عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 203
غريباً، بل أثبتته ببراهين قاطعة. وبخاصة في بحث "وهو على كل شئ قدير" الموجود في نهاية "المكتوب العشرين" وفي بحث "الفاعل مقتدر" من "الكلمة التاسعة والعشرين" فأثبتت سعة القدرة الإلهية وطلاقتها بالبراهين القاطعة بدرجة حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً وذلك في مراتب "الله اكبر" من "اللمعة التاسعة والعشرين" التي اُلّفت باللغة العربية..
فمع اِحالة الايضاح والتفصيل الى هناك أردت أن أبين هنا بياناً مجملاًً، كفهرست مختصر تلك الاسس والادلة التي تعالج هذا السر وتكشفه وتوضحه، ثم الاشارة الى ثلاثة عشر سراً بثلاث عشرة مرتبة، وبدأت بكتابة السر الاول والثاني، ولكن مانعين قويين ماديين ومعنويين حالا - مع الاسف - بيني وبين كتابة بقية الاسرار في الوقت الحاضر.
السر الاول: اذا كان الشئ ذاتياً، فلا يكون ضده عارضاً له، لأنه اجتماع الضدين وهو محال. فبناءً على هذا السر:
مادامت القدرة الإلهية ذاتية وهي الضرورة اللازمة للذات المقدسة، فلايمكن ان يكون العجز الذي هو ضد تلك القدرة عارضاً للذات القادرة. وما دام وجود المراتب في الشئ الواحد يكون بتداخل ضده - مثلما تتكون مراتب قوة الضياء وضعفه بمداخلة الظلمة، ودرجات ارتفاع الحرارة وهبوطها بتداخل البرودة، ومقادير شدة القوة وضعفها بمقابلة المقاومة وممانعتها لها - فلا يمكن ان تحتوى تلك القدرة الذاتية على مراتب.. فهي تخلق الاشياء وتوجِدها كالشئ الواحد. فمادامت تلك القدرة الذاتية متجردة من المراتب ومن الضعف ومن النقص، فلا جرم ان لايقف امامها مانع ولايصعب عليها ايجاد. وما دامت لايشق عليها شئ فلابد ان يكون لديها ايجاد الحشر الاعظم كسهولة ايجاد الربيع، وايجاد الربيع كبساطة ايجاد شجرة واحدة، وايجاد الشجرة كيسر ايجاد زهرة واحدة، وانها تقوم بالايجاد بهذه السهولة واليسر كما تقوم بها في أدق ما تكون الصنعة والاتقان. فنرى انها تخلق الزهرة باتقان الشجرة وبأهميتها وقيمتها، وتخلق الشجرة باعجاز صنع الربيع الهائل، وتخلق الربيع بشمولية الحشر وجامعيته واعجازه، هكذا تخلق، وهكذا نشاهد خلقها امام اعيننا.
الشعاع السابع - ص: 204
وقد اثبتت (رسائل النور) ببراهين كثيرة قاطعة قوية أنه إن لم يُسند الخلق الى الوحدة والوحدانية يصبح خلق زهرة واحدة صعباً كصعوبة خلق شجرة بل اصعب، ويصبح خلق الشجرة أعقد من خلق الربيع. وفوق ذلك سيسقط جميعها من حيث القيمة والاتقان في الصنعة، فالكائن الذي يُخلق في دقيقة واحدة سيُصنع في سنة، بل يستحيل صنعه بالمرة. فبناءً على هذا السر:
فان جميع الاثمار والازهار والاشجار والاحياء الدقيقة المرتبطة بها، تخرج الى الوجود في غاية الوفرة والكثرة مع أنها في منتهى الجودة والنفاسة، وتظهر في منتهى السرعة واليسر مع انها في غاية الاتقان والصنعة، فتخرج الى الوجود بانتظام، مؤدية وظائفها وتسبيحاتها، وموكلة بذورها بديلة عنها، ماضية هي في سبيلها.
السر الثاني: كما ان شمساً واحدة تشع ضياءً الى مرآة واحدة، بتجلٍ من القدرة الذاتية واستناداً الى سر النورانية والشفافية والطاعة، فانها تنعكس بسهولة بالصورة نفسها - ذات الضياء والحرارة - بالفعالية الواسعة لقدرتها غير المحددة بأمر إلهى، الى مالا يحد من المرايا والمواد اللماعة والقطرات.
واذا نُطقت بكلمة واحدة، فإن هذه الكلمة تدخل بسهولة تامة الى اذن شخص - استناداً الى السعة المطلقة للخلاقية - وتدخل اذهان ملايين الاشخاص وآذانهم ببساطة ويسر بالامر الرباني، فأمامها آلاف المستمعين والمستمع الواحد سواء ولا فرق بينهما.
ومثلما تنظر العين الى مكان واحد وآلاف الامكنة بسهولة كاملة، فان نوراً او نورانياً روحانياً - كجبريل عليه السلام - في الوقت الذي يشاهد ويذهب ويحضر في مكان واحد بكل سهولة - استناداً الى كمال سعة الفعالية الربانية في تجلي الرحمة - فهو كذلك يشاهد ويذهب ويحضر - بالقدرة الإلهية - بالسهولة نفسها في آلاف الاماكن. فلا فرق هنا بين القلة والكثرة.
وهكذا القدرة الذاتية الازلية - ولله المثل الاعلى - فلكونها ألطف نور وأخصّه بل هي نور الانوار كلها، ولكون ماهية الاشياء وحقائقها وأوجه الملكوتية فيها شفافة لمّاعة كالمرايا، ولأن كل شئ - ابتداءً من الذرات الى النباتات والى انواع الاحياء قاطبة
الشعاع السابع - ص: 205
والى النجوم والشموس والاقمار - تابع ومنقاد ومطيع على أتم وجه لحكم تلك القدرة الذاتية ومسخر ومجند وخاضع خضوعاً مطلقاً لأوامر تلك القدرة الازلية. فلا ريب انها تنشئ الاشياء غير المحدودة وتخلقها كالشئ الواحد، وتحضر عند كل شئ في كل آن وفي كل مكان. فلا يمنع شئ شيئاً، فالكبير والصغير، والكثير والقليل، والجزء والكل، سواء عندها. لاتعجز عن شئ ولا يصعب عليها شئ.
واستناداً الى اسرار الانتظام والموازنة وامتثال الاوامر، والطاعة للاحكام - كما ذكرت في الكلمة العاشرة والتاسعة والعشرين - فان سفينة ضخمة جداً يمكن ان تدار وتسيَّر بسهولة إدارة طفل لدميته بأصبعهِ.. وان قائداً مثلما يسوق جندياً واحداً بأمره: "هجوم" فانه بالامر نفسه يسوق جيشاً منتظماً مطيعاً الى الحرب.. واذا كان هناك جبلان في حالة موازنة على طرفي ميزان عظيم حساس جداً ثم أوتي بميزان آخر ووضع في كل من كفتيه بيضة في معادلة تامة، فمثلما يمكن لجوزة واحدة ان ترفع إحدى الكفتين الى الاعلى والاخرى الى الاسفل، كذلك تستطيع تلك الجوزة نفسها - بقانون الحكمة - أن ترفع احدى كفتي الميزان العظيم الحامل للجبل الى قمة جبل وتنزل الاخرى الى قعر الوادي.
فكما أن الامر هكذا، كذلك الامر في القدرة الربانية حيث أنها مطلقة غير متناهية، وهي نورانية، وهي ذاتية وهي سرمدية، وتوجد معها الحكمة المطلقة والعدالة التامة اللتان هما منشأ جميع الانتظام والانظمة والموازنة ومنبعها ومدارها ومصدرها، فالجزئي والكلي والكبير والصغير من اي شئ كان ومن كل شئ مسخر لحكم تلك القدرة ومنقاد لتصرفها.. لذا فان تلك القدرة تسيِّر النجوم والسيارات بسهولة ادارة الذرات وتحريكها؛ وذلك بسر نظام الحكمة. وكما أنها تحيي الذبابة في الربيع بسهولة، تسوق جميع طوائف الحشرات والنباتات والحيوانات الى ميدان الحياة وتحييها بالسهولة نفسها وبالامر نفسه، وبالحكمة المتضمنة فيها وبسر الميزان. وكما انها تنبت شجرة في الربيع بسرعة فائقة فتنفخ الحياة في جذورها وجذوعها التي هي كالعظام، فهي تحيي بتلك القدرة المطلقة الحكيمة العادلة وبالامر نفسه هذه الارض الهائلة التي هي كجنازة ضخمة، مثلما أحيت تلك الشجرة في الربيع ببساطة،
الشعاع السابع - ص: 206
موجدةً مئات الآلاف من انواع الامثلة والنماذج الدّالة على الحشر والنشور.وكما انه سبحانه يحيي الارض بأمر تكويني فانه بمضمون الايات الجليلة الآتية:
(إن كانت اِلاّ صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحضرون) (يس: 53).
(وما أمرُ الساعةِ إلاّ كلمح البصر او هوَ أقرب) (النحل: 77).
(ما خلقكم ولا بعثُكم إلاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان: 28).
يأتي بجميع الانس والجن وما هو حيواني وروحاني وملائكي، يأتي بهم جميعاً بالامر نفسه بالسهولة نفسها الى ميدان الحشر الاكبر وامام الميزان الاعظم، فلا يمنع فعل فعلاً قط. هذا وقد أُجلت كتابة بقية الاسرار من السر الثالث الى الثالث عشر خلاف رغبتى الى وقت آخر بمشيئة الله.
* * *
الحقيقة الرابعة
كليّة الموجودات وظهورها معاً
ان وجود الموجودات وظهورها معاً، متداخلة، مشابهاً بعضها البعض الآخر، وكون بعضها مثالاً مصغراً للآخر، او نموذجاً اكبر له، وكون قسم منها كلاً وكليّاً وبقية الاقسام أجزاؤه وافراده، مع التشابه في ختم الفطرة وسكتها، والعلاقة الوثيقة في نقش الصنعة والاتقان، والتعاون فيما بينها، واكمال كل منها وظيفة الآخر الفطرية.. وأمثال هذه من النقاط العديدة لجهة الوحدة الكثيرة في الموجودات، تعلن التوحيد بداهة، وتثبت أن صانعها واحد احد، وتُظهر - من جهة الربوبية المهيمنة - أن الكائنات قاطبة لاتقبل التجزئة والانقسام. فهي بحكم الكل والكلّي.
مثال ذلك: ان ايجاد افراد لايحصرها العد لأربعمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات في الربيع، وادارتها معاً في آن واحد، وعلى نمط واحد، رغم تداخل بعضها في البعض الآخر، من دون خطأ او خلل، واعاشتها بكمال الحكمة وحسن الصنعة والاتقان.. وكذا خلق افراد غير محدودة لانواع الطيور ابتداءً من مثالها
الشعاع السابع - ص: 207
المصغر - الحشرات - الى مثالها الاكبر - الصقور - ومنحها القدرة على السياحة والتجوال في الجو، وتجهيزها بأجهزة تساعدها على المعيشة والحركة والتنزه ونثر البهجة في الجو، ووضع سكة الصنعة المعجزة وختمها في وجوهها، وتركيب ختم الحكمة في اجسامها بكل تدبير، وايداع طغراء الاحدية في ماهيتها بكل إعتناء وتربية.. وكذا امداد خلايا الجسم بذرات الطعام، وامداد الحيوانات بالنباتات، وامداد الانسان بالحيوانات، وامداد الصغار العاجزين بحنان الوالدات ورعايتهن، وجعل هذا السعي والامداد والمعاونة تتم في اطار حكمة تامة وضمن رحمة كاملة.. وكذا التصرف بالنظام نفسه والابداع نفسه وبالفعل نفسه والحكمة نفسها، ابتداءً من مجرة درب التبانة - من الدوائر الكونية الهائلة - الى المنظومة الشمسية، والى العناصر الارضية بل حتى الى حدقة العين واوراق براعم الاوراد وأغلفة عرانيس الذُرة والبذور الكامنة في البطيخ - مثلاً - كأنها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر وبحكم الجزئي والكلي.. كل ذلك ليثبت بداهة ان الذي يقوم بهذه الافعال انما هو واحد أحد، وضع سكته وختمه على ناصية كل شئ في الوجود، وكما لايحده مكان فهو حاضر في كل مكان، وهو قريب الى كل شئ، رغم ان كل شئ بعيد عنه، كالشمس. وكما يسهل عليه اصعب امور الدوائر الكونية العظيمة والمنظومة الشمسية، لاتخفى عليه ايضاً أصغر أمور الكريات في الدم، وأدق الخواطر القلبية. فلا شئ يبقى خارج ادارته ودائرة تصرفه. ومهما كان الشئ كبيراً او كثيراً فهو سهل ويسير عليه كأصغر شئ وأقله، فيخلق الحشرة الصغيرة في نظام الصقر واتقانه، ويخلق الزهرة في ماهية الشجرة وانتظامها، ويخلق الشجرة في صورة الحديقة وابداعها، ويخلق الحديقة في روعة الربيع وزهوه، ويخلق الربيع في عظمة الحشر وهيبته. وهو يقدّم الينا أكثر الاشياء اتقاناً وأغلاه ثمناً بسعر بخس زهيد بل يحسنه الينا إحساناً، ثم لايطلب منا الاّ: "بسم الله" و "الحمد لله" اي أن الثمن المقدّر لتلك النعم، هو "بسم الله الرحمن الرحيم" ابتداءً و "الحمد لله" ختاماً.
نكتفي بهذا القدر نظراً لقيام رسائل النور بايضاح هذه الحقيقة الرابعة واثباتها بتفصيل اكثر. ورأى صاحبنا السائح في المنزل الثاني:
* * *
الشعاع السابع - ص: 208
الحقيقة الخامسة
الانتظام الاكمل ووحدة المواد
اي وحدة الانتظام الاكمل في مجموع الكون واركانه واجزائه بل في كل موجود فيه، ووحدة موظفي ومواد الكـون الواسع التي هـي محور ادارته ومتعلقة بهيئته العامة. وكون الاسماء والافعال المصّرفة لتلك المدينة العظيمة والمحشر العجيب محيطة وشاملة كل شئ، فالاسم هو نفسه والفعل هو نفسه والماهية هي نفسها في كل مكان، رغم تداخل بعضه في البعض الآخر، وكون العناصر والانواع التي هي الاساس في بناء ذلك القصر الفخم وفي إدارته وفي اضفاء البهجة عليه، محيطة بسطح الارض بانتشارها في اكثر بقاعها، مع بقاء العنصر نفسه، والنوع نفسه واحداً، وذا ماهية واحدة في كل مكان رغم تداخل بعضه في البعض الآخر.. كل ذلك يقتضي بداهة، ويدل ضرورة ويُشهد ويُري ان صانع هذا الكون ومدبّره، وان سلطان هذه المملكة ومربيها، وان صاحب هذا القصر وبانيه، واحد أحد فرد، ليس كمثله شئ، لاوزير له ولامعين، لاشريك له ولاند، منزّه عن العجز، متعال عن القصور.
نعم ان الانتظام التام انما هو دليل بذاته على الوحدة؛ إذ يستدعى منظماً واحداً، فلا يسعه الشرك الذي هو محور المجادلة والمشاكسة.
فما دام هناك انتظام حكيم ودقيق في الكون كله - كلياً كان الشئ أم جزئياً - ابتداءً من دوران الارض اليومي والسنوي، الى سيماء الانسان، والى منظومة شعوره، والى دوران الكريات الحمر والبيض وجريانهما في الدم، فلا يمكن لشئ أن يمد يده ويتدخل قصداً وايجاداً سوى القادر المطلق والحكيم المطلق، بل يبقى كل شئ سواه منفعلاً ومتلقياً ومظهراً للقبول ليس الاّ.
وما دام القيام بالتنظيم ومنح النظام وبخاصة تعقّب الغايات وتتبعها وتنظيمها بابراز المصالح، لايكون الاّ بالعلم والحكمة، والاّ بالارادة النافذة والاختيار، فلابد ان هذا الانتظام الذي يدور مع الحكمة، وهذه الانواع المتنوعة من الانتظام في المخلوقات غير المحدودة التي تتراءى امام أنظارنا والدائرة حول المصالح، يدل بداهة ويشهد بكل
الشعاع السابع - ص: 209
حال ان خالق هذه الموجودات ومدبرها واحد، وهو الفاعل، وهو الذي بيده الاختيار، فكل شئ يخرج الى الوجود إنما يخرج بقدرته هو، ويأخذ وضعاً خاصاً بارادته هو، ويتخذ صورة منتظمة باختياره هو.
ومادام السراج الوهاج لهذه الدنيا المضيف واحداً، وان قنديلها المتدلي لعدّ الايام واحد، وان معصراتها ذات الرحمة واحدة، وان مطبخها ذا الموقد واحد، وان شرابها الذي يبعث على الحياة واحد، وان مزرعتها المحمية واحدة.. واحد.. واحد.. واحد الى ألف وواحد، فلابد أن هذه الآحاد الواحدة تشهد بداهة ان صانع هذا المضيف وصاحبه، واحد، وهو كريم لضيوفه في منتهى الكرم والسخاء حتى أنه يسخر كبار موظفيه هؤلاء ويجعلهم خدماً طائعين لضمان راحة ضيوفه الاحياء.
وما دامت واحدةً تلك الاسماء الحسنى والشؤون الإلهية والافعال الربانية التي تصرف امور الكون والتي تظهر تجلياتها ونقوشها واثارها في كل انحاء العالم.. فالاسماء الحسنى "الحكيم، المصور، المدبر، المحيي، المربي" وامثالها هي نفسها في كل مكان.. وشؤون "الحكمة والرحمة والعناية" وامثالها هي نفسها في كل مكان.. وأفعال "التصوير والادارة والتربية" وامثالها هي نفسها في كل مكان.. وكل منها متداخل بعضه في البعض الآخر، وكل منها في اسمى مرتبة واوسع إحاطة وهيمنة، كما أن كلا منها يكمل نقش الآخر حتى لكأن تلك الاسماء والافعال تتحد مع بعضها اتحاداً، فتصبح القدرة عين الحكمة والرحمة، وتصبح الحكمة عين العناية والحياة. فعندما يظهر - مثلاً - تصرف اسم المحيي في شئ ما، يظهر تصرف اسم الخالق والمصور والرزاق واسماء اخرى كثيرة كذلك في الوقت نفسه، في كل مكان وبالنظام نفسه، فلابد ولامحالة ان ذلك يشهد بداهة على ان مسمّى تلك الاسماء المحيطة، وفاعل تلك الافعال الشاملة والظاهرة في كل مكان بالطراز نفسه، إنما هو فاعل واحد أحد فرد.. آمنــا وصدّقنا !.
ومادامت العناصر التي هي مكونات المصنوعات وجواهرها واسسها، تحيط سطح الارض وتتوزع عليه، وكل نوع من انواع المخلوقات - الحاملة لاختام مختلفة تظهر الوحدانية - قد انتشر على ظهر الارض واستولى عليه، رغم كونه نوعاً واحدا،ً فلابد أن تلك العناصر بمشتملاتها، وتلك الانواع بأفرادها، إنما هي مُلك لواحد،
الشعاع السابع - ص: 210
ومصنوعات مأمورة لدى ذلك الواحد القادر الذي يستخدم بقدرته المطلقة تلك العناصر الضخمة المستولية كأنها خَدَمة طائعات، ويسخّر تلك الانواع المتفرقة في كل جهة من الارض كأنها جنود نظاميون.. وحيث ان (رسائل النور) قد أثبتت هذه الحقيقة وأوضحتها، نقتصر عليها بهذه الاشارة القصيرة.
فلقد أحسّ صاحبنا السائح المسافر بنشوة إيمانية بعد ان اكتسب الفيض الايماني والتذوق التوحيدي من فهمه لهذه الحقائق الخمس فأنشأ يترجم ملخصاً انطباعاته ومشاهداته مخاطباً قلبه:
انظر الى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون الوسيع.
كيف جرى قلم القدرة وصوّر البديع..
لم تبق نقطة مظلمة لأرباب الشعور..
لكأن الرب قد حرّر آياته بالنور.
واعلم ايضاً بأن:
هذه الابعاد غير المحدودة صحائف كتاب العالم
وهذه العصور غير المعدودة سطور حادثات الدهر
قد سطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:
كل موجود في العالم، لفظ مجسم حكيم
وانصت كذلك:
جو لا اله الاّ الله برابر ميذنند هرشى دمادم جويدند ياحق سراسر كويدنند ياحي 1
نعم؛ وفي كل شئ له آية تدل على انه واحدٌ.
وهكذا صدّق قلب السائح نفسه، وقالا معاً: نعم، نعم.
_____________________
1
يعني: كل شئ في الوجود ينطق ويردد معاً: لاإله إلاّ الله، ويلهج دوماً كل آن: يا حق.. فالكل ينطق والجميع يهتف: ياحي.- المترجم.

الشعاع السابع - ص: 211
هذا وقد جاءت في المنزل الثاني من الباب الثاني من المقام الاول إشارة قصيرة الى ماشاهده سائح الكون والضيف فيه من الحقائق التوحيدية الخمس، وهي:
[لا إله إلاّ الله الواحـد الاحـد الذي دلّ على وحدته في وجوب وجوده: مشاهدة حقيقة الكبرياء والعظمة فـي الكمال والاحاطة. وكذا مشاهدة حقيقة ظهور الافعال بالاطلاق وعدم النهاية، لا تقيدها الاّ الارادة والحكمة. وكذا مشـاهدة حقيقة ايجاد الموجودات بالكثرة المطلقة فـي السرعة المطلقة، وخلق المخلوقات بالسهولة المطلقة في الاتقان المطلق، وابداع المصنوعات بالمبذولية المطلقة فـي غاية حسن الصنعة وغلو القيمة. وكذا مشاهدة حقيقة وجود الموجودات على وجه الكل والكلية والمعية والجامعية والتداخل والمناسبة. وكـذا مشاهدة حقيقة الانتظامات العامة المنافية للشركة. وكذا مشاهدة وحدة مدارات تدابير الكائنات الدالة علـى وحدة صانعها بالبداهة. وكذا وحدة الاسماء والافعال المتصرفة المحيطة، وكـذا وحدة العناصر والانواع المنتشرة المستولية على وجه الارض].
* * *
وحينما كان ذلك السائح في العالم يجول في العصور صادف مدرسة مجدد الألف الثاني الامام الرباني احمد الفاروقي 1 فدخلها وبدأ يصغي اليه. كان الامام يقول في ثنايا درسه: "ان اهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الايمانية وانجلاؤها، وان وضوح مسألة واحدة وانكشافها لهو ارجح من ألفٍ من الكرامات".
وكان يقول ايضاً: " لقد قال بعض العظماء في السابق: انه سيأتي أحد من المتكلمين ومن علماء علم الكلام وسيثبت بدلائل عقلية اثباتاً واضحاً جميع الحقائق الايمانية والاسلامية، وياليتني أنا ذلك الشخص، بل ربما هو أنـا 2 . حيث ان الايمان
_____________________
1
الامام الرباني: هو احمد بن عبد الاحد السرهندي الفاروقي (971-1034هـ) الملقب بحق «مجدد الالف الثاني» برع في علوم عصره، وجمع معها تربية الروح وتهذيب النفس والاخلاص للّه وحضور القلب، رفض المناصب التي عرضت عليه، قاوم فتنة «الملك اكبر» التي كادت ان تمحق الاسلام. وفّقه المولى العزيز الى صرف الدولة المغولية القوية من الالحاد والبرهمية الى احتضان الاسلام بما بث من نظام البيعة والاخوة والارشاد بين الناس، طهر معين التصوف من الاكدار، تنامت دعوته في القارة الهندية حتى ظهر من ثمارها الملك الصالح «اورنك زيب» فانتصر المسلمون في زمانه وهان الكفار. انتشرت طريقته «النقشبندية» في ارجاء العالم الاسلامي بوساطة العلامة خالد الشهرزوري المشهور بمولانا خالد (1192 -1243هـ). له مؤلفات عديدة اشهرها «مكتوبات» ترجمها الى العربية محمد مراد في مجلدين..- المترجم.

2
لقد اثبت الزمن ان ذلك الشخص ليس شخصاً ولا رجلاً انما هو «رسائل النور». وربما شاهد اهل الكشف فى كشفياتهم «رسائل النور» فى شخص مترجمها ومبلّغها الذى لاقيمة له ولا اهمية،فقالوا: انه شخص. المؤلف.

الشعاع السابع - ص: 212
والتوحيد هما اساس جميع الكمالات الانسانية وجوهرها ونورها وحياتها، وان دستور "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" 1 يخص التفكر الايماني، وما الذكر الخفي في الطريقة النقشبندية واهميته الاّ نوع من انواع هذا التفكر السامي".
هكذا كان الامام يعلّم، والسائح ينصت ويصغي بكل إهتمام. ثم رجع الى نفسه وخاطبها:
لما كان هذا الامام الهمام يقول كذا، وان إزدياد قوة الايمان ولو بمقدار ذرة هو أثمن من اطنان من كسب المعارف والكمالات، بل هو ألذ وأطيب مائة مرة من حلاوة الاذواق والوجد. وحيث ان الاعتراضات والشبهات المتراكمة حول الايمان والقرآن - التي تثيرها فلاسفة اوروبا منذ ألف سنة - قد وجدت سبيلها الى قلوب المؤمنين، فيهاجمون بها اهل الايمان، ويحاولون بذلك زعزعة الاركان الايمانية التي هي اساس السعادة الابدية، ومدار الحياة الباقية، ومفتاح الجنة الخالدة. فلابد إذاً - وقبل كل شئ - أن نزيد إيماننا قوة ونحوّله من ايمان تقليدي الى ايمان تحقيقي.
فهيا بنا ايتها النفس لنسرْ قدماً مع هذه المراتب الايمانية التسع والعشرين التي وجدناها، والتي كل منها راسخة رسوخ الجبل الاشم قاصدين إيصالها الى عدد الاذكار والتسبيحات المباركة للصلاة وهي الثلاث والثلاثون. فلنطرق باب الادارة والاعاشة الربانية في عالم الاحياء الذي يترقرق عبراًً وعظات، ونفتحه بمفتاح (بسم الله الرحمن الرحيم) كي نرى المنزل الثالث ونشاهد ما فيه...
فطرق السائح باب المنزل الثالث الذي هو محشر العجائب ومجمع الغرائب، طرقه بكل استرحام ورفق ولطف، ومن ثم فتحه بـ"بسم الله الفتاح" فبدا له المنزل الثالث ودخل فيه، ووجد أن هناك أربع حقائق عظمى محيطة تنير ذلك المنزل وتكشف التوحيد وتبينها كالشمس الساطعة.
* * *
_____________________
1
قال الحافظ العراقي في تخريج الاحياء 1/58: حديث: تفكر ساعة خير من عبادة سنة: ابن حبان كتاب العظمة من حديث ابي هريرة بلفظ ستين سنة باسناد ضعيف ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ورواه ابو المنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث انس بلفظ ثمانين سنة واسناده ضعيف جداً، ورواه ابو الشيخ من قول ابن عباس بلفظ خير من قيام ليلة. ا هـ . وانظر كشف الخفاء 1/310 والاحاديث المشكلة ص113.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس