الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #16
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة العشرون

((تـخص الإخلاص))

((احرز هذا البحث اهمية خاصة اهـّلته ليكون ((اللمعة العشرين)) بعد ان كان النقطة الاولى من خـمس نقاط من الـمسألة الثانية من الـمسائل السبع للـمذكـّرة السابعة عشرة من اللمعة السابعة عشرة)).

بِسْمِ اِللهِ الرَّحـْمنِ الرَّحيمْ

} انـّا أنزَلنا اليكَ الكتاب بالـحقّ فاعبد الله مـخلِصاً لـه الدِّين` اَلا لله الدِّينُ الـخالصُ { (الزمر:2-3)

وقال الرسول الاعظم e : ((هَلَكَ النـَّاسُ إلاَّ الْعَالِـمُونَ وَهَلَكَ الْعَالِـمونَ إلاَّ العَامِلُونَ وهَلَكَ الْعَامِلوُنَ إلاَّ الْـمـخلِصُونَ وَالْـمـخلِصُونَ عَلى خَطَرٍ عَظيمٍ)) او كما قال: *

تدلنا هذه الآية الكريـمة والـحديث النبوي الشريف معاً على مدى اهمية الاخلاص في الاسلام، ومدى عظمته اساساً تستند اليه امور الدين. فـمن بين النكت التي لا حصر لـها لـمبحث ((الاخلاص)) نبين باختصار خـمس نقاط فقط.

النقطة الاولى:

سؤال مهم ومثير للدهشة:

لـماذا يختلف اصحاب الدين والعلماء وارباب الطرق الصوفية وهم اهل حق ووفاق ووئام بالتنافس والتزاحم في حين يتفق اهل الدنيا والغفلة بل اهل الضلالة والنفاق من دون مزاحـمة ولا حسد فيما بينهم. مع ان الاتفاق هو من شأن اهل الوفاق والوئام، والـخلاف ملازم لاهل النفاق والشقاق. فكيف استبدل الـحق والباطل مكانهما، فأصبح الـحق بـجانب هؤلاء والباطل بـجانب اولئك؟

الـجواب: سنبين سبعة من الاسباب العديدة لـهذه الـحالة الـمؤلـمة التي تقض مضجع الغيارى الشهمين.

السبب الاول:

ان اختلاف اهل الـحق غير نابع من فقدان الـحقيقة، كما ان اتفاق اهل الغفلة ليس نابعاً من ركونهم الى الـحقيقة، بل ان وظائف اهل الدنيا والسياسة والـمثقفين وامثالـهم من طبقات الـمجتمع قد تعيـّنت وتـميزت. فلكل طائفة وجـماعة وجـمعية مهمة خاصة تنشغل بها، وما ينالونه من اجرة مادية – لقاء خدماتهم ولإدامة معيشتهم – هي كذلك متميزة ومتعينة، كما ان ما يكسبونه من اجرة معنوية كحب الـجاه وذيوع الصيت والشهرة، هي الاخرى متعينة ومـخصصة ومتميزة(1). فليس هناك اذن ما يولد منافسة او مزاحـمة او حسداً فيما بينهم. وليس هناك ما يوجب المناقشة والـجدل، لذا تراهم يتمكنون من الاتفاق مهما سلكوا من طرف الفساد.

أما اهل الدين واصحاب العلم وارباب الطرق الصوفية فان وظيفة كل منهم متوجهة الى الجميع، وأن اجرتهم العاجلة غير متعينة وغير متـخصصة، كما ان حظهم من المقام الاجتماعي وتوجه الناس اليهم والرضى عنهم لم يتـخصص ايضاً.

فهناك مرشحون كثيرون لـمقام واحد، وقد تـمتد أيد كثيرة جداً الى اية اجرة – مادية كانت او معنوية – ومن هنا تنشأ الـمزاحـمة والـمنافسة والـحسد والغيرة. فيتبدل الوفاق نفاقاً والانفاق اختلافاً وتفرقاً.

فلا يشفى هذا الـمرض العضال الا مرهم الاخلاص الناجع، أي:

ان ينال الـمرء شرف امتثال الآية الكريـمة: } إنْ اَجرِيَ إلاَّ عَلَى الله{ (يونس:72) بايثار الـحق والـهدى على اتباع النفس والـهوى، وبترجيح الـحق على أثرة النفس.. وان يـحصل لـه امتثال بالآية الكريـمة: } وَمَا عَلى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبينُ { (النور:54): باستغنائه عن الاجر الـمادي والـمعنوي – الـمقبلين من الناس –(1) مدركاً ان استحسان الناس كلامه وحسن تأثيره فيهم ونيل توجههم اليه هو مـما يتولاه الله سبحانه وتعالى ومن احسانه وفضلـه وحده، وليس داخلاً ضمن وظيفته التي هي منحصرة في التبليغ فـحسب. بل لا يلزمه ذلك ولا هو مكلف به اصلا.

فمن وفـّقه الله الى ما ذُكر آنفاً يـجد لذة الاخلاص، وإلاّ يفوته الـخير الكثير.

السبب الثاني:

ان اتفاق اهل الضلالة نابع من ذلتهم، بينما اختلاف اهل الـهداية نابع من عزتهم، اذ لـما كان اهل الدنيا والضلالة الغافلون لا يستندون الىالـحق والـحقيقة فهم ضعفاء واذلاء، يشعرون بـحاجة ماسة الى اكتساب القوة ويتشبثون بشدة الى معاونة الآخرين والاتفاق معهم، ويـحرصون على هذا الاتفاق ولو كان مسلكهم ضلالة، فكأنهم يعملون حقاً في تساندهم على الباطل، ويـخلصون في ضلالـهم، ويبدون ثباتاً واصراراً على إلـحادهم، ويتفقون في نفاقهم، فلاجل هذا يوفـّقون في عملـهم، لان الاخلاص التام ولو كان في الشر لا يذهب سدى، ولا يكون دون نتيجة. فما من سائل يسأل باخلاص امراً الا قضاه الله لـه(1).

اما اهل الـهداية والدين واصحاب العلم والطريقة فلانهم يستندون الى الـحق والـحقيقة، ولان كلاً منهم اثناء سيره في طريق الـحق لا يرجو الا رضى ربه الكريـم ويطمئن اليه كل الاطمئنان، وينال عزة معنوية في مسلكه نفسه، اذ حالـما يشعر بضعف ينيب الى ربه دون الناس، ويستمد منه وحدة القوة، زد على ذلك يرى امامه اختلاف الـمشارب مع ما هو عليه، لذا تراه لا يستشعر بدواعي التعاون مع الآخرين بل لا يتمكن من رؤية جدوى الاتفاق مع مـخالفيه ظاهراً ولايـجد في نفسه الـحاجة اليه.

واذا ما كان ثـمة غرور وانانية في النفس يتوهم الـمرء نفسه مـحقاً ومـخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والـمنافسة بدل الاتفاق والـمـحبة، وعندها يفوته الاخلاص ويـحبط عملـه ويكون اثراً بعد عين.

والعلاج الوحيد لـهذه الـحالة والـحيلولة دون رؤية نتيجتها الوخيمة هو في تسعة امور آتية:

العمل الايـجابي البنـّاء، وعو عمل الـمرء بـمقتضى مـحبته لـمسلكه فـحسب، من دون ان يرد الى تفكيره، او يتدخل في علمه عداء الآخرين او التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم اصلاً.
بل عليه ان يتـحرى روابط الوحدة الكثيرة التي تربط الـمشارب الـمعروضة في ساحة الإسلام – مهما كان نوعها – والتي ستكون منابع مـحبة ووسائل اخوة واتفاق فيما بينها فيتفق معها.
واتـخاذ دستور الانصاف دليلاً ومرشداً، وهو ان صاحب كل مسلك حق يستطيع القول: ((ان مسلكي حق وهو افضل واجـمل)) من دون ان يتدخل في امر مسالك الآخرين، ولكن لا يـجوز لـه ان يقول: ((الـحق هو مسلكي فـحسب)) او ((ان الـحسن والـجمال في مسلكي وحده)) الذي يقضي على بطلان الـمسالك الاخرى وفسادها.
العلم بان الاتفاق مع اهل الـحق هو احد وسائل التوفيق الإلـهي وأحد منابع العزة الإسلامية.
الـحفاظ على الـحق والعدل بايـجاد شخص معنوي، وذلك بالاتفاق مع اهل الـحق للوقوف تـجاه اهل الضلالة والباطل الذين اخذوا يغيرون بدهاء شخص معنوي قوي في صورة جـماعة على اهل الـحق – بـما يتمتعون به من تساند واتفاق – ثم الادراك بان اية مقاومة فردية – مهما كانت قوية – مغلوبة على امرها تـجاه ذلك الشخص الـمعنوي للضلالة.
ولاجل انقاذ الـحق من صولـه الباطل.
ترك غرور النفس وحظوظها.
وترك ما يُتصور خطأً انه من العزة والكرامة.
وترك دواعي الـحسد والـمنافسة والاحاسيس النفسانية التافهة.
بهذه النقاط التسع يُظفر بالاخلاص ويوفي الانسان وظيفته حق الوفاء ويؤديها على الوجه الـمطلوب(1).

السبب الثالث:

ان اختلاف اهل الـحق ليس ناشئاً عن الوضاعة وفقدان الـهمة، كما ان اتفاق اهل الضلالة ليس ناشئاً عن علو الـهمة، بل ان اختلاف اهل الـهداية نابع من سوء استعمال علو الـهمة والافراط فيه، واتفاق اهل الضلالة مردّه الضعف والعجز الـحاصلان من انعدام الـهمة.

والذي يسوق اهل الـهداية الى سوء استعمال علو الـهمة وبالتالي الى الاختلاف والغيرة والـحسد، انـما هو الـمبالغة في الـحرص على الثواب الاخروي – الذي هو في حد ذاته خصلة مـمدوحة – وطلب الاستزادة منها دون قناعة وحصرها على النفس. وهذا يستدرج الـحريص شيئاً فشيئاً حتى يصل به الامر ان يتـخذ وضعاً منافساً ازاء اخيه الـحقيقي الذي هو بأمس الـحاجة الى مـحبته ومعاونته واخوته والاخذ بيده، كأن يقول – مثلاً – لأغنم انا بـهذا الثواب، ولأرشد أنا هؤلاء الناس وليسـمعوا مني وحدي الكلام، وامثالـها من طلب الـمزيد من الثواب لنفسه. او يقول: لـماذا يذهب تلاميذي الى فلان وعلان؟ ولـماذا لا يبلغ تلاميذي عدد تلاميذه وزيادة؟ فتـجد روح الانانية لديه – بهذا الـحوار الداخلي - الفرصة سانـحة لترفع رأسها وتبرز، فتسوقه تدريـجاً الى التلوث بصفة مذمومة، تلك هي التطلع الى حب الـجاه، فيفوته الاخلاص وينسد دونه بابه، بينما ينفتح باب الرياء لـه على مـصراعيه.

ان علاج هذا الـخطأ الـجسيم والـجرح البليغ والـمرض الروحي العضال هو:

العلم بان رضى الله لا ينال الا بالاخلاص، فرضاه سبحانه ليس بكثرة التابعين ولا باطراد النجاح والتوفيق في الاعمال، ذلك لان تكثير التابعين والتوفيق في الاعمال هو مـما يتولاه الله سبحانه بفضلـه وكرمه، فلا يُسأل ولا يطلب بل يؤتيه الله سبحانه من يشاء.

نعم، رُبّ كلمة واحدة تكون سبباً للنجاة من النار وتصبح موضع رضى الله سبحانه، ورُبّ ارشاد شخص واحد يكون موضع رضى الله سبحانه بقدر ارشاد الف من الناس. فلا ينبغي أن يُؤخذ الكمية كثيراً بنظر الاعتبار.

ثم ان الاخلاص في العمل ونشدان الـحق فيه انـما يُعرف بصدق الرغبة في افادة الـمسلمين عامةً اياً كان مصدر الاستفادة ومن أي شخص صدر. وإلا فحصر النظر بان يؤخذ الدرس والارشاد مني فقط لأفوز بالثواب الاخروي هو حيلة النفس وخديعة الانانية.

فيامن يـحرص على الـمزيد من الثواب ولا يقنع بـما قام به من اعمال للآخرة! اعلم ان الله سبحانه قد بعث انبياء كراماً، وما آمن معهم إلاّ قليل. ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملاً غير منقوص. فليس السبق والفضل اذن في كثرة التابعين الـمؤمنين، وانـما في نيل شرف رضى الله سبحانه. فمن انت ايها الـحريص حتى ترغب ان يسـمعك الناس كلـهم، وتتغافل عن واجبك وتـحاول ان تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم واجبك، ولا تـحاول ان تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم ان تصديق الناس كلامك وقبولـهم دعوتك وتـجمعهم حولك انـما هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا تُشغل نفسك فيما يخصه سبحانه من تقدير وتدبير، بل اجمع همك في القيام بـما انيط بك من واجب.

ثم ان الاصغاء الى الـحق والـحقيقة، ونوال الـمتكلم بهما الثواب ليس منحصراً على الـجنس البشري وحده، بل لله عباد من ذوي الشعور ومن الروحانيين والـملائكة قد ملأوا اركان الكون وعمروها. فان كنت تريد مزيداً من الثواب الاخروي فاستمسك بالاخلاص واتـخذه اساساً لعملك واجعل مرضاة الله وحدها الـهدف والغاية في عملك، كي تـحيا افراد تلك الكلمات الطيبة الـمنطوقة من شفتيك منتشرة في جو السـماء بالاخلاص وبالنية الـخالصة لتصل الى اسـماع مـخلوقات من ذوي الـمشاعر الذين لا يحصرهم العد، فتنوّرهم، وتنال بها الثواب العظيم اضعافاً مضاعفة. ذلك لانك اذا قلت: ((الـْحَمْدُ لله)) مثلا فستُكتب بأمر الله على اثر نطقك بهذه الكلمة ملايين الـملايين من ((الـْحَمْدُ لله)) صغيرة وكبيرة في الفضاء. فلقد خلق سبحانه مالا يعد من الآذان والاسـماع تصغي الى تلك الكلمات الكثيرة الطيبة، حيث لا عبث ولا اسراف في عمل الباريء الـحكيم. فاذا ما بعث الاخلاصُ والنية الصادقة الـحياةَ في تلك الكلمات الـمنتشرة في ذرات الـهواء فستدخل اسـماع اولئك الروحانيين لذيذة طيبة كلذة الفاكهة الطيبة، ولكن اذا لم يبعث رضى الله والاخلاص الـحياة في تلك الكلمات، فلا تستساغ، بل تنبو عنها الاسـماع، ويبقى ثوابه منحصراً فيما تفوّه به الفم.

فليصغ الى هذا قراء القرآن الكريـم الذين يتضايقون من افتقار اصواتهم الى الـجودة والاحسان فيشكون من قلة السامعين لـهم!.

السبب الرابع:

ان اختلاف اهل الـهداية وتـحاسدهم ليس كائناً من عدم التفكر في مصيرهم ولا من قصر نظرهم، كما ان الاتفاق الـجاد بين اهل الضلالة ليس كائناً من القلق على الـمصير ولا من سـمو نظرهم وعـمق رؤيتهم. بل ان عجز اهل الـهداية عن الثبات على الاستقامة في السير، وتقصيرهم عن الاخلاص في العمل يـحرمهم من التمتع بـمزايا ذلك الـمستوى الرفيع، فيسقطون في هوة الاختلاف رغم كونهم يسترشدون بالعقل والقلب البصيرين للعاقبة ويستفيضون من الـحق والـحقيقة ولا يـميلون مع شهوات النفس بـمقتضى أحاسيسهم الكليلة عن رؤية العقبى.

اما اهل الضلالة فباغراء النفس والـهوى وبـمقتضى الـمشاعر الشهوية والاحاسيس النفسانية الكليلة عن رؤية العقبى والتي تفضل درهـما من لذة عاجلة على ارطال من الآجلة، تراهم يتفقون فيما بينهم اتفاقاً جاداً ويـجتمعون حول الـحصول على منفعة عاجلة ولذة حاضرة.

نعم، ان عبيد النفس السفلة من ذوي القلوب الـميتة والـهائمين على الشهوات الدنيئة يتـحدون ويتفقون فيما بينهم على منافع دنيوية عاجلة.. بينما ينبغي لأهل الـهداية الاتفاق الـجاد والاتـحاد الكامل والتضحية الـمثمرة والاستقامة الرصينة فيما بينهم، حيث انهم يتوجهون بنور العقل وضياء القلب الى جني كمالات ثـمرات اخروية خالدة آجلة، ولكن لعدم تـجرّدهم من الغرور والكبر والافراط والتفريط يضيـّعون منبعاً عظيماً ثراً يـُمدهم بالقوة، ألا هو الاتفاق. فيضيع بدوره الاخلاص ويتـحطم، وتتضعضع الاعمال الاخروية وتذهب سدى، ويصعب الوصول الى نيل رضى الله سبحانه.

وعلاج هذا الـمرض الوبيل ودواؤه هو:

الافتـخار بصحبة السالكين في منهج الـحق، وربط عرى الـمحبة معهم تطبيقاً للـحديث الشريف: ((الـحب في الله))(1) ثـم السير من خلفهم وترك شرف الامانة لـهم وترك الاعجاب بالنفس والغرور، بناء على احتمال كون سالك الـحق اياً كان هو خيراً

T منه وافضل، وذلك ليسهل نيل الاخلاص. ثـم العلم بأن درهماً من عمل خالص لوجه الله اولى وارجح من ارطال من اعمال مشوبة لا اخلاص فيها. ثـم ايثار البقاء في مستوى التابع دون التطلع الى تسلم الـمسؤولية التي قلـما تسلم من الاخطار.

بهذه الامور يعالج هذا الـمرض الوبيل ويعافى منه، ويظهر بالاخلاص، ويكون الـمؤمن مـمن ادى اعمالـه الاخروية حق الأداء.

السبب الـخامس:

ان اختلاف اهل الـهداية وعدم اتفاقهم ليس نابعاً من ضعفهم، كما أن الاتفاق الصارم بين اهل الضلالة ليس نابعاً من قوتهم. بل ان عدم اتفاق اهل الـهداية ناجم عن عدم شعورهم بالـحاجة الى القوة، لـما يـمدهم به أيـمانهم الكامل من مرتكز قوي. وان اتفاق اهل الغفلة والضلالة ناجم عن الضعف والعجز، حيث لا يـجدون في وجدانهم مرتكزاً يستندون الى قوته. فلفرط احتياج الضعفاء الى الاتفاق تـجدهم يتفقون اتفاقاً قوياً، ولضعف شعور الاقوياء بالـحاجة الى الاتفاق يكون اتفاقهم ضعيفاً. مثلـهم في هذا كمثل الاسُود والثعالب التي لا تشعر بالـحاجة الى الاتفاق فتراها تعيش فرادى. بينما الوعل والـماعز الوحشي تعيش قطعاناً خوفاً من الذئاب. أي ان جـمعية الضعفاء والشخص الـمعنوي الـممثل لـهم قوي كما ان جـمعية الاقوياء والشخص الـمعنوي الـممثل لـهم ضعيف(1). وهناك اشارة لطيفة الى هذا السر في نكتة قرآنية ظريفة وهي: انه اسند الفعل ((قَالَ)) بصيغة الـمذكر الى جـماعة الإناث مع كونها مؤنثة مضاعفة، وذلك في قولـه تعالى: } وَقَالَ نِسْوَةٌ في الْـمَدينَةِ { (يوسف:30)، بينما جاء الفعل ((قالت)) بصيقة الـمؤنث في قولـه تعالى: } قَالَتِ الاَعْرَابُ{ (الحجرات:14)، وهم جماعة من الذكور، مـما تشير اشارة لطيفة الى ان جـماعة النساء الضعيفات اللطيفات تتـخاشن وتتقوى وتكسب نوعاًُ من الرجولة، فاقتضت الـحال صيغة الـمذكر، فجاء فعل ((قال)) مناسباً وفي غاية الـجمال. أما الرجال الاقوياء فلانهم يعتمدون على قوتهم ولا سيما الاعراب البدويون فتكون جـماعتهم ضعيفة كأنها تكسب نوعاً من خاصية الانوثة من توجس وحذر ولطف ولين فـجاءت صيغة التأنيث للفعل ملائمة جداً في قولـه تعالى: } قَالَتِ الاَعْرَابُ { (الحجرات:14).

نعم ان الذين ينشدون الـحق لايرون وجه الـحاجة الى معاونة الآخرين لـما يـحملون في قلوبهم من إيـمان قوي يـمدهم بسند عظيم ويبعث فيهم التوكل والتسليم، حتى لو احتاجوا الى الآخرين فلا يتشبثون بهم بقوة. اما الذين جعلوا الدنيا همـّهم، فلغفلتهم عن قوة استنادهم ومرتكزهم الـحقيقي يـجدون في انفسهم الضعف والعجز في انـجاز امور الدنيا، فيشعرون بـحاجة ملحة الى من يـمد لـهم يد التعاون فيتفقون معهم اتفاقاً جاداً لا يـخلو من تضحية وفداء.

وهكذا فلأن طلاب الـحق لا يقدرون قوة الـحق الكامنة في الاتفاق ولا يبالون بها ينساقون الى نتيجة باطلة وخيمة تلك هي الاختلاف، بينما اهل الباطل والضلالة فلأنهم يشعرون – بسبب عجزهم وضعفهم – بـما في الاتفاق من قوة عظيمة فقد نالوا امضى وسيلة توصلـهم الى اهدافهم تلك هي الاتفاق.

وطريق النـجاة من هذا الواقع الباطل الاليم، والتـخلص من هذا الـمرض الفتاك، مرض الاختلاف الذي الـمّ بأهل الـحق هو اتـخاذ النهي الإلـهي في الآية الكريـمة: } وَلاَ تَنَازَعـُوا فَتْفشَلواُ وَتَذْهَبَ ريحـُكُم { (الانفال:46) واتـخاذ الامر الرباني في الآية الكريـمة: } وَتَعَاوَنـُوا عَلَى البِرِّ وَالتـَّقْوى { (الـمائدة:2) دستورين للعمل في الـحياة الاجتماعية.. ثـم العلم بـمدى ما يسببه الاختلاف من ضرر بليغ في الإسلام والـمسلمين وبـمدى ما ييسر السبيل امام اهل الضلالة ليبسطوا ايديهم على اهل الـحق.. ثـم الالتحاق بقافلة الإيـمان التي تنشد الـحق والانـخراط في صفوفها بتضحية وفداء وبشعور نابع من عجز كامل وضعف تام، وذلك مع نكران الذات والنجاة من الرياء ابتغاء الوصول الى نيل شرف الاخلاص.

السبب السادس:

ان اختلاف اهل الـحق ليس ناشئاً من فقدان الشهامة والرجولة ولا من انـحطاط الـهمة وانعدام الـحمية، كما ان الاتفاق الـجاد بين الغافلين الضالين الذين يبغون الدنيا في امورهم ليس ناشئاً من الشهامة والرجولة ولا من الـحمية وعلو الـهمة. بل ان اهل الـحق وجـّهوا نظرهم الى ثواب الآخرة – على الاكثر – فتوزع مالديهم من حـمية وهـمة وشهامة الى تلك الـمسائل الـمهمة والكثيرة، ونظراً لكونهم لايصرفون اكثر وقتهم – الذي هو رأس مالـهم الـحقيقي – الى مسألة معينة واحدة، فلا ينعقد اتفاقهم عقداً مـحكماً مع السالكين في نهج الـحق، حيث ان الـمسائل كثيرة والـميدان واسع جداً.

اما الدنيويون الغافلون، فلكونهم يـحصرون نظرهم حصراً في الـحياة الدنيا – فهي اكبر هـمهم ومبلغ علمهم – تراهم يرتبطون معها بأوثق رباط وبكل مالديهم من مشاعر وروح وقلب. فأيـما شخص يـمد لـهم يد الـمساعدة يستمسكون بـها بقوة، فهم يـحصرون وقتهم الثـمين جداً في قضايا دنيوية لا تساوي شيئاً في الـحقيقة لدى اهل الـحق. مثلـهم في هذا كمثل ذلك الصائغ اليهودي الـمجنون الذي اشترى قطعاً زجاجية تافهة بأثـمان الاحجار الكريـمة الباهظة. فابتياع الشيء بأثـمان باهظة، وصرف الـمشاعر كلـها نـحوه يؤدي حـتماً الى النـجاح والتوفيق ولو كان في طريق باطل، لان فيه اخلاصاً جاداً. ومن هنا يتغلب اهل الباطل على اهل الـحق، فيفقد اهل الـحق الاخلاص ويسقطون في مهاوي الذل والتصنع والرياء، ويضطرون الى التـملق والتزلف الى ارباب الدنيا الـمحرومين من كل معاني الشهامة والـهمة والغيرة.

فيا اهل الـحق! ويا اهل الشريعة والـحقيقة والطريقة! ويا من تنشدون الـحق لاجل الـحق! أسعوا في دفع هذا الـمرض الرهيب، مرض الاختلاف بتأدبكم بالادب الفرقاني العظيم، الا وهو: } وَاِذَا مَرُّوا بِاللـَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً{ (الفرقان:72)، فاعفوا عن هفوات اخوانكم واصفحوا عن تقصيراتهم، وغضوا ابصاركم عن عيوب بعضكم البعض الآخر، ودعوا الـمناقشات الداخلية جانباً. فالاعداء الـخارجيون يغيرون عليكم من كل صوب، واجعلوا انقاذ اهل الـحق من السقوط والذلة من اهم واجباتكم الاخروية واولاها بالاهتمام، وامتثلوا بـما تأمركم به مئات الآيات الكريـمة والاحاديث الشريفة من التآخي والتـحابب والتعاون، واستمسكوا بكل مشاعركم بعرى الاتفاق والوفاق مع اخوانكم في الدين ونهج الـحق الـمبين باشد مـما يستمسك به الدنيويون الغافلون، واحذروا دائماً من الوقوع في شباك الاختلاف. ولا يقولن احدكم: ((سأصرف وقتي الثمين في قراءة الاوراد والاذكار والتأمل، بدلاً من ان أصرفه في مثل هذه الامور الجزئية)) فينسحب من الـميدان ويصبح وسيلة في توهين الاتفاق والاتـحاد وسبباً في اضعاف الـجماعة الـمسلمة، ذلك لان الـمسائل التي تظنونها جزئية وبسيطة ربـما هي على جانب عظيم من الاهمية في هذا الـجهاد الـمعنوي. فكما ان مرابطة جندي في ثغر من الثغور الإسلامية – ضمن شرائط خاصة مهمة – لساعة من الوقت قد تكون بـمثابة سنة من العبادة، فان يومك الثـمين هذا الذي تصرفه في مسألة جزئية من مسائل الجهاد الـمعنوي ولا سيما في هذا الوقت العصيب الذي غلب اهل الـحق فيه على أمرهم، اقول ان يومك هذا ربـما يأخذ حكم ساعة من مرابطة ذلك الـجندي، أي يكون ثوابه عظيماً، بل ربـما يكون يومك هذا كألف يوم. اذ ما دام العمل لوجه الله وفي سبيلـه فلا يُنظر الى صغره وكبره ولا الى سـموه وتفاهته، فالذرة في سبيل رضاه سبحانه مع الاخلاص تصبح نـجمة متلألئة، فلا تؤخذ ماهية الوسيلة بنظر الاعتبار وانـما العبرة في النتيجة والغاية، وحيث انـها رضى الله سبحانه، وأن اساس العمل هو الاخلاص، فلن تكون تلك الـمسألة اذن مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وعظيمة.

السبب السابع:

ان اختلاف اهل الـحق والـحقيقة ومنافستهم ليس ناشئاً من الغيرة فيما بينهم ولا من الـحرص على حطام الدنيا، كما ان اتفاق الدنيويين الغافلين ليس من كرامتهم وشهامتهم. بل ان اهل الـحقيقة لـم يتمكنوا من الـحفاظ على الفضائل والـمكارم التي يـحصلون عليها من تـمسكهم بالـحقيقة ولـم يستطيعون البقاء والثبات ضمن منافسة شريفة نزيهة في سبيل الـحق بتسلل القاصرين منهم في هذا الـميدان؛ لذا فقد اساءوا – بعض الاساءة – الى تلك الصفات الـمحمودة، وسقطوا في الاختلاف والـخلاف نتيجة التـحاسد فأضروا انفسهم وجـماعة الـمسلمين أيـما ضرر.

اما الصالون والغافلون فنظراً لفقدانهم الـمروءة والـحمية لعجزهم ولذلتهم فقد مدوا ايديهم واتـحدوا اتـحاداً صادقاً مع اناس اياً كانوا، بل مع الدنيئين الوضيعين من الناس كيلا تفوتهم منافع يلـهثون وراءها، ولا يُسخطوا اصدقاءهم ورؤساءهم الذين يأتـمرون بأوامرهم الى حد العبادة لاجلـها، لذا اتفقوا مع من يشاركهم في الامر اتفاقاً جاداً واجتـمعوا مع من يـجتمع حول تلك الـمنافع بأي شكل من اشكال الاجـتماع، فبلغوا الى ما يصبون اليه من جراء هذا الـجد والـحزم في الامر.

فيا اهل الـحق واصحاب الـحقيقة ويا من ابتليتهم ببلوى الاختلاف! لقد ضيعتم الاخلاص في هذا الظرف العصيب ولـم تـجعلوا رضى الله غاية مسعاكم فمهدتـم السبل لاسقاط اهل الـحق مغلوبين على امرهم، وجرعتموهم مرارة الذل والـهوان.

اعلموا انه ما ينبغي ان يكون حسد ولا منافسة ولاغيرة في امور الدين والآخرة، فليس فيها في نظر الـحقيقة امثال هذه الامور. ذلك لان منشأ الـحسد والـمنافسة انـما هو من تطاول الايدي الكثيرة على شيء واحد وحصر الانظار الى مقام واحد وشهية الـمعدات الكثيرة الى طعام واحد، فتؤول الـمناقشة والـمسابقة والـمزاحمة الى الغبطة والـحسد.. ولـما كانت الدنيا ضيقة ومؤقتة ولا تشبع رغبات الانسان ومطاليبه الكثيرة، وحيث ان هناك الكثيرون يتهالكون على شيء واحد، فالنتيجة اذن السقوط في هاوية الـحسد والـمنافسة. اما في الآخرة الفسيحة فلكل مؤمن جنة عرضها السـموات والارض تـمتد الى مسافة خـمسـمائة سنة(1)، ولكل منهم سبعون الفاً من الـحور والقصور، فلا موجب هناك اذن الى الـحسد والـمنافسة قط، فيدلنا هذا على انه لاحسد ولا مشاحنة في اعمال صالـحة تفضي الى الآخرة، أي لامـجال للمنافسة والتـحاسد فيها، فمن تـحاسد فهو لاشك مراء أي انه يتحرى مغانـم دنيوية تـحت ستار الدين ويبحث عن منافع باسـم العمل الصالـح. او انه جاهل صادق لا يعلم اين وجهة الاعمال الصالـحة ولـم يدرك بعد ان الاخلاص روح الاعمال الصالـحة واساسها، فيتهم سعة الرحـمة الإلـهية كأنها لا تسعه، ويبدأ بالـحسد والـمنافسة والـمزاحـمة منطوياً في قرارة نفسه على نوع من العداء مع اولياء الله الصالـحين الصادقين.

وسأذكر هنا حادثة تؤيد هذه الـحقيقة: كان احد اصدقائنا السابقين يـحمل في قلبه ضغينة وعداء نـحو شـخص معين. وعندما أُثني على هذا الشخص امامه في مـجلس وقيل في حقه: ((انه رجل صالـح، انه ولي من اولياء الله)) رأينا ان هذا الكلام لـم يثر فيه شيئاً فلـم يبد ضيقاً من الثناء على عدوه. ولكن عندما قال احدهم: ((انه قوي وشجاع)) رأيناه قد انتفض عرق الـحسد والغيرة لديه. فقلنا لـه: ((يا هذا ان مرتبة الولاية والتقوى من اعظم الـمراتب في الآخرة فلا يقاس عليها شيء آخر، فأين الثرى من الثريا؟!. لقد شاهدنا ان ذكر هذه الـمرتبة لـم يـحرك فيك ساكنا بينما ذكر القوة العضلية التي تـملكها حتى الثيران والشجاعة التي تـملكها السباع قد اثارتا فيك نوازع الـحسد)). اجاب: ((لقد استهدفنا كلانا هدفاً ومقاماً معيناً في هذه الدنيا، فالقوة والشجاعة وامثالـهما هي من وسائل الوصول الى ما استهدفناه من مرتبة دنيوية، فلاجل هذا شعرت بدواعي الـمنافسة والـحسد. اما منازل الآخرة ومراتبها فلا تـحد بـحدود، وربـما يصبح هناك من كان عدواً لي احب صديق واعزه.

فيا اهل الـحقيقة والطريقة! ان خدمة الـحق ليس شيئاً هيناً، بل هو اشبه ما يكون بـحمل كنز عظيم ثقيل والقيام بالـمحافظة عليه، فالذين يـحملون ذلك الكنز على اكتافهم يستبشرون بأيدي الاقوياء الـممتدة اليهم بالعون والمساعدة ويفرحون بها اكثر. فالواجب يـحتـّم ان يُستقبل اولئك الـمقبلون بـمحبة خالصة، وان يُنظر الى قوتهم وتأثيرهم ومعاونتهم اكثر من ذواتهم وان يتلقوا بالافتـخار اللائق بهم، فهم اخوة حقيقيون ومؤازرون مضحون. ولئن كان الواجب يـحتم هذا، فلِـمَ اذن ينظر اليهم نظر الـحسد ناهيك عن الـمنافسة والغيرة، حتى يفسد الاخلاص نتيجة هذه الـحالة، وتكون اعمالكم ومهمتكم موضع تهم الضالـين. فيضعونكم في مستوى اقل منكم واوطأ من مسلككم بكثير، بل يقرنونكم مع اولئك الذين يأكلون الدنيا بالدين ويضمنون عيشهم تـحت ستار علـم الـحقيقة ويـجعلونكم من الـمتنافسين الـحريصين على حطام الدنيا، وامثالـها من الاتهامات الظالـمة؟!

ان العلاج الوحيد لـهذا المرض هو: اتهْام الـمرء نفسه، والانـحياز الى جـهة رفيقه في نهج الـحق الذي ازاءه وعدم الانـحراف عن دستور الانصاف وابتغاء الـحق، الذي ارتضاه علماء فن الآداب والـمناظرة والذي يتضمن: ((اذا اراد الـمرء ان يظهر الـحق على لسانه دون غيره – في مناظرة معينة – وانسرّ لذلك واطمأن ان يكون خصمه على باطل وخطأ فهو ظالـم غير منصف)) فضلاً عن انه يتضرر نتيجة ذلك لانه لـم يتعلـم شيئاً جديداً – من تلك الـمناظرة – بظهور الـحق على لسانه، بل قد يسوقه ذلك الى الغرور فيتضرر، بينما اذا ظهر الـحق على لسان خصمه فلا يضره شيء ولا يبعث فيه الغرور بل ينتفع بتعلمه شيئاً جديداً. أي ان طالب الـحق الـمنصف يسخط نفسه لاجل الـحق، واذا ما رأى الـحق لدى خصمه رضى به وارتاح اليه.

فلو اتـخذ اهل الدين والـحقيقة والطريقة والعلـم هذا الدستور دليلاً في حياتهم وعملـهم فانهم يظفرون بالاخلاص بأذن الله ويفلحون في اعمالـهم الاخروية، وينجون برحـمة منه سبحانه وفضلـه من هذه الـمصيبة الكبرى التي الـّمت بهم واحاطتهم من كل جانب.

} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس