الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 50
الذي هو الانسانية الكبرى سيسطع كالشمس في رابعة النهار في سماء المستقبل وعلى جنان آسيا.
ولما كانت الاحاسيس المادية والميول والرغبات والقوة التي انشأت الاغراض النفسانية والخصومات وميل التفوق على الاخرين مسيطرة على اودية الماضي كان الاقناع الخطابي كافياً لارشاد اهل ذلك الزمان، لأن تصوير المدّعى وتزيينه وتهويله وتأنيسه الى الخيال يداعب الاحاسيس ويؤثر في الميول والرغبات، فكان هذا يسد مسدّ البرهان. بيد ان قياس انفسنا عليهم يعني التحرك الى الخلف، واقحاماً لنا في زوايا ذلك الزمان. اذ لكل زمان حكمه. نحن نطلب الدليل. ولا ننخدع بتصوير المدعى وتزيينه.
ولما كان مصدر تبخر حقائق الحكمة في صحراء الوقت الحاضر والباعث بالسحاب الممطر الى جبال المستقبل، هو الافكار والعقل والحق والحكمة والتي ولّدت حديثاً ميل التحري عن الحقيقة، وعشق الحق، وترجيح المنفعة العامة على الخاصة، وظهور رغبات انسانية؛ لذا لا يثبت المدّعى بغير البراهين القاطعة. فنحن ابناء الحال الحاضرة والمرشحين للمستقبل لايشبع اذهاننا تصوير المدّعى وتزيينه بل نطلب البرهان.
فلنذكر قليلاً من حسنات وسيئات الماضي والمستقبل اللذين هما في حكم سلطانين.
ففي ديار الماضي كان السائد في الاغلب هو: القوة، والهوى، والطبائع، والميول، والاحاسيس، لذا فان احدى سيئاته انه كان هناك في كل امر من اموره - ولو بصورة عامة - تحكّم واستبداد وظهور محبة شخص على حساب خصومة آخر.. وغلبة خصومة مسلك الآخرين على محبة مسلكه.. ومداخلة الالتزام والتعصب.. والانحياز المانع عن كشف الحقيقة.

حاصل الكلام:
لما كانت الميول متفاوتة فان تدخل الشعور بالانحياز في كل شئ، ونشوء التبلبل بالاختلافات جعل الحقيقة تهرب وتختفي.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 51
ثم ان من سيئات استبداد الاحاسيس: تأسس المسالك والمذاهب غالباً على التعصب.. وتضليل الاخرين، او على السفسطة.. بينما هذه الثلاثة مذمومة في نظر الشرع، منافية للاخوة الاسلامية، مفرقة للانتساب الجنسي (الانساني) مخالفة للتعاون الفطري لدرجة ان احد هؤلاء يضطر في النهاية الى تبديل مذهبه ومسلكه دفعةً، مصدقاً اجماع الناس وتواترهم تاركاً التعصب والسفسطة. بينما اذا ما عمل ابتداءً بالحق بدلاً من التعصب، وبالبرهان بدلاً من السفسطة، وبالتوفيق والتطبيق بدلاً من تضليل الاخرين، وطبّق الشورى، فلا يمكن ان يبدّل مذهبه ومسلكه الحق ولو بجزء منهما حتى لو اتفقت الدنيا عليه.
ولما كان المهيمن هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يك للشكوك والشبهات موضع. كذلك نرى انه بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة وفي المستقبل هيمنة تامة ان شاء الله سيكون المهيمن هو الحق بدلاً من القوة، والبرهان بدلاً من التعصب والسفسطة، والحمية بدلاً من الاحاسيس المادية، والعقل بدلاً من الطبع، والهدى بدلاً من الهوى كما كان الحال في القرون الاولى والثانية والثالثة وحتى الى القرن الخامس عامة. اما بعد القرن الخامس الى الان فقد غلبت القوةُ الحقَ.
ومن محاسن سلطان الافكار ان تخلصت شمس الاسلام مما كان يحجبها من غيوم الاوهام والخيالات. بل اخذت كل حقيقة منها بنشر نورها، حتى المتعفنين في مستنقع الالحاد أخذوا يستفيدون من ذلك النور.
ومن محاسن مشاورة الافكار تأسس المعتقدات والمسالك على البراهين القاطعة، وربط الحقائق بالحق الثابت الممدّ للكمالات كلها. مما يؤدي الى عدم تمويه الافكار وخداعها بإلباس الباطل لباس الحق!
ايها الاخوة المسلمون!
ان الوضع الحاضر يبشرنا بلسان الحال ان مضمون:
(جاء الحق وزهق الباطل) (الاسراء: 81) قد أشرأب بعنقه ويشير بيده الى المستقبل منادياً بأعلى صوته:
ان الحاكم على الدهر وعلى طبائع البشر الى يوم القيامة هو "حقيقة الاسلام" التي هي تجلّي العدالة الازلية في عالم الكون، والتي هي الانسانية الكبرى. وما


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 52
محاسن المدنية التي هي الانسانية الصغرى الاّ مقدمتها! ألا يشاهد انه قد خفف تلاحق الافكار وتنوّرها عن كاهل حقائق الاسلام طبقات تراب الاوهام والخيالات.. وهذا يبين ان ستنكشف تماماً تلك الحقائق التي هي نجوم سماء الهداية وستتلألأ وتسطع على رغم انوف الاعداء.
واذا شئت فاذهب الى المستقبل وادخل فيه وشاهد: كيف يهذر وينهزم في ميدان الحقائق - التي تحكمها وترعاها الحكمة - من يتحرى التوحيد في التثليث فيما لو بارز المتمسكين بالعقيدة الحقة، المتقلدين سيف البرهان، تلك العقيدة التي يرضاها التوحيد الخالص، والاعتقاد الكامل، والعقل السليم.
أقسم بالقرآن العظيم ذي الاسلوب الحكيم،انه ما ألقى النصارى وامثالهم في وديان الضلالة نافخاً فيهم الهوى الاّ عزل العقل وطرد البرهان وتقليد الرهبان..
وماجعل الاسلام يتجلى دوماً، وتنكشف حقائقه وتنبسط بنسبة انبساط افكار البشر الاّ تأسّسه على الحقيقة وتقلده البرهان ومشاورته العقل واعتلاؤه عرش الحقيقة ومطابقته دساتير الحكمة المتسلسلة من الازل الى الابد ومحاكاته لها.
الا يشاهد كيف يحيل القرآن الكريم في فواتح اكثر الايات وخواتمها البشر الى مراجعة الوجدان واستشارة العقل بقوله تعالى
(افلا ينظرون) و(فانظروا) و (أفلا يتدبرون) و(أفلا تتذكرون) و(تتفكروا) و (ما يشعرون) و(يعقلون) و(لا يعقلون) و(يعلمون) و(فاعتبروا يا اولي الابصار).
وأنا أقول ايضاً: فاعتبروا يا اولي الالباب.

خاتمة:
فيا اولي الالباب! انفذوا من الظاهر الى الحقيقة فهي تنتظركم. واذا ما شاهدتموها فلا تؤذوها. هكذا ينبغي، وهذا هو الالزم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 53
المقدمة التاسعة

لقد تحققت لدى العقول السليمة:
ان الخير هو الاصل في العالم، اما الشر فهو تبعي. فالخير كلي والشر جزئي. اذ:
يشاهد انه قد تكوّن ـ وما زال يتكون ـ علمٌ خاص لكل نوع من انواع العالم؛ والعلم عبارة عن قواعد كلية. فاذا كانت الكلية قاعدة، فهي اذاً كشّافة عن حسن الانتظام في ذلك النوع. اي ان كل علم من العلوم شاهد صادق على حسن الانتظام.
نعم! الكلية دليل على الانتظام، لان مالا انتظام فيه لا كلية لحكمه، بل يكون هزيلاً لكثرة استثناءاته. والذي يزكّي هذا الشهود الاستقراء التام 1 بنظر الحكمة. الاّ انه احياناً لا يُرى الانتظام، لسعة دائرته عن أفق النظر، فلا يمكن الاحاطة به ولا تصوره، وعندئذٍ يصعب ان يبين النظامُ نفسه.
وبناءً على ما سبق:
فقد ثبت بشهادة العلوم جميعها، وبتصديق الاستقراء التام الناشئ من نظر الحكمة: ان الحسن والخير والحق والكمال، هو المقصود بالذات والغالب المطلق في خلق العالم. اما الشر والقبح والباطل، فهي امور تبعية ومغلوبة ومغمورة، وحتى لو كانت لها الصولة فهي صولة موقتة.
وقد ثبت ايضاً:
ان أكرم الخلق بنو آدم؛ تشهد له استعداداته ومهاراته.
وان اشرف بني آدم هم المسلمون الصادقون، وهم اهل الحق والحقيقة، تشهد لهم حقائق الاسلام، كما ستصدقهم وقائع المستقبل.
_____________________
1 الاستقراء التام: الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها او في بعض اجزائه (التعريفات). المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 54
وثبت ايضاً:
ان اكمل الكل هو محمد صلى الله عليه وسلم، تشهد له معجزاته واخلاقه السامية، كما يصدّقه علماء البشر المحققون، بل يسلّم له اعداؤه، وعليهم ان يسلّموا.
فاذ هذه الثلاثة هكذا، أيقتدر نوع البشر بشقاوته على جرح شهادة تلك العلوم، ونقض الاستقراء التام، والتمرد على مشيئة ربه؟.. كلا.. لا يقتدر ولن يقتدر.
أقسم باسم الرحمن الرحيم العادل الحكيم: ان البشرية لن تستطيع ان تهضم بسهولة وسلامة، الشر والقبح والباطل، ولن تسمح لها الحكمة الالهية. لان من يتعدى على حقوق الكائنات العامة لايعفى عنه، ولايسمح بعدم انزال العقاب عليه.
نعم! ان تغلب الشر طوال الوف السنين، لا يؤدي الاّ الى مغلوبية مطلقة لالف سنة في الاقل، محصورة في الدنيا. اما في الاخرة فسيحكم الخير على الشر بالاعدام الأبدي! والاّ لو لم يكن الامر هكذا، فان سائر الانواع والاجناس المنظمة المكملة المنقادة للاوامر الالهية المنتظمة، لايقبلون بين ظهرانيهم هذا الانسان الشقي الكنود، بل يسقطون حق وجوده بينهم. وينفونه الى مأوى العدم والظلمات، ويطردونه من وظيفة الخلق الفطرية. لان غلبة الشر على الخير تستلزم عبثية القابليات والميول المودعة في استعدادات البشر ليسود العالم وينال السعادة الابدية في الاخرة! والحال ان العبث مناقض للاستقراء التام، كما انه مناف لحكمة الصانع الحكيم، ومخالف لحكم النبي الصادق الامين صلى الله عليه وسلم.
وسيصفّي المستقبل قسماً من هذه الدعاوي، اما تصفيتها النهائية فستشاهد في الاخرة، ذلك لان المستقبل هو ميدان تغلب الحسن والحق النوعي والعمومي - بغض النظر عن الاشخاص - فان متنا، فامتنا باقية.. لانرضى بالظهور والنصر لاربعين سنة بل نريد ألفاً من السنين في الاقل.
أما ميدان تغلب الحسن والحق والخير والكمال الشخصي والعام، والجزئي والكلي، ومحكمته الكبرى التي تجازى فيها البشر - كسائر اخوانه من الكائنات المنقادة - ويكافأ بما يوافق وينسجم مع استعداداته، فهو: الدار الاخرة، اذ يتجلى فيها الحق والعدالة المحضة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 55
نعم! ان هذه الدنيا الضيقة لاتسع ولاتلائم نمو وتزاهر ما أودع في جوهر البشر من استعدادت غير محدودة وميول ورغبات مخلوقة للابد. لذا يبعث الى عالم آخر كي تُربّى وتكمل تلك الميول والاستعدادات.
ان جوهر الانسان جليل، وماهيته رفيعة، وجنايته كذلك عظيمة وطاعته وانقياده مهمة، فهو لايشبه سائر الكائنات، لذا لا يمكن ان لاينتظم مع الكائنات ولاينقاد للأوامر.
نعم! ان المرشح للأبد عظيم، لن يُترك سدى، ولايكون عبثاً، ولايحكم عليه بالفناء المطلق، ولايهرب الى العدم الصرف.. بل جهنم فاغرة فاها، والجنة قد فتحت ذراعيها اللطيفتين لاحتضانه.
خاتمة:
ان مستقبل الاسلام وآسيا، باهر وفي غاية السطوع واللمعان، كمايتراءى من بعيد. لأن هناك أربعاً او خمساً من القوى، تتفق - بما لا يمكن مقاومتها - على سيادة الاسلام المهيمن اولاً وآخراً على آسيا:
القوة الاولى:
قوة الاسلام الحقيقية المدعمة بالمعرفة والمدنية.
القوة الثانية:
الحاجة المجهّزة بتوافر الوسائل وتكمّل المبادئ والاسباب.
القوة الثالثة:
المنافسة والغبطة والغيظ المضمر، هي أمور تهيئ الصحوة العامة الناشئة من رؤية آسيا في منتهى السفالة وغيرها في منتهي الرفاه.
القوة الرابعة:
استعداد الفطرة المجهّز: بتوحيد الكلمة، الذي هو دستور الموحّدين.. وبدماثة الخلق والاعتدال، الذي هو خاصة الوضع الحاضر.. وبتنوير الاذهان، الذي هو ضياء


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 56
الزمان.. وبتلاحق الأفكار، الذي هو قانون المدنية.. وبسلامة الفطرة، التي هي لازمة البداوة.. وبالخفة والاقدام، وهما ثمرة الضرورة.
القوة الخامسة:
الرغبة في التحضر والتمدن والنزوع الى التجدد والتقدم المادي - الذي يتوقف عليه اعلاء كلمة الله في هذا الوقت - التي يأمر بها الاسلام، ويدفع اليها الزمان، ويلجئ اليها الفقر الشديد، والأمل الباعث للحياة بموت اليأس القاتل لكل رغبة.والذي يدعم هذه القوى ويمدّها: تغلّب مساوي المدنية على محاسنها، تلك المساوي التي بثت الفوضى في الاجانب وارهقت الحضارات وشيّبتها.. ثم عدم كفاية السعي للسفاهة (اي عدم سدّه لمتطلباته)، ولهذا سببان:الاول: فسح المجال للسفاهة، وتلبية شهوات النفس، بعدم جعل الدين والفضيلة دستوراً للمدنية. الثاني: التباين الاجتماعي الرهيب في الحياة المعشية، الناشئ من فقدان التراحم الناجم من حب الشهوات ومجافاة الدين.
نعم! ان هذا الالحاد ومجافاة الدين قد سبب فوضىً في المدنية الاوروبية، وقلبها رأساً على عقب، بحيث ولّد كثيراً من المنظمات الفوضوية وهيئات الافساد والإضلال. فلو لم يُلجأ الى حقيقة الشريعة الغراء، ولم يُتحصن بذلك الحبل المتين ولم يوضع سدٌّ تجاه هذه المنظمات الفوضوية كسد ذي القرنين، فستدمّر تلك المنظمات عالم مدنيتهم وتقضي عليها، كما يهددونها حالياً.
ترى لو صارت الزكاة التي هي مسألة واحدة من الف من مسائل حقيقة الاسلام، دستور المدنية وأساس التعاون فيها، ألا تكون دواءً ناجعاً وترياقاً شافياً للتباين الفظيع في الحياة المعاشية، الذي هو جحر الحيات والسم الزعاف والبلاء المدمّر؟
بلى! سيكون الدواء الناجع الساري المفعول أبداً.
واذا قيل:
"لِمَ لا يكون السبب الذي ادّى الى تغلب أوروبا الى الان سبباً لاستمراره"؟


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 57
فالجواب:
طالع مقدمة هذا الكتاب، ثم أدم النظر في هذا:
كان سبب رقيها هو: التأني في اخذ كل شئ او تركه.. والصلابة في الامر، التي هي من شأن برودة بلادهم.. ونمو الفكر والمعرفة والتوجه الى الصناعة لكثرة السكان وضيق المكان والمساكن.. والتعاون والتتبع الحاصلين من وجود الوسائط المساعدة كالبحر والمعادن وامثالها.. أما الان فقد تطورت وسائل النقل الى درجة كبيرة بحيث اصبح العالم كالمدينة الواحدة، وغدا أهله في مداولتهم الامور كانهم في مجلس واحد، بحكم التقدم في وسائل المخابرات والمطبوعات. نحصل من هذا: اننا سنلحق بهم، بل نسبقهم، إن حالفنا التوفيق الالهي لان حملهم ثقيل وحملنا خفيف.
ان ما يفتح حظ آسيا وسَعد الاسلام هو الشورى والحرية، المشروطتان بتربية الشريعة الغراء_.تنبيه:ان الامور التيتسمى بمحاسن المدنية ما هي الاّ مسائل شرعية حوّلَتْ الى شكل آخر.
_____________________
1 يا اخوة النور! ان حزب القرآن الذين خاطبهم الاستاذ الحبيب في ذلك الوقت هم الآن طلاب النور. فانتبهوا! ان مافي هذه الصفحات يخاطبنا نحن بالذات، فاجعلوا وسائل العلم والمدنية في خدمة الاسلام، واعلنوا حضارة الاسلام للعالم اجمع (مصطفى صنغور) .



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 58
المقدمة العاشرة

لا يؤاخذ المتكلم فيما يتكلم من كلام، بكل ما يرد الى ذهن السامع؛ لأن المفاهيم والمعاني - سوى ما سيق له الكلام - هي في عهدة المتكلم بالارادة، فان لم يردها لايعاتب، الاّ انه ضامن حتماً بالغرض والقصد.
وقد تقرر في علم البيان: ان الصدق والكذب يعقبان قصد المتكلم وغرضه، فالتبعة والمؤاخذة في المقصود وفيما سيق له الكلام، على المتكلم. أما الذنب والخلل في مستتبعات الكلام - اي في تلويحاته وتلميحاته - وفي وسائله واسلوب عرضه - اي في صور المعاني وطرز الافادة والمعاني الاولى - فليس على المتكلم، بل على العرف والعادة والقبول العام، اذ يُحترم العرف والقبول العام لأجل التفهيم. ثم اذا كان الكلام حكاية، فالخلل والخطأ يعودان الى المحكي عنه.
نعم! لا يؤاخذ المتكلم في الصور والمستتبعات، اذ تناولهما ليس لجني الثمرات وانما للتسلق منهما الى أغصان مقاصد أعلى. فان شئت فتأمل في الكنايات، فمثلاً: عندما يقال: طويل النجاد كثير الرماد. فالكلام صادق ان كان الشخص طويل القامة سخي الطبع ولو لم يكن له سيف ولا رماد.
وان شئت فأدم النظر في المثال والأمثال الافتراضية ترى: ان تلك الامثال لها بالشهرة في مداولة الافكار والعقول قيمة وقوة، حتى انها تستعد للقيام بمهمة السفارة بينها. بل ان أصدق مؤلف واعلم حكيم كصاحب المثنوي (جلال الدين الرومي)1 وسعدي الشيرازي2 يستخدمان ذلك المثل الافتراضي، ولم يريا مشاحة وبأساً في استعماله.
_____________________
1 جلال الدين الرومي: (604-672هـ) (1207-1273م) عالم بفقه الحنفية والخلاف وانواع العلوم، ثم متصوف (ترك الدنيا والتصنيف) صاحب (المثنوي) المشهور بالفارسية المستغني عن التعريف، وصاحب الطريقة المولوية. ولد في بلخ (بفارس) استقر في (قونية) سنة 623 هـ عرف بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الاسلامية، فتولى التدريس بقونية في اربع مدارس بعد وفاة ابيه سنة 628 هـ (الاعلام 7/30 كشف الظنون 1587)
2 سعدى الشيرازى: (589هـ 691) (1189 - 1292م) من شعراء الصوفية الكبار، ومن ارقهم تعبيراً ولد في مدينة (شيراز)، قدم بغداد استكمالاً لدراساته في علوم الدين في المدرسة النظامية كان من مريدي الشيخ عبد القادر الكيلاني، قضى ثلاثين سنة من عمره في الاسفار ونظم الشعر، وكتابه كلستان مشهور.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 59
فاذا تنوّر لك هذا السر، فاقتبس منه واذهب الى زوايا القصص والحكايات، وقس فان ما يجري في الجزء قد يجري في الكل ايضاً.
تنبيه:
سترد قاعدة في "المقالة الثالثة" حول المشكلات القرآنية ومتشابهاته، ولكن لاقتضاء المقام نذكر هنا نبذة منها:
ان المقصود الاهم من الكتاب الحكيم هو ارشاد الجمهور الذين يمثلون اكثرية الناس، لأن خواص الناس يمكنهم ان يستفيدوا من مسلك العوام، بينما العوام لايستطيعون فهم ما يخاطب به الخواص حق الفهم، علماً ان معظم الجمهور هم عوام الناس والعوام لايقتدرون على مشاهدة الحقائق المحضة وادراك المجردات الصرفة متجردين عن مألوفاتهم ومتخيلاتهم. فالذي يضمن رؤيتهم ويحقق ادراكهم: إلباس المجردات واكساءها زي مألوفاتهم، تأنيساً لأذهانهم، كي يروا المجردات ويعرفوها بمشاهدتها خلف صور خيالية.
ولما كان الامر هكذا، تلبس الحقيقة المحضة مألوفاتهم. ولكن يجب الاّ يقصر النظر في الصورة ولاينحصر فيها. وبناءً على هذا: فان ما في أساليب اللغة العربية من مراعاة الأفهام ومماشاة الاذهان، قد جرت في القرآن الحكيم المعجز البيان، والتي تعبر عنها بـ " التنزلات الالهية الى عقول البشر". فمثلاً:
قوله تعالى
(ثم استوى على العرش) (الاعراف: 7) و (يد الله فوق ايديهم) (الفتح: 10) و (جاء ربك) (الفجر: 22) وامثالها من الايات الكريمة.
وأيضاً
(تغرب في عين حمئة) (الكهف: 86) و(والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38) ونظائرهما من الايات... كلها روافد لهذا الاسلوب.. (ذلك الكتاب لا ريب فيه).
خاتمة:
ان اغلاق الكلام المعقد وإشكاله ينشأ: إما من ركّة اللفظ وضعف الاسلوب، فهذا لا يدنو من القرآن المبين.. أو من دقة المعنى، وعمقه، وجودته، وعدم مألوفيته،

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس