عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-2009
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

على أنه كان يغدق من راتبه ومما يتلقى من هدايا على الفقراء من طلاب العلم يعطيهم ما تيسر من المال ويطعمهم أشهى طعام.. وكان حفيا بمأكله يختار الأطايب من كل صنف وكان مولعا بالفاكهة وخاصة الموز ويقول عنه: «لا شيء أكثر شبها بثمرات أهل الجنة منه، لا تطلبه في شتاء ولا صيف إلا وجدته.. قال تعالى «أكلها دائم وظلها».

وكان يحض تلاميذه على الاهتمام بحسن التغذية، فالغذاء الجيد يبني الجسم السليم.. والعقل السليم في الجسم السليم. ومكابد العلم تحتاج الى عقول نشطة تصونها أجساد قوية..

وهكذا عاش منذ بدأ يجلس للإفتاء والتدريس: جسد قوي، وعقل نفاذ.. طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما تنتجه مصر وخراسان وعدن.

وألف الناس كلما دخلوا المسجد النبوي بعد صالة الفجر أن رجلا مهيبا طويلا فارعا أشقر، أبيض الوجه، اوسع العينين، أشم الأنف، كبير اللحية، مفتول الشارب، يتخذ مكانه في هدوء، ويتحدث في صوب عميق صادق مستندا الى عمود من حوله حلقة من تلاميذه، كأن على رؤوسهم الطير. فإذا دخل غريب وألقى السلام لم يرد عليه أحدا إلا همسا.. فإذا سأل ما هذا؟ قيل له في صوت خفيف: إنه الإمام مالك بن أنس.

فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه الى القلوب.. ولم يكن جهير الصوت، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا يفوتهم حرف مما يقول.

وكان قد خصص أياما لشرح الأحاديث النبوية الشريفة، وأياما للمسائل والفتيا.. فإذا سأله أحد في أمر لم يقع ولكنه متوقع، قال له: «سل عما يكون ودع ما لا يكون».

ذلك أنه كان يرى أن كثرة الفروض مفسدة، وفيما يقع من الحوادث والقضايا الجديدة ما يكفي وما يغني عما هو متوقع..
وعندما تقدمت به السن، عقد حلقات الدرس في بيته الواسعة ذات الأثاث الفاخر.

ترك مجاملة الناس التي اشتهر بها، «ترك حضر الجنازات، فكأن يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، وكان إذا عوتب في ذلك قال: «ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره».

ذلك أنه لم يفض لأحد بسر مرضه الذي أقعده عن المسجد والناس إلا فراش الموت وكان مرضه هو سلس البول. وعندما اشتد عليه المرض بعد أن جاوز الثمانين كره أن يخرج من داره.

وكان له في بيته مجلسان في السنوات الثماني الأخيرة من حياته: فقال أحد تلاميذه: «إنه كان عندما انتقل درسه الى بيته، إذا أتاه الناس تخرج لهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ أتريدون الحديث أم المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم أجلسوا، ودخل مغسله فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابا جددا، ولبس ساجه (وهي غطاء للرأس كالتاج) وتعمم، فتلقى له المنصة. فيخرج اليم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع، ويوضع عود فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله(صلى الله عليه وسلم)».

ولكم كان حريصا على أن ينتقي الأحاديث.

وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التي حفظها، فلم يكن يحدث بهن جميعا.. لقد قيل له إن أحد الفقهاء يحدث بأحاديث ليست عندك، فقال مالك: لو أني حدثت بكل ما عندي لكأني إذن لأحمق ثم أضاف: لقد خرجت مني أحاديث لوددت لو أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها. من أجل ذلك قال عنه تلميذه الشافعي: «إذا جاء الحديث فمالك النجم الثاقب».

وبهذا الحرج في الحديث كان يتحرج في الفتوى.. فقلا يقول هذا حلال وهذا حرام إلا إذا كان هناك نص قطعي الدلالة.

وفيما عدا هذا يقول: أظن. ثم يعقب فتواه مستشهدا بالآية الكريمة: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.

ولقد عاتبه بعض تلاميذه على تحرجه في الفتوى، فاستعبر وبكى وهو يقول: إني أخاف أن يكون لي منها يوم وأي يوم. وقال يوما لأحد تلاميذه: ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: (إننا سنلقي عليك قولا ثقيلا).. فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.

ولقد عاتبه بعض الناس في عنايته الفائقة بأثاث البيت، وبملبسه ومأكله فقال: «أما البيت فهو نسب الإنسان. ثم إني لا أحب لامرئ أنعم الله عليه ألا يرى أثر نعمته عليه وخاصة أهل العلم». كان يرى في أن البيت الجيد راحة للنفس والبدن، وأن الطعام الجيد يعين على نشاط الذهن، وأن حسن الثياب يكسب المرء ثقة بالذات وإحساسا بالسعادة.

وهكذا عاش يستمتع بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من الرزق، نائيا بنفسه عن السياسة، راغبا عن مصاولة الحكام وإن كانوا ظالمين حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالما. ولا ينبغي الخروج عليه بالفتنة بل يسعى الى تغييره بالموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ظلم ساعة خلال الفتنة شر من جور حاكم ظالم طيلة حياته. والحاكم الظالم يسلط الله عليه ما هو شر منه والله يرمي ظالما بظالم.

وعلى هذا سار أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين.. يحاول جهده أن يكون على الحياد. ولكنه على الرغم من كل شيء لم يعش بمنجاة عن بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من الحكام مهما يظلمون.

لم يهاجم الأمويين فأصابه منهم خير كثير ثم جاء العباسيون فزادوه من الخيرات.. وأصبح الإمام مالك رجلا غنيا، يعيش في دعة وسعة يمنح كل وقته للعلم. ذلك أنه لم يمدح عليا بن أبي طالب ولم يساند حقه في الخلافة.. وكان مدح علي هو ما يغيظ الخلفاء الأمويين العباسيين.

وآثر الحياد، وترك السياسة، وأشفق على نفسه وعلى أهل المدينة بما رأى في شبابه من مذابح من بعد ثورة الخوارج ونهضة الإمام زيد بن علي زين العابدين، على أن السياسة لم تتركه ولم ينفعه حياد.!.

ولهو يشرح في المسجد الحديث الشريف: ليس على مستكره يمين.. ويبين للناس أن من طلق مكرها لايقع منه طلاق، إذ بأحد أحفاد الحسن ابن علي وهو محمد النفس الزكية، يثور على الخليفة المنصور، لأنه أخذ البيعة لنفسه قسرا فبايعه الناس مستكرهين. وإذ ببعض الناس في المدينة ينتقض بيعته لمنصور وينضم لمحمد النفس الزكية إعمالا لهذا الحديث وتطبيقا للسنة.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس