الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #23
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الاشارة الرابعة عشرة

ومن انواع معجزاته e نوع عظيم، وهو الخوارق التي ظهرت بدعائه. فهذا النوع لاشك فيه ومتواتر تواتراً حقيقياً، وامثلتها وجزئياتها وفيرة جداً لا تحصر، وقد بلغ كثير من امثلتها درجة المتواتر، بل صارت مشهورة قريبة من التواتر، ومنها ما نقله ائمة عظام بحيث يفيد القطعية فيه كالمتواتر المشهور.

ونحن هنا نذكر على سبيل المثال بعضاً من امثلتها الكثيرة جداً التي هي قريبة من المتواتر، أو التي هي بدرجة المشهور، كما سنذكر جزئياتٍ من كل مثال:

المثال الاول:

T روى ائمة الحديث وفي مقدمتهم البخاري ومسلم ان دعاء النبي e للاستسقاء كان يستجاب في الحال، وحدث ذلك مراراً كثيرة، حتى انه كان يرفع يديه احياناً للاستسقاء وهو على المنبر، فيستجاب له قبل ان ينزل، وهذه الروايات ثابتة بلغت حد التواتر. وقد ذكرنا آنفاً: انه اصاب الناس عطش في السفر، فكان السحاب يتراكم في كل مرة يحتاجون الى الماء فيسقوا ثم يقلع.

T بل كان دعاؤه e يستجاب حتى قبل النبوة، فكان عبد المطلب جد النبيe يستسقى بوجهه الكريم في صباه، فكان المطر ينزل، وقد اشتهرت هذه الحادثة حتى ذكرها عبد المطلب في بعض اشعاره.

T ولقد استسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس عم النبي بعد وفاتهe فقال: ((اللّهم إنا كنا نتوسل اليك بنبينا فتسقينا وانّا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون))(1).

T وروى الشيخان ان الرسول e سئل ان يغيثهم الله بالمطر ((فدعا e في الاستسقاء فسقوا ثم شكوا اليه المطر فدعا فصحوا))(2).

المثال الثاني:

T وردت رواية مشهورة قريبة من التواتر انه e حينما كان المؤمنون قلة ويكتمون ايمانهم وعبادتهم ((دعا بعزّ الاسلام بعمر رضي الله عنه أو بابي جهل فاستجيب له في عمر)) اذ قال: ((اللّهم اعزّ الاسلام بابي جهل بن هشام او بعمر بن الخطاب، فأصبح فغدا عمر على رسول الله e فأسلم))(1) فكان سبباً لعزّ الاسلام ولذلك دُعي بالفاروق.

المثال الثالث:

ولقد دعا النبي الكريم e لبعض الصحابة لمقاصد شتى فاستجيب له استجابةً خارقة، حتى وصلت كرامة تلك الادعية درجة الاعجاز.

T من ذلك ما روى البخاري ومسلم وغيرهما أنه: ((دعا لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل))(2) فَسُمّي بعدُ الحبر وترجمان القرآن حتى كان عمر رضي الله عنه يأذن لابن عباس - مع حداثة سنّه - ان يجلس في مجلس اكابر الصحابة الاجلاء(3).

T وروى البخاري وغيره ((عن انس رضي الله عنه قال: قالت امي: يا رسول الله خادمك أنس ادعُ الله له. قال: اللّهم أكثر ماله وولَده وبارك له فيما آتيته، وفي رواية عكرمة قال انس: فوالله ان مالي لكثير وان وَلَدي وولد ولدى ليعادّون اليوم على نحو المائة. وفي رواية فما اعلم أحداً اصاب من رخاء العيش ما اصبتُ، ولقد دفنتُ بيديّ هاتين مائة من ولدي لا اقول سقطاً ولا ولد ولد))(1) وكان كل ذلك ببركة دعاء النبي e .

T وروى الامام البيهقي وغيره من ائمة الحديث انه e ((دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة)) وهو احد العشرة المبشرين بالجنة فاصاب مالاً وفيراً ببركة ذلك الدعاء حتى أنه ((تصدّق مرّةً بعَير فيها سبعمائة بَعير وَرَدَتْ عليه تحمل من كل شئ فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها واحلاسها))(2) فما شاء الله في هذه البركة وتبارك الله.

T وروى البخاري وغيره انه e دعا لعروة بن ابي الجعد بالبركة في تجارة له. فقال: ((فلقد كنت اقوم بالكناسة(3) فما أرجع حتى أربح أربعين الفاً. وقال البخاري في حديثه، فكان لو اشترى التراب ربح فيه))(4).

T ((ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئاً الاّ ربح فيه))(5) حتى اشتهر في زمانه بالثروة والمال بمثل ما اشتهر بالكرم والسخاء.

ولهذا النوع امثلة كثيرة جداً اوردنا هذه الاربعة على سبيل المثال.





T وروى الامام الترمذي: انه e دعا لسعد بن ابي وقاص فقال: اللّهم استجب لسعد اذا دعاك(1). فكان مستجاب الدعوة يرهب الناس من دعائه عليهم.

T ((وقال لابي قتادة: افلح وجهُك، اللّهم بارك له في شَعره وَبَشَره. فمات وهو ابن سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة))(2). وقد اشتهرت هذه الرواية الثابتة.

T وعندما أنشد الشاعر المشهور النابغة بين يديه e :

بَلَغنا السما في مجدنا وسَنائِنا وإنّا نريد فوق ذلك مظهراً

قال له الرسول e : الى اين يا أبا ليلى؟ قال: الى الجنة يا رسول الله.

ثم أنشد قصيدة اخرى تحمل معاني جليلة، فقال الرسول e : ((لا يَفْضُض الله فاك)) ((فما سقطت له سن، وكان احسن الناس ثغراً، اذا سقطت له سنٌ نبتت له اخرى. وعاش عشرين ومائة. وقيل اكثر من هذا))(3).

T وفي رواية صحيحة انه e دعا لعلي رضي الله عنه، فقال: اللّهم اكفه الحر والقر، فكان ببركة هذا الدعاء ((يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حرّ ولا برد))(4).

T ((ودعا لابنته فاطمة الاّ يجيعها الله. قالت: فما جعتُ بعد))(1).

T ((وسأله الطفيل بن عمرو آيةً لقومه، فقال: اللّهم نوِّر له. فسطع له نورٌ بين عينيه، فقال: يا رب اخاف ان يقولوا: مُثْلَة، فتحول الى طرف سوطه، فكان يضئ في الليلة المظلمة، فسمي ذا النور))(2).

فهذه الحوادث لا ريب في رواياتها قط.

T ((عن ابي هريرة قال: قلت: يا رسول الله انى اسمع منك حديثاً كثيراً أنساه. قال: ابسط رداءك فبسطتُه. قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيتُ شيئاً بعده))(3).

فهذه الحوادث من الاحاديث المشهورة.

المثال الرابع:

نبين عدة امثلة في صدد استجابة ادعيةٍ دعا بها النبي e على بعض من الناس.

T الأول: جاء الخبر الى النبي e بتمزيق ملك الفرس المسمى بَرْويز كتابَ النبيe فقال: اللّهم مَزّقه. فمُزِّق كلَّ ممزق اذ قتل شيرويه ابن الملك اباه بالخنجر، ومزَّق سعد بن ابي وقاص مُلكه ((فلم تبق له باقية ولا بقيت لفارس رياسة في اقطار الدنيا))(4) بينما ظل مُلك قيصر وسائر الملوك لاحترامهم كتب الرسول e اليهم.

T الثاني: ثبت بالحديث المشهور القريب من المتواتر - وبما ترمز اليه الآية الكريمة - انه اجتمع رؤساء قريش في المسجد الحرام وعاملوا النبي e معاملة سيئة فدعا عليهم، وسمّاهم. قال ابن مسعود: ((فلقد رأيتُهم قُتلوا يوم بدر))(1).

T الثالث: ودعا على مضر وهي قبيلة عظيمة، بما كذبته، ((فأُقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسُقوا))(2) هذه الرواية قريبة من التواتر.

المثال الخامس:

هو استجابة دعاء النبي e الذي دعا به على رجال معينين، نذكر على سبيل المثال ثلاثة من بين امثلته الكثيرة.

T الاول: دعا على عتبة بن ابي لهب، وقال: ((اللّهم سلّط عليه كلباً من كلابك))(3). فسافر عتبة بعد ذلك فجاء اسد يبحث عنه، فاخذه من بين القافلة وأكله. هذه الحادثة مشهورة نقلها ائمة الحديث وصححوها.

T الثاني: بعث الرسول e سرية وعلى رأسها عامر بن الأضبط ، وكان محلـِّم بن جثَّامة في معيته، فاغتاله محلـِّم غدراً، فلما جاء الخبر الى النبي e غضب وقال: اللّهم لا تغفر لمحلِّم، فمات محلـِّم بعد سبعة أيام. ((فلفظته الارض ثم وورى فلفظته مرات، فالقوه بين صُدِّين وضموا عليه بالحجارة - الصُّدُّ جانب الوادي))(1).

T الثالث: ((وقال لرجل رآه يأكل بشماله: كل بيمينك، قال: لا استطيع فقال: لا استطعت، فلم يرفعها الى فيه))(2).

المثال السادس:

سنذكر عدة خوارق ثابتة ثبوتاً قطعياً من تلك التي ظهرت بدعاء النبي e وبلمسه.

T الاول: ان النبي e اعطى شعرات من شعره الى خالد بن الوليد (سيف الله) ودعا له بالنصر، فوضعها خالد في قلنسوته ((فلم يشهد بها قتالاً الاّ رُزق النصر))(3).

T الثاني: ان سلمان الفارسي كان عبداً لليهود، فكاتبه ((مواليه على ثلاثمائة ودية يغرسها لهم كلها تَعْلَقُ وتُطعم وعلى اربعين اوقية من ذهب، فقام e وغرسها له بيده الاّ واحدةً غرسها غيره، فأخذت كلها الاّ تلك الواحدة فقلعها النبي e وردّها فأخذت - وفي كتاب البزار - فاطعم النخلُ من عامه الاّ الواحدة فقلعها رسول الله e وغرسها فاطعمت من عامها. واعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن ادارها على لسانه، فوزن منها لمواليه اربعين اُوقية وبقي عنده مثل ما اعطاهم))(4) هذه الحادثة هي من الخوارق المهمة التي مرت بحياة سلمان الفارسي رضي الله عنه، رواها الائمة الثقات.

T الثالث: ((كان لأم مالك الصحابية عكةٌ(1) تُهدي فيها للنبي e سمناً فأمرها النبي e أن لا تعصرها ثم دفعها اليها، فاذا هي مملوءة سمناً فيأتيها بنوها يسألونها الأدْمَ وليس عندهم شئ، فتعمد اليها، فتجد فيها سمناً، فكانت تقيم إدمَها حتى عصرتها))(2) فلم يجدوا فيها شيئاً بعد ذلك.

المثال السابع:

ان المياه المرة تتحول الى عذبة حلوة وتفوح منها رائحة طيبة ببركة دعاء النبيe ولمسه لها. نسوق بضعة امثلة فقط:

T الاول: روى البيهقي وائمة الحديث ان بئر ((قبا)) كانت تنزف في بعضالاحيان ((وسكب من فضل وضوئه في بئر قبا فما نَزَفَت بعد))(3).

T الثاني: روى ابو نعيم في دلائلالنبوة، ورجال الحديث. انه كان في دار أنس بئر فبزق e فيها ودعا ((فلم يكن في المدينة اعذب منها))(4).

T الثالث: روى ابن ماجه انه ((اُتي بدلو من ماء زمزم فمجّ فيه فصار اطيب من المسك))(5).

T الرابع: روى الامام احمد بن حنبل أنه e اُتي بدلو من بئر فمجّ فيه ثم افرغ فيها فصارت اطيب من المسك(6).

T الخامس: روى حماد بن سلمة وهو من الرجال الموثوقين الذين يروي عنهم الامام مسلم، أنه e ملأ ((سقاء ماء بعد أن أوكاه ودعا فيه)) وأعطاه لصحابة كرام وأمرهم ألاّ يحلّوه الاّ للوضوء. ((فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فحلّوه فاذا به لبن طيب وزبدة في فمه))(1).

هذه الامثلة الخمسة الجزئية مشهورة بعضها، وينقلها ائمة اعلام. فهذه والتي لم نذكرها هنا بمجموعها تحقق بالتواتر المعنوي هذه المعجزة تحققاً كاملاً.

المثال الثامن

الشياه التي درّ ضرعها باللبن ببركة دعاء النبي e ولمسه إياه بعد أن كان قد جفّ. هناك امثلة كثيرة جداً لهذا الاّ اننا نذكر ثلاثة منها مشهورة وثابتة.

T الاول: روت جميع كتب السير الموثوق بها أن الرسول الاكرم e لما هاجر ومعه ابو بكر الصديق مرّ على خباء عاتكة بنت خالد الخزاعي المدعوة بأم معبد، فنزل عندها وكان لها شاة عجفاء لا لبن فيها. فقال لها: أليس بها لبن؟ فقالت أم معبد: ليس فيها دم فمن اين اللبن؟. فمسّ e ظهرها ومسح ضرعها، ثم قال: ائتوا باناء واحلبوها، فحلبوها فشرب e هو وابو بكر الصديق وبقيت في الاناء بقية فشرب مَن كان في الخباء الى ان شبعوا جميعاً. وهكذا بقيت تلك الشاة مباركة قوية(2).

T الثاني: قصة شاة ابن مسعود رضي الله عنه وهي:

((عن ابن مسعود قال: كنت ارعى غنماً لعقبة بن ابي معيط، فمر بي رسول الله e وابو بكر، فقال: يا غلام هل من لبن؟ قال: قلت: نعم ولكني مؤتمن. قال: فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟. فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن فحلبه في اناء، فشرب وسقى ابا بكر…))(3) وكان هذا سبب اسلام ابن مسعود رضي الله عنه.

T الثالث: قصة ((غنم حليمة السعدية(1) مرضعته e ))، وهي قصة مشهورة حيث كان في تلك السنة قحطٌ اصاب أرض قومها، فكانت الأغنام عجافة، جافاً الضروع، لم ترع حتى الشبع. فلما اُرسل الرسول e الى حليمة السعدية صارت اغنامها تأتي المرعى وقد رعت كثيراً ودرّ لبنـها، وغــنم قومـها على خلاف ذلك. وما ذاك الاّ ببركته e .

وهـنـاك امثلة كثيرة اخرى في كتب السير، والـتـي اوردنـاها تكـفي ما نـحن بصدده.

المثال التاسع:

نذكر بضعة امثلة من الامثلة الكثيرة المشهورة للخوارق التي ظهرت عند مسح الرسول e رؤوس بعضهم ووجوههم بيده ودعائه لهم:

T الاول: ((مسح على رأس عُمير بن سعد وبرّك، فمات وهو ابن ثمانين، فما شاب))(1).

T الثاني: ((ومسح على رأس قيس بن زيد الجذامى ودعا له، فهلك وهو ابن مائة سنة، ورأسه أبيض وموضع كف النبي e وما مرّت يدُه عليه من شعره أسود، فكان يُدعى الأغر))(2).

T الثالث: ((ومسح رأس عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو صغير، وكان دميماً ودعا له بالبركة فَفَرَع الرجال طولاً وتماماً))(3).

T الرابع: ((سَلَت(4) الدم عن وجه عائذٍ بن عمرو وكان جُرحَ يوم حُنين ودعا له فكان له غرّة كغُرة الفرس))(5).

T الخامس: ((مسح وجه قتادة بن مِلحان فكان لوجهه بريقٌ حتى كان يُنظَر في وجهه كما يُنظَر في المرآة))(6).

T السادس: ((نضح في وجه زينب (وهي صغيرة) بنت ام سلمة نضحة من ماء)) كان يتوضأ به ((فما يُعرف كان في وجه امرأة من الجمال مابها))(7).

وهناك امثلة كثيرة كهذه الجزئيات التي اوردناها رواها ائمة الحديث فهي بمجموعها تفيد التواتر المعنوي وتبين وقوع المعجزة الاحمدية المطلقة. فحتى لو فرضنا كل واحد من هذه الامثلة خبراً آحادياً، وضعيفاً، فان مجموعها يكون بحكم المتواتر المعنوي، لانه لو نقلت حادثة ما في صور متباينة وروايات مختلفة، فهذا يعني ان الحادثة واقعة لا شك فيها الا ان رواياتها وصورها مختلفة او ضعيفة.

فمثلاً: اذا سُمع في مجلس دويّ، فقال بعضهم: انهدم بيت فلان، وقال آخر: انهدم بيت شخص آخر. وقال آخر: بيت فلان.. وهكذا فكل رواية من هذه الروايات مع انها آحادية وضعيفة أو مخالفة للواقع الا ان الحادثة الاصلية لاشك في وقوعها، وهي انهدام بيت. فالروايات بمجموعها تفيد قطعية وقوع الحادثة وهي متفقة في الاصل. بينما الامثلة الجزئية التي ذكرناها روايات صحيحة كلها، حتى أن بعضاً منها بلغ درجة المشهور. فلو فرضنا كلاً منها ضعيفة لكانت دلالة مجموعها ايضاً دلالة قطعية على وجود المعجزة الاحمدية مثلما دلت الروايات في المثال على انهدام بيت من البيوت .

وهكذا فكل نوع من انواع المعجزات الاحمدية الباهرة ثابت لا ريب فيه. وما جزئياتها الا نماذج وصور مختلفة لتلك المعجزة المطلقة.

وكما ان يده e واصابعه وريقه ونفثه واقواله - اي دعاءه - منشأ لكثيرمن المعجزات، فان جميع لطائفه الاخرى وحواسه واجهزته مدار لكثيرمن الخوارق ايضاً. وقد بينت كتب السيرة والتاريخ تلك الخوارق واوضحت كثيراً من دلائل النبوة التي هي في سيرته وصورته وجوارحه ومشاعره e .

الاشارة الخامسة عشرة

ان الحيوانات والأموات والجن والملائكة تعرف ذلك النبي الكريم e ، فتبرز كل طائفة منها بعضاً من معجزاتها تصديقاً لنبوته واعلاناً عنها مثلما أظهرتها الأحجار والاشجار والقمر والشمس، وبيّنت انها تعرف النبي e وتصدق نبوته.

هذه الاشارة الخامسة عشرة تتضمن ثلاث شعب:

الشعبة الاولى

هي معرفة جنس الحيوان للنبي e واظهاره معجزاته. لهذه الشعبة أمثلة كثيرة نذكر هنا بعض ما هو مشهور ومقطوع به بالتواتر المعنوي من الحوادث، أو ما هو مقبول لدى ائمة العلم، أو تلقته الأمة بالقبول.

الحادثة الاولى:

T حادثة الغار المشهورة الى حدّ التواتر المعنوي، وهي ان الرسول الاكرم e ، عندما تحصّن في الغار مع ابي بكر الصديق نجاةً من طلب قريش له، ((أمر الله حمامتين فوقفتا بفم الغار وفي حديث آخر؛ ان العنكبوت نسجت على بابه(1)))حتى ان اُبي بن خلف – وهو من صناديد قريش، وقد قتله الرسول الكريم e يوم بدر – حين طلب منه كفرة قريش دخول الغار، قال: ((ما أربُكم(2) فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى انه قبل ان يولد محمد)) ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش ((لو كان فيه أحد لم تكن الحمامتان ببابه والنبي e يسمع كلامهم، فانصرفوا))(1).

T ((وروى ابن وهب، ان حمام مكة، أظلّت النبي e ، يوم فتحها، فدعا لها بالبركة))(2).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان عندنا داجن(3)، فاذا كان عندنا رسول الله e قرّ وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب واذا خرج رسول الله e جاء وذهب))(4). اي ان ذلك الحمام كان يوقر النبي e فيهدأ ويسكن في حضوره.

الحادثة الثانية

T وهي قصة الذئب المشهورة، وقد رويت بطرق كثيرة حتى أخذت حكم التواتر، وقد نقلت هذه القصة العجيبة بطرق كثيرة عن مشاهير الصحابة الكرام رضي الله عنهم، منهم: أبو سعيد الخدري، وسلمة بن الاكوع، وابن ابي وهب، وأبو هريرة، وصاحب القصة: الراعي اُهبان.

فقد روى هؤلاء بطرق عديدة أنه:

((بينا راعٍ يرعى غنماً له، عرض الذئب لشاةٍ منها، فأخذها منه، فاقعى(5) الذئب، وقال للراعي: ألا تتقي الله، حُلْتَ بيني وبين رزقي، قال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الأنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدِّث الناس بأنباء ما سبق)) ((قد فتحت له ابواب الجنة)) ((ويدعوكم اليها)).

ومع ان كل الطرق مجمعةٌ على تكلم الذئب، الا ان اقواها هو الحديث الذي رواه ابو هريرة رضي الله عنه ففيه: ((قال الراعي: مَن لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل اليه غنمه ومضى، وذكر قصته، واسلامه، ووجودَه النبي e يقاتل))(1) فرجع فوجد الذئب راعياً أميناً، ولا نقص في الاغنام ((وذبح للذئب شاةً منها)) جزاء إرشاده له.

T وفي طريق آخر ((انه جرى لأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبياً فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجبُ من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم الى الجنة)) ((فقال ابو سفيان: واللات والعزّى لئن ذكرتَ هذا بمكة لتتركنها خلوفاً))(2)(3).

نحصل من هذا: ان قصة الذئب تورث قناعة واطمئناناً كالمتواتر المعنوي.

الحادثة الثالثة:

T هي قصة الجمل المروية بخمسة او ستة طرق عن مشاهير الصحابة: أبو هريرة، وثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن أبي أوفى، وأمثالهم، فهؤلاء جميعاً متفقون على ان: الجمل قد جاء النبي e وسجد بين يديه سجدة تعظيم واكرام وتكلـّم معه. ويخبرون بطرق اخرى؛ أن ذلك الجمل قد ثار في بستان ((وكان لا يدخل أحدٌ الحائط الاّ شدّ عليه الجمل، فلما دخل عليه النبي e دعاه فوضع مِشْفَره(1) على الارض وبَرك بين يديه فخطمه))(2).

((وفي خبر آخر في حديث الجمل ان النبي e سألهم عن شأنه فأخبروا انهم أرادوا ذبحه))(3).

((وفي رواية: انه شكى اليَّ أنكم أردتم ذبحه بعد ان استعملتموه في شاق العمل من صغره، فقالوا: نعم)).

T وأيضاً ان ناقة النبي e المسماة بالعضباء ((لم تأكل ولم تشرب بعد موته e حتى ماتت))(4) وذكر أبو اسحاق الاسفرائني ((من قصة العضباء وكلامها للنبي e )) في أمر مهم.

وثبت في الصحيح(5) ان جمل جابر بن عبد الله الأنصاري أعيى في سفر فلم يمكن له ان يدوم على المسير فنخسه النبي e نخسة خفيفة ((فنشط حتى كان لا يملك زمامه)) وذلك بما رأى من لطف معاملته e .

الحادثة الرابعة:

T روى البخاري وأئمة الحديث: ((لقد فزع أهل المدينة ليلةً فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله e راجعاً قد سَبَقَهم الى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرسٍ لأبي طلحة عُريٍ والسيف في عنقه وهو يقول: لن تُراعوا))(6)(7) وقال لأبي طلحة: وجدنا فرسك بحراً وكان به قطاف، أي يبطئ. فاصبح بعد تلك الليلة لا يجارى.

T وثبت برواية صحيحة انه ((قال لفرسه - عليه السلام - وقد قام الى الصلاة في بعض أسفاره: لا تبرح بارك الله فيك حتى نَفْرغَ من صلاتنا. وجعله قبلته، فما حرّك عضواً حتى صلّى e ))(1).

الحادثة الخامسة:

T هي ((تسخير الأسد لسفينة - مولى رسول الله e -(2) اذ وجهه الى مُعاذ باليمن فلقي الأسد فعرّفه: أنه مولى رسول الله e ومعه كتابَهُ فَهَمْهَمَ وتنحّى عن الطريق. وذكر في منصرفه مثل ذلك)) وفي رواية أخرى عنه: ان سفينة ضل الطريق في العودة فرأى الأسد، قال: ((جعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق)).

T ((وروى عن عمر ان رسول الله e كان في محفل من أصحابه اذ جاء اعرابي قد صاد ضباً، فقال: من هذا؟ قالوا: نبي الله، فقال واللات والعزّى لا آمنتُ بك أو يؤمن بك هذا الضب وطرحه بين يدي النبي e فقال النبي e له: يا ضب، فأجابه بلسان بيّن يسمعه القوم جميعاً: لبيك وسعديك…))(3) فآمن الأعرابي.

T ((وعن أم سلمة: كان النبي e في صحراء، فنادته ظبية: يا رسول الله)) الى آخر الحديث ((فخرجت تجري وهي تقول: اشهد ان لا اله الاّ الله وانك رسول الله))(1).

وهكذا فهناك امثال هذه النماذج كثيرة جداً. لم نبين الاّ ما اشتهر من الأمثلة القاطعة. فيا أيها الانسان ويا من لا يعرف هذا الرسول الكريم e ولا يطيعه، اعتبر! واسع لئلا تتردّى في ما هو أدنى من الذئب والاسد، فهذه الحيوانات تعرف الرسول الكريم وتطيعه.

الشعبة الثانية

هي معرفة الموتى والجن والملائكة الرسول الكريم e ، ولها وقائع كثيرة جداً سنذكر منها على سبيل المثال بضعة أمثلة مشهورة نقلها الأئمة الثقات.. سنذكر أولاً أمثلة الموتى، أما الجن والملائكة فأمثلتها متواترة وكثيرة جداً.

المثال الاول:

T روى الامام الحسن البصري ـ وهو امام علماء الظاهر والباطن(2) ومن اصدق تلاميذ الامام علي كرم الله وجهه في عهد التابعين: ((أتى رجل النبي e ، فذكر له أنه طرح بُنيَّةً له في وادي كذا)) فرقّ عليه رسول الله e ((فانَطلق معه الى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة أجيبي باذن الله تعالى، فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك: فقال لها:ان ابويك قد أسلما – فان أحببت – ان أردّك عليهما. قالت: لا حاجة لي فيهما، وجدتُ الله خيراً لي منهما))(3).

المثال الثاني:

T روى الامام البيهقي والامام ابن عَدي - مسنداً – ((عن أنس ان شاباً من الأنصار توفي، وله أمٌ عجوز عمياء - وهو وحيدها - فسجيناه، وعزّيناها، فقالت: ابني! قلنا: نعم. قالت: اللّهم ان كنتَ تعلم اني هاجرتُ اليك والى نبيك رجاء ان تعينني على كل شدة، فلا تحملن عليّ هذه المصيبة. فما برحنا ان كشف الثوبَ عن وجهه، فطعم وطعمنا))(1).

وقد أشار الى هذه الحادثة العجيبة الامام البوصيري في قصيدته ((بردة المديح)) قائلاً:

لــو ناسَبـَــتْ قَدْرَه آيــاته عِظــماً احيى اسمُه حين يُدعى دارس الرمم

الحادثة الثالثة:

T روى الامام البيهقي وغيره عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري: ((كنت فيمن دفن ثابت بن قيس، وكان قُتل في اليمامة، فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق وعمر الشهيد، عثمان البرُّ الرحيم. فنظرنا اليه فاذا هو ميت))(2) فأخبر عن استشهاد عمر قبل توليه الخلافة.

الحادثة الرابعة:

T ((ذكر عن النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خرّ ميتاً في بعض أزقة المدينة فرفع وسُجّي، اذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول: انصتوا انصتوا، فَحسر عن وجهه، فقال: محمد رسول الله...)).. ((ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم عاد ميتاً كما كان))(3).

فاذا كان الموتى الذين لا حياة لهم يصدّقون رسالته e فكيف إن لم يصدّقه من له حياة؟

T T T

أليس هؤلاء الأحياء الاشقياء هم أكثر فقداً للحياة من أولئك الموتى؟

اما خدمة الملائكة للنبي e وظهورهم له وايمان الجن به وطاعتهم له، فهو ثابت بالتواتر، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك في كثير من اياته الكريمة، وكانت خمسة آلاف من الملائكة طوع أمره - كالصحابة الكرام - في غزوة بدر كما ورد في القرآن الكريم، حتى ان اولئك الملائكة نالوا - بين الملائكة الآخرين - شرف الاشتراك في المعركة كما ناله اصحاب بدر(1).

في هذه المسألة جهتان:

الأولى: وجود الجن والملائكة وعلاقاتهم معنا. فهذا ثابت ثبوتاً قاطعاً كوجود الحيوان والانسان الذي لا يشك فيه أحد. وقد أثبتنا هذا بيقين جازم في ((الكلمة التاسعة والعشرين)) فنحيل الاثبات الى تلك الكلمة.

الجهة الثانية: هي رؤية افراد الأمة وتكلمهم مع الملائكة والجن بما حازوا من شرف الانتساب الى الرسول الكريم e واظهاراً لأثر من آثار معجزاته.

T فقد روى البخاري ومسلم وائمة الحديث بالاتفاق(2): ((عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله e ذات يوم اذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلس الى النبي e )).. فسأله عن الاسلام والايمان والاحسان وقد عرّف له الرسول e كلاً مما سأل. ((ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فانه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)).

T وثبت بروايات صحيحة مقطوع بها وفي درجة التواتر المعنوي يرويها أئمة الحديث: ان الصحابة كثيراً ما كانوا يرون جبريل عليه السلام عند النبي e في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه صاحب الحسن والجمال(3)، منهم عمر وابن عباس واسامة وحارث وعائشة الصديقة وأم سلمة رضي الله عنهم فيقولون: إنا نرى جبريل عند النبي e في صورة دحية الكلبي في كثير من الأحيان. أفيمكن ان يقول هؤلاء لشئ: نرى، وهم لم يروه؟!.

T وثبت باسناد صحيح عن سعد بن ابي وقاص – أحد المبشَّرين بالجنة وفاتح فارس – قال: اننا رأينا في غزوة اُحد ان الرسول e ((على يمينه ويساره جبريل وميكائيل في صورة رجلين عليهما ثياب بيض))(1) وهما على هىئة حارسين محافظين له. فاذا قال بطل من أبطال الأسلام مثل سعد: رأينا، فهل يمكن أن يحدث الخلاف؟.

T ثم ان أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب – ابن عم الرسول e - رأى يوم بدر ((رجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ(2) بين السماء والأرض))(3).

T ((وارى النبي e لحمزة جبريل في الكعبة فخرّ مغشياً عليه))(4).

فأمثلة رؤية الملائكة هذه كثيرة جداً، وجميع هذه الوقائع تظهر نوعاً من المعجزات الأحمدية وتدل على ان الملائكة تحوم كالفراش حول نور نبوته.

T T T

أما اللقاء مع الجن ومشاهدتهم، فيقع كثيراً جداً حتى مع عامة الناس، فكيف بالصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الاّ ان أئمة الحديث ينقلون الينا أصح الأخبار وأثبتها.

T ((رأى عبد الله بن مسعود الجن ليلة الجن - أي اهتدائهم - وسمع كلامهم وشبّههم برجال الزط))(5) وهم قوم من السودان طوال.

T ثم ان حادثة مشهورة ينقلها ويخرّجها أئمة الحديث ويقبلون بها وهي ((قتل خالد بن الوليد - عند هدمه العُزّى (1)- للسوداء التي خرجت له ناشرة شعرها عريانة فجزَلَها بسيفه واعْلَم النبي e فقال: تلك العزّى))(2)، فكان الناس يعبدونها وهي في صنم العزى. ولن تُعبد أبداً.

T ((وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: بينا نحن جلوس مع النبيe اذ أقبل شيخٌ بيده عصاً فسلّم على النبي e فردّ عليه. وقال e : نغمة الجن، مَن انت؟ قال: أنا هامه)). ((في حديث طويل وأن النبي e علّمه سوراً من القرآن))(3) فهذه الحادثة رغم انها انتقدت من قبل رجال الحديث(4) الاّ ان ائمة آخرين قد حكموا بصحتها... وعلى كل حال فلا نرى ضرورة في الاسهاب، فالامثلة في هذا الباب كثيرة جداً.

ونقول ايضاً:

ان الذين تنوروا بنور النبي e وتربوا بتعاليمه واقتفوا أثره وهم يربون على الألوف من أمثال الشيخ الكيلاني من الأولياء الأقطاب والعلماء الأصفياء قد التقوا الملائكة والجن وتكلموا معهم، فالروايات متواترة وموفورة وقطعية(5).

نعم ان لقاء الأمة المحمدية الملائكة والجن وتكلمهم معهم انما هو أثر من آثار التربية النبوية وهدايتها الخارقة.

الشعبة الثالثة

ان عصمة الله تعالى للرسول الكريم e وحفظه له من اذى الناس معجزة باهرة وحقيقة جلية نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: } والله يَعْصمُكَ مِن النّاس{ (المائدة: 67).

ففي هذه الآية الكريمة معجزات كثيرة. اذ لما أعلن الرسول الكريم e نبوته فانه لم يتحدَّ طائفة واحدة ولا قوماً ولا ساسة ولا حكاماً معينين ولا مجتمعه بل تحدى جميع السلاطين وجميع أهل الأديان، تحداهم جميعاً ولا عاصم له الا الله، وحتى عمه قد ناصبه العداء وقومه وقبيلته كانوا اعداء له، ومع هذا ظل ثلاثاً وعشرين سنة من غير حارس يحرسه، رغم تعرّضه لمخاطر ومهالك كثيرة، ولقد عصمه الله من الناس وحفظه حتى انتقل الى الملأ الأعلى باطمئنان كامل. مما يدلنا دلالة الشمس في وضح النهار مدى رصانة الحقيقة التي تنطوي عليها الآية الكريمة: } والله يَعْصِمُكَ مِنَ النّاس{ ومدى كونها نقطة استناد له e .

وسنذكر بضعاً من الحوادث التي هي ثابتة ثبوتاً قطعياً ونسوقها على سبيل المثال:

الحادثة الأولى:

T يروي أهل السيرة والحديث متفقين على انه: عندما اجتمعت قريش على قتله e جاءهم ابليس في هيئة شيخ ودلّهم على ان يؤخذ من كل قبيلة فتىً - لئلا يَقع النزاع بينهم - فسار ما يناهز مائتي رجل بقيادة أبي جهل وأبي لهب نحو بيت النبي e وكان عنده علي رضي الله عنه فأمره ان ينام على فراشه وانتظرهم الرسول e حتى أتت قريش وحاصروا البيت ((فخرج عليهم e من بيته فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله تعالى على أبصارهم وذرّ التراب على رؤوسهم، وخَلَصَ منهم))(1).

T وأيضاً ((حمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله من الآيات ومن العنكبوت الذي نسج عليه.. ووقفت حمامتان على فم الغار))(1).

الحادثة الثانية:

وهي قصة سراقة بن مالك(2) ((حين الهجرة، وقد جعلتْ قريش فيه - e - في ابي بكر الجعائل(3) فأنذر به، فركب فرسه واتبعه حتى اذا قرُب منه دعا عليه النبي e فساخت قوائم فرسه فخرّ عنها... ثم ركب ودنا حتى سمع قراءَة النبي e وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يلتفت وقال للنبي e أوتينا، فقال: لا تحزن ان الله معنا)) كما قاله في الغار ((فساخت ثانية الى ركبتيها وخرّ عنها فزجرها فنهضت ولقوائمها مثلُ الدخان، فناداهم بالأمان، فكتب له النبي e أماناً... وأمره النبي e ان لا يترك أحداً يلحق بهم. فانصرف)).

T ((وفي خبر آخر ان راعياً عرف خبرهما، فخرج يشتد يُعلمُ قريشاً فلما ورد مكة ضُرب على قلبه، فمايدري ما يصنع واُنسيَ ما خرج له حتى رجع الى موضعه))(4) ثم عرف انه قد اُنسي.

الحادثة الثالثة:

T يروي ائمة الحديث بطرق متعددة أنه في غزوة (غطفان) و (أنمار) اراد رئيس قبيلته وهو ((غورث بن الحارث المحاربي ان يفتك بالنبي e فلم يَشعرُ به -e الاّ وهو قائم على رأسه منتضياً سيفه فقال: اللـّهم اكفنيه بما شئت فانكب لوجهه من زُلـَّخةٍ زُلـَّخها بين كتفيه وندر(5) سيفه من يده))(6).

T وروى انه e أتاه أعرابي ((فاخترط سيفه ثم قال: مَن يمنعك مني؟ فقال: الله! فارتعدت يدُ الأعرابي وسقط سيفُه))(1) فأخذه النبي e وقال: ومن يمنعك الآن؟ ثم عفا عنه النبي e ((فرجع الى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد حكيت مثل هذه الحكاية أنها جرت له يوم بدر وقد انفرد من اصحابه لقضاء حاجته فتتبعه رجل من المنافقين، وذكر مثله)) انه رفع سيفه ليهوي به على رسول الله e واذا به ينظر اليه فيرتعد المنافق ويسقط السيف من يده.

الحادثة الرابعة:

T روى أئمة الحديث برواية مشهورة قريبة من التواتر، وذكر أكثر علماء التفسير؛ ان سبب نزول الآية الكريمة: } اِنّا جعلنا في أعناقِهِم أغلالاً فهي الى الأذقانِ فَهُم مُقمَحون ` وَجَعلنا من بين أيديهم سَداً ومَِن خَلْفِهم سَداً فأغشيناهم فهم لا يـبصِرون{ (يس8ـ 9) ان أبا جهل أقسم؛ لئن أرى محمداً ساجداً لأضربنّه بهذه الصخرة ((فجاءه بصخرةٍ وهو ساجد وقريش ينظرون، ليطرحها عليه فلزقت بيده ويبسَتْ يداه الى عنقه))(2) وبعد أن أتم الرسول e صلاته انصرف وانطلقت يد أبي جهل. إما بدعائه e أو لأنتفاء الحاجة.

T ان الوليد بن المغيرة ((اتى النبي e ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي e ، وسمع قوله فرجع الى اصحابه فلم يرهم حتى نادوه))(3) حتى اذا خرج الرسول e من المسجد عاد بصرُه، لانتفاء الحاجة.

T وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه: بعدما نزلت سورة } تَبّتْ يدا أبي لهب{ أتت ام جميل ، امرأة أبي لهب الملقبة بحمالة الحطب (( رسول الله e وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فِهر(1) من حجارة فلما وقفَتْ عليهما لم تر الاّ ابا بكر وأخذ الله تعالى ببصرها عن نبيه e فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني انه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه))(2).

نعم. لا ترى حطّابة جهنم - بلاشك - سلطاناً عظيماً كهذا الذي خصّه الله بالدرجة الرفيعة.

الحادثة الخامسة:

ثبت بالنقل الصحيح(3) ((خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس حين وفدا على النبي e ، وكان عامر قال له: أنا اُشغل عنك وجه محمد، فاضربه أنت، فلم يره فَعَلَ شيئاً، فلما كلَّمه في ذلك، قال له: والله ما هممتُ أن أضربه الاّ وجدتك بيني وبينه، أفاضربك؟)).

الحادثة السادسة:

T وثبت بالنقل الصحيح أيضاً ((ان شيبة بن عثمان الحجبي أدركه يوم حُنين)) أو اُحد ((وكان حمزة قد قَتَل أباه وعمه، فقال: اليوم أدرك ثأري من محمد، فلما اختلط الناس اتاه من خلفه ورفع سيفه ليصبَّه عليه. قال: وأحس بي النبي e فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق اليّ فما رفعها الاّ وهو أحبُّ الخلق اليّ. وقال لي:

ادنُ، فقاتِل، فتقدمتُ أمامه اضرب بسيفي وأقِيه بنفسي، ولو لقيتُ أبي تلك الساعة لأوقعتُ به دونه))(4).

T ((وعن فضالة بن عمرو قال: اردت قتل النبي e ، عام الفتح، وهو يطوف بالبيت، فلما دنوتُ منه قال: أفُضالة؟ قلت: نعم! قال: ما كنتَ تُحدِّث به نفسك؟. قلتُ: لاشئ. فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحبّ اليّ منه))(1).

الحادثة السابعة

T ثبت بالنقل الصحيح: ان اليهود تآمروا عليه عندما ((جلس الى جدار.. فانبعث احدهم ليطرح عليه رمىً فقام النبي e فانصرف))(2) فبطل ما كانوا يفعلون بحفظ الله.

وهناك حوادث كثيرة من أمثال هذه الحادثة. فيروي الأمام البخاري ومسلم وائمة الحديث ((عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي e يُحرس حتى نزلت هذه الآية } والله يعصمك من الناس{ فاخرج رسول الله e رأسه من القبة: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربي عزّوجل))(3).

T T T

هذه الرسالة توضح منذ البداية الى هنا:

ان كل نوع من أنواع هذه الكائنات، وكل عالم منها، يَعْرف النبي e وله معه رابطة وعلاقة. اذ تظهر معجزاته e من كل نوع من أنواع الكائنات، أي ان هذا النبي الكريم e رسول ومبعوث من قبل الله بوصفه رب العالمين وخالق الكون.

نعم! كما ان موظفاً مرموقاً ومفتشاً ذا منزلة عند السلطان تعرفه كلُ دائرة من دوائر الدولة، واذا ما دخل اياً منها سيلقى ترحاباً حاراً؛ لأنه مأمور من قِبَل السلطان الأعظم، اذ لو فرضنا أنه كان مفتشاً للعدل فحسب، فسوف ترحب به دوائر العدل فقط، ولا تعرفه جيداً الدوائر الأخرى، ولو كان مفتشاً عاماً للجيش فلا تعرفه الدوائر الرسمية الأخرى للدولة.. بينما يُفهم من الأمثلة السابقة ان جميع دوائر السلطنة الإلهية تعرفه e معرفةً جيدة أو يعرّفه الله لهم ابتداءً من الملائكة الى الذباب والعنكبوت. فهو بلا شك خاتم الانبياء ورسول رب العالمين، وان رسالته عامة للكائنات قاطبة لا تختص بأمة دون أمة كغيره من الأنبياء والمرسلين.

الاشارة السادسة عشرة

وهي الارهاصات: اي الخوارق التي ظهرت قبل النبوة، وتُعدّ من دلائل النبوة، لعلاقتها بها، وهي على ثلاثة اقسام:

القسم الاول

ما أخبرت به التوراة والانجيل والزبور وصحف الانبياء عليهم السلام عن نبوة محمد e وهو ثابت بنص القرآن الكريم.

نعم، فما دامت تلك الكتب كتباً سماوية، واصحابها هم انبياء كرام عليهم السلام، فلابد ان اخبارها عمن سيضئ بالنور الذي يأتيه نصف المعمورة، وينسخ الاديان الاخرى، ويغيّر ملامح الكون، اقول لابد ان ذكرها لهذه الذات المباركة ضروري وقطعي. أفيمكن لتلك الكتب التي لا تهمل حوادث جزئية الاّ تذكر اعظم حادثة في تاريخ البشرية تلك هي حادثة البعثة المحمدية؟ واذا كان لابد لها أن تبحث عنها وتذكرها، فهي إما ستكذّبها كي تصون دينها وكتابها من النسخ والتخريب، أو ستصدّقها، أي تصدق ذلك النبي الحق كي تحافظ على دينها وكتابها من تسرب الخرافات وتسلل التحريفات، ولما كان الاصدقاء والاعداء متفقين على عدم وجود اية امارة في تلك الكتب للتكذيب مهما كانت، فهناك اذاً امارات التصديق. فما دام التصديق قائماً بصورة مطلقة، وان هناك علة قاطعة، وسبباً اساساً يقتضي وجود هذا التصديق، فنحن بدورنا سنثبت ذلك التصديق بثلاث حجج قاطعة تدل على وجوده:

الحجة الاولى:

ان الرسول الاعظم e تلى عليهم آيات كريمة يتحداهم بها، وكأنه يقول لهم بلسان القرآن الكريم: ان كتبكم تصدّق ما تشتمل عليه شمائلي واوصافي وتصدّق ما ابلّغه للعالمين.

} قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين{ (آل عمران: 93) } فَقُل تعالوا ندعُ ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لَعْنَتَ الله على الكاذبين{ (آل عمران: 61).

ومع هذا التحدي الواضح لم يتقدم حبر من أحبار اليهود، ولا قس من قسس النصارى الى اظهار خلاف ما يقوله e . فلو كان هناك شئ مهما كان طفيفاً من هذا القبيل لأعلنه اولئك الكفار والمنافقون من اليهود ذوو العناد والحسد، وهم كثيرون في كل مكان وزمان.

فكان التحدي؛ إما ان يجدوا أيّ خلاف كان فيما يبلّغ من اوامر الله سبحانه، أو سيجاهدهم جهاداً لا هوادة فيه، وهم لعجزهم عن الأتيان بخلاف ما يبلّغ آثروا الحرب والدمار والهجرة، اي انهم لم يجدوا شيئاً كي يلزموه. ولو وجدوا خلاف قوله لكان اظهاره أهون عليهم من بذل النفوس والاموال وتخريب الديار.

الحجة الثانية:

لقد خالطت آيات التوراة والانجيل والزبور كلماتٌ غريبة عنها، لتوالي ترجماتها، والتباس كلام المفسرين وتأويلاتهم الخاطئة مع آياتها، حيث ان آياتها ليس فيها الاعجاز الذي في آيات القرآن الكريم، فضلاً عما قام به الجهلاء وذوو الاغراض السيئة من تحريفات في تلك الكتب، فزادت من تلك التحريفات والتغييرات حتى ان العلامة المشهور رحمة الله الهندي(1) ألزم الحجة علماء اليهود والنصارى باظهار الوف من التحريفات في الكتب السابقة.

ومع هذا القدر من التحريفات، فقد استخرج في هذا العصر العالم المشهور حسين الجسر - رحمه الله - مائة وعشرة أدلة على نبوته e من تلك الكتب واثبتها في كتابه المسمى بــ ((الرسالة الحميدية)) وقام المرحوم اسماعيل حقي المناسطري بترجمة الكتاب الى اللغة التركية، فمن اراد فليراجعه.

ثم ان كثيراً من علماء اليهود والنصارى قد أقروا: ان في كتبنا أوصاف النبي محمد e ، منهم هرقل من ملوك الروم الذي اعترف قائلاً: ((ان عيسى عليه السلام

قد بشّر بمحمد e )) كما اعترف صاحب مصر ((المقوقس، وابن صوريا، وابن أخطب واخوه كعب بن أسد والزبير بن باطيا وغيرهم من علماء اليهود)) ورؤسائهم قائلين: ((نعم، ان اوصافه موجودة في كتبنا، ومذكورة فيها)).

كما ان كثيراً من مشاهير علماء اليهود والنصارى قد نبذوا الخصومة والعناد وآمنوا بالاسلام بعدما رأوا أوصاف النبي e في كتبهم، وبيّنوها لغيرهم من العلماء، فألزموهم الحجة. منهم: عبد الله بن سلام، ووهب بن منبه، وابي ياسر، وشامول - صاحب تُبعّ - كما آمن تبّع قبل البعثة غياباً، وإبناسَعْية وهما أسيد وثعَلبة اللذان ناديا في قبيلة بني النضير منددَين بهم عندما حاربت الرسول e قائلَين: ((والله هو الذي عَهِد اليكم فيه ابن هَيْبان)). وابن هيْبان هذا هو الرجل العارف بالله الذي كان قد نزل ضيفاً على بني النضير قبل البعثة، وقال لهم: ((قريبٌ ظهور نبي هذا دار هجرته)) وتوفي هناك، الاّ ان قبيلة بني النضير لم تلق بالاً لهما، فأصابهم ما أصابهم.

كما آمن من علماء اليهود: ابن ياسين، ومخيريق، وكعب الاحبار، وامثالهم كثير ممن رأوا نعت الرسول e في كتبهم وألزموا الحجة من لم يؤمنوا.

وممن اسلم من علماء النصارى بحيراء الراهب - كما مرّ سابقاً - وذلك عندما ذهب e مع عمه ابي طالب الى الشام، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فصنع بحيرا طعاماً لقافلة قريش، اكراماً للنبي e ثم نظر واذا بالغمامة التي تظل القافلة باقية في مكانها، قال فالذي اريده اذاً ما زال باقياً هناك فارسل عليه من يأتي به، وقال لعمه ابي طالب: عُدْ به الى مكة، فاليهود حسّاد يكيدون له، فإنا نجد اوصافه في التوارة.

وقد آمن كل من نسطور الحبشة ومليكها النجاشي، لمّا رأيا اوصاف النبي e في كتابهم. واعلن العالم النصراني المشهور ضغاطر اوصافه e بين الروم، فاستشهد. وقد آمن ايضاً حارث بن ابي شمر الغساني - العالم النصراني المشهور - ورؤساء الروحانيين في الشام، وملوكها اي صاحب ايليا، وهرقل، وابن ناطور، وجارود، وامثالهم، لمّا رأوا اوصافه e في كتبهم. الاّ ان هرقل لم يعلن ايمانه حرصاً على الحكم والسلطة.

وامثال هؤلاء كثير مثل سلمان الفارسي الذي كان نصرانياً، وما ان رأى اوصافه e حتى أخذ يتحرى عنه ولما رآه أسلم. وكذلك تميم وهو عالم جليل، والنجاشي ملك الحبشة المشهور، ونصارى الحبشة، واساقفة نجران.. فهؤلاء كلهم يخبرون بالاتفاق: اننا آمنا لما رأينا اوصافه e في كتبنا.

الحجة الثالثة:

سنذكر على سبيل المثال فحسب، آيات من التوراة والأنجيل والزبور(1) التي تبشر بالرسول e .

الاول: هناك آية في الزبور ما معناه.

((الـّلـّهم ابعث لنا مقيم السنة بعد الفترة)) ومقيم السنة هو من اسمائه e .

وآية الأنجيل:

((قال المسيح اني ذاهب الى أبي وابيكم ليبعث فيكم الفارقليطا))(2) اي ليبعث فيكم أحمد.

وآية اخرى من الانجيل:

((واني اطلب من ربي فيعطيكم فارقليطاً يكون معكم الى الابد))(3).

والفارقليط: الفارق بين الحق والباطل، وهو اسم النبي e في تلك الكتب(4).

وآية التوراة:

((ان الله قال لأبراهيم. إنّ هاجر تلد ويكون من ولدها مَن يدُه فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة اليه بالخشوع))(1).

وآية اخرى في التوراة:

((وقال يا موسى اني مقيم لهم نبياً من بني اخوتهم مثلك وأجري قولي في فمه والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فانا انتقم منه))(2).

وآية ثالثة في التوراة:

((قال موسى: رب اني اجد في التوراة أمة هم خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فاجعلهم امتي، قال: تلك امة محمد)).

تنبيه:

لقد عبّرت الكتب عن اسم محمد e باسماء سريانية ضمن اسماء عبرية فمثلاً: (مشفَّح، مُنْحَمنا، حمياطا) وغيرها من الاسماء التي ترد بمعنى محمد في اللغة العربية. أما الاسم الصريح ((محمد)) e فلم يأت الاّ نادراً، وهذا قد حرّفه اليهود لحسدهم وعنادهم، منها آية الزبور:

((يا داود يأتي بعدك نبي يسمى احمد ومحمداً صادقاً سيداً، امته مرحومة)). وقد اعلن عن وجود هذه الآية الآتية في التوراة قبل ان تلعب فيها ايدي التحريف كثيراً، كلٌ من عبد الله بن عمرو بن العاص وهو احد العبادلة السبعة الذين لهم اطلاع واسع على الكتب السابقة، وعبد الله بن سلام وهو من مشاهير علماء اليهود الذي سبق أقرانه في الاسلام، وكعب الاحبار وهو من علماء اليهود. الآية تخاطب سيدنا موسى عليه السلام، ثم تتجه الى النبي الذي سيأتي:

((يا ايها النبي انا ارسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للاميين، أنت عبدي، سمّيتُك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الاسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، بل يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا اله الاّ الله))(3).

وآية اخرى من التوراة:

((محمد رسول الله مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام. وامته الحمّادون)) ولفظ ((محمد)) في هذه الآية قد ورد باسم سرياني يعني محمد.

وايضاً آية اخرى من التوراة:

((انت عبدي ورسولي سميتك المتوكل)). فهذه الآية تخاطب الذي سيبعث بعد موسى عليه السلام من بني اسماعيل الذين هم اخو بني اسحاق(1).

وآية اخرى من التوراة:

((عبدي المختار ليس بفظٍ ولا غليظ))(2) والمختار هو المصطفى وهو اسم من اسماء النبي e .

وقد جاءت تعاريف متنوعة تخص ((رئيس العالم)) الذي بُشّر به بعد عيسى عليه السلام في الانجيل، منها: ((معه قضيب من حديد يقاتل به وامته كذلك)) فقضيبٌ من حديد يعني السيف. اي سيأتي من هو صاحب السيف، وامته مأمورة بالجهاد، كما وصفهم القرآن الكريم في ختام سورة الفتح:

} وَمَثلُهم في الانجيل كَزَرعٍ أخَرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَه فاستَغْلظَ فاستوى على سُوقه يُعجِبُ الزُرّاعَ ليغيظَ بهم الكفّار{ (الفتح: 29)

وهناك آيات كثيرة اخرى مشابهة لهذه في الانجيل(3).

جاءت في الباب الثالث والثلاثين من الكتاب الخامس من التوراة هذه الآية:

((وقال: جاء الرب من سيناء واشرق لنا من ساعيرا ستعلن من جبل فاران ومعه الوف الاطهار في يمينه)).

فهذه الآية مثلما تخبر عن نبوة موسى عليه السلام باقبال الحق من طورسينا، فهي تخبر عن نبوة عيسى عليه السلام بــ ((اشرق لنا من ساعيرا)) وفي الوقت نفسه تخبر عن نبوة محمد e بظهور الحق من فاران التي هي جبال الحجاز بالاتفاق، فالآية تخبر بالضرورة عن نبوته e . أما ((ومعه الوف الأطهار في يمينه)) فهي تصدّق حكم الآية الكريمة في ختام سورة الفتح في: } ذلك مَثَلهُمْ في التوراة{ ... اذ تصف اصحابه e بالاطهار القديسين وهم الاولياء الصالحون.

وجاءت هذه الآية في الباب الثاني والاربعين من كتاب اشعيا:

((ان الحق سبحانه سيبعث صفيه في آخر الزمان وسيرسل اليه الروح الأمين وهو جبرائيل يعلّمه ثم بعد ذلك يعلم الناس كما علّمه جبرائيل، ويحكم بين الناس بالحق، وهو نورٌ سيُخرج الناس من الظلمات الى النور. وقد علمني ربي ما سيقع فاقول لكم)). فهذه الآية تبين بوضوح تام اوصاف الرسول e .

وفي الباب الرابع من كتاب النبي ميخائيل الآية الآتية:

((ستكون في آخر الزمان أمة مرحومة تعبد الحق وتوثر الجبل المقدس، ويجتمع اليها خلق كثير هناك من كل اقليم تعبد الرب ولا تشرك به)).

فهذه الآية تبين ((عَرَفة)) والخلق الكثير هم الحجاج الذين يقصدون ذلك الجبل المقدس ويعبدون الله، وان الامة المرحومة هي امة محمد، حيث ان هذا الوصف شعارهم.

وفي الباب الثاني والسبعين من الزبور هذه الآية:

((انه يملك من البحر الى البحر، ومن الانهار الى اقاصي الارض، وترده الهدايا من اليمن والجزائر، وتسجد له الملوك وتنقاد اليه، ويصلّى عليه كل وقت ويدعى له بالبركة كل يوم. وتشع انواره من المدينة، وسيدوم ذكره ابد الآباد، وان اسمه موجود قبل ان تخلق الشمس، وسيبقى اسمه ما بقيت الشمس)).

فهذه الآية صريحة في وصف النبي e ، فهل جاء بعد نبي الله داود عليه السلام نبيٌ غير محمد e الذي اعلن الدين شرقاً وغرباً، وجعل الملوك يعطون له الجزية صاغرين، وانقاد له الملوك والسلاطين انقياد خضوع ومحبة، وتوهب له الصلوات والادعية يومياً من خمس البشرية، وبزغت انواره من المدينة؟.. فهل هناك غيره؟.

والآية العشرون من الباب الرابع عشر من انجيل يوحنا (المترجم الى التركية) هي: ((لا اتكلم ايضاً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شئ او ليس له عندي مثيل))(1).

فعبارة سيد العالم هو فخر العالم، وهو عنوان مشهور لسيدنا الرسول e .

والآية السابعة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا:

((لكني اقول لكم الحق انه خير لكم ان انطلق، لأنه ان لم انطلق لا يأتيكم المعزّي))(1) فهل المسلّي بعد عيسى عليه السلام غير محمد e . فهو الذي ينقذ البشرية من حكم الزوال والاعدام الابدي فيسليها، وهو سيد العالمين وفخر الكائنات.

والآية الثامنة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا:

((ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة)) (اي يلزمهم على الخطيئة والصلاح والحكم) فالذي يبدل فساد العالم الى صلاح، وينقذ الناس من الآثام والخطايا والشرك، ويبدل اسس السياسة والحاكمية في الدنيا، من يكون غير محمد e ؟.

والآية الحادية عشرة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا: ((لقد جاء زمان قدوم سيد العالم)) أو ((وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِينْ)). فلابد ان المراد بسيد العالم(2) هو سيد البشرية محمد e .

والآية الثالثة عشرة من الباب الثاني من انجيل يوحنا: ((اذا جاء روح الحق ذاك، فهو الذي يرشدكم الحق كله، لأنه لا ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بالآتي من الامور)).

فهذه الآية صريحة في حق الرسول الكريم e . فمن غيره e دعا الناس جميعاً الى الحق؟ ومن غيره لا ينطق الاّ بالوحي، ويقول ما يسمعه من جبرائيل عليه السلام؟ ومن غيره يخبر عن احداث القيامة والآخرة إخباراً مفصلاً؟

ثم ان في صحف الانبياء اسماء للرسول e تفيد معنى ((محمد)) ((احمد)) ((المختار)) ((مصطفى)) وذلك باللغة السريانية والعبرية:

ففي صحف شعيب عليه السلام؛ هناك: (مشفّح) وهي بمعنى: ((محمد)) كما انه في التوراة اسم (منحمنّا) وهذا بمعنى اسم ((محمد)). كما جاء في الزبور (حمياطا) وهو بمعنى نبي الحرم. وفيه ايضاً (المختار)، وقد جاء في التوراة اسم (الحاتم، الخاتم)، وجاءت كلمة (مقيم السنة) في كل من التوراة والزبور. وفي صحف ابراهيم والتوراة: (مازماز). وفي التوراة ايضاً (أحيد).

وقد قال الرسول e :

((اسمى في القرآن محمد وفي الانجيل أحمد وفي التوراة اُحيد، وانما سميت اُحيِدَ لأني اُحيد عن امتي نار جهنم))(1) ومن الاسماء النبوية التي وردت في الانجيل ((صاحب القضيب والهراوة)) فلا شك انه اعظم نبي بين الانبياء بجهاده وجهاد امته. وكذلك: ((انه صاحب التاج)) فهذه الصفةخاصة به e اذ الامة العربية هم المعروفون بالعمامة والعقال بين الامم والتاج والعمامة بمعنى واحد. فصاحب التاج المذكور في الانجيل ليس الاّ الرسول e . وفيه كذلك: البارقليط أو الفارقليط، ومعناه كما جاء في تفسير الانجيل: انه الفارق بين الحق والباطل، وهو اسم النبيe الذي يدعو الناس الى الحق. وقد قال عيسى عليه السلام في الانجيل: ((ساذهب كي يجئ سيد العالم)) فهل غير محمد e قد جاء بعد عيسى عليه السلام، وترأس العالم وفرّق بين الحق والباطل، وارشد الناس الى الخير والصلاح. اي ان عيسى عليه السلام كان يبشّر دوماً انه سيأتي احدهم بعدي ولا تبقى الحاجة اليّ فانا مقدمة له. كما يصرح بذلك القرآن الكريم: } واذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل اني رسولُالله اليكُم مُصَدقاً لما بين يَديّ من التوراة ومبشّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمُه احمد{ (الصف: 6).

نعم ان عيسى عليه السلام قد بشّر أمته كثيراً بانه سيجئ سيد العالم(2) ورئيسه ويذكره باسماء مختلفة سواء بالسريانية أو العبرية. فالعلماء المحققون يرون ان هذه الاسماء تعني: أحمد، محمد، الفارق بين الحق والباطل.

سؤال: لِمَ بشّر عيسى عليه السلام بقدوم النبي e اكثر من غيره من الانبياء عليهم السلام بينما اكتفى الآخرون بالاخبار عنه فقط؟

الجواب: لأن الرسول الكريم e قد انقذ عيسى عليه السلام من تكذيب اليهود ومن افتراءاتهم الشنيعة، وانقذ دينه من تحريفات فظيعة، فضلاً عن انه اتى بشريعة سمحاء بدلاً من تلك الشريعة التي ارهقت بني اسرائيل الذين لا يؤمنون بعيسى عليه السلام فهذه الشريعة الغراء جامعة للاحكام مكملة لما هو ناقص في شريعة عيسى عليه السلام. ومن هنا تأتي بشارة عيسى عليه السلام بالرسول الكريم e بأنه سيأتي رئيس العالم..

T T T

وهكذا نرى كيف ان التوراة والانجيل والزبور وسائر صحف الانبياء قد اعتنت بنبي آخر الزمان وتضم آيات كثيرة نعوته، كما بينا نماذج منها. فهو مذكور باسماء ونعوت مختلفة في تلك الكتب. تُرى من يكون نبي آخر الزمان الذي ذكرته جميع كتب الانبياء ذكراً جاداً الى هذا الحد، في آيات مكررة منها، غير محمد e !

القسم الثاني

من الارهاصات ودلائل النبوة هو: اخبار الكهان والاولياء العارفين بالله في عهد ((الفترة)) (اي قبل البعثة النبوية) عن مجيئه e فقد اعلنوا عنه امام الملأ، وتركوا اخبارهم لنا في اشعارهم. هذه الاخبارات كثيرة جداً، فلا نذكر منها الاّ ما هو منتشر ومشهور ومقبول لدى رجال السير والتأريخ.

الاول: ما رآه الملك تُبعّ - من ملوك اليمن - من أوصاف الرسول e في الكتب القديمة، وآمن. واعلن ذلك شعراً:

شــهدتُ عــلى أحـمــد أنه رسولٌ من الله باري النَسَم

فلو مُدَّ عمري الى عمره لكنــتُ وزيـراً له وابــن عــم

اي كنت له كعلي رضي الله عنه.

الثاني: اعلان قس بن ساعدة الشهير بابلغ خطباء العرب والموحـِّد، عن الرسالة الأحمدية شعراً قبل البعثة بالابيات الاتية

ارسـل فيـنا أحمـد خير نـبـي قـد بُعـث

صلى عليه الله ما عجّ له ركبٌ وحُث

الثالث: ما قاله كعب بن لؤي وهو أحد أجداد النبي e . فأُلهم هذا البيت عن الرسالة الأحمدية.

على غفلةٍ يأتي النبي محمد فيخبر اخباراً صدوقاً خبيرها

الرابع: ما رآه سيف بن ذي يزن احد ملوك اليمن في الكتب السابقة من اوصاف الرسول e ، وآمن به واشتاق اليه، وعندما ذهب جدّ النبي e الى اليمن مع قافلة قريش دعاهم الملك سيف بن ذي يزن وقال لهم:

اذا ولد بتهامة (اي: الحجاز) ولدٌ بين كتفيه شامةٌ كانت له الامامة وانك عبدالمطلب لجدّه.

الخامس: عندما نزل الوحي لأول مرة على الرسول الكريم e أخذه الخوف والروع، فانطلقت به خديجة حتى اتت ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة) فقالت: ياابن عم اسمع من ابن اخيك. فقال له ورقة: يا ابن اخي ماذا ترى؟ فاخبره رسول الله e ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ياليتني فيها جدعاً، ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك…(1)

ومما قاله ورقة: بشّر يا محمد إنّي أشهد أنّك أنت النبي المنتظر وبَشَّر بكَ عيسى.

السادس: لما رأى عثكلان الحميري العارف بالله قريشاً قبل البعثة قال لهم: هل فيكم من يدّعي النبوة؟ فأجابوه: لا، ثم سأل السؤال نفسه زمن البعثة، فقالوا: نعم، اِن فينا من يدّعي النبوة، فقال: ان العالم ينتظره.

السابع: اخبر احد علماء النصارى وهو ابن العلا عن النبي e قبل البعثة، ثم جاء بعد البعثة فرأى النبي e وقال له: والذي بعثك بالحق لقد وجدتُ صفتك في الانجيل وبشّر بك ابن البتول.

الثامن: قال النجاشي ملك الحبشة الذي سبق ذكره: ليتَ لي خِدْمَتُه بدلاً عن هذه السلطنة.

T T T

وبعد ما ذكرنا ما تنبأ به هؤلاء العارفون بالهام من الله عن مجئ الرسول e نورد ما قاله الكهان وتنباؤا به من أخبار الغيب بوساطة الارواح والجن، فقد صرّحوا بمجئ النبي e وتنبأوا عن نبوته وهم كثيرون، الاّ اننا سوف لا نذكر الاّ ما هو في حكم المتواتر ومذكور في كتب السيرة والتأريخ ونحيل قصصهم المطولة واقوالهم المسهبة الى كتب السيرة. فلا نذكر هنا الاّ الخلاصة.

الاول: الكاهن الموسوم بــ ((شِق)) الذي كان شق انسان يداً واحدة ورجلاً واحدة وعيناً واحدة. أخبر هذا الكاهن عن النبي e مراراً حتى وصلت اقواله حدّ التواتر.

الثاني: كاهن الشام المسمى بــ ((سطيح)) الذي كان اعجوبة من العجائب حيث كان جسداً لا جوارح له ولا عظم فيه الاّ الرأس ووجهه في صدره، وقد عاش كثيراً، اشتهرت اخباره الغيبية الصادقة كثيراً حتى ان كسرى ملك فارس عندما رأى الرؤيا العجيبة التي هالته - زمن ولادة الرسول e - من انشقاق شرفات ايوانه الأربعة عشرة وسقوطها، بعث عالماً اسمه ((مويزان)) ليسأل سطيحاً عن حكمة هذه الرؤيا، فأرسل الى كسرى كلاماً بهذا المعنى: ((سيحكم فيكم اربعة عشر ملكاً ثم ستُمحى سلطتكم وتُزال دولتكم، وسيأتي من يظهر ديناً جديداً، فيكون سبباً في زوال دينكم ودولتكم)). وهكذا اخبر سطيح خبراً صريحاً عن مجئ نبي آخر الزمان.

وقد اخبر سواد بن قارب الدوسي، وخنافر وأفعى نجران (من ملوكها)، وجذل بن جذل الكندي، وابن خلصة الدوسي، وفاطمة بنت النعمان النجارية وامثالهم من الكهان المشهورين. قد اخبروا جميعاً عن مجئ نبي آخر الزمان وانه محمد e كما ذكرته كتب التاريخ والسيرة مفصلاً.

وان سعد بن بنت كريز وهو من اقارب عثمان رضي الله عنه قد تلقى بطريق الكهانة خبر نبوة محمد e من الغيب، فأشار الى عثمان رضي الله عنه بالايمان في اول ظهور الاسلام قائلاً: انطلق الى محمد وآمن، فآمن عثمان واورده سعد شعراً:

هدى الله عثمان بقولي الى التي بها رُشْدُه والله يَهدِي الى الحق

T T T

واخبرت الهواتف ايضاً كما اخبر الكهان عن مجئ الرسول e . والهاتف هو الصوت العالي الذي يُسمَع ممن لا يُرى شخصه.

منها: سماع ذياب بن الحارث هاتفاً من جني، واصبح سبباً لأسلامه واسلام غيره:

يـا ذيـاب يـا ذياب اسمع العَجَب العُجاب

بُعث محمدٌ بالكتاب يدعو بمكة فلا يُجاب

ومنها: سماع ابن قرة الغطفاني هاتفاً يقول:

جـاء الـحق فـسَطع ودُمـِّر باطـلٌ فانقمع

فكان سبباً في ايمان بعض الناس.

وهكذا فبشارة الكهان والهواتف مشهورة وكثيرة جداً.

T T T

وقد سُمع من جوف الاصنام وذبائح النُصب خبر مجئ النبي e كما سمع من الكهان والهواتف.

منها: ان صنم قبيلة مازن اخبر عن الرسالة الاحمدية اذ نادى فقال: هذا النبي المرسَل جاء بالحق المنزَل.

وكذلك فان سبب اسلام عباس بن مرداس هذه الحادثة المشهورة: انه كان له صنم يسمى بـ ((ضمار)) فقال ذلك الصنم يوماً(1).

اودى ضمار وكان يُعبد قبل البيان من النبي محمد

وقد سمع عمر رضي الله عنه قبل اسلامه صوتاً من عجل قرَّبَه رجلٌ ليذبحه قرباناً لصنم يقول:

يا آل الذبيح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا اله إلاّ الله(2).

وهكذا فهناك حوادث مشابهة كثيرة جداً امثال ما ذكرناه قد نقلته الكتب الموثوقة في السيرة والتاريخ.

T T T

وكما ان الكهان والعارفين بالله والهواتف حتى الاصنام والذبائح اخبروا عن الرسالة الأحمدية، واصبح كل حادث سبباً لاسلام قسم من الناس كذلك بعض الاحجار وشواهد القبور وجدت عليها عبارات بالخط القديم ((محمد مصلح أمين)) وقد آمن لسبب ذلك قسم من الناس.

نعم ان عبارة ((محمد مصلح أمين)) حريَّة بالنبي e اذ هو المتصف بالمصلح الامين ولأنه لم يكن قبل ذلك من يتسمى باسم محمد سوى رجال وهم غير حريين بهذا الاسم.

القسم الثالث من الارهاصات

هو الآيات والحوادث التي ظهرت عند مولده e ، فالحوادث التي يرتبط ظهورها بمولده والتي حدثت قبل البعثة يُعدّ كل منها معجزة من معجزاته وهي كثيرة جداً، الاّ اننا سنورد هنا امثلة مشهورة قبلها ائمة الحديث. وثبتت لديهم صحتها.

الأول: ما رأته امه(1) e ((من النور الذي خرج معه عند ولادته)) ورأته ام عثمان بن العاص وام عبد الرحمن بن عوف اللتان باتتا عندها ليلة الولادة. فقد قلن: رأينا نوراً حين الولادة اضاء لنا ما بين المشرق والمغرب...

الثاني: انتكاس معظم الاصنام التي كانت في الكعبة.

الثالث: ((ارتجاج ايوان كسرى وسقوط شرفاته)) الاربعة عشرة.

الرابع: ((غيض بحيرة)) ساوة تلك الليلة وهي التي كانت تقدَّس . ((وخمود نار فارس وكان لها الف عام لم تخْمد))(1) حيث كانت توقد في اصطخراباد ويعبدها المجوس.

فهذه الحوادث الاربعة انما هي اشارات الى أن ذلك المولود الجديد سيحظر عبادة الاصنام وسيدمّر سلطنة فارس، وسيحرم تقديس مالا يأذن به الله.

الخامس: حادثة الفيل: وهي مع انها ليست من حوادث تلك الليلة الاّ انها قريبة الحدوث للولادة، لذا فهي من الارهاصات ايضاً، وقد بينّها القرآن الكريم في قوله تعالى. } ألَمْ تَر كَيفَ فعَلَ ربُّك باصحاب الفيل{ ... الآية. وخلاصة قصتها: ان أبرهة ملك الحبشة اراد هدم الكعبة، فساق امام الجيش فيلاً عظيماً يقال له: محمود، فلما وصل الفيل قرب مكة بَرَك ولم يمض مهما حاولوا معه، فلما عجزوا عادوا، الاّ أن طيور أبابيل لم تتركهم سالمين فرمتهم بحجارة من سجيل واذلتهم فانهزموا شر هزيمة. هذه القصة مشهورة في كتب التاريخ وهي من علائم نبوته e حيث نَجتْ قِبلَتُه واحبّ موطن اليه، الكعبة، من دمار ابرهة نجاة خارقة للعادة.

السادس: اظلال الله له بالغمام في سفره ((وقد روى أن حليمة - السعدية - رأت غمامة تظله وهو عندها))(2) في صباه وشهدها زوجها، فأخبر الناس بذلك فاصبحت حادثة معروفة مشهورة.

((كما رأى الغمام بحيرا الراهب وأراه الناس لما سافر للشام مع عمه وهو في الثانية عشرة من عمره))(3).

((وفي رواية ان خديجة ونساءها رأينه لما قدم)) e من سفره من الشام. ((وملكان يظلانه - كالغمام - فذكرت ذلك لميْسرة)) غلام خديجة ((فأخبرها انه رأى ذلك منذ خرج معه في سفره))(1).

السابع: وثبت بالنقل الصحيح(2) ((انه نزل في بعض اسفاره قبل البعثة تحت شجرة يابسة فاعشوشب ما حولها واينعت هي فأشرقت)) اي نمت وعلت ((وتدلت عليه اغصانها)).

الثامن: ((وانه كان اذا أكل مع عمه ابي طالب وآله وهو صغير شبعوا ورووا واذا غاب، فأكلوا في غيبته لم يشبعوا))(3) وهذه حادثة مشهورة وصحيحة.

وقد قالت أم ايمن - مولاة رسول الله e وحاضنته: ((ما رأيته e شكى جوعاً ولا عطشاً صغيراً ولا كبيراً))(4).

التاسع: البركة التي حصلت في غنم وجمال مرضعته حليمة السعدية خلافاً للقوم. وهذه حادثة مشهورة ولا ريب في صحتها(5).

و ((ان الذباب كان لا يقع على جسده ولا ثيابه))(6) وما كان يؤذيه. ولقد ورث الشيخ عبد القادر الكيلاني (قدس سره) هذا عن جدّه الاعظم e ، اذ كان لا يقع عليه الذباب ايضاً.

العاشر: كثرة الرجم بالشهب السماوية بعد مجئ النبي e للدنيا، ولا سيما ليلة مولده.

ولقد أثبتنا سقوط الشهب السماوية ورجم الشياطين في ((الكلمة الخامسة عشرة))، وبيّنا أن المراد من سقوط الشهب السماوية هو الاشارة الى قطع رصد الشياطين والجن عن السماء ومنعهم من استراق السمع.فما دام الرسول e قد برز بالوحي الى العالم اجمع لزم اذاً ان تمنع اقوال الكهان ومن يتكلم عن الغيب من اقوال الجن الملفقة بالكذب وخلاف الواقع حتى لا يلتبس الوحيُ بغيره ولا تكون هناك اية شبهة كانت في امر الوحي. فلقد كانت الكهانة كثيرة جداً قبل النبوة، ولكن بعد نزول القرآن الكريم حظرت بتاتاً، حتى أن كثيرين منهم آمنوا، لأنهم لم يجدوا مخبريهم من الجن ليتنبأوا لهم الاخبار الغيبية. فسدَّ القرآن الكريم اذاً الطريق عليهم. ولقد ظهر نوع من الكهانة السابقة في اوربا في الوقت الحاضر لدى الوسائط الذين يريدون تحضير الارواح... وعلى كل حال...

الحاصل: لقد ظهرت حوادث كثيرة وأشخاص كثيرون لتأييد نبوة محمد e قبل بعثته.

نعم! ان الذي سيكون سيد العالم(1) معنىً، والذي سيبدل ملامح العالم المعنوية، والذي سيحول الدنيا مزرعة للآخرة، والذي سيعلن عن علو منزلة المخلوقات ونفاستها، والذي سيهدي الجن والانس الى الرشد وطريق السعادة، وينقذهم - وهم الفانون - من العدم المطلق، والذي سيحلّ حكمة الخلق واللغز المحيّر للعالم، والذي سيعلم ويعلّم مقاصد رب العالمين، والذي سيعرف ويعرّف ذلك الخالق العظيم... ان انساناً كهذا لابد ان يكون كل شئ، وكل نوع، وكل طائفة من المخلوقات، مشتاقاً الى مجيئه وسيرقبه بلهفة، ويستعد احتفاءً بمقدمه العظيم، بل سيبشر الاخرين بقدومه - اذا ما أعلمه خالقُه بذلك - كما رأينا مصداق ذلك في الاشارات والامثلة السابقة من ان كل نوع من المخلوقات قد اظهر معجزاته بما يشبه الترحيب به، وكأنه يقول بلسان المعجزة: انت صادق في دعوتك.

الاشارة السابعة عشرة

ان أعظم معجزة للرسول الكريم e بعد القرآن الكريم هو ذاته المباركة، اي ما اجتمع فيه e من الاخلاق السامية والخصال الفاضلة، وقد اتفق الاعداء والاولياء على انه اعلى الناس قدراً واعظمهم محلاً واكملهم محاسن وفضلاً. حتى ان بطل الشجاعة الامام علي رضي e عنه يقول: ((انا كنا اذا حمي البأس - ويروى اشتد البأس - واحمرّت الحدق اتقينا برسول الله e ))... وهكذا كان e في ذروة ما لا يرقى اليها احد غيره من كل خصلة حميدة كما هو في الشجاعة.

نحيل هذه المعجزة الكبرى الى كتاب ((الشفا في حقوق المصطفى)) للقاضي عياض المغربي، فقد اجاد فيه حقاً وفي بيانها ايّما اجادة، واثبتها في اجمل تفصيل.

T T T

ثم ان الشريعة الغراء التي لم يأت ولا يأتي مثلها هي معجزة اخرى عظيمة للرسول الكريم e حتى اتفق الاعداء والاصدقاء عليها..

نحيل تفصيل هذه المعجزة وبيانها الى جميع ما كتبناه من ((الكلمات)) الثلاث والثلاثين، و((المكاتيب)) الثلاثة والثلاثين و((اللمعات)) الاحدى والثلاثين و((الشعاعات)) الثلاثة عشر.

ثم المعجزة العظمى.. تلك هي معجزة ((انشقاق القمر)) التي رويت روايات متواترة وهي ثابتة ثبوتاً قاطعاً لا تقترب منها شبهة. فقد رويت بطرق عديدة وبصورة متواترة عن: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، والامام علي، وانس، وحذيفة، وامثالهم كثير من الصحابة الاجلاء رضوان الله تعالى عليهم اجمعين. فضلاً عن تأييد القرآن الكريم واعلانه تلك المعجزة في: } اقتربت الساعةُ وانشقّ القمر{ بل لم يسع كفار قريش وهم اهل عناد وتعنت ان ينكروا هذه المعجزة، ولكنهم قالوا: ((انه سحر)) اي ان انشقاق القمر أمر ثابت مقطوع به حتى من قبل الكفار انفسهم الا انهم أوّلوا الحادثة بأنها سحر.

نحيل الى رسالة انشقاق القمر التي هي ذيل ((رسالة المعراج)).

T T T

ثم ان الرسول الكريم e اظهر المعجزة العظمى معجزة ((المعراج)) لأهل السماء كما اظهر لأهل الارض معجزة ((انشقاق القمر)). فنحيل الى رسالة ((المعراج)) وهي الكلمة الحادية والثلاثون، التي اثبتت صدق تلك المعجزة واظهرتها بوضوح، الاّ اننا سنذكر هنا ما هو مقدمةٌ لتلك المعجزة وهي سفره e الى بيت المقدس، وطلب قريش منه وصف بيت المقدس صبيحة المعراج، وما حصل في هذا السفر من معجزة ايضاً.

فعندما اخبر الرسول الكريم صبيحة ليلة المعراج عن سفره، كذّبته قريش وقالوا : ان كنت حقاً قد ذهبت الى بيت المقدس فصف لنا ابوابه وجدرانه واحواله.

قال الرسول الكريم e : ((فكربتُ كرباً ما كربتُ مثله قط، فرفعه الله لي انظر اليه))(1) اي رُفع له بيت المقدس وبدأ يصفه وهو ينظر اليه، فتيقنتْ قريش من الخبر ((وقالوا: متى تجئ)) اي القافلة التي رآها الرسول في الطريق، ((قال يوم الاربعاء. فلما كان ذلك اليوم اشرفت قريش ينتظرون وقد ولّى النهار، ولم تجئ: فدعا رسول الله e ، فزيد له في النهار ساعة وحبست الشمس))(2).

فانت ترى ان الارض تعطّل وظيفتها ساعة من نهار تصديقاً لخبره e ، وتشهد على صدقه الشمس الضخمة.. ترى ما اشقاه ذلك الذي لا يصدق كلام هذا النبي الكريم e الذي عطلت الارض وظيفتها وحبست الشمس نفسها تصديقاً لكلامه. وما اسعد اولئك الذين نالوا شرف امتثال اوامره e ... تأمل في هذا وقل:

الحمد لله على الايمان والاسلام.

الاشارة الثامنة عشرة

ان اعظم معجزة من معجزات الرسول الأكرم e هو القرآن الكريم؛ الذي يضم مئات دلائل النبوة، وقد ثبت اعجازه بأربعين وجهاً كما في الكلمة الخامسة والعشرين، لذا سنحيل بيان هذا الكنز العظيم للمعجزات الى تلك الكلمة، ونكتفي هنا ببيان ثلاث نكات دقيقة.



النكتة الاولى

سؤال:

ان قيل: ان سر اعجاز القرآن الكريم انما هو في بلاغته الفائقة، بينما لا يرقى إلا واحد من الألف من علماء البلاغة الفطاحل الى ادراك هذا السر، مع أنه كان ينبغي ان تكون لكل طبقة من طبقات الناس حظها من هذا الاعجاز؟

الجواب:

ان للقرآن الكريم اعجازاً لكل طبقة من طبقات الناس، الاّ انه يُشعر اعجازه هذا بأسلوب معين وبنمط خاص.

فمثلاً؛ يبيّن اعجازه الباهر في البلاغة (( لأهل البلاغة والفصاحة)).

ومثلاً؛ يبين اسلوبه الرفيع الجميل الفريد ((لأرباب الشعر والخطابة)). هذا الأسلوب مع أنه تستسيغه كل طبقة من الناس الاّ ان أحداً لا يجرأ على تقليده، فلا تخلقه كثرة الرد ولا يبليه مرور الزمان، فهو اسلوب غض طري يحتفظ بفتوته وشبابه ونضارته دائماً، وهو اسلوب يحمل من النثر المنظوم والنظم المنثور ما يجعله رفيعاً عالياً ولذيذاً ممتعاً في الوقت نفسه.

ثم انه يبين اعجازه فيما يخبر من أنباء معجزة عن الغيب فيتحدى به طبقة الكهان ((والذين يدّعون انهم يخبرون اشياء عن الغيب)).

ثم انه يقصّ ((لأهل التاريخ)) والذين يتتبعون أحداث العالم من العلماء ما يشعرهم اعجازه، وذلك بذكره أحداث الأمم الغابرة وأحوالها، وما سيحدث في المستقبل من وقائع، سواء في الحياة الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة، فيتحداهم باعجازه الرائع هذا.

ويعرض ايضاً اعجازه ((لعلماء الإجتماع والسياسة والحكم)) وذلك بعرض ما في الدساتير القرآنية المقدسة من اعجاز.. نعم! ان الشريعة الغراء المنبثقة من القرآن الكريم تظهر اظهاراً تاماً سر ذلك الأعجاز.

ويبين كذلك لأولئك الذين توغلوا في ((المعارف الإلهية والحقائق الكونية)) اعجازاً باهراً في سوقه الحقائق الإلهية السامية المقدسة، أو يشعرهم بوجود هذا الاعجاز.

ولأولئك الذين يسلكون ((طرق الولاية والتصوف)) يبين القرآن الكريم اعجازه لهم بكنوز الأسرار التي ينطوي عليها بحر آياته الزاخرة.

وهكذا تُفتح امام كل طبقة من الطبقات الأربعين للناس نافذة مطلة الى الاعجاز الباهر. بل انه يبين اعجازه حتى لأولئك الذين لا يملكون سوى قدرة الاستماع من دون ان يقدروا على التوغل في الفهم من ((عوام الناس)). فنراهم يصدِّقون اعجازه ويشعرون به بمجرد سماعهم له، اذ يحاور ذلك العامي نفسه ويقول: ((ان اسلوب هذا القرآن يختلف تماماً عن اساليب الكتب الاخرى، فإما أنه في مستوى من الاسلوب هو أدنى منها وهذا محال - بل لم يتفوه به ألد الأعداء وأهل الخصومة - أو هو اسلوب أرقى من الجميع، أي انه معجز)).

فالعامي الذي لا يستطيع الاّ الاستماع، يفهم الاعجاز على هذه الشاكلة، ولأجل ان نساعده شيئاً في ادراكه هذا نوضح ما يلي:

لقد اثار القرآن الكريم لدى الناس من أول ما برز الى ميدان التحدي رغبتين شديدتين:

أولاهما:

رغبة التقليد لدى أوليائه، اي حبّهم الشديد بالتشبه باسلوبه الرفيع، فاشتاقوا الى تشبيه اسلوبهم به.

ثانيتها:

الرغبة في المعارضة والنقد التي تولدت لدى الأعداء والخصماء، أي اتيان اسلوب مثله لدحض دعوى الاعجاز.

فهاتان الرغبتان الشديدتان سببتا ظهور ملايين الكتب العربية الماثلة أمامنا، ولكن لو قارنا أبلغ هذه الكتب وأوضحها قاطبة بالقرآن الكريم، أي لو قرأناهما معاً لقال كل سامع وقارئ بلا تردد، ان القرآن لا يشبه أياً من هذه الأساليب، فهو اذاً ليس بمستوى تلك الكتب، فإما أنه أدنى اسلوباً من الجميع، وهذا محال بلا أدنى ريب، ولم يتفوه به أحد قط بل حتى الشيطان يعجز عن أن يتفوه بهذا(1)، فثبت اذاً ان اسلوب القرآن الكريم فوق الجميع وذلك باعجازه الرائع.

بل ان ((العامي الجاهل)) الذي لا يفهم شيئاً من معاني القرآن الكريم يشعر باعجاز القرآن من عدم سأمه في التلاوة. فيحاور ذلك العامي الجاهل قائلاً: ان الاستمرار على تلاوة هذا القرآن لا يولد السأم قط، بل تزيد كثرة تلاوته حلاوتَه، بينما لو أستمعت الى قصائد جميلة رائعة لمرات عدة فاني اشعر بالملل، لذا فالقرآن ليس بكلام بشر بلا شك.

ثم ان ((الاطفال)) الذين يرغبون في حفظ القرآن الكريم، يظهر لهم اعجازه في قدرتهم على حفظه في عقولهم اللطيفة الصغيرة، على الرغم من وجود مواضع متشابهة تلتبس عليهم، فتراهم يحفظون القرآن الكريم بكل سهولة ويسر بينما يعجزون عن حفظ صحيفة واحدة من غيره.

بل حتى ((المرضى والمحتضرين)) في سكرات الموت ممن يتألمون بأدنى كلام، تراهم يستمعون الى القرآن الكريم وتنزل آياته على اسماعهم كأنه السلسبيل، وبهذا يشعرون باعجازه.

نحصل مما سبق: ان القرآن الكريم لا يدع أحداً محروماً من تذوق اعجازه، فلكل طبقة من أربعين طبقة من الطبقات المتباينة للناس لهم حظهم من هذا الاعجاز أو يشعرهم القرآن باعجازه، حتى انه بيّن نوعاً من اعجازه لأولئك الذين ليس لهم نصيب من العلم ولا يملكون ((سوى الرؤية))(2) من دون القدرة على الاستماع أو الفهم أو الادراك القلبي. وذلك كالاتي:

ان كلمات المصحف المطبوع بخط (الحافظ عثمان) تتقابل وينظر بعضها الى بعض.

فمثلاً: ان كلمة } وثامنُهم كلبُهم{ التي هي في سورة الكهف تناظر كلمة } قطمير{ التي هي في سورة فاطر، فلو ثُقبت الصفحات ابتداءً من الكلمة الأولى لتبينت الكلمة الثانية بانحراف يسير ولَفُهِم اسمُ الكلب.

وكذا كلمة } مُحـضَرون{ المكررة مرتين في سورة يس نرى أحداهما فوق الأخرى. وهما يقابلان كلمة } محضَرونَ{ ، (محضَرينَ) التي في سورة الصافات، فاذا ما ثقبت احداها لظهرت من خلال الصفحات الكلمة نفسها مع انحراف قليل.

وكذا كلمة } مثنى{ التي في آخر سورة سبأ تنظر الى الكلمة نفسها التي هي في مستهل سورة فاطر ، ففي القرآن تتكرر كلمة } مثنى{ ثلاث مرات، وتناظر أثنتين منها ليس موضع المصادفة قطعاً.

ولهذا النوع من التناظر والتقابل أمثلة كثيرة جداً في المصحف الشريف حتى ان الكلمة الواحدة تتكرر في ما يقرب من ست مواضع، فاذا اُوصل بينها بثقب لتراءت الأخريات بانحرافٍ يسير.

ولقد شاهدتُ مصحفاً خُطَّت الجمل المتناظرة في كل صحائفه المتقابلة بخط أحمر، فقلت آنذاك: ((هذه الأوضاع انما هي أمارات لنوع من الاعجاز))، ثم بعد ذلك أخذتُ انظر الى جمل القرآن الكريم فرأيت أن كثيراً منها تتناظر من خلال الصفحات تناظراً ينم عن معنى دقيق.

ولما كان ترتيب القرآن المتداول توقيفياً بارشاد من الرسول e ، وقد خطَّه خطاطون مُلهَمون، فان في نقشه البديع وفي خطه الجميل اشارة الى نوع من علامات الاعجاز، وذلك لأن هذا الوضع لا يمكن أن يكون مصادفة ولا نابعاً من نتاج فكر انسان. فلولا قصور الطبع لطابقت الكلمات المتناظرة مطابقة تامة.

ثم اننا نرى ان في السور المدنية المطولة والمتوسطة تكراراً بديعاً منسقاً للفظ الجلالة (الله)، فهو في الغالب يتكرر باعداد معينة، اما خمس أو ست أو سبع أو ثمان او تسع مرات أو احدى عشرة مرة فضلاً عن انه يبين مناسبة عددية لطيفة على وجهي ورقة المصحف والمتقابلتين(1)(2)(3)(4).
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس