عرض مشاركة واحدة
قديم 12-02-2008
  #15
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب أسرار الحج في إحياء علوم الدين للغزالي

".أما الفهم: اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات والاقتصار على الضرورات فيها والتجرّد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات. ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق وانحازوا إلى قلل الجبال وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل، فتركوا لله عز وجل اللذات الحاضرة وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة طمعاً في الآخرة وأثنى الله عز وجل عليهم في كتابه فقال: {ذلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسينَ وَرُهْباناً وأنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} فلما اندرس ذلك وأقبل الخلق على اتباع الشهوات وهجروا التجرد لعبادة الله عز وجل وفتروا عنه بعث الله عز وجل نبـيه محمد لإحياء طريق الآخرة وتجديد سنَّة المرسلين في سلوكها. فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسّياحة في دينه فقال : «أَبْدَلَنا اللَّهُ بِها الجِهَادَ وَالتَّكْبِـيرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ» يعني الحج.

وسئل عن السائحين فقال: «هُمُ الصَّائِمُونَ» . فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم فشرف البـيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى. ونصبه مقصداً لعباده وجعل ما حواليه حرماً لبـيته تفخيماً لأمره. وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه، وأكد حرمه الموضع بتحريم صيده وشجره. ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوّار من كل فج عميق ومن كل أوب سحيق شعثاً غبراً متواضعين لرب البـيت ومستكينين له خضوعاً خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بـيت أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم. ولذلك وظف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بـين الصفا والمروة على سبـيل التكرار." اهـ.



"وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية. فإن الزكاة إرفاق ووجهه مفهوم وللعقل إليه ميل. والصوم كسر للشّهوة التي هي آلة عدوّ الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل. والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عزّ وجلّ. فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط. وفيه عزل للعقل عن تصرفه وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه؛ مال الطبع إليه ميلاً ما فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد.

ولذلك قال في الحج على الخصوص: «لَبَّـيْكَ بِحَجَّةٍ حَقّاً تَعُبُّداً وَرِقّاً» ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها. وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بـيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد. وكان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق. وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات. وهذا القدر كافٍ في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى." اهـ.



"وأما الشوق: فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأنّ البـيت بـيت الله عز وجل وأنه وضع على مثال حضرة الملوك، فقاصده قاصد إلى الله عز وجل وزائر له وأن من قصد البـيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار، من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول النظر إلى وجه الله عز وجل ولا تطيق احتماله ولا تستعد للاكتحال به لقصورها، وأنها إن أمدّت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار، ولكنها بقصد البـيت والنظر إليه تستحق لقاء رب البـيت بحكم الوعد الكريم. فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة والبـيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل." اهـ.



"وأما العزم: فليعلم أنه بعزمه قاصد إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجهاً إلى زيارة بـيت الله عز وجل. وليعظم في نفسه قدر البـيت وقدر رب البـيت، وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه خطير أمره وأن من طلب عظيماً خاطر بعظيم. وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، وإنّ من أفحش الفواحش أن يقصد بـيت الله وحرمه والمقصود غيره فليصحح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة، فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير." اهـ.



"وأما قطع العلائق: فمعناه رد المظالم والتوبة الخالصة لله تعالى عن جملة المعاصي، فكل مظلمة علاقة وكل علاقة مثل غريم حاضر متعلق بتلابـيبه ينادي عليه ويقول؛ إلى أين تتوجه أتقصد بـيت ملك الملوك وأنت مضيع أمره في منزلك هذا ومستهين به ومهمل له؟

أو لا تستحي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك؟ فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فنفذ أوامره ورد المظالم وتب إليه أولاً من جميع المعاصي، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك لتكون متوجهاً إليه بوجه قلبك كما أنك متوجه إلى بـيته بوجه ظاهرك. فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولاً إلا النصب والشقاء، وآخراً إلا الطرد والرد. وليقطع العلائق عن وطنه قطع من انقطع عنه وقدّر أن لا يعود إليه وليكتب وصيته لأولاده وأهله، فإن المسافر وماله لعلى خطر إلا من وقى الله سبحانه. وليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الآخرة، فإنّ ذلك بـين يديه على القرب وما يتقدمه من هذا السفر طمع في تيسير ذلك السفر فهو المستقر وإليه المصير. فلا ينبغي أن يغفل عن ذلك السفر عن الاستعداد بهذا السفر." اهـ.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس