عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-2009
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

وكان مالك لا يحب أن يخوض غمرات الصراع السياسي.. وكانت المدينة بالقياس الى غيرها من بلاد المسلمين أكثرهن بعدا عن الثورات الفتن ومناهضة الحكام.

ولقد بلغ نفوره من الجدل حدا جعله يصد عنه هارون الرشيد عندما لقيه في المدينة وطلب منه أن يناظر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة.

فقال مالك مغضبا: «إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة».

كان مالك يعتقد أن الجدال في الدين مفسدة للدين. وقال: «إن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة الدين. إن المراء والجدل في الدين يذهبان بنور العلم من قلب المؤمن». وسئل: «رجل له علم بالسنة آلا يجادل عنها؟ فقال: يخبر بالسنة فإن قبل منه، وإلا سكت.»

على أن الأفكار الجديدة اقتحمت على مالك وأهل المدينة حياتهم، وفرضت عليهم النظر فيها، فقد كان أصحابها يذهبن الى الحجاز للحج العمرة وللزيارة.. وكان على مالك وأهل العلم في المدينة أن يناظروا فيما هو مطروح من أفكار وكلام. صفات الله. كيف يرى يوم القيامة، وخلق القرآن.. القدر والجبر والإختيار.

وفرضت القضايا نفسها على فقهاء الحجاز.. أما مالك فقال: «الكلام في الدين أكرهه أنهي عنه ولم يزل أهل بلدنا (المدينة) يكرهونه وينهون عنه.. نحو الكلام في القدر والجبر ونحو ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. وما تحته عمل من الدين هو ما يفيد الناس في دنياهم وآخرتهم.. هو الفقه الذي يحكم أعمال الناس ويرد الفروع إلى الأصول». أما العقائد فقد نهى عن الجدل فيها وقد فسر مالك كل آية تحدث عن العداوة والبغضاء التي تقع بين عباد الله، بأنها الخصومات للجدل في الدين.

وكان مالك يتساءل عن جدوى هذه الأفكار المبتدعة عن ذات الله وصفاته والجبر والاختيار؟ وخلق القرآن؟ وما عساها تحقق من مصالح أن تدفع من مضار؟

إنه لأولى بأهل العلم أن يشتغلوا بالحكمة... والحكمة التي جاءت كثيرا في القرآن هي ـ في رأي مالك ـ في دين الله والعمل به..

ولقد أطلق مالك على أصحاب الكلام في العقائد والجبر ونحو ذلك من أصحاب بدع وقال عنهم إنه ما عرف أشد منهم سخفا ولا حمقا. فما جدوى الكلام فيما يتكلمون فيه؟ ماذا يحقق جدل كهذا من مصالح للعباد؟..

إن المعتقدات يجب ألا تكون موضع كلام وعلى المسلم العاقل أن يسلم بها تسليما مطلقا، وأن يجعل همه إلى ما وراء ذلك مما ينفع الناس، ويمكث في الأرض يدفع عنهم الضرر والمفاسد، ويضبط لهم علاقاتهم وحياتهم ومعاشهم بما يستنبط به من أحكام الشريعة.

فليسأل أهل العلم أنفسهم ما هو مقصد الشريعة الإسلامية وما هدفها؟...... وليتقوا الله حق تقاته وهم يجيبون على هذه المسألة... أهو في الشريعة الإسلامية أن يتخاصم الناس ويتمارون حول القدر وخلق القرآن ورؤية الله والجبر الاختيار؟... وبهذا تنصرف العقول عن التفكير فيما ينفع الناس؟.. لا بل إن هدف الشريعة هو إقامة العمران في هذا العالم وتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة..

من أجل ذلك فقد وجب على العلماء والفقهاء أن يبصروا الناس بما يحقق المصلحة ويقيم عمارة العالم، وبما يدرأ عنهم المفاسد وبما يضبط أمورهم على أركان ركينة من العدل والتقوى وصلاح الأمور.

والأحكام التي تحقق مقاصد الشريعة منصوص عليها في القرآن والحديث، ويجب التعرف عليها بكل طرائق الفهم والتفسير، وتدبر ما وضح وما خفي من دلالات النصوص، فإن لم يسعف النص في موجهة ما يستجد من أحداث، فلينظر الفقيه في إجماع الصحابة ليستخلص الحكم، ففي إجماع الصحابة حجة كالسنة المؤكدة، فإن لم يجد الفقيه ما يشفي فلينظر في عمل أهل المدينة لأنهم تلقوه آلافا عن آلاف عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته.. فإن كان ما استجد من قضايا لا حكم له عند أهل المدينة فليقس الفقيه ليطبق على القضية الجديدة حكم قضية سابقة وأورد به نصا إن توفرت العلة في القضيتين فإن تعارض هذا القياس مع مصلحة فليفضل الحكم الذي يحقق المصلحة استحسانا له.. فهو الأحسن. وإن لم يسعفه القياس فلينظر في عرف الناس وعاداتهم إن لم يكن مخالفا لما أحله.. فإن لم يجد فلينظر أين المصلحة.. وليجعل تحقيق المصلحة هو مناط الحكم.

على أن مالك بن أنس لم يوفق الى هذه الأفكار ويدلي بها إلا بعد أن أصبح صاحب حلقة يدرس فيها..

فها هو ذا مالك بن أنس تجري به السنون لتعدو الأربعين، وقد لزم الفقهاء نحو ثلاثين عاما، فتلقى عنهم الأحاديث النبوية، ومحصها وحقق إسنادها وتدارس معهم ما ينبغي لاستنباط الأحكام التي تواجه قضايا لم تعرض من قبل، وتعلم منهم الكتاب والحكمة، وتفكر في خلق السموات والأرض وأحوال العباد، وتدارس معاملات الناس، فتكون له رأي خاص، واستقل بنظره في كل أمور الدنيا والآخرة اتبع في بعضه السنة وأفكار السلف الصالح وعمل أهل المدينة وأعرافها وعاداتها.

واستنبط الأحكام في بعضه الآخر بما يحقق المنفعة ويدرأ المفسدة.

جاء الوقت الذي ينبغي له فيه أن يجلس إلى أحد أعمدة الحرم النبوي، ويجعل له حلقة خاصة يفتي فيها للناس ويعلمهم مما علم رشدا ويطرح عليهم ما تكون له من فقه وما استقر عنده من تأويل الأحاديث.

وكان مالك قبل أن يجلس ليعلم الناس ويفتيهم، قد اختلف مع أستاذه ربيعة، فرأى مالك أن يستقل بحلقة، اقترحها عليه مشايعوه، غير أنه لم يفعلها من فوره بل طلب على سبعين من أصحاب الحلقات والشيوخ في المسجد النبوي، يعرض عليهم فقهه، ويستأذنهم في أن يجلس ليعلم الناس.

وأجازه له أستاذته لم يختلف على إجازته أحد، اختار المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب ليبستروح منه جلال الأيام الرائعة الماضية، حيث كان كل الصحابة يعيشون في المدينة المنورة.. أمسكهم فيها عمر لا يبرحونها إلا بإذنه، لكي يعلموا الناس، ولكي يستشيرهم إذا احتاج الأمر، ولكيلا يفتن بهم أهل الأقطار الأخرى من حديثي العهد بالإسلام.

وكان أنس بن مالك من قبل قد اختار سكنا له دار الصحابي عبد الله ابن مسعود، ليخفق منه القلب بنبضات عصر النبوة.. ذلك العصر المضيء بنور الإيمان والمعرفة والشوق المقدس العظيم الى صياغة عالم جديد من الطهارة والإخاء والنبل والعدالة والحرية والسكينة والنعيم..

ولقد أثث مالك بن أنس داره بأجمل أثاث، وزينها بأحسن زينة وملأ أجواءها بعرف البخور المعطر. ذلك أن الحياة أقبلت عليه.. فنال راتبا كبيرا من بيت المال، ثم توالت عليه هدايا الخلفاء فقد اقتنع الخلفاء برأيه في أن أهل العلم يجب ألا يشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من بيت المال، فينالوا منه رواتب منتظمة كبيرة، كما ينال قواد الجيش الذين يقومون على حماية الأمة وسد الثغور... فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفير على نشر العلم جهاد. وإذن فينبغي أن يكون لكل من العالم وطالب العلم جزاء المجاهدين كل بقدر ما يكفيه.

إن العلماء ليحمون أرواح الناس وعقولهم من الضلال، فمن واجب ولي الأمر أن يوفر لهم من المال ما يكفل لهم الحياة الكريمة والمظهر اللائق الحسن كخير ما ينعم به الولاة والأمراء وحماة الثغور.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس