عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 193
الحقيقة الاولى: الالوهية المطلقة
إن إنهماك كل طائفة من طوائف البشرية بنوع من انواع العبادة وانشغالهم به انشغالاً كأنه فطري.. وقيام سائر ذوي الحياة بل حتى الجمادات بخدماتها ووظائفها الفطرية التي هي بحكم نوع من انواع العبادة.. وكون كلٍ من النعم والآلاء المادية والمعنوية التي تغمر الكائنات وسيلة عبادة وشكر لمعبودية تمدّهم بسبل العبادة والحمد.. واعلان الوحي والالهام ما ترشح وما تجلى معنوياً من الغيب، بمعبودية الاِله الواحد.. كل هذا يثبت بالبداهة تحقق الالوهية الواحدة المطلقة وهيمنتها.
فما دامت حقيقة هذه الالوهية كائنة وموجودة، فلن تقبل إذاً المشاركة معها؛ لأن الذين يقابلون تلك الالوهية (اي المعبودية) بالشكر والعبادة هم ثمرات ذات مشاعر في قمة شجرة الكائنات، لذا فان إمكان وجود آخرين يشدّون انتباه اولئك الشاعرين، ويجذبونهم اليهم، ويجعلونهم ممتنين لهم وشاكرين، محاولين تنسيتهم معبودهم الحق - الذي يمكن أن ينسّى بسرعة لغيابه عن الرؤية ولاحتجابه عن الانظار - مناقض لماهية الالوهية ومناف لمقاصدها القدسية، ولايمكن قبوله إطلاقاً. ومن هنا أفاض القرآن الكريم في رفض الشرك بشدة، وهدد المشركين بعذاب جهنم.
* * *
الحقيقة الثانية: الربوبية المطلقة
ان التصرف العام الشامل من لدن يدٍ غيبية في جميع الكائنات - وبخاصة الاحياء منها - بحكمة ورحمة في تربيتها وفي اعاشتها، اللتين تتمان معاً بالطريقة نفسها، في كل جهة من الجهات، وبصورة غير مأمولة ومتوقعة، مع اكتناف بعضها البعض الآخر، انما هو رشحات وضياء يدل على الربوبية الواحدة المطلقة؛ بل هو برهان قاطع على تحققها.
فما دامت هناك ربوبية واحدة مطلقة فلن تقبل اذاً الشرك، ولا المشاركة قطعاً؛ ذلك لان اهم غايات تلك الربوبية، واقصى مقاصدها هو إظهار جمالها، واعلان كمالها، وعرض صنائعها النفيسة، وابراز بدائعها القيّمة، وقد تجمعت هذه المقاصد جميعها في كل ذي روح، بل حتى في الجزئيات؛ لذا لايمكن أن تقبل الربوبية
الشعاع السابع - ص: 194
الواحدة المطلقة الشرك ولا الشركاء إطلاقاً، إذ إن تدخلاً عشوائياً للشرك في أي موجود من الموجودات - مهما كان جزئياً - وفي أي كائن حي - مهما كان بسيطاً او صغيراً - يفسد تلك الغايات، ويبطل تلك المقاصد، ويصرف الاذهان عن تلك الغايات، وعمن أرادها وقصدها، الى الاسباب. وهذا ما يخالف ماهية الربوبية المطلقة تماماً ويعاديها. فلابد اذاً أن تمنع هذه الربوبية الواحدة المطلقة الشرك وصوره بأي شكل من الاشكال. فارشادات القرآن الكريم الغزيرة المستمرة الى التوحيد، والى التقديس والتنزيه والتسبيح، في آياته الكريمة، وفي كلماته، وحتى في حروفه وهيئاته، نابعة من هذا السر الاعظم.
* * *
الحقيقة الثالثة: الكمالات
نعم؛ ان جميع ما في الكون من حكم سامية ومن جمال خارق ومن قوانين عادلة ومن غايات حكيمة، إنما تدل بالبداهة على وجود حقيقة الكمالات.. وهي شهادة ظاهرة على كمال الخالق سبحانه الذي أوجد هذا الكون من العدم، ويدبّر أمره في كل جهة وناحية، إدارة معجزة جذابة جميلة، فضلاً عن انها دلالة واضحة على كمال الانسان الذي هو المرآة الشاعرة العاكسة لتجليات الخالق جل وعلا.
فما دامت هناك حقيقة الكمالات، ومادام كمال الخالق الذي أوجد الكون في الكمال هو ثابت ومحقق، ومادام كمال الانسان الذي هو أفضل ثمرة للكون، وخليفة الله في الارض، واكرم مصنوع وأحب مخلوق للخالق سبحانه وتعالى؛ حقيقة ثابتة محققة ايضاً. فلابد ان الشرك الذي يحوّل صورة الكون - ذات الكمال والحكمة الظاهرة - الى ألعوبة بيد المصادفة، والى لهو تعبث به الطبيعة، والى مجزرة ظالمة رهيبة لذوي الحياة، والى مأتم مظلم مخيف لذوي الشعور - حيث يهوي فيه كل شئ الى الفناء، وينحدر الى الزوال ويمضي حثيثاً بلا غاية ولاهدف - والذي يردي الانسان الواضحة كمالاته من آثاره الى اسفل درك من دركات الحيوان كأتعس مخلوق وأذله، والذي يسدل الستار على مرايا تجليات كمال الخالق سبحانه - وهي جميع الموجودات الشاهدة على الكمال المقدس المطلق للخالق الكريم - مبطلاً بذلك
الشعاع السابع - ص: 195
نتيجة فعاليته، وخلاّقيته سبحانه !! فلا يمكن ان يستند هذا الشرك على حقيقة ما مطلقاً، ولا يمكن ان يكون موجوداً في الكون ابداً. هذا وان تصدي الشرك للكمالات الإلهية والانسانية والكونية ومعاداته لها وإفساده فيها قد بحث واثبت مفصلاً في "الشعاع الثاني" الذي يبين ثلاث ثمرات للتوحيد وبالاخص في المقام الاول منه مع دلائل قوية قاطعة، فنحيل الى ذلك.
* * *
الحقيقة الرابعة: الحاكمية المطلقة
نعم؛ ان من ينظر نظرة واسعة فاحصة الى الكون، يرى أنه بمثابة مملكة مهيبة جداً؛ في غاية الفعالية والعظمة، وتظهر له كأنه مدينة عظيمة تتم إدارتها ادارة حكيمة، وذات سلطنة وحاكمية في منتهى القوة والهيبة. ويجد أن كل شئ وكل نوع منهمك ومسخر لوظيفة معينة. فالآية الكريمة (ولله جُنودُ السمواتِ والارضِ) (الفتح: 7) تشعر بمعاني الجندية في الموجودات التي تتمثل ابتداءً من جيوش الذرات وفرق النباتات وافواج الحيوانات الى جيوش النجوم. كل اولئك جنود ربانية مجندة لله، فنجد في جميع اولئك الموظفين الصغار جداً، وفي جميع هؤلاء الجنود المعظمة جداً، سريان الأوامر التكوينية المهيمنة، وجريان الاحكام النافذة، وقوانين الملك القدوس، مما يدل دلالة عميقة بالبداهة على وجود الحاكمية الواحدة المطلقة والآمرية الواحدة الكلية.
فمادامت الحاكمية الواحدة المطلقة حقيقة كائنة، وهي موجودة. فلابد ان الشرك لاحقيقة له. ذلك لان الحقيقة الجازمة التي تصرح بها الآية الكريمة (لَو كانَ فيهِما آلهةٌ إلاّ الله لَفَسدَتا) (الانبياء: 22) تفيد بأنه لو تدخلت أيدٍ متعددة في مسألة معينة وكان لها النفوذ، لاختلطت المسألة نفسها. فلو كان في مملكة ما حاكمان، او حتى لو كان في ناحية ما مسؤولان، فان النظام يفسد ويختل وتتحول الادارة الى هرج ومرج. والحال أن هناك نظاماً رائعاً جداً، يسري ابتداء من جناح البعوضة الى قناديل السماء، ومن الخلايا الجسمية الى أبراج الكواكب والسيارات، مما لايمكن ان يكون للشرك فيه أي تدخل ولو كان بمقدار ذرة.
الشعاع السابع - ص: 196
وكذا، الحاكمية نفسها انما هي مقام للعزة، فلن يقبل هذا المقام منافساً وخصيماً، لما فيه من تجاوز لهيبته وكسر لعزته.
نعم، ان إقدام الانسان المحتاج دوماً الى من يعاونه لضعفه وعجزه، على قتل اخيه او بنيه - ظلماً - لأجل حاكمية ظاهرية مؤقتة جزئية؛ يدل على ان الحاكمية لاتقبل المنافسة أبداً. فلئن كان الانسان - وهو العاجز - يقدم على مثل هذا الفعل لاجل حاكمية جزئية، فلا يمكن بحال من الاحوال ان يرضى من هو القدير المطلق الذي يملك الكون كله تدخلاً او شركاً من أحد في حاكميته الذاتية المقدسة التي هي محور ربوبيته المطلقة، والوهيته الحقيقية الكلية.
ونظراً لاثبات هذه الحقيقة المشعة بدلائل قوية في "المقام الثاني" من "الشعاع الثاني" وفي مواضع عدة من "رسائل النور" فاننا نحيل اليها.
وهكذا فان صاحبنا المسافر بعد أن شهد هذه الحقائق الاربع تحققت لديه وحدانية الله سبحانه بدرجة الشهود. فنما إيمانه وارتقى وبدأ يردد بقوة:
"
لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له".
واشارة لما تلقاه من درس في هذا المنزل فقد ذكر في المقام الاول من الباب الثاني:
[لا اِلهَ اِلاّ الله الواحد الاحد الذي دلّ على وحدانيته ووجوب وجـوده مشاهدة عظمة حقيقة تبارز الالوهية المطلقة، وكذا مشـاهدة عظمـة اِحاطة حقيقة تظاهر الربوبية المطلقة المقتضية للوحدة. وكذا مشـاهدة عظمة اِحاطة حقيقة الكمالات الناشئة من الوحدة وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الحاكمية المطلقة المانعة والمنافية للشركة].

* * *
ثم ان ذلك المسافر الذي لايسكن ولايهدأ خاطب قلبه قائلاً:
ان تكرار اهل الايمان "لا إله إلاّ هو" باستمرار وبخاصة المتصوفة منهم، واعلانهم نداء التوحيد، وتذكيرهم به يبين لنا ان هناك مراتب كثيرة جداً للتوحيد. وان التوحيد هو اهم وظيفة قدسية، واحلى فريضة فطرية، واسمى عبادة إيمانية. فما دام الامر
الشعاع السابع - ص: 197
هكذا، فتعال ياقلب لنفتح باباً لمنزلٍ آخر من منازل دار العبرة والامتحان هذه، لنتعرف من خلاله على مرتبة اخرى من مراتب التوحيد؛ لان التوحيد الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصوراً على معرفة نابعة من تصور، بل هو ايضاً ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو علمٌ، وهو نتيجة نابعة من البرهان، وهو اسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير.
فالتوحيد الحقيقي انما هو حكمٌ وتصديق واذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من ان يهتدي الى ربه من خلال كل شئ. ويمكّنه من ان يرى في كل شئ السبيل المنورة التي توصله الى خالقه الكريم، فلا يمنعه شئ قط عن سكينة قلبه واطمئنانه، واستحضاره لمراقبة ربّه.
فلو لم يكن الامر هكذا، لأضطر المرء الى ان يمزق حجاب الكائنات ويخرقه - كل مرة - كي يتمكن من التعرف على ربّه !. لذا نادى المسافر قائلاً: هيا بنا إذاً لنطرق باب "الكبرياء والعظمة" ولندخل منزل "الآثار والافعال" وعالم "الايجاد والابداع".. فما ان ولج هذا المنزل حتى رأى ان هنالك "خمس حقائق محيطة" تستحوذ على الكون وتثبت التوحيد وتستلزمه بالبداهة.
* * *
الحقيقة الاولى
حقيقة العظمة والكبرياء
نظراً لتوضيح هذه الحقيقة ببراهين في "المقام الثاني" من "الشعاع الثاني" وفي عدة مواضع من رسائل النور نكتفي هنا بما يأتي:
ان الذي اوجد النجوم التي يبعد بعضها عن البعض الآخر آلاف السنين، والذي يتصرف فيها في آن واحد وعلى نمط واحد. والذي يخلق أفراداً غير معدودة لنوع واحد من زهرة نابتة في الشرق او الغرب او الشمال او الجنوب من الارض ويصوّرها في وقت واحد وعلى هيئة واحدة وصورة واحدة، والذي يخبرنا عن اعجب حادثة
الشعاع السابع - ص: 198
ماضية وغيبية في قوله تعالى (هو الذي خَلقَ السمواتِ والارضَ في ستةِ ايامٍ) (الحديد: 4) مثبتاً تلك الحادثة كأنها تحدث امامنا، بما يخلق من مثيلاتها ونظائرها على وجه الارض، وبخاصة عند حلول موسم الربيع، الذي نجد فيه عياناً اكثر من مائة ألف مثال على الحشر الاعظم لاكثر من مائتي ألف نوع من طوائف النباتات وامم الحيوانات، التي تخلق وتنشأ في بضعة أسابيع فقط.. فلاريب أن من بيده إدارة هذا الحشد الهائل مجتمعاً، وتربيته واعاشته، وتمييز بعضه عن البعض الآخر، وتزيينه بكمال الانتظام والميزان، دون لبس او نقص او خطأ ودون تأخير او اهمال، وهو الذي بيده دوران الارض وحصول ظاهرة الليل والنهار بانتظام بديع كما صرحت به الآية الكريمة (يولج الَّيلَ في النَهار ويولجُ النهار في الَّيل) (لقمان: 29) مسجلاً وممحياً - بهذا الدوران - الحوادث اليومية وتبدلاتها في صحيفة الليل والنهار، وهو الذي يعلم في الوقت نفسه، وفي اللحظة نفسها، خبايا الصدور وخلجات القلوب، فيديرها بارادته.. ينبغي ان يكون - فاعل هذه الافعال التي كل منها فعل واحد منفرد خاص- واحداً أحداً قادراً صاحب جلال، له من العظمة والكبرياء بداهة ما يقتلع كل جذور الشرك ويمحو جميع آثاره واحتمالاته مهما كان نوعها وبأية جهة كانت، وفي أي شئ كان، وفي أي مكان كان.
فما دامت هذه الكبرياء وهذه القدرة العظيمة موجودتين، وما دامت صفة الكبرياء هذه هي في منتهى الكمال والاحاطة التامة، فلا يمكن أن تسمحا مطلقاً لأي نوع من انواع الشرك؛ لأن الشرك يعني اسناد العجز والحاجة الى تلك القدرة المطلقة، والصاق القصور بتلك الكبرياء، وعزو النقص بذلك الكمال، وتحديد تلك الاحاطة بالقيد، وانهاء غير المتناهي المطلق. فلا يمكن ان يقبل ذلك كل من له عقل وشعور، وكل من له فطرة سليمة لم تتفسخ.
وهكذا فالشرك من حيث هو تحدٍ لتلك الكبرياء، وتطاول على عزة ذي الجلال، ومشاركة للعظمة، جريمة نكراء لاتدع مجالاً للعفو والصفح والمغفرة. وان القرآن - ذا البيان المعجز - يعبّر عن هذا ويبيّنه ويشفعه بذلك التهديد الصارخ والوعيد الرهيب بقوله تعالى:
(إنَّ الله لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويَغفِرُ ما دونَ ذَلكَ لمنْ يَشاء) (النساء: 48).
* * *
الشعاع السابع - ص: 199
الحقيقة الثانية
ظهور الافعال الربانية ظهوراً مطلقاً ومحيطاً
وهي التي يشاهد تصرفها في الكون قاطبة وتظهر ظهوراً مطلقاً محيطاً، ولا يحدد تلك الافعال الاّ الحكمة الربانية، والارادة الإلهية، وقابليات المظاهر. فالمصادفة العشواء والطبيعة الصماء والقوة العمياء والاسباب الجامدة والعناصر المبعثرة، لن تمتد يدها او تتدخل في تلك الافعال التي هي في منتهى الدقة والميزان والحكمة، والتي تنجز بكل بصيرة وحيوية وانتظام وإحكام. وليست الاسباب الاّ حجاباً ظاهرياً فحسب تستخدمها القدرة الفاعلة لذي الجلال والعزة، وتسخرها على وفق أمره وإرادته وقوته.
ونودّ هنا بيان ثلاثة امثلة عن الافعال الربانية - من بين الآلاف منها - مما تشير اليها الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل، ومع ان كل فعل منها يحتوي على نكات لا حصر لها الاّ اننا نذكر منها هنا ثلاثاً فقط.
الآية الاولى:
(وأوحى ربُّكَ الى النَّحلِ أن اتَّخِذي منَ الجبالِ بيوتاً) (النحل: 68).
نعم، ان النحلة معجزة القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سميت باسمها سورة جليلة في القرآن الكريم؛ ذلك لأن تسجيل البرامج الكاملة لوظيفتها الجسيمة في رأس صغير جداً لماكنة عسل صغيرة.. ووضع أطيب الاطعمة وألذها في جوفها الصغير وطبخها فيه.. واختيار المكان المناسب لوضع سم قاتل مهدم لأعضاء حية في رميحته دون أن يؤثر في الاعضاء الاخرى للجسم.. لايمكن أن يتم - كل هذا - الاّ بمنتهى الدقة والعلم، وبمنتهى الحكمة والارادة، وغاية الموازنة والانتظام؛ لذا لن يتدخل مطلقاً ما لاشعور له ولا نظام ولاميزان من امثال الطبيعة الصماء او المصادفة العمياء في مثل هذه الافعال البديعة.
الشعاع السابع - ص: 200
وهكذا نرى ثلاث معجزات في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني ايضاً فيما لايحد من النحل في ارجاء المعمورة كافة. فبروز هذا الفعل الرباني واحاطته بالجميع، وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.
الآية الثانية:
(وإنَّ لكم في الانعَامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِما في بُطونِهِ من بينِ فَرثٍ ودمٍ لبَناً خالصاً سائغاً للشاربينَ) (النحل: 66).
ان هذا الامر الإلهي ليتقطر عبراً ودروساً. نعم، ان اسقاء اللبن الابيض الخالص، النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في اثداء الوالدات. وفي مقدمتها البقرة والناقة والمعزى والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرث ودم دون ان يختلط بهما او يتعكر.. وان غرس ما هو ألذ من اللبن وأحلى منه وأطيب واثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والايثار.. ليحتاج حتماً الى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مالا يكون قطعاً من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فان تصرف هذه الصنعة الربانية، واحاطة هذا الفعل الإلهي، وتجليها في الحكمة نفسها، والدقة نفسها، والاعجاز نفسه، وفي آن واحد، وطراز واحد، في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي اثدائها، وعلى وجه الارض كافة، يثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.
الآية الثالثة:
(ومن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخذونَ منهُ سكراً ورزقاً حسناً إنَّ في ذلكَ لآىةً لقومٍ يعقلون) (النحل: 67).
تلفت هذه الآية الكريمة النظر والانتباه الى النخيل والاعناب، فتنبه الانسان الى: "أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الالباب، وحجة باهرة على التوحيد".
الشعاع السابع - ص: 201
نعم، ان الثمرتين المذكورتين تعتبران غذاءً وقوتاً، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثير من المواد الغذائية اللذيذة، رغم ان شجرة كل منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في ارض قاحلة. فكل منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الربانية. وكل منهما مصانع سكر وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائع ذات ميزان دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، واتقان تام، بحيث ان الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر الى القول: "ان الذي خلق هذه الاشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة"؛ لأن ما نراه امام أعيننا - مثلاً - من تدلي ما يقارب عشرين عنقوداً من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبة من تلك الحبات مغلفة بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدة حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، ان خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وامثاله - وهي لاتعد ولاتحصى - على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وايجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة باعدادها الهائلة في وقت واحد، وعلى نمط واحد، ليثبت بالبداهة ان الذي يقوم بهذا الفعل ان هو الاّ خالق جميع الكائنات، وان هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة البالغة، ليس الاّ من فعل ذلك الخالق الجليل.
نعم ان القوى العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة المشتتة، لايمكن لها ان تمد أيديها وتتدخل في ذلك الميزان الرقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والانتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تستخدم وتسخّر بامر رباني في الافعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست الاّ ستائر وحجباً مسخرة بيده سبحانه.
وهكذا فكما تشير هذه الآيات الثلاث الى حقائق ثلاث، وتدل كل منها على التوحيد بثلاث نكات، فهناك ما لايُحد من الافعال الربانية وما لايحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل متفقة على الواحد الاحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الاحد ذي الجلال والاكرام.
* * *
الشعاع السابع - ص: 202
الحقيقة الثالثة
حقيقة الايجاد والابداع
اي ايجاد الموجودات - وبخاصة النباتات والحيوانات - بكثرة مطلقة، في سرعة مطلقة، مع إنتظام مطلق.. وخلق المخلوقات بسهولة مطلقة، في غاية الحسن والجمال مع المهارة المتقنة والانتظام الكامل.. وابداع المصنوعات في غاية النفاسة والجودة والتمييز الواضح مع منتهى الوفرة وغاية الاختلاط والامتزاج.
نعم، ان ايجاد الاشياء في منتهى الكثرة بمنتهى السرعة، وفي منتهى السهولة واليسر بمنتهى الاتقان والمهارة وبالدقة والانتظام، وفي منتهى الجودة وغلاء القيمة والتميز مع منتهى الوفرة والمبذولية دون خلط او لبس او اختلال رغم كثافة الفروق والتباينات.. لايمكن ان يتم هذا الايجاد - ولن يتم - إلاّ بقدرة قادر واحد احد لايؤوده شئ ولايصعب على قدرته شئ.
نعم، ولكي ندرك ما نراه ونشاهده بأعيننا ينبغي أن تكون النجوم والذرات على حد سواء أمام تلك القدرة. وأكبر الاشياء كأصغرها والافراد غير المحدودة للنوع كالفرد الواحد منه، والكل المحيط العظيم كالجزء الصغير الخاص، واحياء الارض الهائلة كاحياء شجرة واحدة، وانشاء الشجرة الشاهقة كايجاد بذرة متناهية في الصغر.
وبهذا السر المهم الذي تتضمنه هذه المرتبة التوحيدية، وهذه الحقيقة الثالثة وكلمة التوحيد، أي: كون اكبر "كلّ" كأصغر "جزء" امام القدرة الربانية دون ان يكون أدنى فرق بين الكثير والقليل، تنكشف الاسرار الدقيقة الخفية للقرآن الكريم. وببيان وتوضيح هذه الحكمة المحيرة واللغز العظيم الذي هو خارج طور العقل - مع انه اهم اساس للاسلام واعمق مدار للايمان واللبنة الكبرى للتوحيد - يُدرك أخفى الاسرار المجهولة لحقيقة خلق الكون التي عجزت الفلسفة عن ادراكها. فألف شكر وشكر، وألف حمدٍ وثناء لخالقي الرحيم أرفعه بعدد حروف رسائل النور، أن تمكنت (رسائل النور) حلّ هذا السر العجيب، وكشفت هذا الذي يظنه الجاهل غموضاً
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس