عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 213
الحقيقة الاولى: وهي حقيقة "الفتاحية"
أي انفتاح ما لايحد من الصور المنتظمة المتنوعة المختلفة بتجلي اسم "الفتاح" من مادة بسيطة جداً، وانكشافها معاً في كل طرف من انحاء العالم، وفي آن واحد، وبفعل واحد.
نعم، كما ان القدرة الفاطرة قد فتحت الموجودات المختلفة غير المحدودة، في رياض الكائنات كتفتح الازهار؛ فأعطت باسم "الفتاح" كلاً منها طرزاً منتظماً يناسبه، وشخصية منفردة تميزه. فقد منحت كذلك - بشكل اكثر اعجازاً - صورة موزونة، مزينة، ومتميزة، لكل ذي حياة من اربعمائة ألف نوع من انواع الاحياء في حديقة الارض، وهي في غاية الاتقان والحكمة.. نعم، ان فتح الصور هذا اقوى دليل على التوحيد، واعجب معجزة للقدرة الإلهية، حسب ما تفيده الآيات الكريمة:
(يخلقكم في بطون أُمهاتِكم خَلقاً من بعدِ خلقٍ في ظُلمات ثلاث ذلكُم الله ربُّكم له المُلكُ لا إله إلاّ هو فأنَّى تُصرفون) (الزمر: 6).
(إن الله لا يخفى عليه شىءٌ في الارض ولا في السماء _ هُو الذي يُصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلاّ هُو العزيز الحَكيمُ) (آل عمران: 5، 6).
فبناءً على هذه الحكمة، ونظراً لافاضة (رسائل النور) في بيان حقيقة فتح الصور بصورة متنوعة (وبخاصة في المرتبة السادسة والسابعة من الباب الاول من هذه الرسالة). فنحن نحيل اليها ونكتفي هنا بالقول:
لقد ظهرت نتيجة الدراسات المتواصلة والبحوث الدقيقة لعلمي النبات والحيوان وبشهادتهما، أن فتح الصور هذا له من الاحاطة والشمول والاتقان ما لايمكن ان يملك هذا الفعل الجامع المحيط سوى الواحد الاحد القادر المطلق الذي يرى كل شئ، ويصنعه؛ ذلك لان فعل فتح الصور هذا يحتاج الى وجود منتهى الحكمة، ومنتهى الدقة، ومنتهى الاحاطة ضمن قدرة مطلقة تهيمن في كل مكان وفي كل آن. فقدرة كهذه لايملكها الاّ الواحد الاحد الذي بيده مقاليد الارض والسماوات.
نعم فكما جاء في الآية الكريمة المذكورة في ظلمات ثلاث فإن خلق الانسان، وفتح صوره، واحدة واحدة، في ارحام الوالدات بميزان وزينة، وبانتظام
الشعاع السابع - ص: 214
وتميّز، دون خلط او اختلاط، او خطأ او نقص، من مادة بسيطة دليل قاطع على الوحدانية. ومن ثم احاطة هذه الحقيقة - فتح الصور - وشمولها بالقدرة نفسها، والحكمة نفسها، والصنعة نفسها، للناس كافة، وللحيوانات كافة، وللنباتات كافة، على ارجاء الارض كافة، لهي اقوى برهان على الوحدانية؛ ذلك لان فعل الاحاطة هو بذاته وحدة واحدة لايترك مجالاً للشرك.
ومثلما ان الحقائق التسع عشرة في الباب الاول قد شهدت (بوجودها) على وجوب وجود الخالق سبحانه، فهي تشهد كذلك (باحاطتها) على الوحدة والوحدانية..
والحقيقة التي رآها صاحبنا السائح في المنزل الثالث هي:
* * *
الحقيقة الثانية: وهي حقيقة " الرحمانية "
وهي تعني ان هناك واحداً جعل لنا الارض - كما هي ظاهرة امام اعيننا - مضيفاً رائعاً، وغمر وجهها بآلاف هدايا الرحمة، وفرش لنا بتلك الرحمة مأدبة تحوي مئات الآلاف من مختلف الاطعمة اللذيذة المعدّة على تلك المائدة، وجعل لنا جوف الارض - برحمته وحكمته - مخزناً جامعاً عظيماً لآلاف إحساناته وآلائه القيمة. ويقوم بتربيتنا تربية في منتهى الرحمة، بتحميله الارض من عالم الغيب في دورتها السنوية - كأنها باخرة تجارية - بمئات الآلاف من أجود انواع صنوف اللوازم الحياتية للانسان واجملها، ويرسلها كل سنة كأنها سفينة مشحونة او قطار معبأ، فكل ربيع فيها بمثابة قطار تقل أرزاقنا وملابسنا. ولاجل أن ننتفع من تلك الهدايا والنعم كلها فقد وهبنا المئات بل الآلاف من الارزاق والحاجات والرغبات والمشاعر، والحواس..
نعم، لقد وضح في "الشعاع الرابع" الذي يشرح الآية الكريمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173)، وأثبت هناك انه سبحانه قد وهبنا معدة بحيث نستطيع بها هضم أطعمة غير محدودة والتلذذ بها. وأحسن الينا سبحانه حياة بحيث نستفيد بحواسها نعماً غير محدودة مبثوثة في ارجاء هذا العالم المشهود الكبير وكأنه سفرة مفروشة للنعم. وأكرمنا سبحانه بانسانية بحيث نتذوق بآلاتها العديدة - كالعقل
الشعاع السابع - ص: 215
والقلب - من هدايا غير متناهية لعالم المادة ولعالم المعنى ما نتذوق. وعلّمنا إسلاماً بحيث يأخذ النور من خزائن غير متناهية لعالم الغيب ولعالم الشهادة. وهدانا الى إيمانٍ بحيث نستفيد به ونتنور بما لايُحصر من أنوار عوالم الدنيا والآخرة وهداياهما. فكأن هذه الكائنات قصر عامر منيف قد زيّن من لدن الرحمة الواسعة بأنفس الاشياء والموجودات، وسلمت بيد الانسان مفاتيح خزائنه ومنازله التي لاتعد ولاتحصى، وأودعت في فطرته جميع الاحتياجات والمشاعر اللازمة للاستفادة من كل ما في القصر.
فرحمة كهذه التي تحيط بالدنيا وبالآخرة معاً، وبكل شئ. لابد أنها تجلٍ من تجليات "الاحدية" في تلك "الواحدية". أي كما ان احاطة ضياء الشمس وشموله جميع الاشياء المقابلة لها مثال بارز على "الواحدية" فان أخذ كل شئ شفاف ولماع حسب قابليته ضياء الشمس وحرارتها والالوان السبعة التي فيها وانعكاساتها، مثال على "الاحدية". لذا فان الذي يرى ضياء الشمس المحيط للعالم يحكم بأن شمس الارض واحدة، وانه بمشاهدته اِنعكاس ضياء الشمس ذي الحرارة من كل شئ براق، حتى من القطرات، يتمكن ان يقول بأحدية الشمس، أي أنها قريبة من كل شئ بصفاتها، فهي في مرآة قلب كل شئ.
فكما ان الامر في المثال هكذا - ولله المثل الاعلى - فان احاطة رحمة الرحمن ذي الجمال اِحاطة شاملة، كالضياء، تظهر واحدية ذلك الرحمن وعدم وجود شريك له في اية جهة من الجهات، وان وجود تجليات أنوار اكثر اسماء ذلك الرحمن، ونوعاً من تجلٍ لذاته المقدسة في كل شئ، ولاسيما في كل ذي حياة وبخاصة في الانسان - بما منحه الرحمن تحت ستار رحمته الواسعة الجامعة من حياة جامعة لكل فرد بحيث تمكنه ان يتوجه بها الى الكائنات كافة وينسج علاقات وروابط معها - يثبت احدية ذلك الرحمن سبحانه، وحضوره لدى كل شئ، وأنه " هو " الذي يعمل كل شئ لأي شئ كان.
نعم كما ان ذلك الرحمن بواحدية تلك الرحمة وباحاطتها يظهر هيبة جلاله وبهائه على الكون كله، على الارض كلها. فانه بتجلي أحديته في كل ذي حياة، وبخاصة في الانسان، وبجمعه جميع نماذج تلك النعم وغرزها في اعضاء ذلك
الشعاع السابع - ص: 216
الكائن الحي، وفي أجهزته وتنظيمها، وبجعله ذلك الفرد الواحد يتخذ - من جهة - الكائنات كافة دون تشتت مسكنه ومأواه، كأنه يعلن رأفة جماله، ويعرّف تمركز انواع احسانه في الانسان.
فلو أخذنا البطيخ مثالاً، فان في كل بذرة من بذوره يوجد البطيخ نفسه. فخالق تلك البذرة الواحدة لابد انه هو خالق ذلك البطيخ. اذ يستدرّ تلك النواة منه ويجمعها ويجعلها تتجسم بموازين علمه الخاصة وبقوانين حكمته التي تخصه. فليس هناك شئ قط يستطيع أن يصنع تلك النواة سوى البديع الواحد لذلك البطيخ، بل ان ايجاد غيره له محال اصلاً. وبناءً على هذا فقد اصبح الكون - بتجلي الرحمانية - بمثابة شجرة وبستان، وغدت الارض كالثمرة وكالبطيخ، وصار ذوو الحياة والانسان كالبذرة، لذا ينبغي ان يكون خالق اصغر الاحياء هو خالق الارض قاطبة ورب أدق الاحياء هو رب الكون كله.
نحصل مما سبق:
ان ايجاد جميع الصور المنتظمة لجميع الموجودات وفتحها من مادة بسيطة - بحقيقة الفتاحية التي هي محيطة - يثبت الوحدة بداهة. وان تربية جميع الاحياء كذلك التي أتت الى الوجود ودخلت الحياة الدنيا وبخاصة القادمين الجدد - بحقيقة الرحمانية التي تحيط بكل شئ - تربية في غاية الانتظام، وايصال لوازم حياتها وتوفيرها لها دون نسيان أحد، وشمول الرحمة نفسها ووصولها الى كل فرد، في كل مكان ، وفي كل آن، تُظهرُ الوحدة بداهة، وتُري الاحدية في تلك الوحدة كذلك.
وحيث ان (رسائل النور) هي من مظاهر إسمَي "الحكيم" و "الرحيم" من الاسماء الحسنى وان ايضاح لطائف "حقيقة الرحمة" وتجلياتها مع اثباتها قد ورد في مواضع عدة من الرسائل. لذا إقتصرنا هنا على الاشارة اليها بهذه القطرة من ذلك البحر الواسع.
وما رآه صاحبنا السائح وشاهده في المنزل الثالث هو:
* * *
الشعاع السابع - ص: 217
الحقيقة الثالثة: وهي حقيقة التدبير والادارة
أي حقيقة اِدارة الاجرام السماوية وهي في منتهى السرعة والضخامة، وادارة العناصر وهي في منتهى الاختلاط والتشابك، وادارة المخلوقات الارضية وهي في منتهى الحاجة والضعف، ادارةً تتسم بكمال الانتظام والموازنة ويسعى بعضها لمعاونة البعض الآخر، رغم اختلاطها وامتزاجها ببعض. أي هي حقيقة النظر في ادارة أمورها جميعاً وجعل هذا العالم العظيم كأنه مملكة كاملة، ومدينة رائعة ضخمة، وقصر منيف مزين.
وسنأخذ هنا صورة واحدة مقتضبة لجريان تلك الادارة وسريانها على صفحة واحدة من سطح الارض وفي صحيفة واحدة في الربيع، تاركين تلك الدوائر الجبارة والصحائف الواسعة التي تتقطر رحمة. نظراً لأنها قد وضحت واثبتت في رسائل مهمة من (رسائل النور) كالكلمة العاشرة وسنبينها بمثال على النحو الآتي:
اذا قام شخص عظيم خارق بتشكيل جيش من أربعمائة ألف أمة وطائفة مختلفة،ووفّر ما يخص كل جندي من تلك الامم والطوائف المختلفة من الملابس والاسلحة والارزاق والتعليمات والاعفاءات والخدمات المختلفة المتنوعة جداً، وجهّزهم بالاجهزة المختلفة دون أدنى نقص او قصور او خطأ، وزوّدهم بها في أوانه دون أدنى تأخير او خلط، وبكمال الانتظام، فلابد أن تلك الادارة وهي في منتهى السعة والاختلاط والدقة والموازنة والكثرة والعدالة ليس إلاّ منقدرة خارقة لذلك القائد الخارق، فلايمكن لأي سبب أن يمد يده اليها. إذ لو مدّ لأفسد تلك الموازنة ولاختلط الامر.
فكما ان الامر في هذا المثال هكذا؛ فاننا نشاهد بأعيننا كذلك ان يداً غيبية تنشئ في كل ربيع وتدير جيشاً مهيباً مركباً من أربعمائة ألف من مختلف الانواع من الاحياء، ثم في موسم الخريف - الذي هو نموذج القيامة - تُعفي ثلاثمائة ألف من مجموع الاربعمائة ألف نوع من وظائفها بصور الوفاة وباسم الموت. وفي الربيع - الذي هو مثال الحشر والنشور - تنشئ ثلاثمائة ألف نموذج للحشر الاعظم في بضعة اسابيع بكمال الانتظام. حتى انه سبحانه بعد أن يرينا في الشجرة الواحدة اربعة انواع
الشعاع السابع - ص: 218
من الحشر المصغر بنشره الشجرة نفسها، وأوراقها، وأزهارها، وأثمارها -كما هي في الربيع الماضي- فانه يظهر لنا ويثبت وحدانيته واحديته وفرديته واقتداره المطلق ورحمته الواسعة ضمن كمال الربوبية والحاكمية والحكمة، فيكتب سبحانه أمر التوحيد هذا بقلم القدر في صحيفة كل ربيع على وجه الارض، وذلك بمنحه كل نوع وكل طائفة من ذلك الجيش السبحاني البالغ أنواعه أربعمائة ألف نوع، ما يخصه من أرزاقه المختلفة، وما يحتاجه من اسلحته الدفاعية المتنوعة، وما يناسبه من ألبسته المتباينة، وما يلائمه من تعليماته المتفاوتة واعفاءاته المختلفة، وما يوافقه من جميع معدّاته ولوازمه. فيمنح سبحانه كل ذلك بكمال الانتظام والميزان دون أدنى سهو او خطأ ودون خلط او نسيان، ويهبها له في وقته المحدّد المعين، من مصادر لاتخطر على بال.
وبعد أن طالع صاحبنا السائح صحيفة واحدة فقط في ربيع واحد فقط وشاهد فيها أمر التوحيد بجلاء ووضوح خاطب نفسه قائلاً:
إن الذي أنشأ هذه الانواع من الحشر في كل ربيع، التي تربو على الالوف، وتفوق غرابة الحشر الاكبر هو الذي وعد أنبياءه كافة بآلاف الوعود والعهود أن سيأتي بالحشر والقيامة للثواب والعقاب، وهو أهون على قدرته من الربيع نفسه، وضمَّن آلاف الاشارات حول الحشر في القرآن الكريم، الذي يقرر صراحة في ألف من آياته الكريمة على وعوده سبحانه ووعيده.. فلاشك أن عذاب جهنم لهو عين العدالة بحق من يرتكب جحود الحشر امام ذلك القدير الجبار والقهار ذي الجلال..
هكذا حكم صاحبنا السائح واطمأنت نفسه اليه فرددت هي ايضاً: آمنــــــا.
وما شاهده سائح العالم في المنزل الثالث هو:
* * *
الحقيقة الرابعة: وهي المرتبة الثالثة والثلاثون، تلك هي حقيقة الرحيمية والرزاقية.
أي حقيقة إعطاء الرزق الى جميع ذوي الحياة وبخاصة ذوي الارواح وبخاصة العاجزين والضعفاء وبخاصة الاطفال والصغار على وجه الارض كافة وفي جوفها وفي جوها وفي بحرها، اعطاءهم ارزاقهم كافة سواء المادية المَعَدية منها او المعنوية
الشعاع السابع - ص: 219
القلبية بكل شفقة ورأفة وذلك من الاطعمة المعمولة من تراب بسيط يابس ومن قطع خشب جافة جامدة كالعظم وبخاصة إخراج ألطف تلك الاطعمة من بين فرث ودم وإخراج كميات هائلة من الاطعمة من بذرة واحدة صلدة كالعظم وهي لاتزن درهماً؛ فاخراج كل ذلك في وقته المناسب وامام أنظارنا اخراجاً مقنناً دون نسيان أحد او التباس او خطأ لهو حقيقة الارزاق من لدن يد غيبية. نعم، ان الآية الكريمة:
(إنَّ الله هو الرزّاقُ ذو القُوةِ المتين) (الذاريات: 58) التي تخصص الاعاشة والانفاق وتحصرها في الحق سبحانه وتعالى. وكذا الآية الكريمة:
(وما من دابّةٍ في الارض الاّ على الله رِزقُها ويَعلَمُ مُستَقرّها ومستَودعَها كلٌ في كتابٍ مُبين) (هود: 6) التي تأخذ أرزاق الناس والحيوان جميعها تحت تعهد الرب سبحانه وكفالته. وكذا الآية الكريمة:
(وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يَرزُقُها وإيّاكُم وهو السميعُ العَليمُ) (العنكبوت: 60) التي تثبت وتعلن بان الله سبحانه هو الذي يتكفل - كما هو مشاهد - بأرزاق المساكين والضعفاء والعاجزين وامثالهم ممن لايستطيعون أن يتداركوها، فيرسلها اليهم من حيث لم يحتسبوا، ومن مصادر لا تخطر لهم على بال، بل من الغيب، بل من غير شئ، كامثال الحشرات الموجودة في اعماق البحار التي تتغذى على غير شئ. وجميع الصغار التي يأتيها رزقها من حيث لاتحتسب، وجميع الحيوانات التي قد تكفل سبحانه بارزاقها، وينفق عليها فعلاً من الغيب مباشرة - كما هو مشاهد في كل ربيع - حتى انه هو الذي يرسل ارزاق اولئك المفتونين بالاسباب تحت ستار الاسباب، فلا يرزقهم سواه. فكما ان تلك الآيات الكريمة والظواهر المشاهدة تُري الرزاقية وتثبتها وتعلنها هكذا، كذلك تبين آيات قرآنية كثيرة وشواهد كونية لاتحد متفقة ان كل ذي حياة ىُربّى تحت كنف رحيمية رزاق واحد احد ذي جلال.
نعم، ان تسارع ارزاق الاشجار اليها وهي المحتاجة للرزق دون ان يكون لها اقتدار ولاإختيار ولاإرادة وهي ساكنة في اماكنها متوكلة على الله.. وكذا سيلان الحليب المصفى من تلك المضخات العجيبة الى افواه الصغار العاجزين،وانقطاع تلك النفقة
الشعاع السابع - ص: 220
مباشرة عنهم بعد اكتسابهم جزءاً من الاقتدار وشيئاً من الاختيار والارادة، مع استمرار تلك الشفقة الموهوبة للامهات.. كل ذلك؛ ليثبت بداهة ان الرزق الحلال لا يأتي متناسباً مع القدرة والارادة وانما يأتي متناسباً مع الضعف والعجز اللذين يمنحان التوكل.
ولقد ساق وجود قوة الاقتدار والاختيار والذكاء - المثير للحرص القائد الى الحرمان على الاغلب - اولئك الادباء الذين يستشعرون بها، الى التذلل والى ما يشبه التسوّل، بينما اوصل عدم الاقتدار المكلل بالتوكل اغلب العوام البُله الى الثراء والغنى، حتى سار مثلاً:
كم عالمٍ عالمٍ أعيتْ مذاهبُه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً
مما يثبت ان الرزق الحلال لايحصل عليه المخلوق ولايجده بقوة الاقتدار والاختيار، وانما يُعطى له من لدن مرحمة قد قبلت كدّه وسعيه، ويحسن اليه من عند شفقة ورأفة رقّت على احتياجه وافتقاره.
غير ان الرزق نوعان:
الاول: الرزق الحقيقي والفطري للمعيشة، الذي هو تحت التعهد الرباني، وهو مقدّر بحيث ان المدّخر منه في الجسم بصورة دهون او بصور اخرى يمكنه ان يعيّش الانسان ويديم حياته اكثر من عشرين يوماً دون ان يذوق طعاماً. فالذين يموتون جوعاً في الظاهر قبل عشرين او ثلاثين يوماً من دون ان ينفد رزقهم الفطري لاينشأ موتهم من انعدام الرزق، بل من مرض ناشئ من سوء التعود ومن ترك العادة.
والقسم الثاني من الرزق: هو الرزق المجازي والاصطناعي الذي يكون بحكم الضروري بعد أن يدمن الانسان عليه بالتعود والاسراف وسوء الاستعمال. وهذا القسم ليس ضمن التعهد الرباني وتكفله بل هو تابع الى احسانه سبحانه. فاما أن يمنحه او يمنعه.
فالسعيد - في هذا الرزق الثاني - والمحظوظ فيه، هو من يعلم ان السعي الحلال بالاقتصاد والقناعة - وهما مدارا السعادة واللذة - هو نوع من العبادة، وهو دعاء فعلي لكسب الرزق، لذا يقضي هذا السعيد حياته بهناء ويقبل ذلك الاحسان شاكراً ممتناً.
الشعاع السابع - ص: 221
والشقي التعس في هذا الرزق هو من يتخلى عن السعي الحلال بالاسراف والحرص - وهما سبب الشقاء والخسارة والألم - فيقضي حياته بل يهلكها بطرق كل باب بالكسل والتظلم والتشكي.
فكما ان المعدة تطلب رزقاً، فالقلب والروح والعقل والعين والاذن والفم وامثالها من لطائف الانسان ومشاعره هي الاخرى تطلب رزقها من الرزاق الرحيم، وتأخذه منه بكل شكر وامتنان. فيهب سبحانه لكل منها من خزائن رحمته، رزقها الذي يناسبها وترضى به وتلتذ. بل ان الرزاق الرحيم قد خلق كلاً من تلك اللطائف كالعين والاذن والقلب والخيال والعقل وامثالها بمثابة مفتاح لخزينة رحمته كي يغمرها بالرزق الواسع. فمثلما العين مفتاح لخزائن الجواهر القيمة من الحسن والجمال المنبسط على وجه الكائنات، فاللطائف الاخرى كذلك كل واحدة منها مفتاح لعالم معين، تستفيد منه بالايمان.. وعلى كل حال فلنرجع الى أصل الموضوع.
فكما ان الخالق القدير الحكيم قد خلق الحياة خلاصة جامعة مستخلصة من الكائنات يحشّد فيها مقاصده العامة وتجليات اسمائه الحسنى. كذلك جعل الرزق في عالم الحياة مركزاً جامعاً للشؤون الربانية، خالقاً في ذوي الحياة غريزة الاشتهاء وتذوق الرزق، ليفسح بذلك المجال لأهم غاية لخلق الكائنات وحكمتها وهي جعل المقابل في شكر ورضى دائمين وكليين يتمان بكل خضوع وعبودية تجاه ربوبيته وتودّده سبحانه.
فمثلاً: أنه سبحانه قد عمّر كل طرف من أطراف المملكة الربانية الواسعة جداً؛ فعمَّر السماوات بالملائكة والروحانيين، وعمَّر عالم الغيب بالارواح، كما عمَّر العالم المادي - لحكمة بث الروح واضفاء البهجة فيه وبخاصة عالم الهواء والارض، بل كل جهة منه وفي كل وقت وأوان - بوجود الاحياء وبخاصة الطيور والطويرات والحشرات. فغرز الاحتياج للرزق وتذوقه في الحيوانات والانسان؛ وجعلهم يسعون دوماً وراء رزقهم. وكأن ذلك الاحتياج سوط تشويق لهم يسوقهم ويحركهم ويجريهم وراء الرزق منتشلاً إياهم من الكسل والعطالة، وما ذلك إلاّ حكمة من حكم الشؤون الربانية. ولولا امثال هذه الحكمة من الحكم المهمة لكان سبحانه يجعل التعيينات المقننة للحيوانات تسعى اليها دون كدٍ وعناء ولحاجة فطرية كما جعل ارزاق النباتات تسعى اليها هكذا.
الشعاع السابع - ص: 222
ولو وجدت عين تستطيع رؤية انواع الجمال لاسم الرحيم وأوجه الحسن لاسم الرزاق وشهادتهما للوحدانية رؤية ً تامة بحيث تتمكن من الاحاطة كلياً بسطح الارض ومشاهدته في آن واحد، لكانت ترى مدى متعة الجمال ومدى لذة الحسن في تجلي شفقة الرزاق الرحيم ورأفته الذي يمدّ إمداداً غيبياً ويحسن احساناً رحمانياً قوافل الحيوانات التي كادت تنفد ارزاقها في اواخر الشتاء، بأطعمة ونِعم ٍفي منتهى اللذة ومنتهى الكثرة ومنتهى التنوع مودعة اياها في ايدي النباتات وموضوعة على هامات الاشجار ومعلقة في اثداء الوالدات ومرسلة لها من خزائن رحمة غيبية صرفة. وعند ذلك تدرك بأن الذي يصنع تفاحة واحدة - مثلاً - ويهبها رزقاً حقيقياً ، منعماً بها على شخص، لايمكن ان يكون الاّ الذي يدير كل المواسم والليالي والايام ويجعل الكرة الارضية كسفينة تجارية يبحر بها ويسيرها مستحصلاً بها محاصيل المواسم فيأتي بها الى ضيوفه المعوزين في الارض، ذلك لأن سكة الفطرة، وختم الحكمة، وطغراء الصمدية، وختم الرحمة، الموجودة على جبين تلك التفاحة الواحدة، موجودة كذلك على جبين تفاح الارض كلها وعلى سائر الاثمار والفواكه وعلى النباتات والحيوانات جميعها. لذا فان مالك تلك التفاحة الواحدة وصانعها الحقيقي هو مالك وصانع امثالها واشباه جنسها من سكنة الارض وهو مالك وصانع الارض الضخمة التي هي حديقتها، وهو بارئ شجرة الكائنات التي هي مصنعها. وهو موجد موسمها الذي هو معملها وهو باعث الربيع والصيف اللذين هما ميدان تربيتها ونموها، ذلكم المالك ذو الجلال والخالق ذو الجمال. لاشريك له ولا إله غيره.
فكل ثمرة اذاً هي ختم رائع واضح للوحدة، بحيث يعرّف كاتب وصانع شجرتها وهي الارض، ويعرّف كاتب وخالق حديقتها وهي كتاب الكون، ويبرز وحدته سبحانه، ويشير الى أن أمر الوحدانية قد ختم باختام تصديق عديدة بعدد الاثمار.
ولكون (رسائل النور) مظهراً لأسمي (الرحيم والحكيم) من الاسماء الحسنى ولبيان واثبات لمعات كثيرة لحقيقة الرحيمية وأسرارها الغزيرة في عدة اجزاء من أجزاء رسائل النور، نحيل اليها. وقد أكتفي بهذه الاشارة القصيرة الى تلك الخزينة الغنية الكبيرة نظراً لحالتي غير الملائمة.
* * *
الشعاع السابع - ص: 223
وهكذا فصاحبنا السائح يقول: الحمد لله! الذي وفقني لأسمع الحقائق الثلاث والثلاثين التي تشهد على وجوب وجود خالقي ومالكي وعلى وحدته، والذي ظللت أبحث عنه في كل مكان وأسأل عنه كل شئ. تلك الحقائق التي كل منها عبارة عن شمس مشرقة تبدد كل ظلام، وكل منها بقوة الجبل الراسخ المستقر، وكل منها بتحقيقاتها تشهد في غاية القطعية على وجوده سبحانه وتدل باحاطتها في غاية الجلاء على وحدته، وتثبت خلالها سائر الاركان الايمانية اثباتاً قوياً. وان إجماع مجموع الحقائق واتفاقها قد حولت ايماننا من التقليد الى التحقيق، ومن التحقيق الى علم اليقين، ومن علم اليقين الى عين اليقين، ومن عين اليقين الى حق اليقين، فالحمد لله.. هذا من فضل ربي.
(الحمد لله الذي هَدانا لهذا وما كُنا لِنَهتَديَّ لولا أن هدانا الله لقَدْ جاءت رُسُلُ رَبِّنا بالحق) (الاعراف: 43).
هذا وقد جاءت في الباب الثاني من المقام الاول إشارة قصيرة جداً الى الانوار الايمانية التي اكتسبها هذا السائح الباحث المشتاق في مشاهداته في المنزل الثالث من الحقائق الاربعة المعظمة:
[لا إله إلاّ الله الواحد الاحد الذي دلّ على وحدته فـي وجوب وجوده: مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الفتاحية، بفتح الصور لأربعمائة ألف نوع مـن ذوي الحياة المكملة بلا قصور، بشهادة فنِ النبات والحيوان.. وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الرحمانية الواسعة المنتظمة بلا نقصان بالمشاهدة والعيان.. وكذا مشاهدة عظمة حقيقة الادارة المحيطة لجميع ذوي الحياة والمنتظمة بلا خطأ ولا نقصان.. وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الرحيمية والاعاشة الشاملة لكل المرتزقين المقننة فـي كل وقت الحاجة بلاسهو ولا نسيان جل جلاله رَزًَّقهَا الرحمنُ الرحيمُ الحنـان المنان وعَمَّ نوالهُ وشَمِلَ اِحسانه ولا إله إلاّ هو].
(سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنَا إنك انت العليم الحكيم)
* * *
الشعاع السابع - ص: 224
ياربّ ِ
بحق بسم الله الرحمن الرحيم. ياالله يارحمن يارحيم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين بعدد جميع حروف رسائل النور المضروبة تلك الحروف في عاشرات دقائق جميع عمرنا في الدنيا والآخرة مع ضرب مجموعها في ذرات وجودي في مدة حياتي واغفر لي ولمن يعينني في نشر رسائل النور وكتابتها بصداقة بكل صلاة منها ولآبائنا ولساداتنا وشيوخنا ولإخواتنا واخواننا ولطلبة رسالة النور الصادقين وبالخاصة لمن يكتب ويستنسخ هذه الرسالة برحمتك يا ارحم الراحمين.. آمين.
(وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)
* * *
الشعاع السابع - ص: 225
"
مهمة رسائل النور"

استمعت في هذه الايام ضمن محاورة معنوية لسؤال وجواب، أبين لكم خلاصة منهما:
"
قال احدهم: ان التحشيدات العظيمة لرسائل النور وتسلّحها بتجهيزات كلية، وجهادها لاجل الايمان والتوحيد تزداد باطراد. وعلى الرغم من ان واحدة منها كافية لإلزام أعتى عنيد، فلِمَ توالي بهذه الدرجة من الحرارة والفعالية تحشيدات جديدة لذلك؟
قالوا جواباً له: ان رسائل النور لا تعمّر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتاً صغيراً مهدماً وحده، بل تعمّر ايضاً تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة محيطة عظيمة - صخورها كالجبال - تحتضن الاسلام وتحيط به. وهي لاتسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين وحده، بل تسعى ايضاً وبيدها اعجاز القرآن لمداواة القلب العام، وضماد الافكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئَت لها وحشدت متراكمة منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجّه نحو الفساد نتيجة تحطم الاسس الاسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع وبخاصة عوام المؤمنين. نعم انها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدوية إعجاز القرآن والايمان.
فامام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشقوق الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة واعتدة مجهّزة بدرجة حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجود أدوية مجرّبة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لاحدّ لها.
هذه هي مهمة رسائل النور النابعة من الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وفي الوقت الذي تقوم بها في هذا الزمان أتم قيام، فهي تحظى بكونها مدار انكشاف لمراتب غير محدودة للايمان ومصدر رقي في مدارجه السامية غير المتناهية".
وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة. فسمعتها كاملة، وشكرت الله كثيراً، أجملتها لكم.

سعيد النورسي
* * *
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس