الموضوع: سمو الحب
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-04-2009
  #1
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
افتراضي سمو الحب

:extra37:


سمو الحب



جلس عطاء بن أبي رباح يتحين الصلاة في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال: يا أبا محمد، أنت أفتيت كما قال الشاعر:
سل المفتي المكي هل في تزاور = ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال :معاذ الله أن يذهب التقى = تلاصق أكباد بهن جراح

فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلت شيئًا من هذا، ولكن الشاعر هو نحلني هذا الرأي الذي نفثه الشيطان على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القالة في الناس، فإذا كان غد وجلست في حلقتي فاغد علي، فإني قائل شيئًا.
وذهب الخبر يؤُجُّ كما تؤج النار، وتعالم الناس أن عطاء سيتكلم في الحب، وعجبوا كيف يدري الحب أو يحسن أن يقول فيه من غَبَر عشرين سنة فراشه المسجد، وقد سمع من عائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس بحر العلم.
ولما كان غد جاء الناس أرسالًا إلى المسجد، حتى اجتمع منهم الجمع الكثير. قال عبد الرحمن بن عبد الله أبي عمار: وكنت رجلًا شابًّا من فتيان المدينة، وفي نفسي ومن الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوت مع الناس، وجئت وقد تكلم أبو محمد وأفاض .

قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}.
قال عبد الرحمن: فسمعت كلامًا قدسيًّا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله:

عجبًا للحب! هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛ ولكن أين مُلكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي} و{الَّتِي} هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت؛ فلم يبق على الحب مُلك ولا منزلة؛ وزالت الملكة من الأنثى!
وأعجب من هذا كلمة {وَرَاوَدَتْهُ} وهي بصيغتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها, لون بعد لون؛ ذاهبة إلى فن، راجعة من فن؛ لأن الكلمة مأخوذة من رَوَدَان الإبل في مشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها؛ ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها؛ كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها؛ فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا "الشيء الآخر" مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.
ثم قال: {عَنْ نَفْسِهِ} ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو، منزه غاية التنزيه بما معناه: "إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغرائه وتصبنيه، مقبلة عليه ومتدللة ومتبذلة ومنصبة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضة كل ذلك عرض امرأة خلعت -أول ما خلعت- أمام عينيه ثوب الملك".
ثم قال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} ولم يقل "أغلقت" وهذا يشعر أنها لما يئست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالًا عدة، وتجري من باب إلى باب، وتضطرب يدها في الأغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط.
{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده, فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها.
هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ} ثم قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ثم قال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]. وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة، إذ كان أساس ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم. ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نزوتها، ولم يَفْثَأ تلك الحدة، فإن حبها كان قد انحصر في فكرة واحدة اجتمعت بكل أسبابها في زمن, في مكان, في رجل. فهي فكرة محتبسة كأن الأبواب مغلقة عليها أيضًا؛ ولذا بقيت المرأة ثائرة ثورة نفسها. وهنا يعود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره المعجز فيقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24] كأنما يومئ بهذه العبارة إلى أنها ترامت عليه، وتعلقت به، والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة لإلقاء الجمرة في الهشيم!
جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطان يقذف به في آخر محاولته. وهنا يقع ليوسف -عليه السلام- برهان ربه كما وقع لها هي برهان شيطانها. فلولا برهان ربه لكان رجلًا من البشر في ضعفه الطبيعي.
قال أبو محمد: وههنا ههنا المعجزة الكبرى؛ لأن الآية الكريمة تريد ألا تنفي عن يوسف -عليه السلام- فحولة الرجولة، حتى لا يُظَن به، ثم هي تريد من ذلك أن يتعلم الرجال، وخاصة الشبان منهم، كيف يتسامون بهذه الرجولة فوق الشهوات، حتى في الحالة التي هي نهاية قدرة الطبيعة؛ حالة ملكة مطاعة فاتنة عاشقة مختلية متعرضة متكشفة متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل، فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئًا من هذا, هي أن يرى برهان ربه.
وهذا البرهان يؤوله كل إنسان بما شاء، فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفُضها كلها؛ فإذا مثل الرجل لنفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة منتصبان أمام الله يراهما، وأن أماني القلب التي تهجس فيه ويظنها خافية إنما هي صوت عالٍ يسمعه الله؛ وإذا تذكر أنه سيموت ويقبر، وفكر فيما يصنع الثرى في جسمه هذا, أو فكر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل, أو فكر في أن هذا الإثم الذي يقترفه الآن سيكون مرجعه عليه في أخته أو بنته, إذا فكر في هذا ونحوه رأى برهان ربه يطالعه فجأة، كما يكون السائر في الطريق غافلًا مندفعًا إلى هاوية، ثم ينظر فجأة فيرى برهان عينه؛ أترونه يتردى في الهاوية حينئذ، أم يقف دونها وينجو؟ احفظوا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام, وأكثر الموعظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة بين الرجل والمرأة والشيطان، كلمة {رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.

قال عبد الرحمن بن عبد الله وهو يتحدث إلى صاحبه سهيل بن عبد الرحمن: ولزمتُ الإمام بعد ذلك، وأجمعتُ أن أتشبه به، وأسلك في طريقه من الزهد والمعرفة؛ ثم رجعت إلى المدينة وقد حفظتُ الرجل في نفسي كما أحفظ الكلام، وجعلت شعاري في كل نزعة من نزعات النفس هذه الكلمة العظيمة: {رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، فما ألممت بإثم قط، ولا دانيت معصية، ولا رَهِقني مطلب من مطالب النفس إلى يوم الناس هذا، وأرجو أن يعصمني الله فيما بقي، فإن هذه الكلمة ليست كلمة، وإنما هي كأمر من السماء تحمله، تمر به آمنًا على كل معاصي الأرض، فما يعترضك شيء منها، كأن معك خاتم المَلِك تجوز به.

(( باختصار من وحي القلم : للرافعي ))
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا

التعديل الأخير تم بواسطة أبو يوسف ; 02-04-2009 الساعة 12:10 PM
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس