية ليلتك، فقد نكبنا في يومنا هذا نكبتين نكبة الصليب ونكبة عينك كل هذا مما وصل إلينا من النبال، وقد علمنا أن القوم لا يصطل لهم بنار، وقد سألناك أن نصالح القوم على ما طلبوه منا، قال فغضب توما من قولهم، وقال: يا ويلكم يؤخذ الصليب الأعظم وأصاب بعيني وأغفل عن هذا ويبلغ الملك عني ذلك فينسبني للوهن والعجز ولا بد من طلبهم على كل حال وآخذ صليبي وآخذ في عيني ألف عين منهم وسأوقع حيلة أصل بها إلى كبيرهم وآخذ جميع ما غنموه وبعد ذلك أسير إلى صاحبهم الذي هو في الحجاز وأقطع آثاره وأخرب دياره وأهدم مساكنه، وأجعل بلده مسكناً للوحوش. ثم إن الملعون سار إلى أعلى السور، وهو معصوب العين وصار يحرض الناس لكي يزيل عن قلوبهم الرعب وأقبل يقول لهم: لا تفزعوا ولا تجزعوا مما ظهر لكم من العرب ولا بد للصليب أن يرميهم وأنا الضامن لكم. قال فثبت القوم من قومه وحاربوا حرباً شديداً وبعث شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد يخبره بما صنع مع القوم. فقال الرسول: إن عدو الله توما قد ظهر لنا منه ما لم يكن في الحساب ونطلب منك رجالاً لأن الحرب عندنا أكثر من كل باب، فلما سمع خالد ذلك الخبر حمد الله، وقال: كيف أخذتم الصليب من الروم. فقال الرسول: كان يحمل صليب الروم رجل وهو أمام توما صهر الملك فرمته زوجة أبان بنبلة فوقع الصليب إلينا وخرج عدو الله فرمته زوجة أبان بنبلة فاشتبكت في عين توما اليمنى.
فقال خالد: إن توما عند الملك معظم وهو الذي يمنعهم عن الصلح ونرجو من الله أن يكفينا شره. ثم قال للرسول: عد إلى شرحبيل وقل له كن حافظاً ما أمرتك به فكل فرقة مشغولة عنك ولم تؤت من قبلهم وأنا بالقرب منك، وهذا ضرار بن الأزور يطوف حول المدينة وكل وقت عندك. قال فرجع الرسول فأخبره بذلك فصبر وقاتل بقية يومه ووصل الخبر إلى أبي عبيدة بما نزل بشرحبيل بن حسنة من توما وبما غنم من صليبه فسر بذلك، قال: ولما أصبح الصباح بعث توما إلى أكابر دمشق وأبطالهم. فلما حضروا بين يديه قال لهم: يا أهل دين النصرانية إنه قد طاف عليكم قوم لا أمان لهم ولا عهد لهم وقد أتوا يسكنون بلادكم فكيف صبركم على ذلك وعلى هتك الحريم وسبي الأولاد وتكون نساؤكم جواري لهم وأولادكم عبيداً لهم وما وقع الصليب إلا غضباً عليكم مما أضمرتم لهذا الدين من مصالحة المسلمين وإذلالكم للصليب وأنا قد خرجت ولولا أني أصبت بعيني لما عدت حتى أفرغ منهم ولا بد من أخذ ثأري وأن أقلع ألف عين من العرب ثم لا بد أن أصل إلى الصليب وأطالبهم به عن قريب. فلما سمعوا كلامه قالوا له: ها نحن بين يديك وقد رضينا بما رضيت لنفسك، فإن أمرتنا بالخروج خرجنا معك وإن أمرتنا بالقتال قاتلنا، فقال توما: اعلموا أن من خاض الحروب لم يخف من شيء وإني قد عزمت على أن أهجم هذه الليلة وأكبسهم في أماكنهم فإن الليل مهيب وأنتم أخبر بالبلد من غيركم فلا يبقى الليلة منكم أحد حتى يتأهب للحرب ويخرج من الباب وأرجو أن لا أعود حتى تنقضي الأشغال فإذا فرغت من القوم أخذت أميرهم أسيراً وأحمله إلى الملك يأمر فيه بأمره، فقالوا: حباً وكرامة فعند ذلك فرق القوم على الباب الشرقي فرقة وعلى باب الجابية فرقة وعلى كل باب جماعة، وقال لهم: لا تجزعوا، فإن أمير القوم متباعد عنكم وليس هناك إلا الأراذل والموالي فاطحنوهم طحن الحصيد. قال ودعا بفرقة أخرى إلى باب الفراديس إلى عمرو بن العاص وخرج توما من بابه وأخذ معه أبطال القوم ولم يترك بطلاً يعرف بالشجاعة إلا أخذه معه ورتب على الباب ناقوساً، وقال لهم: إذا سمعتم الناقوس فهي العلامة التي بيننا فافتحوا الأبواب واخرجوا مسرعين إلى أعدائكم ولا تجدوا رجالاً نياماً إلا وتضعون السيف فيهم. فإن فعلتم ذلك فرقتم جمعهم في هذه الليلة وانكسروا كسرة لا يجبرون بعدها أبداً، قال ففرح القوم بذلك وخرجوا إلى حيث أمرهم وقعدت كل فرقة على بابها وأقاموا ينتظرون صوت الناقوس ليبادروا إلى المسلمين، قال ودعا توما برجل من الروم، وقال له: خذ ناقوساً واعل به على الباب فإذا رأيتنا قد فتحنا الباب فاضرب الناقوس ضربة خفيفة يسمعها قومنا، وقد سار توما بقطعة من جيشه عليهم الدروع وبأيديهم السيوف وتوما في أوائلهم وبيده صفيحة هندية وألقى على رأسه بيضة كسروية كان هرقل قد أهداها له، وكانت لا تعمل فيها السيوف القواطع حتى وصل إلى الباب، ثم وقف حتى تكامل القوم، فلما نظر إليهم قال يا قوم إذا فتحنا لكم الباب فأسرعوا إلى عدوكم وجدوا في سعيكم إلى أن تصلوا إلى القوم، فإذا وصلتم إليهم فاحملوا ومكنوا السيوف فيهم ومن صاح منهم بالأمان فلا تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب فليأخذه فقالوا: حباً وكرامة.
القتال من فوق الأسوار
ثم أمر رجلاً من أصحابه أن يسير إلى الذي بيده الناقوس ويأمره أن يضربه ضربة خفيفة ثم فتح الباب وتبادر الرجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في غفلة مما دبر القوم لهم إلا أنهم في يقظة، فلما سمعوا الصوت أيقظ بعضهم بعضاً وتواثبت الرجال من أماكنهم كالأسود الضارية فلم يصل إليهم العدو إلا وهم على حذر وحملوا عليهم وهم في غير ترتيب فتقاتل القوم في جنح الظلام وعمل السيف وسمع خالد بن الوليد فقام ذاهل العقل مما سمع من الزعقات فصاح: واغوثاه واسلاماه كيد قومي ورب الكعبة، اللهم انظر لهم بعينك التي لا تنام وانصرهم يا أرحم الراحمين. وسار خالد ومن معه وهم أربعمائة فارس من أصحابه، وهو بغير درع قد لبس ثوب كتان من عمل الشام مكشوف الرأس. ثم جد في السير والأربعمائة فارس معه كأنهم الليوث العوابس إلى أن وصلوا إلى الباب الشرقي وإذا بالفرقة التي هناك قد هاجمت أصحاب رافع بن عميرة الطائي. قال: وأصوات المسلمين عالية بالتهليل والتكبير، والقوم من أعلى الأسوار قد أشرفوا وتصايحوا عندما استيقظ لهم المسلمون فحمل خالد بن الوليد على الروم ونادى برفع صوته أبشروا يا معشر المسلمين أتاكم الغوث من رب العالمين، أنا الفارس الصنديد، أنا خالد بن الوليد وحمل في أوساط الناس بمن معه فجندل أبطالاً وقتل رجالاً، وهو مع ذلك مشتغل القلب على أبي عبيدة والمسلمين الذين على الأبواب وهو يسمع أصواتهم وزعقاتهم، قال وتصايح الروم والنصارى واليهود.
قال سنان بن عوف: قلت لابن عمي قيس: هل كانت اليهود تقاتلكم? قال: نعم يقاتلوننا من أعلى الأسوار ويرمون بالسهام وخشي خالد على شرحبيل بن حسنة مما وصل إليه من عدو الله توما لأنه ملازم الباب. وقال ولقي شرحبيل بن حسنة من عدو الله توما أمراً عظيماً لم يلق أحد مثله وذلك أنه هجم عليه توما في تلك الليلة، وكان أول من وصل إلى المسلمين عدو الله توما قال: فصبروا له صبر الكرام وقاتل عدو الله قتالاً شديداً وهو ينادي: أين أميركم الذميم الذي أصابني أنا ركن الملك الرحيم، أنا ناصر الصليب. قال: فلما سمع شرحبيل صوته قصد جهته، وقد جرح رجالاً من المسلمين، وقال: ها أنا صاحبك وغريمك، أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم، أنا كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه توما عطفة الأسد ورأى من شرحبيل بن حسنة أمراً هائلاً ولم يزالوا كذلك إلى أن زال من الليل شطره وكل قرن مع قرنه وكانت زوجة أبان مع شرحبيل وكانت في تلك الليلة أحسن الناس صبراً ورمت بنبالها، وكانت لا تقع نبلة من نبالها إلا في رجل من المشركين إلى أن قتلت من الروم مقتلة عظيمة بالنبال والروم يتحايدون عنها إلى أن لاح رجل من الروم فرمته بنبلة فبقيت معلقة في نحره. قال فصرخ بالروم فهاجموها وأخذوها أسيرة ومات عدو الله الذي رمته. قال: ولقي شرحبيل من الروم ما لا يلقاه أحد وإنه ضرب توما ضربة هائلة فتلقاها الملعون بدرقته فانكسر سيف شرحبيل فطمع عدو الله فيه وحمل عليه وظن أنه يأخذه أسيراً وإذا بفارسين قد أشرفا من ورائهما مع كبكبة من الفرسان فهجموا على الروم ونظروا وإذا بزوجة أبان قد خلصت وهجمت على الروم وهتفت فلحقها فارسان فبرز لهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلا الرجلين ورجع عدو الله توما هارباً إلى المدينة.
قال: حدثني تميم بن عدي، وكان ممن شهد الفتوحات. قال: كنت في خيمة أبي عبيدة وذلك أن أبا عبيدة كان يصلي فيها إذ سمع الصياح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم لبس سلاحه ورتب قومه ودنا من القوم فنظر إليهم وهم في المعمعة والحرب وعدل عنهم ميسرة وميمنة إلى أن جاوزهم وعطف نحو الباب وكبر وكبر المسلمون، فلما سمع المشركون تكبيرهم ظنوا أن المسلمين قد دهموهم من ورائهم في جمع كثير فولوا راجعين فتلقاهم أبو عبيدة وقومه وأخذوا عليهم المجاز وبذل أبو عبيدة السيف فيهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني أنه ما سلم من الروم تلك الليلة أحد من الذين هم غرماء أبي عبيدة ولقد قتلوا عن آخرهم فبينما هم في القتال إذ أشرف عليهم ضرار بن الأزور، وهم ملطخ بالدماء. فقال له خالد: ما وراءك يا ضرار. فقال: أبشر أيها الأمير ما جنتك حتى قتلت في ليلتي هذه مائة وخمسين رجلاً وقتل قومي ما لا يعد ولا يحصى، وقد كفيتكم مؤنة من خرج من الباب الصغير إلى يزيد بن أبي سفيان، ثم عطفت إلى سائر الأبواب فقتلت خلقاً كثيراً قال فسر بذلك خالد بن الوليد، ثم ساروا جميعاً حتى أتوا شرحبيل بن حسنة وشكروا فعله وكانت ليلة مقمرة ولم يلق مثلها الناس فقتلوا في تلك الليلة ألوفاً من الروم قال فاجتمع كبار أهل دمشق إلى توما وقالوا له: أيها السيد إنا قد نصحناك فلم تسمع لقولنا وقد قتل منا أكثر الناس وهذا أمير لا يطاق، يعني خالد بن الوليد فصالح فهو أصلح لك ولنا وإن لم تصالح صالحنا وأنت وشأنك. فقال: يا قوم أمهلوني حتى أكتب إلى الملك واعلمه بما نزل بنا، فكتب من وقته وساعته كتاباً يقول فيه: إلى الملك الرحيم من صهرك توما، أما بعد فإن العرب محدثون بنا كإحداث البياض بسواد العين، وقد قتلوا أهل أجنادين ورجعوا إلينا وقد قتلوا منا مقتلة عظيمة، وقد خرجت إليهم وأصيبت عيني، وقد عزمت على الصلح ودفع الجزية للعرب فإما أن تسير بنفسك، وإما أن ترسل لنا عسكراً تنجدنا بهم، وإما أن تأمرنا بالصلح مع القوم، فقد تزايد الأمر علينا ثم طوى الكتاب وختمه وبعث به قبل الصباح...
فلما أصبح الصباح باكرهم المسلمون بالقتال... وبعث خالد لكل أمير أن يزحف من مكانه فركب أبو عبيدة ووقع القتال واشتد الأمر على أهل دمشق فبعثوا لخالد أن أمهلنا فأبى إلا القتال ولم يزل كذلك إلى أن ضاق بهم الحصار وهم ينتظرون أمر الملك واجتمع أهل البلد وقالوا لبعضهم: ما لنا صبر على ما نحن فيه من الأمر وإن هؤلاء إن قاتلناهم نصروا علينا وإن تركناهم أضر بنا الحصار فاطلبوا من القوم صلحاً على ما طلبوه منكم، فقال لهم شيخ كبير من الروم وقد قرأ الكتب السالفة: يا قوم والله إني أعلم أنه لو أتى الملك في جيشه جميعاً لما منعوا عنكم هؤلاء لما قرأت في الكتاب إن صاحبهم محمداً خاتم المرسلين سيظهر دينه على كل دين فأطيعوا القوم وأعطوهم ما طلبوا منكم فهو أوفق لكم، فلما سمع القوم مقالات الشيخ ركنوا إليه لما يعلمون من علمه ومعرفته بالأخبار والملاحم. فقالوا: كيف الرأي عندك? فنحن نعلم أن هذا الأمير الذي على باب شرقي رجل سقاك للدماء. فقال لهم: إن أردتم تقارب الأمر فامضوا إلى الذي على باب الجابية، وليتكلم رجل يعرف بالعربية، ويقول بصوت رفيع، يا معاشر العرب الأمان حتى ننزل إليكم ونتكلم مع صاحبكم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وكان أبو عبيدة قد أنفذ رجالاً من المسلمين مكثوا بالقرب من الباب مخافة الكبسة مثل الليلة التي خلت، وكانت النوبة تلك الليلة لبني دوس والأمير عليها عامر بن الطفيل الدوسي. قال فبينما نحن جلوس في مواضعنا من الباب إذ سمعنا أصوات القوم وهم ينادون قال أبو هريرة، فلما سمعت بادرت إلى أبي عبيدة قال وبشرته بذلك فاستبشر وقال: امض وكلم القوم وقل لهم لكم الأمان، قال فأتيت القوم وبشرتهم بالأمان فقالوا: من أنت. فقلت: أنا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن عبيداً أعطوكم الأمان والذمام ونحن في الجاهلية لما غدرنا فكيف وقد هدانا الله إلى دين الإسلام. قال فنزل القوم وفتحوا الباب وإذ هم مائة رجل من كبرائهم وعلمائهم فلما قربوا من عسكر أبي عبيدة تبادر إليهم المسلمون وأزالوا عنهم الصلبان إلى أن وصلوا خيمة أبي عبيدة فرحب بهم وأجلسهم وقال: إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتاكم عزيز قوم فأكرموه" وتكلموا في أمر الصلح وقالوا: إنا نريد منكم أن تتركوا كنائسنا ولا تنقضوا علينا منها كنيسة وهي الجامع الآن بدمشق، فقال لهم أبو عبيدة: جميع الكنائس لا يؤمر بهدمها قال: وكان في دمشق كنائس واحدة تسمى كنيسة مريم وكنيسة حنا وكنيسة سوق الليل وكنيسة إنذار، وهي عند دار عبد الرحمن ذرة فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان ولم يسم فيه اسمه ولا أثبت شهوداً وذلك، لأنه لم يكن أمير المؤمنين، فلما كتب لهم الكتاب تسلموه منه وقالوا له: قم معنا إلى البلد. قال: فقام أبو عبيدة وركب معه أبو هريرة ومعاذ بن جبل ونعيم بن عمرو وعبد الله بن عمرو الدوسي وذو الكلاع الحميري وحسان بن النعمان وجرير بن نوفل الحميري وسيف بن سلمة ومعمر بن خليفة وربيعة بن مالك والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة بن المنذر وعوف بن ساعدة، وعامر بن قيس، وعبادة بن عتيبة، وبشر بن عامر، وعبد الله بن قرط الأسدي وجملتهم خمسة وثلاثون صحابياً من أعيان الصحابة رضي الله عنهم، وخمسة وستون من أخلاط الناس فلما ركبوا وتقدموا نحو الباب. قال أبو عبيدة: أريد منكم رهائن حتى ندخل معكم فأتوه برهائن، وقيل إن أبا عبيدة رأى في منامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تفتح المدينة إن شاء الله تعالى في هذه الليلة، فقلت: يا رسول الله أراك على عجل قال: لأحضر جنازة أبي بكر الصديق. قال: فاستيقظت من المنام.
قال الواقدي: وقد بلغني أن أبا عبيدة لما دخل دمشق بأصحابه سارت القسس والرهبان بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الإنجيل والمباخر بالند والعود، ودخل أبو عبيدة من باب الجابية ولم يعلم خالد بن الوليد بذلك لأنه شد عليهم بالقتال. قال وكان هناك قسيس من قسس الروم اسمه يونس بن مرقص وكانت داره ملاصقة للسور مما يلي باب شرقي الذي عنده خالد وكان عنده ملاحم دانيال عليه السلام وكان فيها: إن الله تعالى يفتح البلاد على يد الصحابة ويعلو دينهم على كل دين، فلما كانت تلك الليلة نقب يونس من داره وحفر موضعاً وخرج على حين غفلة من أهله وأولاده وقصد خالداً وحدثه أنه خرج من داره وحفر موضعاً والآن أريد أماناً لي ولأهلي ولأولادي قال فأخذ خالد عهده على ذلك وأنفذ معه مائة رجل من المسلمين أكثرهم من حمير، وقال لهم: إذا وصلتم المدينة فارفعوا أصواتكم بأجمعكم واقصدوا الباب واكسروا الأقفال وأزيلوا السلاسل حتى تدخلوا إن شاء الله تعالى. قال ففعل القوم ما أمرهم به خالد رضي الله عنه وساروا ومضى أمامهم يونس بن مرقص حتى دخل بهم من حيث خرج. فلما حطوا في داره تدرعوا واحترسوا ثم خرجوا وقصدوا الباب وأعلنوا بالتكبير. قال فلما سمع المشركون التكبير ذهلوا وعلموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حطوا معهم في المدينة، وان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدوا الباب وكسروا الأقفال وقطعوا السلاسل، ودخل خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ووضعوا السيف في الروم وهم مختلفون بين يديه إلى أن وصل إلى كنيسة مريم وخالد بن الوليد يأسر ويقتل.
قال الواقدي: والتقى الجمعان عند الكنيسة جيش خالد وجيش أبي عبيدة وأصحابه سائرون والرهبان سائرون بين أيديهم وما أحد من أصحاب أبي عبيدة جرد سيفه، فلما نظر خالد إليهم ورأى أن لا أحد منهم جرد سيفه بهت وجعل ينظر إليهم متعجباً. قال فنظر إليه أبو عبيدة وعرف في وجهه الإنكار. فقال: أبا سليمان قد فتح الله على يدي المدينة صلخاً وكفى الله المؤمنين القتال.
قال الواقدي: ما خاطب أبو عبيدة خالداً يوم الفتح دمشق إلا بالإمارة. فقال: أيها الأمير قد تم الصلح. فقال خالد: وما الصلح. لا أصلح الله بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف، وقد خضبت سيوف المسلمين من دمائهم وأخذت الأولاد عبيداً وقد نهبت الأموال. فقال أبو عبيدة: أيها الأمير اعلم أني ما دخلتها إلا بالصلح. فقال له خالد بن الوليد: إنك لم تزل مغفلاً وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم. قال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير، والله لقد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتبت لهم الكتاب وهو مع القوم. فقال خالد: وكيف صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى أفنيهم عن آخرهم. فقال أبو عبيدة: والله ما ظننت أنك تخالفني إذا عقدت عقداً ورأيت رأيا فالله الله في أمري، فوالله لقد حقنت دماء القوم عن آخرهم وأعطيتهم الأمان من الله جل جلاله وأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رضي من معي من المسلمين، والغدر ليس من شيمنا. قال وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وخالد مع ذلك لا يرجع عن مراده، ونظر أبو عبيدة إلى ذلك فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد وهم جيش البوادي من العرب مشتبكون على قتال الروم ونهب أموالهم. قال فنادى أبو عبيدة واثكلاه خفرت والله ونقض عهدي وجعل يدرك جواده ويشير إلى العرب مرة يميناً ومرة شمالاً وينادي: معاشر المسلمين أقسمت عليكم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تمد أيديكم نحو الطريق الذي جئت منه حتى نرى ما نتفق أنا وخالد عليه، فلما دعاهم بذلك سكتوا عن القتل والنهب واجتمع إليهما فرسان المسلمين والأمراء وأصحاب الرايات مثل معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه وربيعة بن عامر رضي الله عنه وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين ونظرائهم، والتقوا عند الكنائس واجتمع هناك فرسان للمشورة والمناظرة. فقالت طائفة من المسلمين منهم معاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان: الرأي أن تمشي إلى ما أمضاه أبو عبيدة بن الجراح وتكفوا عن القتال للقوم. فإن مدن الشام لم تفتح أبداً، وهرقل في أنطاكية كما تعلمون، وإن عد أهل المدن صالحتم وغدرتم لم تفتح لكم مدينة صلحاً ولأن تجعلوا هؤلاء الروم في صلحكم خير من قتلهم، ثم قالوا لخالد: أمسك عليك ما فتحت بالسيف ويعينك أبو عبيدة بجانبه واكتبا إلى الخليفة وتحاكما إليه، فكل ما أمر به فعلناه، فقال لهم خالد بن الوليد: قد أجبت إلى ذلك وقبلت مشورتكم، فأما أهل دمشق فقد أمنتهم إلا هذين اللعينين توما وهربيس وكان هربيس هو المؤمر على نصف البلدة ولاه توما حين رحمك الأمر إليه. فقال أبو عبيدة: إن هذين أول من دخل في صلحي فلا تخفر ذمتي رحمك الله تعالى. فقال خالد: والله لولا ذمامك لقتلتهما جميعاً، ولكن يخرجان من المدينة فلعنهما الله حيث سارا.
قال أبو عبيدة: وعلى هنا صالحتهما. قال ونظر توما وهربيس إلى خالد وهو يتنازع مع أبي عبيدة فخافا الهلاك فأقبلا على أبي عبيدة ومعهما من يترجم عنهما وقالا له: ما يقول هذا يعني خالداً. قال الترجمان لأبي عبيدة: ما تقول أنت وصاحبك فيه من المشاورة: إن صاحبك هنا يريد غدرنا فنحن وأهل المدينة دخلنا في عهدكم ونقض العهد ما هو من شيمكم، وإني أسألكم أن تدعوني أن أخرج أنا وأصحابي وأسلك أي طريق أردت. فقال: أنت في ذمتنا فاسلك أي طريق شئت، فإذا صرت في أرض تملكونها فقد خرجت من ذمتنا أنت ومن معك. فقال توما وهربيس: نحن في ذمتكم وجواركم ثلاثة أيام أي طريق سلكنا، فإذا كان بعد ثلاثة أيام فلا ذمة لنا عندكم، فمن لقينا منكم بعد ثلاثة أيام وظفر بنا فنحن لهم عبيد إن شاء أسرنا وإن شاء قتلنا. فقال خالد: قد أجبناك إلى ذلك، لكن لا تحملوا معكم من هذا البلد إلا الزاد الذي تتقوتون به. قال أبو عبيدة لخالد: هذا كلام داع لنقض العهد والصلح إنما وقع بيننا أنهم يخرجون برجالهم وأموالهم. فقال خالد: سمحت لهم بذلك إلا الحلقة يعني السلاح فإني لا أطلق لهم شيئاً من ذلك. فقال توما: لا بد لنا من السلاح نمنع به عن أنفسنا في طريقنا إن طرقنا طارق حتى نصل إلى بلدنا، وإلا فنحن بين أيديكم فاحكموا فينا بما أردتم. فقال أبو عبيدة: أطلق لكل واحد قطعة من السلاح إن أخذ سيفاً فلا يأخذ رمحاً، وإن أخذ رمحاً فلا يأخذ سيفاً، وإن أخذ قوساً فلا يأخذ سكيناً. فقال توما لما سمع منهم ذلك الكلام: قد رضينا بذلك وما يريد كل واحد منا إلا قطعة من السلاح لا غير، ثم قال توما لأبي عبيدة: إني خائف من هذا الرجل أعني خالد بن الوليد فليكتب لي بذلك قال أبو عبيدة: ثكلتك أمك إنا معاشر العرب لا نغدر ولا نكذب وإن الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول إلا الصدق. قال فانطلق توما وهربيس يجمعان قومهما ويأمرانهم بالخروج. قال وكان الملك له خزانة ديباج في دمشق فيها زهاء من ثلاثمائة حمل ديباج وحلل مذهبة فعزم على إخراجها وأمر توما فضربت له خيمة من القز ظاهر دمشق وأقبلت الروم تخرج الأمتعة والأموال والأحمال حتى أخرجوا شيئاً عظيماً، فنظر خالد بن الوليد إلى كثرة أحمالهم. فقال: ما أعظم رحالهم، ثم قرأ قوله تعالى: "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون" الزخرف: 33، الآية، ثم نظر خالد إلى القوم كأنهم حمر مستنفرة ولم يلتفت أحد إلى أخيه من شدة عجلتهم، فلما نظر خالد إلى ذلك رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم اجعله لنا وملكنا إياه واجعل هذه الأمتعة قوتاً للمسلمين آمين إنك سميع الدعاء، ثم أقبل على أصحابه وقال لهم: إني رأيت أنا رأياً فهل أنتم تتبعوني عليه. فقالوا: نتبعك ولا نخالف لك أمراً، فقال خالد: قوموا بخيلكم حق القيام وأحسنوا إليها ما استطعتم وانجزوا سلاحكم فإني أسير بكم بعد ثلاثة أيام في طلب هؤلاء القوم وأرجو من الله أن يغنمنا هذه الغنيمة والأموال التي رأيتموها. وإن نفسي تحدثني أن القوم ما تركوا في دمشق متاعاً ولا ثوباً حسناً إلا وقد أخذوه معهم.
فقالوا: افعل ما تريد فما نخالف لك أمراً، ثم أخذوا في إصلاح شأنهم، وتوما وهربيس قد جمعوا مال الرساتيق وجميع المال، فلما جمعوه جاءوا به إلى أبي عبيدة. فقال لهم: وفيتم بما عليكم فسيروا حيث شئتم فلكم الأمان منا ثلاثة أيام. قال يزيد بن ظريف: فلما سلموا المال لأبي عبيدة ارتحلوا سائرين كأنهم سواد مظلم، وكان قد خر من القوم خلق كثير من أهل دمشق بأولادهم وكرهوا أن يكونوا في جوار المسلمين. قال واشتغل خالد عن اتباعهم بخلاف وقع بينهم وبين أهل دمشق في حنطة وشعير وجدوا في المدينة منه شيئاً كثيراً. فقال أبو عبيدة: هو للقوم دخل في صلحهم فكادت الفتنة أن تثور بين أصحاب خالد وبين أصحاب أبي عبيدة، واتفق رأيهم أن يكتبوا كتاباً إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك وليس عندهم خبر أنه مات يوم دخولهم دمشق.
قال عطية بن عامر: كنت واقفاً على باب دمشق في اليوم الذي سارت فيه الروم مع توما وهربيس ومعهم ابنة الملك هرقل. قال فنظرت إلى ضرار بن الأزور وهو ينظر إلى القوم شزراً ويتحسر على ما فاته منهم، فقلت له: يا ابن الأزور ما لي أراك كالمتحسر أما عند الله أكثر من ذلك? فقال: والله ما أعني مالاً وإنما أنا متأسف على بقائهم وانفلاتهم منا، ولقد أساء أبو عبيدة فيما فعل بالمسلمين. فقلت: يا ابن الأزور ما أراد أمين الأمة إلا خيراً للمسلمين أن يحقن دمائهم وأزواجهم من تعب القتال فإن حرمة رجل واحد خير مما طلعت عليه الشمس، وإن الله سبحانه وتعالى اسكن الرحمة في قلوب المؤمنين وإن الرب يقول في بعض الكتب المنزلة إن الرب لا يرحم من لا يرم.
وقال تعالى: "والصلح خير" النساء: 128،. فقال ضرار: لعمري إنك لصادق، ولكن اشهدوا علي أني لا أرحم من يجعل له زوجة وولداً.
قال: حدثني عمر بن عيسى عن عبد الواحد بن عبد الله البصري عن واثلة بن الأسقع. قال: كنت مع خالد بن الوليد في جيش دمشق، وكان قد جعلني مع ضرار بن الأزور في الخيل التي تجوب من باب شرقي إلى باب توما إلى باب السلامة إلى باب الجابية إلى باب الصغير إلى باب قيان إذ سمعنا صرير الباب وذلك قبل فتوح الشام وإذا به قد خرج منه فارس فتركناه حتى قرب منا فأخذناه قبضاً بالكف وقلنا: إن تكلمت قتلناك فسكت وإذا قد خرج فارس آخر قام على الباب وجعل ينادي بالذي قد أخذناه، فقلنا له: كلمه حتى يأتي. قال فرطن له بالرومية إن الطير في الشبكة فعلم أنه قد أسر فرجع وأغلق الباب. قال فأردنا قتله، فقال بعضنا: لا تقتلوه حتى نمضي به إلى خالد الأمير. قال فأتينا به خالداً، فلما نظر إليه قال له: من أنت? قال له: أنا من الروم وإني تزوجت بجارية من قومي قبل نزولكم عليهم وكنت أحبها، فلما طال علينا حصاركم سألت أهلها أن يزفوها علي فأبوا ذلك، وقالوا إن بنا شغلاً عن زفافك وكنت أحب أن ألقاها ولنا في المدينة ملاعب نلعب فيها فوعدتها أن نخرج إلى الملاعب فخرجت وتحدثنا فسألتني أن أخرج بها إلى خارج المدينة ففتحنا الباب وخرجت أنظر أخباركم فأخذني أصحابك فنادتني. فقلت: إن الطير وقع في الشبكة أحذرها منكم مخافة عليها ولو كان غيرها لهان علي ذلك. فقال خالد: ما تقول في الإسلام. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فكان يقاتل معنا قتالاً شديداً، فلما دخلنا المدينة صلحا أقبل يطلب زوجته. فقيل له: إنها لبست ثياب الرهبانية فأقبل إليها وهي لا تعرفه. فقال لها: ما حملك على الرهبانية. قالت: حملني على ذلك أني غررت بزوجي حتى أخذته العرب وترهبت حزناً عليه. قال: أنا زوجك وقد دخلت في دين العرب. قال فلما سمعت ذلك قالت: وما تريد? قال: أن تكوني في الذمة. فقالت: وحق المسيح لا كان ذلك أبداً وما لي إلى ذلك سبيل، وخرجت مع البطريق توما، فلما نظر إلى امتناعها أقبل إلى خالد بن الوليد فشكا له حاله.
فقال له خالد: إن أبا عبيدة فتح المدينة صلحاً ولا سبيل لك إليها ولما علم أن خالداً يسير وراء القوم. فقال: أسير معه لعلي أقع بها وأقام خالد بدمشق إلى اليوم الرابع، ثم أقبل إليه يونس الدمشقي زوج الجارية وقال: أيها الأمير قد عزمت على المسير في طلب هذين اللعينين توما وهربيس وأخذ ما معهما قال: بلى. فقال له: وما الذي أقعدك عن ذلك. قال: بعد القوم وبيننا وبينهم أربعة أيام بلياليها وهم يسيرون سير الخوف ما يمكن اللحاق بهم. فقال يونس: إن كان تخلفك لبعد المسافة بيننا وبينهم فأنا أعرف الديار وأسلك طريقاً فنلحقهم إن شاء الله تعالى، ولكن البسوا زي لخم وجذام وهو العرب المتنصرة وخذوا الزاد وسيروا. قال فسار خالد وأخذ عساكر الزحف وهم أربعة آلاف فارس فأمرهم أن يسيروا ويخففوا حمل الزاد ففعلوا ذلك، وخالد ومن معه قد صاروا ويونس الذليل أمامهم وهو يتبع آثار القوم وقد أوصى خالد أبا عبيدة على المدينة والمسلمين. قال زيد بن طريف: وكان يونس دليلنا. قال فرأى آثار القوم وأنهم إذا سقط منهم حمل جمل تركوه، وسار خالد ومن معه كلما دخلوا بلاد من بلاد الروم يظنون أنهم من العرب المتنصرة من لخم وجذام حتى أشرف بهم الذليل على ساحل البحر ونوى أن يطلب الأثر وإذا بالقوم قد عدوا أنطاكية ولم يدخلوها خيفة الملك. قال فوقع للدليل عند ذلك حيرة في أمره فعدل إلى قرية هناك، وسأل بعضاً من الناس فأخبروه أن الخبر قد اتصل إلى الملك بأن توما وهوبيس قد سلما دمشق للعرب فنقم عليهما ولم يدعهما يأتيان إليه، وذلك أنه جمع الجيوش وأرسلها إلى اليرموك فخاف أن يتحدثوا بشجاعة العرب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتضعف قلوبهم فبعث إلى توما ومن معه أن يسيروا إلى القسطنطينية، فلما علم يونس أن القوم عدلوا وأخذوا في طلب التحيز فكر في ذلك وغاب عن المسلمين فوقف خالد وصلى بالناس وإذا بيونس قد أقبل وقال: أيها الأمير إني والله قد غررت بكم وبلغت الغاية في الطلب. قال خالد: وكيف الأمر. قال: أيها الأمير تبعثني في آثارهم في هذا المكان رجاء أن ألحقهم، وأن الملك منعهم من الدخول إلى أنطاكية لئلا يرعبوا عسكره وأمرهم أن يطلبوا القسطنطينية، وقد قطع بينكم وبينهم هذا الجبل العظيم وأنتم في جبل هرقل وهو يجمع عسكره ويسير إلى حربكم وإني خائف عليكم إن تركتم هذا الجبل خلف ظهوركم هلكتم وبعد هذا فالأمر إليك وكل ما أمرتني به فعلت. قال ضرار بن الأزور: فرأيت خالداً وقد انتقع لونه كالخضاب... وكان ذلك منه جزعاً وما عهدت به ذلك. فقلت: يا أمير على ماذا عولت. فقال: يا ضرار والله ما فزعت عن الموت ولا من القتل، وإنما خفت أن يؤتى المسلمون من قبلي وإني رأيت قبل فتح دمشق مناماً أفزعني وأنا منتظر تأويله وأرجو أن يجعل الله لنا خيراً وينصرنا على عدونا. فقال ضرار: خيراً رأيت وخيراً يكون إن شاء الله تعالى فما الذي رأيت. قال: رأيت المسلمين في برية قفرة ونحن سائرون فبينما نحن كذلك وإذا بقطيع من حمر الوحش كثيرة عظيمة أجسامها مهزولة أخفافها وهي لا تكدم برماحنا ونحن نضربها بأسيافنا وهي لا تكترث فيما نزل بها من الأذى ولا تهلع مما ينزل فلم نزل مثل ذلك حتى أجتهدنا واجتهدت خيولنا وأني أقبلت على أصحابي وفرقتهم عليها من أربعة جوانب البرية وحملت عليهم فجفلت من أيدينا إلى مضايق وتلال وأودية خصبة فلم نأخذ منها إلا اليسير فبينما نحن نطبخ ونشوي لحومها وإذا هي قد رجعت تطلب الحرب منا، فلما نظرت إليها وقد طرحت المضايق والآجام صحت بالمسلمين اركبوا في طلبها بارك الله فيكم فاستوى المسلمون على خيولهم وركبت معهم وطلبناها حتى وقعت بها وتصيدت منها بعيراً عظيماً فقتلته فجعل المسلمون يقتلون ويتصيدون فما بقي منها إلا اليسير فبينما أنا فرح وأنا أريد الرجوع بالمسلمين إلى وطنهم إذ عثرت فرسي فطارت عمامتي من على رأسي فهويت لآخذها فانتبهت من منامي وأنا فزع مرعوب، فهل فيكم أحد يفسره? فإني أقول الرؤيا ما نحن فيه. قال فصعب ذلك على القوم وجعل خالد يراود نفسه على الرجوع.
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تفسير الوحوش فهؤلاء الأعاجم الذين نحن في طلبهم، وأما سقوطك عن فرسك فإنه أمر تنحط عليه من رفعة إلى خفضة، وأما سقوط العمامة عن رأسك فالعمائم تيجان العرب وهي معرة تلحقك. فقال خالد: أسأل الله العظيم إن كان ذلك تأويل ما رأيته أن يجعله من أمر الدنيا ولا يجعله من أمر الآخرة وبالله أستعين وعليه أتوكل في كل الأمور. قال ثم سار خالد والذليل أمامهم حتى قطعوا الجبل، فلما كانت الليلة التي أردنا أن نصبح فيها القوم أتى مطر كأفواه القرب وكان من توفيق الله عز وعلا أن حبس القوم عن المسير. قال روح بن طريف رضي الله عنه، ولقد رأيتنا ونحن نسير والمطر ينزل علينا كأفواه القرب طول ليلتنا، فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس قال يونس: أيها الأمير قف حتى أنظر القوم لأنهم لا شك بالقرب منا وقد سمعت صياحهم. فقال له خالد بن الوليد: أحقاً سمعت صياحهم يا يونس. قال: نعم أيها الأمير وأريد منك أن تأذن لي بالمسير إليهم وآتيك بخبرهم. قال فعند ذلك التفت خالد بن الوليد إلى رجل اسمه المفرط بن جعدة. قال له: يا مفرط سر مع يونس وكن له مؤنساً وأحذر أن يأخذ خبركما القوم فقال المفرط: السمع والطاعة لله ولك أيها الأمير، ثم انطلقا إلى أن صعدا على جبل يقال له الأبرش والروم تسميه جبل باردة. قال المفرط: فلما علونا عليه وجدنا مرجاً واسعاً كثير الجنبات كثير النبات وفيه خضرة عظيمة، وإن القوم قد أصابهم المطر حتى بل رحالهم وقد حميت عليهم الشمس فخافوا إتلافها فأخرجوها وأخرجوا الديباج ونشروها في طول المرج، وقد نام أكثرهم من شدة السير والتعب والمطر الذي أصابهم. قال المفرط بن جعدة: فلما رأيت ذلك فرحت فرحاً شديداً ورجعت إلى خالد بن الوليد وتركت صاحبي يونس، فلما رآني خالد وحدي أسرع إلي وظن أن صاحبي كيد. فقال: ما وراءك يا ابن جعدة أخبرني وعجل بالخبر. فقلت: الخير والغنيمة يا أمير وإن القوم خلف هذا الجبل وقد أصابهم المطر وقد وجدوا الراحة بطلوع الشمس وقد نشروا أمتعتهم. فقال: بشرك الله بالخير، ثم ظهر لي من وجهه الخير والفرح والسرور، فبينما نحن كذلك وإذا بيونس قد أقبل. فقال له خالد: خيراً، فقال له: أبشر أيها الأمير فإن القوم أمنوا على أنفسهم، ولكن أوص أصحابك أن كل من وقع بزوجتي فليحفظها فما أريد من الغنيمة سواها. فقال له خالد: هي لك إن شاء الله تعالى، ثم إن خالداً قسم أصحابه أربع فرق فأمر ضرار بن الأزور على ألف فارس وعلى الألف الثاني رافع بن عميرة الطائي، وعلى الألف الثالث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبقي هو في الفرقة الرابعة. وقال: سيروا على بركة الله تعالى وإياكم أن تخرجوا إليهم دفعة واحدة، بل يخرج كل أمير منكم بينه وبين صاحبه قدر ساعة، ثم افترق القوم وحمل ضرار بن الأزور والروم مطمئنون وحدك من بعله رافع بن عميرة الطائي، ثم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم خالد بن الوليد سار في آخر القوم حتى وصلوا المرج. قال عبيد بن سعيد: والله لقد كدنا أن نفتنه من حسن منظره فزعق فينا خالد بن الوليد وقال: عليكم بأعداء الله ولا تشتغلوا بالغنائم ولا بالنظر إلى المرج فإنها لكم إن شاء الله تعالى.
ثم عطف خالد بن الوليد رضي الله عنه على الروم وقد نظرت الروم إلى الخيل وقد خرجت عليهم وخالد أمامهم، فعلموا أنها خيول المسلمين فبادروا إلى السلاح وركبوا الخيل وقال بعضهم لبعض: إنها خيل قليلة ساقها المسيح إليكم وجعلها غنيمة لكم فبادروا إليها. قال فتبادر الروم وهم يظنون أن ليس وراء خالد أحد، وإذا بضرار بن الأزور قد خرج عليهم في ألف فارس وطلع رافع بن عميرة الطائي بعده وطلع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعدهم وطلبت كل كتيبة فرقة من الروم وتفرقوا من حولهم وطلبوا ما في أيديهم وقد رفعوا أصواتهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصبت خيل المسلمين على الروم كأنها السيل المنحدر ونادى هربيس برجاله قاتلوا عن نعمكم فما لهؤلاء القوم حيلة ولا يخلصون من هذا المكان أبداً، فانقسمت الروم طائفة معه وطائفة مع توما فكان من طلب خالداً توما وقد أحدق به خمسمائة فارس وقد رفع بين عينيه صليباً من الجوهر مقمعاً بالذهب الأحمر فعدل خالد وحمل عليه وقال: يا عدو الله أظننتم أنكم تفلتون منا والله تعالى يطوي لنا البلاد وكان توما أعور عورته امرأة أبان قال فحمل عليه وطعنه في عينه الأخرى ففقأها وأرداه عن جواده وحمل أصحابه على رجال توما ولله در عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لما نظر إلى توما وقد سقط عن جواده نزل وجلس على صدره واحتز رأسه ورفعها على السنان ونادى قد قتل والله توما اللعين فاطلبوا هربيس.
قال الواقدي: ففرح المسلمون بذلك. قال رافع بن عميرة الطائي: كنت في الميمنة مع خالد بن الوليد إذ نظر إلي فارس زيه زي الروم، وقد نزل عن جواده، وهو يقاتل علجة من نساء الروم وهي تظهر عليه مرة فدنوت أنظرها. فإذا هو يونس الذليل وهو يقاتل زوجته ويصارعها صراع الأسد. قال رافع: فدنوت أن أتقدم إليهما فأعينه فقصد إلى عشرة من النساء يرمين قوسي بالحجارة فخرج حجر كبير من امرأة حسناء عليها ثياب الديباج. قال فوقع الحجر في جبهة جوادي فانكب على رأسه، وكان جواداً شهدت عليه اليمامة فسقط الجواد ميتاً. قال فأسرعت في طلبها فهربت من بين يدي كأنها ظبية القناص وهربت النساء من وراءها فلحقتهن وقصدت قتلهن وزعقت عليهن وكنت أريد قتلهن وما لي قصد إلا الجارية التي قتلت حصاني فدنوت منها وعلوت بالسيف على رأسها فجعلت تقول الغوث الغوث فرجعت عن قتلها وأقبلت إليها، وإذا عليها ثياب الديباج وعلى رأسها شبكة من اللؤلؤ فأخذتها أسيرة من النساء وأوثقتها كتافاً، ورجعت على أثري فركبت جواداً من خيل الروم. ثم قلت: والله لأمضين وأنظر ما كان من أمر يونس فوجدته، وهو جالس وزوجته بجانبه وقد تلطخت بدمائها وهو يبكي عليها، فلما رأيتها قلت لها أسلمي، فقالت: لا وحق المسيح لا اجتمعت أنا وأنتم أبداً. ثم أخرجت سكيناً كانت معها فقتلت بها نفسها. فقلت: إن الله عز وجل أبدلك ما هي أعظم منها وعليها ثياب الديباج وشبكة من اللؤلؤ وهي كأنها القمر فخذها لك بدلاً عن زوجتك، فقال: أين هي? فقلت: هاهي معي.
قال: فلما نظر إليها وإلى ما عليها من الحلي والزينة وتبين حسنها وجمالها راطنها بالرومية وسألها عن أمرها فرطنت عليه، وهي تبكي فالتفت إلي، وقال لي: أتدري من هذه? قلت: لا، فقال: هذه ابنة الملك هرقل زوجة توما وما مثلي يصلح لها ولا بد لهرقل من طلبها ويفديها بماله. قال: وافتقد المسلمون خالداً فلم يجدوا له أثراً فقلقوا عليه قلقاً عظيماً وخالد رضي الله عنه غائص في المعركة وقصد اللعين هربيس بعد قتل توما، فبينما هو يحمل يميناً وشمالاً إذ نظر علجاً من علوج الرومان عظيم الخلقة أحمر اللون فظن خالد أنه اللعين فأطلق جواده نحوه وطلبه طلباً شديداً ليقتله، فلما نظر إليه العلج وإلى حملته فر هارباً من بين يديه فوكزه خالد بالرمح، وإذا هو واقع على الأرض على أم رأسه فانقض عليه خالد كالأسد، وهو يقول: ويلك يا هربيس أظننت أنك تفوتني وذلك العلج يعرف العربية. فقال: يا عربي ما أنا هربيس فأبق علي ولا تقتلني. فقال خالد: ما لك من يدي خلاص إلا إذا كنت تدلني على هربيس. فإذا دللتني عليه أطلقتك. فقال له العلج: أئذا دللتك عليه تطلقني? فقال خالد: نعم لك ذلك. فقال العلج: يا أخا العرب قم من على صدري حتى أدلك عليه، فقام خالد من على صدره فوثب العلج ونظر يميناً وشمالاً. ثم قال لخالد: أترى هذا الجبل وهذه الخيل الصاعدة اقصدها فإن هربيس فيها. قال فوكل خالد بالعلج واحداً، وهو ابن جابر ثم أطلق خالد عنان جواده حتى لحق بهم وصرخ عليهم، وقال: يا ويلكم أنى لكم مني خلاص. فلما سمع هربيس ذلك ظنه من بعض العرب فزعق فيه ورجع ورجعت البطارقة بالسلاح. فقال لهم خالد: يا ويلكم ظننتم أن الله لا يمكننا منكم أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد. ثم طعن فارساً فرماه وآخر فأرداه. فلما سمع هربيس كلام خالد، قال لأصحابه: يا ويلكم هذا الذي قلب الشام على أصحابه، هذا صاحب بصرى وحوران ودمشق وأجنادين دونكم وإياه قال فطمع القوم فيه لانفراده عن أصحابه، وكان المسلمون في قتال الروم ونهب الأموال وكل منهم مشتغل بنفسه. قال فترجلت البطارقة حول خالد لأنهم في جبل كثير الوعر وأحاطوا بخالد بن الوليد فعندما ترجل عن جواده وأخذ سيفه وجحفته وصبر لقتالهم. قال حدثني شداد بن أوس وكان ممن حضر وقعة مرج الديباج، وقال خالد: قد صحت الرؤيا. فلما ترجل أقبل يقاتل بنفسه وأقبل إليه هربيس، وهو مشغل بالقتال وأتاه من ورائه وصوب خالداً بالسيف فوقع السيف على البيضة فقدها، وقد عمامته وانقض السيف من يد هربيس وخاف خالد أن يلتفت إلى ورائه فتهجم عليه الروم وخاف أن يفلت هربيس من بين يديه فعند ذلك صاح بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير كأنه مستبشر بشيء أغاثه أو أدركه وذلك خديعة منه وحيلة يريد بها أن يتمكن من الأعلاج. فبينما هو كذلك إذ سمع من المسلمين زعقات، وقد أخذت الروم من ورائهم وهم يصيحون بالتهليل والتكبير وقائل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله أتاك النصر من رب العالمين أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. فلما سمع خالد صوته لم يلتفت إلى عبد الرحمن ولا إلى من معه ومضى يفرق الأعلاج ذات اليمين وذات الشمال، ولما أن سمع اللعين هربيس أصوات المسلمين أراد الهرب فلحقه سيدنا خالد وضربه ضربة فأرداه قتيلاً وعجل الله بروحه إلى النار واستطال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب هربيس ونزلوا فيهم بالسيف حتى أبادوهم صن آخرهم، وكان أكثرهم قتلأ من يد ضمرار بن الأزور. فلما انكشف الكرب عن خالد ونظر إلى ما فعل ضرار. قال: أفلح الله وجهك يا ابن الأزور فما زلت مباركاً في كل أفعالك أنجح الله أعمالك وأصلح ربي حالك. ثم سلم على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلى المسلمين، وقال: من أين علمتم مكاني هذا، فقال عبد الرحمن: يا أمين بينما نحن في قتال الروم، وقد نصرنا الله عليهم والمسلمون قد اشتغلوا بالغنائم إذا سمعنا هاتفاً من الهواء يقول: اشتغلتم بالغنائم وخالد قد أحاطت به الروم. فلما سمعنا ذلك لم ندر أي مكان أنت ليه، وفقدنا شخصك فدلنا عليك علج كان بيد رجل من أصحابك، وقال: إن صاحبكم أنا الذي دللته على هربيس وإنه معه في هذا الجبل فسرنا إليك.
فقال خالد: لقد دلنا على عدونا? دل علينا المسلمين، وقد وجب له الحق علينا ورجع خالد وأصحابه إلى المسلمين، فلما رأوه بادروا وسلموا عليه فرد عليهم السلام. ثم إن خالداً رضي الله عنه دعا بذلك العلج الذي دله على هربيس، وقال له: إنك وفيت لنا ونريد أن نوفي لك بما وعدناك لأنك نصحت لنا فهل لك أن تكون أصحاب دين الصلاة والصيام وملة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون من أهل الجنة، فقال: ما أريد بديني بدلاً فأطلق خالد سبيله. قال نوفل بن عمرو: فرأيته قد استوى على ظهر جواده يطلب بلاد الروم وحده. ثم إن خالداً رضي الله عنه أمر بجمع الغنائم والأسارى فجمع ذلك إليه، فلما رأى كثرته حمد الله تعالى وشكره وأثنى عليه ودعا بدليله يونس النجيب. ثم قال له: ما فعلت بزوجتك? فحدثه بحديثه معها، وما كان من أمرها فعجب من ذلك، فقال رافع بن عميرة: أيها الأمير إني أسرت ابنة الملك هرقل، وقد سلمتها إليه بدلاً من زوجته، فقال خالد: وأين ابنة الملك هرقل فمثلت بين يديه فنظر إلى حسنها وجمالها وما منحها الله به من الجمال فصرف وجهه عنها، وقال: سبحانك اللهم وبحمدك تخلق ما تشاء وتختار. ثم قرأ قوله تعالى: "ربك يخلق ما يشاء ويختار" القصص: 68، ثم قال ليونس: أتريدها بدلاً من زوجتك. قال: نعم ولكني أعلم أن الملك هرقل لا بد له أن يفديها بالأموال أو يخلصها بالقتال. فقال خالد: خذها لك الآن فإن لم يطلبها فهي لك، وإن طلبها فالله يعوضك خيراً منها. فقال يونس: أيها الأمير إنك في مكان ضيق ومكان صعب فاعزم على الخروج قبل أن يلحق نفير القوم. فقال خالد: الله لنا ومعنا وعطف راجعاً يجد في مسيره والغنائم أمامه والمسلمون في أثره فرحين بالغنيمة والسلامة والنصر.
قال روح بن عطية: فقطعنا الطريق كلها وما عرض لنا من الروم أحد ونحن نخوض في وسط ديار القوم خوضاً، فلما وصلنا مرج الصغير عند قنطرة أم حكيم نظرنا إلى غبرة من وراءنا. فلما عايناها أنكرنا ذلك فأسرع رجال من المسلمين إلى خالد يخبرونه بالغبرة. قال: أيكم يأتيني بخبرها? فبادر بالإجابة رجل من غفار يقال له صعصعة بن يزيد الغفاري. قال: أنا أيها الأمير. ثم نزل عن جواده، وكان بجريه يسبق الفرس الجواد لقوة عزمه فورد الغبرة واختبرها ورجع على عقبه، وهو ينادي: أيها الأمير أدركنا الصلبان من ورائنا وهم مصفدون في الحديد لم يبن منهم غير حماليق الحدق، فدعا خالد بيونس الدليل عندما قاربته الخيل وقال: يا يونس اقصد نحو الخيل وانظر ما يريدون. فقال: السمع والطاعة. ثم دنا من الخيل وقاربهم، ثم رجع إلى خالد، وقال له: ألم أقل لك أيها الأمير إن هرقل لا يغفل عن طلب ابنته وقد أنفذ هذه الخيل يريدون أن يأخذوا الغنيمة من أيدي المسلمين، فلما لحقوك ههنا قريباً من دمشق بعثوا رسولاً يسألك في الجارية إما بيعها وإما هدية، فبينما خالد يتحدث إذ أقبل إليه شيخ عليه لبس المسوح فأقبل حتى دنا من المسلمين فأوقفوه أمام خالد، وقال له: قل ما تشاء. فقال الشيخ: أنا رسول الملك هرقل وإنه يقول لك بلغني ما فعلت برجالي وقتلت توما زوج ابنتي وهتكت حرمتي، وقد ظفرت وسلمت فلا تفرط بمن معك، والآن إما أن تبيع ابنتي أو تهديها إلي فالكرم شيمتكم وطبعكم ولا يرحم من لا يرحم وإني أرجو أن يقع بيننا الصلح، فلما سمع خالد ذلك. قال للشيخ: قل لصاحبك والله لا رجعت عنه وعن أهل ملته حتى أملك سريره وما تحت قدميه، كما في علمك، وأما إبقاؤك علينا فلو وجدت إلى ذلك من سبيل فما قصرت، وأما ابنتك فهي لك هدية منا ثم إن خالداً أطلق ابنة الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئاً، فلما بلغ ذلك الرسول إلى الملك هرقل قال لعظماء الروم: هذا الذي أشرت عليكم فلم تقبلوه وأردتم قتلي وسيكون الأمر أعظم، ولكن ليس هذا منكم بل هو من رب السماء.
قال الواقدي: فبكت الروم بكاء شديداً وسار خالد حتى أتى دمشق، وكان المسلمون وأبو عبيدة قد أيسوا من خالد ومن معه فهم في أعظم القلق والإياس إذ قدم عليهم خالد رضي الله عنه والمسلمون فخرجوا إلى لقائه وهنئوه بالسلامة وسلم المسلمون بعضهم على بعض ووجد خالد في دمشق عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر النخعي ومن كان معهما وأقبل خالد إلى جانب أبي عبيدة، وهو يحدثه بما لاقى في غزوته وأبو عبيدة يتعجب من شجاعته وجسارته، فلما استقر بخالد مكانه أخذ الخصر من الغنائم وفرق الباقي على المسلمين ثم إن خالداً أعطى من ماله ليونس، وقال: خذ هذا فتزوج به أو اشتر به جارية لك من بنات الروم. قال يونس: والله لا أتزوج في هذه الدار الدنيا زوجة أبداً وما أريد إلا أن أتزوج في الآخرة بعيناء من الحور العين. قال رافع بن عميرة الطائي: فشهد معنا القتال إلى يوم اليرموك فما كنت أراه في حرب إلا ويجاهد جهاداً عظيماً، وقد أبلى في الروم بلاء حسنا فأتاه سهم في لبته فخز ميتاً رحمه الله تعالى. قال رافع: فحزنت عليه وأكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي رجليه نعلان من ذهب وهو يجول في روضة خضراء، فقلت له: ما فعل الله بك. قال: غفر لي وأعطاني بدلاً من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في الدنيا لكف ضوء وجهها نور الشمس والقمر فجزاكم الله خيراً فقصصت الرؤيا على خالد، فقال: ليس والله سوى الشهادة، طوبى لمن رزقها.
كتب خالد بالفتح
قال الواقدي: ولقد بلغني أن خالداً رضي الله عنه لما رجع من غزوته ومسيره غانماً ظن أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه حي لم يقبض فهم أن يكتب له كتاباً بالفتح والبشارة وما غنم من الروم، وأبو عبيدة لا يخبره بذلك ولا يعلمه أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا خالد بدواة وبياض وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عامله على الشام خالد بن الوليد. أما بعد سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنا لم نزل في مكابدة العدو على حرب دمشق حتى أنزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق عنوة بالسيف من باب شرقي، وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم فصالحوه على الباب الآخر ومنعني أن أسبي وأقتل ولقيناه على كنيسة يقال لها كنيسة مريم وأمامه القسس والرهبان ومعهم كتاب الصلح، وإن صهر الملك توما وآخر يقال له هربيس خرجا من المدينة بمال عظيم وأحمال جسيمة فسرت خلفها في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من أيديهما وقتلت الملعونين وأسرت ابنة الملك هرقل، ثم أهديتها إليه ورجعت سالماً، وأنا منتظر أمرك والسلام عليك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وطوى الكتاب وختمه بخاتمه، ودعا برجل من العرب يقال له عبد الله بن قرط فدفع إليه الكتاب وسار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوردها والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ عنوان الكتاب، وإذا هو: من خالد إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أما عرف المسلمون وفاة أبي بكر رضي الله عنه، فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: قد وجهت بذلك كتاباً إلى أبي عبيدة وأمرته على المسلمين وعزلت خالداً وما أظن أبا عبيدة يريد الخلافة لنفسه، فسكت وقرأ الكتاب. قال أصحاب السير في حديثهم ممن تقدم ذكرهم وإسنادهم في أول الكتاب ممن روى فتوح الشام ونقلوها عنالثقات منهم محمد بن إسحاق وسيف بن عمرو وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي رضى الله عنه كل حدث بما رواه وسمعه ثقة عن ثقة. قالوا جميعاً في أخبارهم: إنه لما قبض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وولي الأمر بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله من العمر اثنتان وخمسون سنة بايعه الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة تامة ولم يتخلف عن مبايعته أحد لا صغير ولا كبير وانقطع في إمارته الشقاق والنفاق وانحسم الباطل وقام الحق وقوي السلطان في إمارته وضعف كيد الشيطان وظهر أمر الله وهم كارهون، ومن أمره أنه كان يجلس مع الفقير ويتلطف بالناس والمسلمين ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويعطف على اليتيم وينصف المظلوم من الظالم حتى يرد الحق إلى أهله ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكان في إمارته يدور في أسواق المدينة وعليه مرقعة وبيده درته وكانت درته أهيب من سيف الملوك وسيوفكم هذه، وكان قوته في كل يوم خبز الشعير وادمه الملح الجريش، وربما أكل خبزه بغير ملح تزهداً واحتياطاً وترفقاً على المسلمين ورأفة ورحمة لا يريد بذلك إلا الثواب من الله سبحانه وتعالى ولا يشغله شاغل عن أداء الفريضة. وما أوجب الله عليه من حقوقه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد تولى والله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة فجد في التشمر وترك عن نفسه التكبر، ولقد كان أحرقه خبز الشعير والملح وأراد أكل الزيت واليابس من التمر، وربما أخذ شيئاً من السمن، ويقول: أكلت الزيت وخبز الشعير والملح والجوخ أهون غداً من نار جهنم، من حل بها لم يمت ولم يجد فيها راحة أبداً، قرارها بعيد وعذابها شديد وشرابها الصديد لا يؤذن لهم فيعتفرون، جند الجنود في إمارته وبعث العساكر وفتح الفتوحات ومصر الأمصار، وكان يخاف عذاب النار، رضي الله عنه.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: ولقد بلغني أن هرقل لما بلغه أن عمر بن الخطاب قد ولي الأمر من بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه جمع الملوك والبطارقة وأرباب دولته وقام فيهم خطيباً على منبر قد نصب له في كنيسة القسيسين، وقال: يا بني الأصفر، هذا الذي كنت أحذركم منه فلم تسمعوا مني، وقد اشتد الأمر عليكم بولاية هذا الرجل الأسمر وقد دنا موعد صاحب الفتوح المشبه بنوح، والله ثم والله لا بد أن يملك ما تحت سريري هذا، الحذر ثم الحذر قبل وقوع الأمر ونزول الضرر، وهدم القصور وقتل القسس وتبطيل الناقوس، هذا صاحب الحرب والجالب على الروم والفرس الكرب، هذا الزاهد في دنياه، وهذا الغليظ على من اتبع في غير ملته هواه، وإني أرجو لكم النصر إن أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وتركتم الظلم واتبعتم المسيح في أداء المفروضات ولزوم الطاعات وترك الزنا وأنواع الخطايا، وإن أبيتم إلا الفساد والفسوق والعصيان والركون إلى شهوات الدنيا يسقط الله عليكم عدوكم ويبلوكم بما لا طاقة لكم به، ولقد أعلم أن دين هؤلاء سيظهر على كل دين ولا يزال أهله بخير ما لم يغتروا ويبذلوا، فإما أن ترجعوا إليه، وإما أن تصالحوا القوم على أداء الجزية، فلما سمع القوم ذلك نفروا وبادروا إليه وهموا بقتله فسكن غضبهم بلين كلامه ولاطفهم. وقال لهم: إنما أردت أن أرى حميتكم لدينكم وهل تمكن خوف العرب في قلوبكم أم لا.
ثم استدعى برجل من المتنصرة يقال له طليعة بن ماران وضمن له مالاً، وقال له: انطلق من وقتك هذا إلى يثرب وانظر كيف تقتل عمر بن الخطاب، فقال له طليعة: نعم أيها الملك. ثم تجهز وسار حتى ورد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكمن حولها، وإذا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يشرف على أموال اليتامى ويفتقد حدائقهم فصعد المتنصر إلى شجرة ملتفة الأغصان فاستتر بأوراقها، وإذا بعمر رضي الله عنه قد أقبل إلى أن قرب من الشجرة التي عليها المتنصر ونام على ظهره وتوسد بحجر، فلما نام هم المتنصر أن ينزل إليه ليقتله، وإذا بسبع أقبل من البرية فطاف حوله وأقبل يلحس قدميه، وإذا بهاتف يقول: يا عمر عدلت فأمنت، فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ذهب السبع ونزل المتنصر وترامى على عمر رضي الله عنه فقبل يديه، وقال: بأبي أنت وأمي أفدى من الكائنات من السباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه، ثم أعلمه بما كان منه وأسلم على يديه.
قال الواقدي: ثم إن عمر رضي الله عنه كتب كتاباً لأبي عبيدة بن الجراح يقول فيه: قد وليتك على الشام وجعلتك أميراً على المسلمين وعزلت خالد بن الوليد والسلام. ثم سلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط وأقام قلقاً على ما يرد عليه من أمور المسلمين وصرف همته إلى الشام
تولية أبي عبيدة
. قال الواقدي: حدثني رافع بن عميرة الطائي. قال حدثني يونس بن عبد الأعلى، وقد قرأت عليه بجامع الكوفة. قال حدثني عبد الله بن سالم الثقفي عن أشياخه الثقات. قال: لما كانت الليلة التي مات فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه رأى عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه رؤيا قصها على عمر رضي الله عنه، وكانت تلك الليلة بعينها، قال: رأيت دمشق والمسلمون حولها وكأني أسمع تكبيرهم في أذني وعند تكبيرهم وزحفهم رأيت حصناً قد ساخ في الأرض حتى لم أر منه شيئاً ورأيت خالداً، وقد دخلها بالسيف وكأن ناراً أمامه وكأنه وقع على النار فانطفأت، فقال الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنهم أجمعين: أبشر فقد فتح الشام هذه الليلة أو قال: يومك هذا إن شاء الله تعالى، فبعد أيام قدم عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتاب الفتح، فلما رآه قال: يا ابن عامر كم عهدك. قال: قلت: يوم الجمعة. قال: ما معك من الخبر. فقلت: خير وبشارة وإني سأذكرها بين يدي الصديق رضي الله عنه. فقال: قبض والله حميداً وصار إلى رب كريم، وقلدها عمر الضعيف في جسمه فإن عدل فيها نجا وإن ترك أو خلط هلك. قال عقبة بن عامر: فبكيت وترحمت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرجت الكتاب فدفعته إليه، فلما قرأه نظر فيه وكتم الأمر إلى وقت صلاة الجمعة. فلما خطب وصلى ورقى المنبر واجتمع المسلمون إليه وقرأ عليهم كتاب الفتح، فضج المسلمون بالتهليل والتكبير وفرحوا، ثم نزل عن المنبر وكتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه بتوليته وعزل خالد، ثم سلمني الكتاب وأمرني بالرجوع، قال فرجعت إلى دمشق فوجدت خالداً قد سار خلف توما وهربيس فدفعت الكتاب إلى أبي عبيدة فقرأه سراً ولم يخبر أحداً بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم كتم أمره وكتم عزل خالد وتوليته على المسلمين حتى ورد خالد من السرية فكتب الكتاب بفتح دمشق ونصرهم على عدوهم وبما ملكوا من مرج الديباج وإطلاق بنت الملك هرقل وسلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط، فلما ورد به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقرأ عنوان الكتاب من خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنكر الأمر ورجعت حمرته إلى البياض، وقال: يا ابن قرط أما علم الناس بموت أبي بكر رضي الله عنه وتوليتي أبا عبيدة بن الجراح? قال عبد الله بن قرط: قلت: لا، فغضب وجمع الناس إليه وقام على المنبر. ثم قال: يا معاشر الناس إني أمرت أبا عبيدة الرجل الأمين، وقد رأيته لذلك أهلاً، وقد عزلت خالداً عن إمارته، فقال رجل من بني مخزوم: أتعزل رجلاً قد أشهر الله بيده سيفاً قاطعاً ونصر به دينه، وإن الله لا يعذرك في ذلك ولا المسلمين إن أنت أغمدت سيفاً وعزلت أميراً أمره الله لقد قطعت الرحم، ثم سكت الرجل، فنظر عمر رضي الله عنه إلى الرجل المخزومي فرآه غلاماً حدث السن. فقال شاب حدث السن غضب لابن عمه ثم نزل عن المنبر وأخذ الكتاب وجعله تحت رأسه وجعل يؤامر نفسه في عزل خالد، فلما كان من الغد صلى صلاة الفجر وقام فرقى المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى عليه وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم قال: أيها الناس إني حملت أمانة عظيمة وإني راع وكل راع مسؤول عن رعيته، وقد جئت لإصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر في هذا البلد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صبر على أذاها وشرها كنت له شفيعاً يوم القيامة" وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ما أوقر به الإبل إلا من مسيرة شهر وقد وعدنا الله مغانم كثيرة وإني أريدها للخاصة والعامة لأولي الأمانة والتوقير للمسلمين... وما كرهت ولاية خالد على المسلمين إلا لأن خالداً فيه تبذير المال يعطي الشاعر إذا مدحه ويعطي للمجاهد والفارس بين يديه فوق ما يستحقه من حقه ولا يبقي لفقراء المسلمين ولا لضعفائهم شيئاً، وإني أريد عزله وولاية أبي عبيدة مكانه والله يعلم أني ما وليته إلا أميناً فلا يقول قائلكم: عزل الرجل الشديد وولى الأمين اللين للمسلمين فإن الله معه يسدده ويعينه، ثم نزل عن المنبر وأخذ جلد أدم منشور وكتب إلى أبي عبيدة كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبعد، فقد وليتك أمور المسلمين فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه والذي استخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، وقد استعملتك على جند ما هنالك مع خالد فاقبض جنده واعزله عن إمارته ولا تنفذ المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنفذ سرية إلى جمع كثير ولا تقل إني أرجو لكم النصر فإن النصر إنما يكون مع اليقين والثقة بالله، وإياك والتغرير بإلقاء المسلمين إلى الهلكة، وغض عن الدنيا عينيك وإله عنها قلبك، وإياك أن تهلك كما هلك من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم وخبرت سرائرهم وإنما بينك وبين الآخرة ستر الخمار وقد تقدم فيها سلفك وأنت كأنك منتظر سفراً ورحيلاً من دار قد مضت نضرتها وذهبت زهرتها فأحزم الناس فيها الراحل منها إلى غيرها ويكون زاده التقوى وراع المسلمين ما استطعت، وأما الحنطة والشعير الذي وجدت بدمشق وكثرت في ذلك مشاجرتكم فهو للمسلمين، وأما الذهب والفضة ففيهما الخمس والسهام، وأما اختصامك أنت وخالد في الصلح أو القتال فأنت الولي وصاحب الأمر وإن صلحك جرى على الحقيقة أنها للروم فسلم إليهم ذلك والسلام ورحمة الله وبركاته عليك وعلى جميع المسلمين.
وأما هديتك ابنة الملك هرقل فهديتها إلى أبيها بعد أسرها تفريط، وقد كان يأخذ في فديتها مالاً كثيراً يرجع به على الضعفاء من المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطوى الكتاب وختمه بخاتمه، ثم دعا بعامر بن أبي وقاص أخي سعد ودفع الكتاب إليه، وقال له: انطلق إلى دمشق وسلم كتابي هذا إلى أبي عبيدة وأمره أن يجمع الناس إليه واقرأه أنت على الناس يا عامر وأخبره بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم دعا عمر رضي الله عنه بشداد بن أوس فصافحه، وقال له: امض أنت وعامر إلى الشام فإذا قرأ أبو عبيدة الكتاب فأمر الناس يبايعونك لتكون بيعتك بيعتي.
قال الواقدي: فانطلقا يجدان في السير إلى أن وصلا إلى دمشق والناس مقيمون بها ينتظرون ما يأتيهم من خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما يأمرهم به فأشرف صاحبا عمر رضي الله عنه على المسلمين، وقد طالت أعناقهم إليهما وفرحوا بقدومهما فأقبلا حتى نزلا في خيمة عمر رضي الله عنه وقال له عامر بن أبي وقاص: تركته يعني عمر بخير ومعي كتاب وإنه أمرني أن أقرأه على الناس بالاجتماع فاستنكر خالد ذلك واستراب الأمر وجمع المسلمين إليه فقام عامر بن أبي وقاص فقرأ الكتاب فلما انتهى إلى وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ارتفع للناس ضجة عظيمة بالبكاء والنحيب وبكى خالد رضي الله عنه، وقال: إن كان أبو بكر قد قبض وقد استخلف عمر فالسمع والطاعة لعمر وما أمر به وقرأ عامر الكتاب إلى آخره، فلما سمع الناس بما فيه من أمر المبايعة لشداد بن أوس بايعوه، وكانت المبايعة بدمشق لثلاث خلت من شهر شعبان سنة ثلاث عشر من الهجرة.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: قد بلغني أنه كان على العدو بعد عزله أشد فظاعة وأصعب جهاداً لا سيما في حصن أبي القدس.
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات
admin غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس