الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #24
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

النكتة الثانية
كان السحر رائجاً في عهد موسى عليه السلام، فجاءت معجزاته العظيمة بما يشبه السحر، وكان الطب رائجاً في عهد عيسى عليه السلام فجرت اغلب معجزاته من هذا الجنس، كما كانت هناك اربعة اشياء رائجة في الجزيرة العربية زمن بعثة الرسول e :
اولاها: البلاغة والفصاحة.
ثانيتها: الشعر والخطابة.
ثالثتها: الكهانة والانباء عن الغيب.
رابعتها: معرفة الحوادث الماضية والوقائع الكونية.
وجاء القرآن الكريم يتحدّى أرباب هذه المعارف الاربعة.
فجثا البلغاء والفصحاء اولاً مبهوتين أمام بلاغته المعجزة، منصتين اليه في حيرة واعجاب.
وجعل الشعراء والخطباء في ذهول من امرهم، حتى انه حطّ من شأن ما كانوا يعتزون به من ((المعلقات السبع)) التي تمثل افضل نماذج شعرهم، بل كتبوها بماء الذهب وعلقّوها على جدار الكعبة.
وأفقد الكهان والسحرة صوابهم وأنساهم ما كانوا يتكلمون به من انباء الغيب، حيث طرّد جِنَّهم وأسدل الستار على الكهانة وسد ابوابها الى الأبد.
وانقذ قراء تاريخ الامم السالفة وحوادث العالم مما يطرأ عليها من الخرافات والافتراءات والاكاذيب، وارشدهم الى احداث الماضي ووقائع الكون النيرة.
وهكذا جثت على الركب هذه الطبقات الاربعة أمام عظمة القرآن الكريم، والحيرة والاجلال يغمرهم، فشرعوا يتتلمذون على يديه، ويتلقون منه الهداية والرشاد، فلم يظهر قط ان استطاع احدٌ من هؤلاء على القيام بمعارضة القرآن بشئ مهما كان ، ولو بسورة واحدة.
o وان قيل:
كيف نعرف انه لم يبرز احدٌ في ميدان المعارضة، ولم يتمكن احد من الإتيان بمثل القرآن، وكيف نعرف ان إتيان النظير بحد ذاته امرٌ مستحيل؟.
الجواب: لو كانت المعارضة ممكنة، فلا محالة كانوا يحاولونها. وما كان أحد يتوانى في هذا الأمر، اذ الحاجة الى المعارضة كانت ماسة، وذلك للنجاة من خطر التحدي لانقاذ دينهم واموالهم وانفسهم واهليهم؛ لذا لو كانت المعارضة ممكنة لما احجم احدٌ عنها ابداً، ولكان الكفار والمنافقون - وهم الأغلبية - يشيعون خبرها في الاوساط، بل يبثونها في الارجاء كافة مثلما كانوا يبثون كل ما يعادي الاسلام.. ثم لو كانوا ناشرين لها - فيما لو كان الاعتراض ممكناً - لكان المؤرخون يسجلونها في كتبهم العديدة. ولكن ها هو التاريخ وكتبه كلها امامنا، لا نرى فيها شيئاً من معارضة القرآن سوى فقرات تقوّلها مسيلمة الكذاب. علماً ان القرآن الكريم قد تحداهم طوال ثلاث وعشرين سنة، وقرع اسماعهم بآياته المعجزات، وعلى هذا النمط من التحدي:
ها هو القرآن الكريم امامكم، فأتوا بمثله من ((اميّ)) كمحمد الأمين!.
فان كنتم عاجزين عن هذا، فليكن ذلك الشخص ((عالماً)) عظيماً، وليس اميّاً!
وان كنتم عاجزين عن هذا ايضاً، فأتوا بمثله ((مجتمعين)) وليس من فرد واحد! فلتجتمع عليه علماؤكم وبلغاؤكم، وليعاون بعضهم بعضاً، بل ادعوا شهداءكم من دون الله، فليأتوا بمثله.
وان كنتم عاجزين عن كل هذا، فأتوا ((بالكتب السابقة)) البليغة جميعها واستعينوا بها في المعارضة، بل ادعوا ((الاجيال)) المقبلة ايضاً!
وان كنتم عاجزين ايضاً، فليكن المثل ((بعشر سورٍ)) فحسب، وليس ضرورياً ان يكون بالقرآن كله.
وان كنتم عاجزين كذلك فليكن كلاماً بليغاً مثل بلاغة القرآن، ولو كان من ((الحكايات المفتريات)).
وان كنتم عاجزين كذلك فأتوا ((بسورة واحدة)) ولتكن سورة قصيرة...
وان كنتم عاجزين كذلك:
فاديانكم وانفسكم اذن مهددة بالخطر في الدنيا كما هي في الآخرة.
وهكذا تحدى القرآن الكريم بثماني تحديات طبقات الانس والجن، ولم يحصر تحديه في ثلاث وعشرين سنة بل استمر الى الألف وثلاثمائة سنة بل لا يزال يتحدى العالم وسيبقى هكذا الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولهذا فلو كانت المعارضة ممكنة لما اختار اولئك الكفار طريق الحرب والدمار ويلقون أنفسهم واموالهم واهليهم الى التهلكة ويَدَعون طريق المعارضة القصيرة السهلة. اذن فالمعارضة غير ممكنة وليست في طوق البشر. اذ هل يمكن لعاقل فطن - ولا سيما اهل الجزيرة العربية ولا سيما قريش الاذكياء - ان يعرّض نفسه وماله واهله للخطر ويختار طريق الحرب والدمار ان كان باستطاعته سلوك طريق المعارضة ولو بسورة من القرآن من اديب منهم، فينقذ نفسه وماله من التحدي القرآني، ان كان إتيان مثله سهلاً ميسوراً؟
وحاصل الكلام: ما قاله الجاحظ: لمّا لم يمكن المعارضة بالحروف اضطروا الى المقارعة بالسيوف.
o فإن قيل:
لقد قال بعض العلماء المحققين: ((لا يمكن معارضة أية آية من آيات القرآن الكريم ولا جملة منها ولا كلمة منها، فكيف بالسورة؟ ولم يبرز أحد في ميدان المعارضة. أي لم يعارض القرآن اذن)). ونرى ان في هذا الكلام مجازفة ومبالغة لا يقبلها العقل، لأن هناك كثير من الجمل في كلام البشر يشبه جمل القرآن وعباراته. اذن فما معنى هذا القول، وما حكمته؟
الجواب:
هناك مذهبان في بيان اعجاز القرآن:
المذهب الأول: وهو الغالب والراجح وهو مذهب الاكثرية من العلماء وهو ان لطائف بلاغة القرآن ومزايا معانيه هي فوق طاقة البشر.
اما المذهب الثاني: وهو المرجوح فهو ان معارضة سورة واحدة من القرآن ضمن طاقة البشر، إلاّ أن الله سبحانه قد منعها عن الخلق، ليكون القرآن معجزة الرسول e ، ويمكن ان يوضح هذا بمثال:
ان قيام الانسان وقعوده ضمن قدرته ونطاق استطاعته، فاِن قال نبيٌ كريم لشخصٍ ما: لا استطعتَ من القيام، اظهاراً للمعجزة، ولم يستطع الشخص من القيام فعلاً، فقد وقعت المعجزة.
يطلق على هذا المذهب المرجوح: مذهب الصَرفة. اي أن الله سبحانه هو الذي صرف الجن والانس عن القدرة على المعارضة، فلو لم يصرفهم الله سبحانه عن الاتيان بالمثل لكان الجن والانس بمقدورهم الاتيان بمثله.
وهكذا فالعلماء الذين يقولون وفق هذا المذهب: ((لا يمكن معارضة القرآن حتى بكلمة واحدة)) هو كلام حق لا مراء فيه؛ لأن الله سبحانه قد منعهم عن ذلك اظهاراً للاعجاز، فلا يستطيعون اذن ان يتفوهوا بشئ للمعارضة، ولو ارادوا قول شئ ما للمعارضة فلا يقدرون عليه من غير ارادة الله ومشيئته.
أما بالنسبة للمذهب الاول وهو الراجح والذي ارتضاه معظم العلماء، فلهم فيه وجه دقيق:
ان كلمات القرآن الكريم وجُمله ينظر بعضها الى البعض الآخر، فتتواجه وتتناظر الكلمات والجمل، فقد تكون كلمة واحدة متوجهة الى عشرة مواضع، وعندها تجد فيها عشر نكات بلاغية، وعشر علاقات تربطها مع الكلمات الاخرى، وقد ذكرنا هذه العلاقات في تفسيرنا ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) سواء في سورة الفاتحة أم في مقدمة سورة البقرة. } الم ` ذلك الكتاب لا ريب فيه{ .
ولنوضح ذلك بمثال:
لو تصورنا قصراً عظيماً جدرانُه منقشة بنقوش بديعة، ومزيّنة بزخارف رائعة، فإنّ وضعَ حجرٍ يحمل العقدة الاساس لتلك الزخارف والنقوش في موضعه اللائق به - بحيث يرتبطمعها جميعاً ويشرف عليها جميعاً - يحتاج الى معرفة كاملة بتلك النقوش جميعها وبتلك الزخارف التي تملأ جدران القصر.
ومثال آخر؛ نأخذه من جسم الانسان: ان وضع بؤبؤ عين الانسان في موضعه اللائق يتوقف على معرفة علاقة العين بالجسم كله، ومعرفة مدى علاقة وارتباط بؤبؤ العين بكل جزء من اجزاء الجسم وبوظيفته.
فقس على هذين المثالين لتعلم كيف بيّن السابقون من اهل الحقيقة ما في كلمات القرآن من الوجوه العديدة والعلاقات والاواصر والارتباطات التي تربطها مع سائر جمله وآياته. ولا سيما علماء علم حروف القرآن، فقد اوغلوا كثيراً في هذا الموضوع، واثبتوا بدلائل: أن في كل حرف من القرآن الكريم اسراراً دقيقة تَسَع صحيفة كاملة من البيان والتوضيح.
نعم، ما دام القرآن الكريم كلام رب العالمين وخالق كل شئ، فكل كلمة من كلماته اذن بمثابة نواة، اي يمكن ان تكون تلك الكلمة نواة تنبت منها شجرة معنوية من الاسرار والمعاني، أو بمثابة قلب تتجسد حوله المعاني والاسرار.
لذلك نقول:
نعم، ان في كلام البشر ما يشبه كلمات القرآن وجمله وآياته، اِلاّ أن تلك الآية الكريمة أو الكلمة والجملة القرآنية قد وضعت في موضعها الملائم لها بحيث روعي في وضعها كثيرٌ جداً من الارتباطات والعلاقات مما يلزم علماً محيطاً كلياً كي يضعها في ذلك الموقع اللائق به.
النكتة الثالثة
لقد انعم الله سبحانه وتعالى عليّ يوماً تفكراً حقيقياً حول مجمل ماهية القرآن الحكيم فادوّن ذلك التفكر كما ورد للقلب - باللغة العربية - ثم اورد معناه.
سبحانَ مَن شَهِدَ على وحدانيتِه وصرَّح بأوصافِ جمالِه وجلالِه وكمالِه: القرآنُ الحكيمُ، المنوَّرُ جهاته الستُّ، الحاوي لسرّ اجماع كلِّ كتب الانبياء والاولياء والموحِّدين المختلفين في الاعصار والمشارب والمسالك، المتفقين بقلوبهم وعقولهم على تصديق اساسات القرآن وكلّيات احكامه على وجه الأجمال، وهو محضٌ الوحي باجماع المُنزلِ والمنزَل والمنزَّل عليه، وعينُ الهداية بالبداهة، ومعدنُ انوار الايمان بالضرورة، ومجمعُ الحقائق باليقين، وموصِلٌ الى السعادة بالعيان، وذو الاثمار الكاملين بالمشاهدة، ومقبولُ المَلَك والأنسِ والجان بالحدس الصادق من تفاريق الامارات، والمؤيَّدُ بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين، والمصدَّقُ من جهة الفطرة السليمة بشهادة اطمئنان الوجدان، والمعجزةُ الابدية الباقي وجهُ اعجازه على مرّ الزمان بالمشاهدة، والمنبسطُ دائرةُ ارشاده من الملأ الأعلى الى مكتب الصبيان، يستفيد من عَين درسٍ الملائكةُ مع الصّبيين، وكذا هو ذو البصر المطلقِ يرى الاشياء بكمال الوضوح والظهور ويحيط بها ويقلـّبُ العالَمَ في يده ويعرِّفُه لنا كما يُقلـِّب صانعُ الساعةِ الساعةَ في كفّه ويعرّفُ للناس. فهذا القرآنُ العظيمُ الشأن هو الذي يقول مكررَّاً: } الله لا اِله الاّ هو{ } فاعلم أنه لا اِله الاّ الله{ .
أما معنى هذا التفكر فكما يأتي:
ان الجهات الست للقرآن الكريم منوّرة وضّاءة لا تدنو منها الشبهات والاوهام، لأن:
من ورائه العرش الاعظم، يستند اليه، فهناك نور الوحي.
وبين يديه سعادة الدارين، يستهدفها، فقد امتدت ارتباطاته وعلاقته بالأبد والآخرة فهناك نور الجنة ونور السعادة.
ومن فوقه تتلألأ آية الاعجاز وتسطع طغراؤه.
ومن تحته اعمدة البراهين الرصينة والدلائل الدامغة، ففيها الهداية المحضة.
وعن يمينه يقف استنطاق العقول وتصديقها، لكثرة ما فيه ((أفلا يعقلون)).
وعن يساره استشهاد الوجدان حتى ينطق من اعجابه: ((تبارك الله)) بما ينفخ من نفحات روحية للقلب.
فمن اين يمكن يا ترى أن تتسلل اليها الاوهام والشبهات؟
فالقرآن الكريم جامع لسّر اجماع كتب الانبياء والاولياء والموحدين قاطبة، رغم اختلاف عصورهم ومشاربهم ومسالكهم. اي أن جميع ارباب العقول السليمة والقلوب المطمئنة يصدّقون مجمل احكام القرآن الكريم واساس ما يدعو اليه، حيث يذكرونه في كتبهم. فهم اذن بمثابة اصول شجرة القرآن السماوية.
ثم ان القرآن الكريم يستند الى الوحي الإلهي، بل هو وحي محض، لأن الله سبحانه الذي أنزله على قلب محمد e يبينه بمعجزات رسوله الكريم وحياً محضاً. والقرآن النازل من عند الله يبين باعجازه الظاهر انه من العرش الاعظم. وان اطوار المنزل عليه وهو الرسول الكريم e واضطرابه في اول نزول الوحي، واثناء نزوله، وما يظهره من توقير وتبجيل اكثر من كل ما عداه، يبين انه وحي خالص ينزل عليه ضيفاً من الملك الأزلي.
ثم ان ذلك القرآن العظيم وحي محض بالبداهة، لأن خلافه ضلالة وكفر.
ثم انه بالضرورة معدن الانوار الايمانية، فليس خلاف الانوار الاّ الظلمات الدامسة. وقد اثبتنا هذه الحقيقة في كلمات كثيرة.
ثم ان القرآن الكريم مجمع الحقائق يقيناً فالخيال والخرافات بعيدة عنه بعداً مطلقاً، اذ ان ما شكله من عالم الاسلام، وما أتاه من شريعة غراء، وما يبينه من مُثُل سامية، بل حتى عند بحثه عن عالم الغيب - كما هو عند بحثه عن عالم الشهادة - هو عين الحقائق، لا يدنو منه شئ من خلاف للحقيقة ابداً.
ثم ان القرآن الكريم - كما هو واقع - يوصل الى سعادة الدارين بلا ريب، ويسوق البشرية اليها، فمن يساوره الشك فليراجع القرآن مرة واحدة، وليستمع اليه وليرى بعد ذلك ماذا يقول القرآن؟
ثم ان الثمار التي يجنيها الانسان من القرآن الكريم انما هي ثمار يانعة ذات حياة وحيوية. فلا غرو ان جذور شجرة القرآن متوغلة في الحقائق ممتدة في الحياة، وان حياة الثمرة تدل على حياة الشجرة. فإن شئت فانظر كم اعطى القرآن من ثمار الاصفياء المنورين والاولياء الصالحين الكاملين على طول العصور.
ثم ان القرآن الكريم موضع رضى الانس والجن والملائكة وذلك بالحدس الصادق، الناشئ من امارات عديدة، حيث يجتمعون حوله عند تلاوته كالفراش حول النور.
ثم ان القرآن مع أنه وحي الهي فهو مؤيدٌ بالدلائل العقلية، والشاهد على هذا: اتفاق العقلاء الكاملين وفي مقدمتهم ائمة علم الكلام ودهاة الفلسفة امثال ابن سينا وابن رشد، فجميعهم بالاتفاق قد اثبتوا اسس القرآن باصولهم ودلائلهم.
ثم ان القرآن الكريم مصدَّق من قبل الفطرة السليمة - ما لم يعترها عارض أو مرض - حيث ان اطمئنان الوجدان وراحة القلب انما ينشآن من انواره، اي أن الفطرة السليمة تصدّقه باطمئنان الوجدان. نعم! ان الفطرة بلسان حالها تقول للقرآن الكريم: "لا يتحقق كمالُنا من دونك" وقد اثبتنا هذه الحقيقة في مواضع متفرقة من الرسائل.
ثم ان القرآن معجزة دائمة ابدية بالمشاهدة والبداهة، فهو يبين اعجازه كل حين، فلا يخبو نوره - كبقية المعجزات - ولا ينتهى وقته، بل يمتد زمنه الى الأبد.
ثم ان منزلة ارشاد القرآن الكريم لها من السعة والشمول بحيث أن درساً واحداً منه يتلقاه جبريل عليه السلام جنباً الى جنب صبي صغير. ويجثو امامه فلاسفة دهاة - امثال ابن سينا - مع ابسط شخص أمي، يتلقيان الدرس نفسه. بل قد يستفيض ذلك الرجل العامي من القرآن بما يحمل من قوة الايمان وصفائه مالا يستفيضه ابن سينا.
ثم ان في القرآن الكريم عيناً باصرة نافذة بحيث ترى جميع الوجود وتحيط به، وتضع جميع الموجودات امامه، كأنها صحائف كتاب فيوضح طبقاتها وعوالمها. فكما اذا استلم الساعاتي ساعة صغيرة بيده يقلبها، ويعرّفها ويفتحها، كذلك الكون بين يدي القرآن الكريم يعرّفه ويبين اجزاءه.
فهذا القرآن العظيم يثبت الوحدانية بـ} فاعلم أنه لا اله الاّ الله{ (سورة محمد:19)
اللَّهُمَّ اجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً وفي القبر مؤنساً وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً،اللَّهُم نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الايمان والقرآن، ونوّر برهان القرآن بحق وبحرمة مَن اُنزل عليه القرآن، عليه وعلى آله الصلاة والسلام من الرحمن الحنان. آمــين.
الاشارة البليغة التاسعة عشرة
لقد أثبت يقيناً وبدلائل قاطعة، في الاشارات السابقة ان الرسول الاكرم e الذي ثبتت رسالتُه بالوف الدلائل القاطعة لهو برهان باهر للوحدانية الإلهية، ودليل ساطع للسعادة الابدية. وسنعرّف في هذه الاشارة تعريفاً مجملاً بشكل خلاصة الخلاصة لذلك البرهان الصادق والدليل الساطع على الوحدانية؛ لأنه: يلزم معرفة الدليل والاحاطة بوجه دلالته ما دام هو دليلاً الى المعرفة الإلهية.
لذا سنبين هنا باختصار شديد وجه دلالته e على التوحيد ومدى صدقه وصوابه فنقول: ان الرسول الكريم e دليل بذاته على وجود الخالق العظيم وعلى وحدانيته كما يدل عليه اي موجود من موجودات الكون. وقد اعلن e وجه دلالته هذا على التوحيد والوجود مع دلالة الموجودات قاطبة. ومن حيث انه e دليل على التوحيد سنشير الى صدق دلالته وحجيته وصوابه وأحقيته ضمن خمسة عشر اساساً:
الاساس الاول:
ان هذا الدليل الذي يدل على خالق الكون بذاته وبلسانه وبدلالة احواله وبلسان اطواره، لهو صادقٌ مصدَّق من قبل حقائق الكون؛ لأن دلالات جميع الموجودات الى الوحدانية انماهي بمثابة شهادات تصديقٍ لمن ينطق بالوحدانية. اي ان ما يدعو اليه مصدَّقٌ لدى الكون كله. وحيث ان ما يبينه من الوحدانية، التي هي الكمال المطلق، وما يبشرّه من السعادة الابدية التي هي الخير المطلق، مطابقان تماماً للحسن والكمال المتجليين في حقائق العالم. فهو صادق في دعواه قطعاً فالرسول الكريم e اذاً برهان صادق مصدَّق للوحدانية الإلهية والسعادة الابدية.
الاساس الثاني:
ان ذلك الدليل الصادق المصدَّق الذي يملك ألوفاً من المعجزات - اكثر مما لدى الانبياء السابقين - والذي أتى بشريعة سمحة غراء لا تنسخ ولا تُبدل، وبدعوة شاملة للجن والانس، لاشك انه سيد المرسلين عليهم السلام؛ فهو اذن جامع للحِكَم والاسرار التي تنطوي عليها معجزات الانبياء عليهم السلام واتفاقهم. اي ان قوة اجماع الانبــياء كلهـم اذن، وشـهادة معجزاتهم، تـشكل ركيزة لصـدقه وصواب دعوته.
ثم ان الاصفياء والاولياء الصالحين الذين بلغوا من الكمال ما بلغوا انما كان بتربيته السامية وبهدي شريعته الحقة فهو مرشدهم وسيدهم؛ لذا فهو جامعٌ لسر كراماتهم وتصديقهم بالاجماع وقوة دراساتهموتحقيقاتهم، حيث انهم سلكوا طريقاً فتح ابوابه استاذُهم، وتركها مفتوحة، فوجدوا الحقيقة. فجميع كراماتهم وتحقيقاتهم العلمية واجماعهم انما تمثل ركيزة لصدق استاذهم الطاهر وصواب دعوته.
ثم ان ذلك البرهان الباهر للوحدانية - كما تبين في الاشارات السابقة - يملك من المعجزات الباهرة القاطعة اليقينية، والارهاصات الخارقة، ودلائل نبوة لا ريب فيها، كل منها تصدّقه تصديقاً عظيماً، بحيث لو اجتمع الكون كله ليجرح ذلك التصديق لعجز دونه.
الاساس الثالث:
ان ذلك الداعي الى الوحدانية والمبشر بالسعادة الابدية الذي له هذه المعجزات الباهرات يملك من الاخلاق السامية في ذاته المباركة، ومن السجايا الرفيعة في مهمة رسالته، ومن الخصال الفاضلة فيما يبلّغه من شريعة ودين، ما يضطر الى تصديقه ألدّ اعدائه فلا يجد سبيلاً للانكار.
فما دام يملك في ذاته وفي مهمته وفي دينه اسمى الاخلاق واجملها، واكمل السجايا واثمنها، وارفع الخصال وافضلها، فلاريب انه مثال لكمال الموجودات، وممثلٌ لفضائل الاخلاق ومثالها المجسم، والقدوة الحسنة لها؛ ولهذا فالكمالات التي تشع من ذاته ومن مهمته ومن دينه لهي ركيزة قوية عظيمة لصدقه بما لا يمكن ان يزحزحها شئ.
الاساس الرابع:
ان ذلك الداعي الى الوحدانية والسعادة الابدية الذي هو معدن الكمالات ومعلم الاخلاق الفاضلة. لا ينطق عن نفسه وحسب هواه - حاشاه - وانما ينطق بالوحي الإلهي. فهو يستلم الوحي من ربه الجليل ويبلّغ به الاخرين. لأنه قد ثبت بالوف من دلائل النبوة، كما ذُكر في الاسس السابقة ووضح قسم منها:
اِن رب العالمين سبحانه الذي خلق جميع تلك المعجزات واجراها بيد رسولهe ، انما يبين أن رسوله الكريم e ينطق لأجله وفي سبيله ويبلّغ كلامه المبين.
وان القرآن الكريم الذي نزل عليه يبيّن باعجازه الظاهر والباطن انه e مبلّغ عن رب العالمين.
وذاته الشريفة e وما يتحلى به من عظيم الاخلاص والتقوى وجديّة بالغة في تبليغ امر الله، وامانة صادقة فيه، تبين - في جميع احواله واطواره - أنه لا يتكلم باسمه الشخصي، ولا من بنات فكره الذاتي وانما يتكلم باسم الله رب العالمين.
ثم ان الذين استمعوا اليه من اهل الحقيقة قاطبة قد صدّقوا بالكشف والتحقيق العلمي، وآمنوا ايماناً يقينياً بانه لا ينطق عن الهوى إن هو الاّ وحي يوحى، فهو مبلّغ أمين عن رب العالمين، يدعو الناس الى الرشاد بالوحي الإلهي.
وهكذا فان صدق هذا الدليل e وأحقيته يستند الى هذه الاسس الاربعة الثابتة الرصينة.
الاساس الخامس:
ان ذلك المبلغ الأمين لكلام الله الازلي يرى الارواح، ويتكلم مع الملائكة، ويرشد الجن والانس معاً. فلا يتلقى العلم من عوالم الملائكة والارواح التي هي اسمى من عالم الانس والجن بل يتلقى العلم من فوق تلك العوالم كلها، بل يطّلع على ما وراءها من شؤون إلهية، فالمعجزات المذكورة سابقاً، وسيرته الشريفة التي نقلت الينا بالتواتر تثبتان هذه الحقيقة. لذا فلا يتدخل الجن ولا الارواح ولا الملائكة فيما يبلّغه من امور بل لا يتقرب الى تبليغه حتى المقربين من الملائكة سوى جبريل عليه السلام، بل يتقدم احياناً حتى رفيقه جبريل عليه السلام الذي كان يصحبه معظم الاوقات.
الاساس السادس:
ان ذلك الدليل الذي هو سيد المَلَك والجن والانس انما هو أنور ثمار شجرة الكائنات وأكملها، وتمثال الرحمة الإلهية، ومثال المحبة الربانية، والبرهان النير للحق، والسراج الساطع للحقيقة، ومفتاح طلسم الكائنات، وكشاف لغز الخلق، وشارح حكمة العالم والداعي الى سلطان الالوهية. والمرشد البارع لمحاسن الصنعة الربانية، فتلك الذات المباركة، بما تملك من صفات جامعة انما تمثل اكمل نموذج لكمالات الموجودات. لذا فهذه المزايا التي يمتلكها ذلك النبي الكريم e وما يتصف به من شخصية معنوية تظهران بوضوح:
ان ذلك النبي الكريم e هوعلة الكون الغائية، اي أنه موضع نظر خالق الكون.
نـظـر اليه وخلق الـكون، ويصح القول انـه لـو لم يكن قـد أوجـده ما كان يـوجد الكون.
نعم؛ ان ما أتى به هذا النبي الكريم من حقائق القرآن وانوار الايمان الى الانس والجن كافة، وما يشاهَد في ذاته المباركة من اخلاق سامية وكمالات فائقة، شاهد صادق قاطع على هذه الحقيقة.
الاساس السابع:
ان ذلك البرهان الساطع للحق والسراج المنير للحقيقة قد اظهر ديناً قيماً، وابرز شريعة شاملة بحيث تضم من الدساتير الجامعة ما يحقق سعادة الدارين، كما انه بيّن اكمل بيان حقيقة الكون ووظيفته واسماء الخالق الجليل وصفاته. فالذي يمعن النظر في ذلك الاسلام الحنيف والشريعة الغراء الشاملة في طرز تعريفها للكون يدرك يقيناً ان ذلك الدين انما هو نظام خالق هذا الكون الجميل الذي يعرّف ذلك الخالق. اذ كما ان بنّاءً بارعاً لقصر بديع يضع تعريفاً يليق بالقصر، ويكتبه تبياناً لمهارته الفائقة، كذلك هذا الدين العظيم والشريعة السمحة وما فيه من الشمول والاحاطة والسمو يظهر بوضوح ان الذي وضعه على هذه الصورة الرفيعة انما هو واضع الكون ومدبّره. نعم، ان من كان منظِّماً لهذا الكون البديع وبهذا التنظيم الرائع لابد انه هو الذي نظّم هذا الدين الأكمل بهذا النظام الأجمل.
الاساس الثامن:
إن من يتصف بهذه الصفات الجميلة المذكورة، و تستند رسالته الى تلك الادلة والركائز الرصينة، ذلك الرسول الحبيب e ، يتكلم باسم عالم الغيب متوجهاً الى عالم الشهادة، معلناً على رؤوس الأشهاد من الجن والأنس، مخاطباً الاقوام المتراصين وراء العصور المقبلة، فيناديهم جميعاً نداء رفيعاً سامياً يسمعهم قاطبة في جميع الاعصار اينما وجدوا وحيثما كانوا... نعم .. نعم نسمع!.
الاساس التاسع:
ان خطابه هذا رفيع الى حد تسمعه العصور جميعاً.. نعم، ان كل عصر يسمع رجع صدى كلامه.
الاساس العاشر:
اننا نرى في احواله وسيرته المطهرة انه يرى ثم يبلّغ في ضوء ما يرى، لأنه يبلّغ حتى عندما تحدق به المخاطر، بلا تردد ولا اضطراب وبكل ثقة واطمئنان بل قد يتحدى وحده العالم كله.
الاساس الحادي عشر:
انه قد اعلن دعوته بكل ما آتاه الله من قوة اعلنها جهاراً حتى جعل نصف الارض وخمس البشرية يلبون اوامره ويقولون لكل كلمة صدرت منه: سمعنا واطعنا.
الاساس الثاني عشر:
انه يدعو باخلاص كامل وبجدية تامة فيرّبي تربية راسخة، بحيث ان دساتيرها تنقش في جباه العصور وصحائف الاقطار ووجوه الدهور.
الاساس الثالث عشر:
انه يتكلم بكلام ملؤه الثقة والاطمئنان فيبلّغ الاحكام وهو واثق كل الثقة من صدقها وصوابها، ويدعو اليها دعوة صريحة لا لبس فيها بحيث لو اجتمع العالم كله ما صرفه عن دعوته ولا عن حكم من تلك الأحكام. وسيرته المطهرة وتاريخ حياته المباركة أصدق شاهد على هذه الحقيقة.
الاساس الرابع عشر:
انه يدعو باطمئنان بالغ واعتماد تام ويبلّغ بثقة كاملة، بحيث لا يتنازل في دعوته عن شئ، ولا يتردد امام اية مشكلة مهما كانت، فلا يداخله الخوف والدهشة، بل يدعو بصفاء كامل واخلاص تام. وينفذ ما يدعو اليه من الاحكام على نفسه اولاً ويذعن اليه ثم يعلّمه الاخرين. والشاهد على هذا زهده العظيم واستغناؤه عن الناس واعراضه عن زخارف الدنيا الفانية، كما هو معلوم لدى الاصدقاء والاعداء.
الاساس الخامس عشر:
انه كان اخشى الناس لله وأخضعهم لأوامره سبحانه وأعبدهم له واتقاهم عن نواهيه، مما يدلنا على أنه مبلّغ أمين لسلطان الأزل والابد، فهو رسوله الحبيب واخلص عباده، ومبلغ رسالاته.
نخلص من هذه الأسس الخمسة عشرة:
ان هذا الرسول الكريم e الموصوف بتلك الاوصاف المذكورة قد أعلن الوحدانية فنادى بكل ما آتاه الله من قوة، وعلى مدار حياته المباركة كلها:
لاإله الا الله
اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله عدد حسنات امته
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
اكرام إلهي واثر عناية ربانية
على أمل ان نحظى بسر الآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدِّث{ نقول:
ان أثر عناية ربانية ولمسة رحمة إلهية قد ظهر اثناء تأليف هذه الرسالة، اذكره لقرائها الكرام كي يلتفتوا اليها باهتمام بالغ:
كانت الكلمةالحادية والثلاثون و التاسعة عشرة اللتان تبحثان في الرسالة الأحمدية مؤّلفتين؛ لذا لم يرد الى قلبي شئ حول تأليف هذه الرسالة.. فاذا بخاطرة ترد الى القلب مباشرة، تلحّ عليّ بالتأليف في وقت كانت حدّة حافظتي قد كلّت وخبت جذوتها تحت وطأة المصائب والبلايا، فضلاً عن انني لم اسلك في مؤلفاتي – وفق مشربي – سبيل النقل من الكتب (قال فلان.. قيل كذا)، وعلاوة على أنه ما كان لديّ أي مصدر كان من مصادر الحديث الشريف او السيرة المطهرة… ولكن على الرغم من كل هذا قلت: ((توكلت على الله))، وشرعت بتأليف هذه الرسالة متوكلاً عليه وحده، فحصل من التوفيق الإلهي ما جعل حافظتي قوية بحيث كانت تمدني امداداً يفوق بكثير حافظة ((سعيد القديم)) حتى كُتبتْ نحو اربعين صحيفة في سرعة فائقة خلال ما يقرب من اربع ساعات، بل كُتبت خمس عشرة صحيفة في ساعة واحدة. وكانت النقول على الاغلب من كتب الاحاديث كالبخاري ومسلم والبيهقي والترمذي والشفا للقاضي عياض وابو نعيم والطبري وامثالها. وكان قلبي يخفق ويرجف بشدة، اذ لو وقع الخطأ في هذا النقل لترتب عليه الاثم، حيث انه حديث شريف.
ولكن ادركنا يقيناً ان العناية الإلهية معنا وان الحاجة الى هذه الرسالة شديدة. فكُتبت الاحاديث بفضل الله سليمة صحيحة. ومع هذا، فاذا ما ورد في الفاظ الحديث الشريف أو في اسم الراوي خطأ فالرجاء من الاخوة الاعزاء تصحيحه والصفح عن الخطأ.
سعيد النورسي
نعم ! لقد كان الاستاذ يملي علينا ونحن نكتب المسودة، ولم يكن لديه أي مصدر كان، ولم يراجع في كلامه قط. كان كلامه في منتهى السرعة، وكنا نكتب حوالي اربعين صحيفة في ساعتين او ثلاث. فأيقنا نحن ايضاً ان هذا التوفيق الإلهي في التأليف هو كرامة من كرامات المعجزات النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
(الحافظ توفيق) (الحافظ خالد) (سليمان سامي) (عبدالله جاووش)
كاتب المسودة اخوة في الآخرة خادمه خادمه المقيم
والمبيضة وكاتب المسودة وكاتب المسودة
الذيـل الأول
من رسالة ((المعجزات الأحمدية))
[لمناسبة المقام ضُمت هنا الكلمة (التاسعة عشرة) وهي تخص الرسالة الأحمدية مع ذيلها الذي يبحث في معجزة انشقاق القمر].
بسم الله الرحمن الرحيم
تتضمن هذه الكلمة ((اللمعة الرابعة عشرة)) أربع عشرة رشحة:
o الرشحة الأولى:
إن ما يُعرّف لنا ربَّنا هو ثلاثة معرّفين أدلاّء عظام:
أوله: كتاب الكون، الذي سمعنا شيئاً من شهادته في ثلاث عشرة لمعة (من لمعات المثنوي العربي النوري)(1).
ثانيه: هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة e .
ثالثه: القرآن الحكيم.
فعلينا الآن أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق، وهو خاتم الانبياء وسيد المرسلين e وننصت اليه خاشعين.
إعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة. فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟
قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجده، ومكةُ محرابه، والمدينة منبره.. وهو امام جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيد جميع الأولياء يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكر تركّبَت من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء باساساتهم السماوية، واغصانها الخضرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هي الأولياء بمعارفهم الالهامية. فما من دعوى يدّعيها الاّ ويشهدُ لها جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، اذ بينما تراه قال: (لا إله الا الله) وادّعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين – أي شموس البشر ونجومه القاعدين في دائرة الذكر – عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: ((صَدَقت وبالحق نطقت)). فأنّى لوهمٍ أن يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.
o الرشحة الثانية:
إعلم! إن هذا البُرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه :نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. كذلك تصدّقُه مئاتُ إشارات الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وُزُبرِ الأولين(1).. وكذلك تصدِّقُه رموز ألوف الارهاصات الكثيرة المشهودة، وكذا تصدقّه بشارات الهواتف الشائعة المتعددة وشهادات الكهان المتواترة، وكذا تصدِّقُه دلالات معجزاته من أمثال: شق القمر، ونبعان الماء من الأصابع كالكوثر ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلّم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر، الى ألفٍ من معجزاته كما بينّه الرواة والمحدثون المحققون.. وكذا تصدِّقه الشريعة الجامعة لسعادات الدارين.
واعلم! أنه كما تصدِّقه هذه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدقّه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغاليةوالخصائل النزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سيره، وكمال جدّيته وكمال متانته، وكذا قوة أمنيته في حركاته بشهادة قوة إطمئنانه.. تصدِّقه كالشمس الساطعة في دعوى تمسّكه بالحق وسلوكه على الحقيقة.
o الرشحة الثالثة:
إعلم! إن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول. فإن شئت فتعال لنذهب الى خير القرون وعصر السعادة النبوية لنحظى بزيارته الكريمةe - ولو بالخيال - وهو على رأس وظيفته يعمل. فافتح عينيك وانظر! فإنّ أولَ ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارق، له حسنُ صورة فائقة، في حُسن سيرة رائقة. فها هو آخذٌ بيده كتاباً معجِزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً، يبلّغ خطبةً أزليةً ويتلوها على جميع بَني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.
فيا للعجب! ما يقول؟.. نعم! إنه يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم، إذ يشرح ويحل اللغز العجيب في سرِّ خِلْقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سرِّ حكمة الكائنات، ويوضـِّح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقول وأوقعتها في الحيرة، إذ هي الأسئلة التي يسأل عنها كلُّ موجود. وهي: مَنْ أنتَ؟ ومِن أين؟ والى أين؟.
o الرشحة الرابعة:
انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً، حتى صيَّر ليلَ البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً؛ فكأن الكائنات تبدَّل شكلُها فصار العالَم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.. فإذا ما نظرت الى الكائنات خارجَ نور إرشاده؛ ترى في الكائنات مأتماً عمومياً، وترى موجوداتها كالأجانب الغرباء والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه، وترى جامداتها جنائز دهّاشة، وترى حيواناتها واناسيّها أيتاماً باكين بضربات الزوال والفراق.
فهذه هي ماهية الكائنات عند مَنْ لم يدخل في دائرة نوره. فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات. كيف تراها؟.. فانظر! قد تبدّل شكلُ العالم، فتحوّل بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلسَ الجذبة والشكر، وتحوّل الأعداءُ الأجانب من الموجودات أحباباً وإخواناً، وتحوّل كلٌ من جامداتها الميتة الصامتة حيّاً مؤنساً مأموراً مسخَّراً ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحوّل ذوو الحياة منها - الأيتام الباكون الشاكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لتسريحهم عن وظائفهم.
o الرشحة الخامسة:
لقد تحوّلت بذلك النور حركاتُ الكائنات وتنوعاتُها وتغيراتُها من العبثية والتفاهة وملعبة المصادفة الى مكاتيب ربانية، وصحائف آياتٍ تكوينية، ومرايا اسماء إلهية . حتى ترقّى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقَّى من حضيض الحيوانية الذي هوى اليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل، ترقّى الى أوج الخلافة بتنور ذلك العقل والعجز والفقر. فانظر كيف صارت أسبابُ سقوطه - من عجز وفقر وعقل - أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني.
فعلى هذا، لو لم يوجد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والأنسان، وكلُ شئ الى درجة العدم؛ لاقيمة ولا أهمية لها. فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لا معنى لها بالنسبة إلينا.
o الرشحة السادسة:
فان قلت: مَنْ هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات؟ وما يقول؟.
قيل لك: انظر واستمع الى ما يقول: ها هو يُخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلالُ محاسن سلطنة الربوبية ونَظَّارُها، وكشّافُ مخفيّات كنوز الأسماء الألهية ومعرِّفُها.
فانظر اليه من جهة وظيفته (رسالته)؛ تَرهُ برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.
ثم انظر اليه من جهة شخصيته (عبوديته)؛ تَرَهُ مثالَ المحبة الرحمانية وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الأنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمرات شجرة الخلقة.
ثم انظر! كيف أحاط نورُهُ ودينُه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب ما يقرُب من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته، بحيث تفدي له ارواحها. فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بلا مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعياته، وهو: ((لا إله إلا الله)) بجميع مراتبه؟...
o الرشحة السابعة:
فإن شئت أن تعرف ان ما يحرّكه، إنما هو قوة قدسية، فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميعَ أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيّرهم معلمي العالم الأنساني وأساتيذ الامم المتمدنة.
فانظر! ليست سلطنتُه على الظاهر فقط؛ بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس، حتى صار محبوبَ القلوب ومعلّمَ العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.
o الرشحة الثامنة:
من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة - كالتدخين مثلاً - من طائفة صغيرة بالكلية، قد يَعْسَرُ على حاكم عظيم، بهمّةٍ عظيمة، مع انا نرى هذا النبي الكريم e قد رفع بالكلّية، عاداتٍ كثيرة، من أقوام عظيمة، متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسيّاتهم، رفعها بقوةٍ جزئية، وهمّة قليلة في ظاهر الحال، وفي زمان قصير، وغَرَسَ بدَلَها برسوخ تامٍ في سجيتهم عادات عالية، وخصائلَ غالية. فيتراءى لنا من خوارق اجراآته الأساسية ألوف ما رأينا، فمَن لم يَر هذا العصر السعيد نُدخل في عينه هذه الجزيرة ونتحداه. فليجربْ نفسه فيها. فليأخذوا مائةً من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله e في سنة بالنسبة الى ذلك الزمان؟!
o الرشحة التاسعة:
إعلم! إن كنت عارفاً بسجية البشر أنه لا يتيسّر لعاقل أن يدّعي - في دعوىً فيها مناظرة - كذباً يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حرج وبلا تردد وبلا إضطراب يشير الى حيلته، وبلا تصنع وتهيج يوميان الى كذبه، أمام أنظار خصومه النقّادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بمكانة حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لحماية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، مقابل خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوىً عظيمة؟
وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا تحرج وبلا تخوف وبلا إضطراب وبصفوة صميمية، وبجدّية خالصة، وبطرز يثير اعصاب خصومه، بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزتهم، باسلوب شديد علويّ. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص، في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلا! } إن هو إلاّ وحْيٌ يُوحى{ (النجم: 4).
نعم! إن الحق أغنى من أن يَدلس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلس عليه! نعم! إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرَه النفّاذ منزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيالُ بالحقيقة..
o الرشحة العاشرة:
انظر واستمعْ الى ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، جالبة للعقول الى الدقة والنظر؛ إذ من المعلوم أن شوق كشف حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل حب الاستطلاع واللهفة والاهتمام الى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لو قيل لك: إن فديتَ نصفَ عمرك، أو نصفَ مالك؛ لنزل من القمر أو المشتري شخصٌ يُخبرك بغرائب أحوالهما، ويخبرك بحقيقة مستقبل أيامك؟ أظنك ترضى بالفداء. فيا للعجب؟ ترضى لدفع ما تتلهف اليه بنصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هـذا النـبي الـكريم e ويصـدِّقه إجماعُ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين! بينما هو يبحث عن شؤون سلطانٍ، ليس القمر في مملكته إلاّ كذباب يطير حول فراش، وهذا يحوم حول سراج من بين ألوف القناديل التي أسرجها في منزل - من بين ألوف منازله - أعدّه لضيوفه.. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، بحيث لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار غرائب ذلك الانقلاب. فإن شئت فاستمع من لسانه أمثال السور الجليلة:
} اِذا الشَّمْسُ كُوِّرتْ{ و } اِذا السّمآء انْفَطَرَتْ{ و} اِذا زُلْزِلَت الأرضُ زِلْزَالَها{ و} الْقارعة{ .
وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة اليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة الى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة اليها الاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة الى شمس سرمدية.
o الرشحة الحادية عشرة:
ان تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب والأسرار - تنتظرنا أمورٌ أعجب. ولابدَّ للإخبار عن تلك العجائب والخوارق شخصٌ عجيبٌ خارقٌ يُستَشفّ من أحواله أنه يشاهِد ثم يَشهد، ويَبصُر ثم يُخبر.
نعم! نشاهد من شؤونه واطواره أنه يشاهد ثم يشهَد فيُنذر ويبشر. وكذا يُخبر عن مرضيات رب العالمين - الذي غمرنا بنعمه الظاهرة والباطنة - ومطالبه منا وهكذا...
فيا حسرة على الغافلين! ويا خسارة على الضالين! ويا عجبا من بلاهة اكثر الناس! كيف تعامَوا عن هذا الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة؟ لا يهتمون بكلام هذا النبي الكريم e مع أن من شأن مِثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها؟
o الرشحة الثانية عشرة:
اعلم أن هذا النبي الكريم e المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية، كما أنه برهانٌ ناطق صادق على الوحدانية، ودليل حقٍ بدرجة حقانية التوحيد، كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الأبدية ووسيلة وصولها، كذلك بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة الأبدية ووسيلة ايجادها ..
فإن شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وسعتها صيّرت هذه الجزيرة بل الارض مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجة كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفَّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم(عليه السلام) الى هذا العصر الى آخر الدنيا في صفوف الاعصار مؤتميّن به ومؤمِّنين على دعائه. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة.. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدة عظيمة عامة بحيث تشترك معه في دعائه الأرضُ بل السماء بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: نعم يا ربنا تقبّل دعاءه؛ فنحن ايضاً بل مع جميع ما تجلّى علينا من أسمائك نطلب حصولَ ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرع؛ بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق، في محبوبية حزينة؛ بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركها في دعائه. ثم انظر لأي مقصد وغاية يتضرع؟ ها هو يدعو لمقصد لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ، بل العالم، بل كل المخلوقات الى أسفل سافلين ، لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقّى الموجودات الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرش والسموات، ويهيّج وَجْدها، حتى كأن العرشَ والسموات يقول: آمين اللّهم آمين.. ثم انظر ممن يطلب مسؤلَه؛ نعم! يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمَع أخفى دعاء من أخفى حيوان في أخفى حاجة؛ إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياةٍ في أدنى غايةٍ، اذ يوصله اليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويكرم ويرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم. لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.
o الرشحة الثالثة عشرة:
فيا للعجب!.. ما يطلب هذا الذي قام على الأرض، وجَمَع خلفه جميع افاضل بني آدم ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم يدعو دعاءً يؤمّن عليه الثقلان. ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوع الانسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن، ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الأسماء عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضا. فلو لم يوجد مالا يعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة - وكذا جميع الأسماء القدسية أسباباً مقتضية لها، لكفى دعاء هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُه له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشىء لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته. فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافآت والمجازاة.
فهل يمكن أن يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجة أنطق أمثال الغزالي بـ ((ليس في الامكان أبدع مما كان)).. وأن تتغير هذه الحقائق بقبح خشين، وبظلم موحش، وبتشوش عظيم، أي بعدم مجئ الآخرة؟ إذ سماع أدنى صوت من أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولها بأهمية تامة، مع عدم سماع أرفع صوت ودعاء في أشد حاجة، وعدم قبول أحسن مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح وقصور لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لا يقبل مثل هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض.
فيا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردت الإحاطة فلا يمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولا مللنا من النظر بجزء واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته..
فلنرجع القهقرى، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرت تلك العصور واستفاضت من فيض هذا العصر؟ نعم، ترى كل عصر نمر عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمر كلُ عصر من امثال أبي حنيفة والشافعي وأبي يزيد البسطامي وجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني.. والامام الغزالي والشاه النقشبندي والامام الرباني ونظائرهم ألوف ثمراتٍ منوراتٍ من فيض هداية ذلك الشخص النوراني. فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا الى وقت آخر، ونصلّي ونسلّم على ذلك الذات النوراني الهادي، ذي المعجزات بصلوات وسلام تشير الى قسم من معجزاته:
من اُنزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم.
على سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أمته.
على مَن بشّر برسالته التوراة والانجيل والزبور والزبر.
وبشّر بنبوّته الارهاصات وهواتف الجن واولياء الانس وكواهن البشر وانشقّ باشارته القمر.. سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أمته.
على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونزل سرعةً بدعائه المطر، واظلّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مآتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرّات كالكوثر، وانطق الله له الـضب والظبي والذئب والجذع والذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر..
صاحب المعراج وما زاغ البصر..
سيدنا وشفيعنا محمد ألف ألف صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان واغفر لنا وأرحمنا يا إلهنا بكل صلاة منها.. آمين.
[إعلم: إن دلائل النبوة الأحمدية لا تعدّ ولا تحدّ، ولقد صنّف في بيانها أعاظم المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينّت شعاعاتٍ من تلك الشمس في رسالة تركية مسّماة بـ((شعاعات من معرفة النبي e )) وفي ((المكتوب التاسع عشر)). وكذا بينت اجمالاً وجوه إعجاز معجزته الكبرى – أي القرآن – وقد اشرتُ بفهمي القاصر الى أربعين وجهاً من وجوه أعجاز القرآن في رسالة ((اللوامع))، وقد بينت من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار أربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ ((اشارات الاعجاز)). فإن شئت فارجع الى هذه الكتب الثلاثة..].
o الرشحة الرابعة عشرة:
اعلم! ان القرآن الكريم الذي هو بحر المعجزات والمعجزة الكبرى يثبت النبوة الأحمدية والوحدانية الإلهية إثباتاً، ويقيم حججاً ويسوق براهين ويبرز أدلة تغني عن كل برهان آخر.
فنحن هنا سنشير الى تعريفه، ثم نشير الى لمعاتٍ من اعجازه تلك التي اثارت تساؤلاً لدى البعض.
فالقرآن الحكيم الذي يعرّف ربّنا لنا:
هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المـُضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينة المخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية... وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي.. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني.. وكالماء وكالــضياء للأنسانية الكبرى التي هي الاسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للأنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.
فانظر الـى بيان لمعة الاعـجاز في تكرارات القرآن التي يتوهمها القاصرون نقصاً في البلاغة.
اعلم! أن القرآن لأنه كتاب ذكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنّه القاصرون، إذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يردَّد. والدعوة تؤكَّد. إذ في تكرير الذكر تنويرٌ وفي ترديد الدعاء تقريرٌ وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.
واعلم انه لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سورٍٍ؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام.
اعلم! أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الأنسـانية ايضاً مختلفة الأوقـات. فالى قسـمٍ في كل آن كـ(هو الله) للروح - كحاجة الجسم الى الهواء - والى قسم في كل ساعة كـ(بسم الله) وهكذا فقس.
فتكرار الآيات والكلمات اذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الأغذية المعنوية.
اعلم! أن القرآن مؤسسٌ لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الاسلامي، ومقلِّبٌ لاجتماعيات البشر ومحوّلها ومبدّلها. وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال.. ولابدَّ للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.
اعلم! أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.
اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطلعاً، ولكل قصةٍ وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اُخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلاّ في الصورة.
اما إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة اعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الألحاد من قصور ومدار نقد.
u فإن قلت:
لأي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملاً ويذكر أخرى ذكراً ينسجم مع شعور العوام وافكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلساً بسيطاً في الظاهر؟
نقول جواباً:
لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتماً من الدروس والكلمات السابقة أن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطراداً، للاستدلال على ذات الله وصفاته واسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.
أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلاً عن أنه يخاطب الجمهور. اما علم الحكمة (الفلسفة) فينظر الى الموجودات لنفسها، ويخاطب اهل العلم والفلسفة.
وعلى هذا، فما دام القرآن يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.
ثم إن القرآن مادام مرشداً فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام، ومراعاة حس العامةِ ومؤانسة فكر الجمهور، لئلا يتوحش نظرُهم بلا طائل ولا يتشوش فكرُهم بلا فائدة، ولا يتشرّد حسُّهم بلا مصلحة، فأبلغُ الخطاب معهم والارشاد أن يكون ظاهراً بسيطاً سهلاً لا يعجزهم، وجيزاً لا يُملّهم، مجملاً فيما لا يلزم تفصيله لهم، ويضرب بالأمثال لتقريب مادقَّ من الأمور الى فهمهم.
فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الارشاد أن لا يذكر ما يوقع الاكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم، وان يهمل أو يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.
فمثلاً: يبحث عن الشمس لا للشمس، ولا عن ماهيتها، بل لِمن نورَّها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها محوراً لانتظام الصنعة ومركزاً لنظام الخلقة، وما الانتظام والنظام إلاّ مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرّفنا القرانُ باراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم، فيقول: } والشمسُ تجري{ ويفهـِّم بها وينبه الى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء. وفي لفت النظر اليها تنبيه السامع الى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته. فمهما كانت حقيقة جريان الشمس وبأي صورة كانت لا تؤثر تلك الحقيقة في مقصد القرآن في اراءة الانتظام المشهود والمنسوج معاً.
ويقول أيضاً:
} وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً{ (نوح:16) ففي تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم. وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته.
فالآن استمع ماذا يقول الفلسفي الثرثار في الشمس. يقول: ((هي كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).
فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية.
فقس على هذا لتقدّر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرف وباطنُها جهالة فارغة. فلا يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُعرِض عن بيان القرآن المعجز.
اللّهم اجعل القرآن شفاءً لنا ولكاتبه وأمثاله من كل داء، ومؤنساً لنا ولهم في حياتنا وبعد موتنا، وفي الدنيا قريناً، وفي القبر مؤنساً، وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً، والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً، بفـضلك وجودك وكرمك ورحمتك يا اكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.
اللّهم صلِ وسلم على مَن اُنزل عليه الفرقان الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين ..آمين . آمين.
معجزة انشقاق القمر
[ذيل الكلمة التاسعة عشرة والحادية والثلاثين]
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
} اقتَرَبت الساعةُ وانشق القَمَر ` وإنْ يَرَوا آيةً يُعرِضوا ويقولوا سحرٌ مستمرٌ{ (القمر:1ــ 2)
ان فلاسفة ماديين – ومن يقلّدونهم تقليداً اعمى – يريدون ان يطمسوا ويخسفوا معجزة انشقاق القمر الساطع كالبدر، فيثيروا حولها اوهاماً فاسدة، اذ يقولون: ((لو كان الانشقاق قد حدث فعلاً لعرفه العالم، ولذكرته كتب التاريخ كلها!)).
الجواب: ان انشقاق القمر معجزة لإثبات النبوة، وقعت امام الذين سمعوا بدعوى النبوة وانكروها، وحدثت ليلاً، في وقت تسود فيه الغفلة، واُظهِرت آنياً، فضلاً عن ان اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام وامثالها من الموانع تحول دون رؤية القمر، علماً ان اعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن في ذلك الوقت منتشرة؛ لذا لا يلزم ان يرى الانشقاق كلُ الناس، في كل مكان، ولا يلزم ايضاً ان يدخل كتب التاريخ.
فاستمع الآن الى نقاط خمس فقط من بين الكثير منها، تبدد باذن الله سُحبَ الاوهام التي تلبّدت على وجه هذه المعجزة الباهرة:
ا لنقطة الاولى:
ان تعنت الكفار في ذلك الزمان وذلك المحيط معلوم ومشهور تاريخاً، فعندما أعلن القرآن الكريم } وانشق القَمَر{ وبلغ صداه الآفاق، لم يجرؤ أحد من الكفار - وهم يجحدون القرآن - ان يكذّب بهذه الآية الكريمة. اي ينكر وقوع الحادثة. اذ لو لم تكن الحادثة قد وقعت فعلاً في ذلك الوقت، ولم تكن ثابتة لدى اولئك الكفار، لاندفعوا بشدة ليبطلوا دعوى النبوة، ويكذّبوا الرسول e . بينما لم تنقل كتب التأريخ والسير شيئاً من اقوال الكفار حول انكارهم حدوث الانشقاق، الا ما بيّنته الآية الكريمة } ويقولوا سحرٌ مستمرٌ{ وهو ان الذين شاهدوا المعجزة من الكفار قالوا: هذا سحر فابعثوا الى أهل الآفاق حتى تنظروا أرأوا ذلك أم لا؟. ولما حان الصباح أتت القوافل من اليمن وغيرها فسألوهم، فأخبروهم: انهم رأوا مثل ذلك. فقالوا: إن سحر يتيم ابي طالب قد بلغ السماء!
النقطة الثانية:
لقد قال معظم ائمة علم الكلام، من امثال سعد التفتازاني: ((ان انشقاق القمر متواتر، مثل فوران الماء من بين اصابعه الشريفة e وارتواء الجيش منه، ومثل حنين الجذع من فراقه e الذي كان يستند اليه اثناء الخطبة، وسماع جماعة المسجد لأنينه. اي ان الحادثة نقلته جماعة غفيرة عن جماعة غفيرة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فالحادثة متواترة تواتراً قطعياً كظهور المذنب قبل الف سنة وكوجود جزيرة سرنديب التي لم نرها)).
وهكذا ترى أن إثارة الشكوك حول هذه المسألة القاطعة وامثالها من المسائل المشاهدة شهوداً عياناً انما هي بلاهة وحماقة، اذ يكفي فيها انها من الممكنات وليست مستحيلاً.
علماً ان انشقاق القمر ممكن كانفلاق الجبل ببركان.
النقطة الثالثة:
ان المعجزة تأتي لأثبات دعوى النبوة عن طريق اقناع المنكرين، وليس ارغامهم على الايمان. لذا يلزم اظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم الى القناعة والاطمئنان الى صدق النبوة. أما أظهارها في جميع الاماكن، أو أظهارها اظهاراً بديهياً بحيث يضطر الناس الى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف ايضاً لسر التكليف الإلهي. ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال امام العقل دون سلب الاختيار منه.
فلو كان الخالق الكريم قد ترك معجزة الانشقاق باقية لساعتين من الزمان، واظهرها للعالم اجمع ودخلت بطون كتب التاريخ كما يريدها الفلاسفة لكان الكفار يقولون انها ظاهرة فلكية معتادة. وما كانت حجة على صدق النبوة، ولا معجزة تخص الرسول الاعظم e . او لكانت تصبح معجزة بديهية ترغم العقل على الايمان وتسلبه من الاختيار وعندئذٍ تتساوى ارواح سافلة كالفحم الخسيس من امثال ابي جهل، مع الارواح العالية الصافية كالالماس من امثال ابي بكر الصديق رضي الله عنه، اي لكان يضيع سر التكليف الإلهي.
ولأجل هذا فقد وقعت المعجزة آنياً، وفي الليل، وحين تسود الغفلة، وغدا اختلاف المطالع والغمام وامثالها حُجباً امام رؤية الناس لها. فلم تدخل بطون كتب التاريخ.
النقطة الرابعة:
ان هذه المعجزة التي وقعت ليلاً، وآنياً، وعلى حين غفلة، لا يراها كل الناس دون شك في كل مكان. بل حتى لو ظهرت لبعضهم، فلا يصدِّق عينه، ولوصدّقها، فان حادثة كهذه مروية من شخص واحد لا تكون ذات قيمة للتاريخ.
ولقد ردّ العلماء المحققون ما زيد في رواية المعجزة من أن القمر بعد انشقاقه قد هبط الى الارض! قالوا: ربما ادخل هذه الزيادة بعض المنافقين ليسقطوا الرواية من قيمتها ويهونوا من شأنها.
ثم ان في ذلك الوقت: كانت سُحب الجهل تغطى سماء انكلترا، والوقت على وشك الغروب في اسبانيا، وامريكا في وضح النهار، والصباح قد تنفس في الصين واليابان.. وفي غيرها من البلدان هناك موانع اخرى للرؤية. فلا تشاهد هذه المعجزة العظيمة فيها.
فاذا علمت هذا فتأمل في كلام الذي يقول: ((ان تأريخ انكلترا والصين واليابان وامريكا وامثالها من البلدان لا تذكر هذه الحادثة، اذن لم تقع!)). اي هذرٍ هذا.. ألا تباً للذين يقتاتون على فتات اوربا..
النقطة الخامسة:
ان انشقاق القمر ليس حادثة حدثت من تلقاء نفسها، بناء على اسباب طبيعية وعن طريق المصادفة! بل أوقعها الخالق الحكيم - رب الشمس والقمر - حدثاً خارقاً للسنن الكونية، تصديقاً لرسالة رسوله الحبيب e ، واعلاناً عن صدق دعوته، فابرزه سبحانه وتعالى وفق حكمته وبمقتضى سر الارشاد والتكليف وحكمة تبليغ الرسالة، وليقيم الحجة على من شاء من المشاهدين له، بينما اخفاه - اقتضاء لحكمته سبحانه ومشيئته - عمن لم تبلغهم دعوة نبيه e من الساكنين في اقطار العالم، وحَجَبه عنهم بالغيوم والسحاب وباختلاف المطالع وعدم طلوع القمر، أو شروق الشمس في بعض البلدان وانجلاء النهار في اخرى وغروب الشمس في غيرها.. وامثالها من الاسباب الداعية الى حَجب رؤية الانشقاق.
فلو اُظهرت المعجزة الى جميع الناس في العالم كله فإما انها كانت تبرز لهم نتيجة اشارة الرسول الاعظم e واظهاراً لمعجزة نبوية، وعندها تصل الى البداهة، اي يضطر الناس كلهم الى التصديق، اي يُسلب منهم الاختيار، فيضيع سر التكليف، بينما الايمان يحافظ على حرية العقل في الاختيار ولا يسلبها منه.. أو أنها تبرز لهم كحادثة سماوية محضة، وعندها تنقطع صلتها بالرسالة الأحمدية ولا تبقى لها مزيّة خاصة.
الخلاصة:
ان انشقاق القمر لا ريب في امكان وقوعه. فلقد أثبت اثباتاً قاطعاً. وسنشير هنا الى وقوعه بستة براهين قاطعة(1) من بين الكثير منها، وهي: اجماع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين وهم العدول. واتفاق العلماء المحققين من المفسرين لدى تفسيرهم } وانشق القَمَر{ ونقل جميع المحدّثين الصادقين في رواياتهم وقوعه بأسانيد كثيرة وبطرق عديدة(2). وشهادة جميع اهل الكشف والالهام من الأولياء الصادقين الصالحين و تصديق ائمة علم الكلام المتبحرين رغم تباين مسالكهم ومشاربهم. وقبول الامة التي لا تجتمع على ضلالة كما نص عليه الحديث الشريف.
كل ذلك يبين انشقاق القمر ويثبته اثباتاً قاطعاً يضاهي الشمس في وضوحها.
حاصل الكلام:
كان البحث الى هنا باسم التحقيق العلمي، إلزاماً للخصم. اما بعد هذا فسيكون الكلام باسم الحقيقة ولأجل الايمان. فقد نطق التحقيق العلمي هكذا. أما الحقيقة فتقول:
ان خاتم ديوان النبوة e وهو القمر المنير لسماء الرسالة، وقد سمَتْ ولايةُ عبوديته الى مرتبة المحبوبية، فاظهرت الكرامة العظمى والمعجزة الكبرى بالمعراج، اي بجولان جسمٍ ارضي في آفاق السموات العلى، وتعريف اهل السموات به، فأثبتت بتلك المعجزة ولايتَه العظمى لله ومحبوبيته الخالصة له وسمّوه على اهل السموات والملأ الاعلى.. كذلك فقد شق سبحانه القمر المعلق في السماء والمرتبط مع الارض باشارة من عبده في الأرض، فاظهر لأهل الارض معجزته هذه، اثباتاً لرسالة ذلك العبد الحبيب، فعرج e الى أوج الكمالات بجناحَي الولاية والرسالة النورانيين كالفلقين المنيرين للقمر حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى واصبح فخراً لأهل السموات ولأهل الارض معاً.
عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والتسليمات ملء الارض والسموات.
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
قطعة من ذيل رسالة ((المعجزات الأحمدية))
لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدٌ e ؟
[كُتب هذا البحث – ضمن بحوث دلائل النبوة الأحمدية – جواباً عن سؤال ورد في الإشكال الأول من ثلاثة إشكالات مهمة وردت في نهاية الاساس الثالث من رسالة ((المعراج)) فهو بمثابة فهرس مختصر].
سؤال: لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدُ e ؟
الجواب: ان إشكالكم الاول هذا، قد حُلَّ مفصلاً في الكلمات الثلاثة والثلاثين ضمن كتاب الكلمات، الا اننا نشير هنا مجرد اشارة مجملة على صورة فهرس موجز الى كمالات النبي الكريم e ، ودلائل نبوته، وانه هو الأحرى بهذا المعراج العظيم.
اولاً: ان الكتب المقدسة، التوراة والانجيل والزبور، رغم تعرضها الى التحريفات طوال العصور، وقد استنبط في عصرنا هذا العالم المحقق حسين الجسر عشراً ومائة بشارة منها تخص نبوة الرسول الكريم e ، واثبتها في كتابه الموسوم ((الرسالة الحميدية)).
ثانياً: انه ثابت تاريخياً - ورويت بروايات صحيحة - بشارات كثيرة بشّر بها الكهان من امثال الكاهنين المشهورين: شِق وسطيح، قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم واخبرا انه نبي آخر الزمان.
ثالثاً: ما حدث ليلة مولده e من سقوط الاصنام في الكعبة وانشقاق ايوان كسرى وامثالها من مئات الارهاصات والخوارق المشهورة في كتب التأريخ.
رابعاً: نبعان الماء من بين اصابعه الشريفة وسقيه الجيش به، وانين الجذع في المسجد وانشقاق القمر كما نصت عليه الآية الكريمة } وانشق القمر{ وامثالها من المعجزات الثابتة لدى العلماء المحققين والتي تبلغ الألف قد اثبتتها كتب السير والتأريخ.
خامساً: لقد اتفق الاعداء والاولياء بما لا ريب فيه ان ما يتحلى به e من الاخلاق الفاضلة هو في اسمى الدرجات، وان ما يتصف به من سجايا حميدة في دعوته هو في اعلى المراتب، تشهد بذلك معاملاته وسلوكه مع الناس. وان شريعته الغراء تضم اكمل الخصال الحسنة، تشهد بذلك محاسن الاخلاق في دينه القويم.
سادساً: لقد اشرنا في الاشارة الثانية من الكلمة العاشرة الى ان الرسول الكريم e هو الذي اظهر اعلى مراتب العبودية واسماها بالعبودية العظيمة في دينه تلبية لأرادة الله في ظهور الوهيته بمقتضى الحكمة.
وانه هو كذلك -كما هو بديهي - اكرم دالّ على جمالٍ في كمال مطلق لخالق العالم وافضل معرّف لبّى ارادة الله سبحانه في اظهار ذلك الجمال بوساطة مبعوث كما تقتضيه الحكمة والحقيقة.
وانه هو كذلك - كما هو مشاهد - اعظم دالّ على كمال صنعةٍ في جمال مطلق لصانع العالم، وباعظم دعوة واندى صوت، فلبّى ارادة الله جل وعلا في جلب الانظار الى كمال صنعته والاعلان عنها.
وانه هو كذلك - بالضرورة - اكمل مَن أعلن عن جميع مراتب التوحيد، فلبّى ارادة رب العالمين في اعلان الوحدانية على طبقات كثرة المخلوقات.
وانه هو كذلك - بالضرورة - أجلى مرآة وأصفاها لعكس محاسن جمال مالك العالم ولطائف حُسنه المنزّه - كما تشير اليه آثاره البديعة - وهو أفضل مَن أحبَّه وحببَّه، فلبّى ارادته سبحانه في رؤية ذلك الجمال المقدس واراءته بمقتضى الحقيقة والحكمة.
وأنه هو كذلك - بالبداهة - اعظم مَن عرَّف ما في خزائن الغيب لصانع هذا العالم - تلك الخزائن الملأى بأبدع المعجزات واثمن الجواهر - وهو أفضل مَن اعلن عنها ووصفها، فلبّى ارادته سبحانه في اظهار تلك الكنوز المخفية واعلام كمالاته بها.
وأنه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مرشد بالقرآن الكريم للجن والانس بل للروحانيين والملائكة، واعظم مَن بيّن معاني آثار صانع هذه الكائنات التي زيّنها باروع زينة ومكّن فيها ارباب الشعور من مخلوقاته لينعموا بالنظر والتفكر والاعتبار، فلّبى ارادته سبحانه في بيان معاني تلك الآثار وتقدير قيمتها لأهل الفكر والمشاهدة بمقتضى الحكمة.
وانه هو كذلك - بالبداهة - احسن من كشف بحقائق القرآن عن مغزى القصد من تحولات الكائنات والغاية منها، واكمل مَن حلّ اللغز المحير في الموجودات. وهو اسئلة ثلاثة معضلة: مَن انت؟ ومن اين؟ والى اين؟ فلبّى ارادته سبحانه في كشف ذلك الطلسم المغلق لذوي الشعور بوساطة مبعوث.
وانه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مَن بيّن المقاصد الإلهية بالقرآن الكريم وأحسن مَن وضح السبيل الى مرضاة رب العالمين، فلبّى ارادته سبحانه في تعريف ما يريده من ذوي الشعور وما يرضاه لهم بوساطة مبعوث، بعدما عرّف نفسه لهم بجميع مصنوعاته البديعة وحببها اليهم بما أسبغ عليهم من نعَمه الغالية.
وانه هو كذلك - بالبداهة - اعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم وادّاها أفضل اداء في اسمى مرتبة وابلغ صورة واحسن طراز، فلبّى ارادة رب العالمين في صرف وجه هذا الانسان من الكثرة الى الوحدة ومن الفاني الى الباقي، بوساطة مرشد ذلك الانسان الذي خلقه سبحانه ثمرةً للعالم ووهب له من الاستعدادات ما يسع العالم كله وهيأه للعبودية الكلية وابتلاه بمشاعر متوجهة الى الكثرة والدنيا.
وحيث ان اشرف الموجودات هم ذوو الحياة، وانبل الأحياء هم ذوو الشعور، واكرم ذوي الشعور هم بنو آدم الحقيقيون الكاملون، لذا فالذي ادّى من بين بني الانسان المكرم تلك الوظائف المذكورة آنفاً وأعطى حقها من الاداء في افضل صورة واعظم مرتبة من مراتب الاداء، لا ريب، انه سيعرج - بالمعراج العظيم - الى قاب قوسين أو أدنى، وسيطرق باب السعادة الابدية وسيفتح خزائن الرحمة الواسعة، وسيرى حقائق الايمان الغيبية رؤية شهود، ومن ذا يكون غير ذلكم النبي الكريم e ؟
سابعاً: يجد المتأمل في هذه المصنوعات المبثوثة في الكون أن فيها فعل التحسين في منتهى الجمال وفعل التزيين في منتهى الروعة، فبديهي أن مثل هذا التحسين والتزيين يدلان على وجود ارادة التحسين وقصد التزيين لدى صانع تلك المصنوعات فتلك الارادة الشديدة تدل بالضرورة على وجود رغبة قوية سامية ومحبة مقدسة لدى ذلك الصانع نحو صنعته...
لذا فمن البديهي أن يكون أحب مخلوق لدى الخالق الكريم الذي يحب مصنوعاته هو مَن يتصف بأجمع تلك الصفات، ومَن يُظهر في ذاته لطائف الصنعة اظهاراً كاملاً، ومن يعرفها ويعرِّفها، ومَن يحبِّب نفسه ويستحسن - باعجاب وتقدير - جمال المصنوعات الاخرى.
فمَن الذي جعل السموات والارض ترن بصدى ((سبحان الله... ما شاء الله... الله اكبر)) من اذكار الاعجاب والتسبيح والتكبير تجاه ما يرصّع المصنوعات من مزايا تزينّها ومحاسن تجمّلها ولطائف وكمالات تنورها؟ ومن الذي هزّ الكائنات بنغمات القرآن الكريم وجعل البر والبحر منجذباً في شوق عارم من الاستحسان والتقدير في تفكر واعلان وتشهير، في ذكر وتهليل؟ من ذا يكون تلك الذات المباركة غير محمد الأمين e ؟.
فمثل هذا النبي الكريم e الذي يضاف الى كفة حسناته في الميزان مثل ما قامت به امتُه من حسنات بسر ((السبب كالفاعل))... والذي تضاف الى كمالاته المعنوية الصلوات التي تؤديها الامة جميعاً.. والذي يُفاض عليه من الرحمة الإلهية ومحبتها ما لا يحدهما حدود فضلاً عما يناله من ثمرات ما اداه من مهمة رسالته من ثواب معنوي عظيم.. نعم، فمثل هذا النبي العظيم e لا ريب أن ذهابه الى الجنة، والى سدرة المنتهى، والى العرش الاعظم، فيكون قاب قوسين أو أدنى، أنما هو عين الحق، وذات الحقيقة ومحض الحكمة(1).
المرتبة السادسة عشرة
من رسالة ((الاية الكبرى))
التي تبحث عن ((الرسالة الأحمدية))
[لمناسبة المقام اُلحقت هذه المرتبة هنا]
ثم خاطب ذلك السائح في الدنيا عقله قائلاً: ما دمت أبحث عن مالكي وخالقي باستنطاق موجودات الكون هذا. فمن الأولى لي أن أزور مَن هو اكمل انسان في الوجود، واعظم من يقود الى الخير - حتى بتصديق أعدائه - وأعلاهم صيتاً وأصدقهم حديثاً وأسماهم منزلة وأنورهم عقلاً، ألا وهو محمد e الذي أضاء بفضائله وبقرآنه أربعة عشر قرناً من الزمان.. ولأجل أن أحظى بزيارته الكريمة واستفسر منه ما أبحث عنه، ينبغي ان نذهب معاً الى خير القرون الى عصر السعادة.. عصر النبوة... فدخل بعقله الى ذلك العصر فرأى:
ان ذلك العصر قد صار به e عصر سعادة للبشرية حقاً. لأنه e قد حوّل في زمن يسير بالنور الذي أتى به قوماً غارقين في أشد أمية، وأعرق بداوة حوّلهم الى أساتذة العالم وسادته.
وكذا خاطب عقله قائلاً: ((علينا قبل كل شئ ان نعرف شيئاً عن عظمة هذه الذات المعجزة، وذلك من أحقية أحاديثه، وصدق أخباره. ثم نستفسر منه عن خالقنا سبحانه)).. فباشر بالبحث. فوجد على صدق نبوته من الأدلة القاطعة الثابتة ما لا يعد ولا يحصى، ولكنه خلص الى تسع منها:
اولها: هو اتصافه e بجميع السجايا الفاضلة والخصال الحميدة، حتى شهد بذلك غرماؤه.. وظهور مئات المعجزات منه؛ كانشقاق القمر الذي انشق الى نصفين باشارة من أصبعه كما نص عليه القرآن } وانشق القمر{ ، وانهزام جيش الاعداء بما دخل أعينهم جميعاً من التراب القليل الذي رماه عليهم بقبضته. كما نصت عليه الاية الكريمة: } وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى{ (الانفال:17) وارتواء أصحابه من الماء النابع كالكوثر من بين أصابعه الخمسة المباركة عندما اشتد بهم العطش.. وغيرها من مئات المعجزات التي ظهرت بين يديه، والمنقولة إلينا نقلاً صحيحاً قاطعاً أو متواتراً، فاستطلعها السائح الى (المكتوب التاسع عشر) أي رسالة ((المعجزات الأحمدية)) تلك الرسالة الخارقة ذات الكرامة المتضمنة لأكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته e بدلائلها القاطعة واسانيدها الموثوقة.
ثم حدّث نفسه قائلاً: (ان من كان ذا ((أخلاق حسنة)) بهذا القدر و ((فضائل)) الى هذا الحد، و ((معجزات)) باهرة بهذه الكثرة، فلا جرم انه صاحب أصدق حديث ومن ثم لا يمكن ابداً ـ وحاشاه - ان يتنازل الى الحيلة والكذب والتمويه التي هي دأب الفاسدين).
ثانيها: كون القرآن الذي بيده e معجزاً من سبعة أوجه، ذلك الامر الصادر من مالك الكون الذي يسلّم به ويصدّقه أكثر من ثلاثمائة مليونٍ من البشر في كل عصر. ولما كانت (الكلمة الخامسة والعشرون) اي رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي شمس رسائل النور قد أثبتت بدلائل قوية أن هذا القرآن الكريم معجز من أربعين وجهاً، وانه كلام رب العالمين، لذا أحال السائح ذلك الى تلك الرسالة المشهورة لبيانها المفصل للاعجاز. ثم قال: ان الأمين على كلام الله، والمترجم الفعلي له، والمبلغ لهذا النبأ العظيم الى الناس كافة، وهو الحق بعينه والحقيقة بذاتها، لا يمكن ان يصدر منه كذب قط، ولن يكون موضع شبهة ابداً.
ثالثها: انه e قد بعث بشريعة مطهرة، وبدين فطري، وبعبودية خالصة، وبدعاء خاشع، وبدعوة شاملة، وبايمان راسخ، لا مثيل لما بعث به ولن يكون، وما وجد أكمل منه ولن يوجد.
لأن ((الشريعة)) التي تجلّت من أمّي e وادارت خمس البشرية على اختلافها منذ أربعة عشر قرناً ادارة قائمة على الحق والعدل بقوانينها الدقيقة الغزيرة، لا تقبل مثيلاً أبداً.
وكذا ((الاسلام)) الذي صدر من أفعال مَن هو أمّي e ومن أقواله، ومن أحواله، هو رائد ثلاثمائة مليون من البشر ومرجعهم في كل عصر، ومعلم لعقولهم ومرشد لها، ومنوّر لقلوبهم ومهذّب لها، ومربٍّ لنفوسهم ومزكٍّ لها، ومدار لإنكشاف أرواحهم ومعدن لسموها، لم يأت ولن يأتي له مثيل.
وكذا تفوقه e في جميع انواع ((العبادات)) التي يتضمنها دينه، وتقواه العظيمة أكثر من أي أحد كان، وخشيته الشديدة من الله ومجاهدته المتواصلة ورعايته الفائقة لأدق أسرار العبودية حتى في أشد الأحوال والظروف. وقيامه e بتلك العبودية الخالصة، دون أن يقلد أحداً وبكل معانيها مبتدئاً، وبأكمل صورة، موحداً الابتداء والانتهاء، لا شك لم يُرَ ولن يُرَى له مثيل.
وكذا فانه يصف، بالجوشن الكبير - الذي هو واحد من آلاف أدعيته ومناجاته - يصف ربه بمعرفة ربانية سامية لم يبلغ العارفون والأولياء جميعاً تلك المرتبة من المعرفة، ولا درجة ذلك الوصف منذ القدم مع تلاحق الافكار.. مما يظهر أنه لا مثيل له في ((الدعاء)). ومن ينظر الى الايضاح المختصر لفقرة واحدة من بين تسع وتسعين فقرة للجوشن الكبير، وذلك في مستهل رسالة ((المناجاة)) لا يسعه إلاّ القول انه لا مثيل لهذا الدعاء الرائع (الجوشن) الذي يمثل قمة المعرفة الربانية.
وكذا فان اظهاره في ((تبليغ الرسالة)) وفي دعوته الناس الى الحق من الصلابة والثبات والشجاعة ما لا يقاربها أحد، فلم يداخله - ولو بمقدار ذرة - أيّ أثرٍ للتردد ولا ساوره القلق قط، ولم ينل الخوف منه شيئاً، رغم معاداة الدول الكبرى والاديان العظمى له - وحتى قومه وقبيلته وعمه ناصبوه العداء الشديد - فتحدى وحده الدنيا بأسرها، ونصره الله وأعزّه فكلل هامة الدنيا بتاج الاسلام، فمَن مثل محمد e في تبليغ رسالات الله؟..
وكذا حمله ((ايماناً قوياً راسخاً، ويقيناً جازماً خارقاً، وانكشافاً للفطرة معجزاً، واعتقاداً سامياً ملأ العالم نوراً)) فلم تتمكن أن تؤثر فيه جميع الافكار والعقائد وحكمة الحكماء وعلوم الرؤساء الروحانيين السائدة في ذلك العصر، ولو بشبهة، أو بتردد، أو بضعف، أو بوسوسة. نعم، لم تتمكن ان تؤثر لا في يقينه، ولا في اعتقاده ولا في اعتماده على الله، ولا في اطمئنانه اليه، مع معارضتها له ومخالفته إياه، وانكارها عليه. زد على هذا استلهام جميع الذين ترقوا في المعنويات والمراتب الايمانية من أهل الولاية والصلاح، وفي مقدمتهم الصحابة الكرام، واستفاضتهم دوماً من مرتبته الايمانية، ورؤيتهم له انه في أسمى الدرجات والمراتب. كل ذلك يظهر - بداهة - ان ايمانه e لا مثيل له ايضاً.
ففهم السائح، وصدّق عقله ان منَ كان صاحب هذه الشريعة السمحاء التي لامثيل لها، والاسلام الحنيف الذي لا شبيه له، والعبودية الخالصة التي لا نظير لها، والدعاء البديع الرائع، والدعوى الكونية الشاملة، والايمان المعجز، لن يكون عنده كذب قط، ولن يكون خادعاً ابداً.
الدليل الرابع: اجماع الانبياء عليهم السلام واتفاقهم على الحقائق الايمانية نفسها هو دليل قاطع على وجود الله سبحانه وعلى وحدانيته، وهو شهادة صادقة أيضاً على صدق هذا النبي e وعلى رسالته، ذلك لأن كل ما يدل على صدق نبوة اولئك الأنبياء عليهم السلام، وكل ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزات، والمهام التي اضطلعوا بها يوجد مثلها وباكمل منها فيه e ، كما هو مصدّق تاريخاً. فاولئك الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بلسان المقال - أي بالتوراة والانجيل والزبور والصحف التي بين أيديهم - بمجئ هذه الذات المباركة وبشروا الناس بقدومه e (حتى ان اكثر من عشرين اشارة واضحة ظاهرة من الاشارات المبشّرة لتلك الكتب المقدسة قد بُينت بياناً جلياً وأثبتت في رسالة المعجزات الأحمدية) فكما انهم قد بشروا بمجيئه e فانهميصدّقونه e بلسان حالهم - أي بنبوتهم وبمعجزاتهم - ويختمون بالتأييد على صدق دعوته اذ هو السابق الاكمل في مهمة النبوة والدعوة الى الله. فادرك السائح انهم مثلما يدلّون - أي اولئك الانبياء - بلسان المقال والاجماع على الوحدانية، فانهم يشهدون - بلسان الحال وبالاتفاق كذلك - على صدق هذا النبي الكريم e .
الدليل الخامس: ان وصول آلاف الأولياء الى الحق والحقيقة، وما نالوا من الكمالات والكرامات وما فازوا من الكشفيات والمشاهدات ليس الاّ بالاقتداء بهدي دساتير هذا النبي e ، وبتربيته، وباتباعه، وتعقّب اثره، فمثلما انهم يدلـّون جميعاً على الوحدانية فهم يشهدون بالاجماع والاتفاق على صدق هذا النبي الكريمe - أستاذهم وامامهم - وعلى أحقية رسالته. فرأى السائح ان مشاهدة هؤلاء قسماً مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من عالم الغيب بنور الولاية واعتقادهم به وتصديقهم لجميع ما اخبر به بنور الايمان له - إما بعلم اليقين أو بعين اليقين أو بحق اليقين ـــ انما تُظهر ظهوراً كالشمس: ما أصدق مرشدهم الاعظم وما احق رائدهم الاكبر e .
الدليل السادس: ان ملايين العلماء المدققين الأصفياء، والمحققين الصديقين، ودهاة الحكماء المؤمنين، ممن بلغوا أعلى المراتب بفضل ما درسوا وتتلمذوا على ما جاء به هذا النبي الكريم e - مع كونه أمياً - من الحقائق القدسية، وما نبع منها من العلوم العالية، وما كشفت عنه من المعرفة الإلهية.. ان هؤلاء جميعاً مثلما يثبتون الوحدانية التي هي الاساس لدعوته e ويصدقّونها متفقين ببراهينهم القاطعة فانهم يتفقون كذلك ويشهدون على صدق هذا المعلم الاكبر وصواب هذا الاستاذ الأعظم وعلى أحقية كلامه e . فشهادتهم هذه حجة واضحة كالنهار على صدقه وصواب رسالته، وما رسائل النور بأجزائها التي تزيد على المائة مثلاً الاّ برهان واحد فقط على صدق وصواب هذا النبي الحبيب e .
الدليل السابع: ان الجمع العظيم الذين يطلق عليهم (الآل والأصحاب) الذين هم أشهر بني البشر بعد الأنبياء فراسةً واكثرهم درايةً، واسماهم كمالاتٍ وافضلهم منزلة، واعلاهم صيتاً، واشدهم اعتصاماً بالدين، وأحدّهم نظراً... ان تحريّ هؤلاء وتفتيشهم وتدقيقهم لجميع ما خفي وما ظهر من احوال هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأفكاره وتصرفاته بحثاً بكمال اللهفة والشوق، وبغاية الدقة، وبمنتهى الجدية، ثم تصديقهم بالاتفاق والاجماع انه e هو أصدق مَن في الدنيا حديثاً، واسماهم مكانة واشدهم اعتصاماً بالحق والحقيقة. فتصديقهم هذا الذي لا يتزعزع مع ما يملكون من إيمان عميق، انما هو دليل باهر كدلالة النهار على ضياء الشمس.
الدليل الثامن: ان هذا الكون مثلما يدل على صانعه، وكاتبه، ومصوره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ، أو كأنه كتاب كبير، أو كأنه معرض بديع، أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويعلـِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات. أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، واستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً. فأدرك السائح: ان الكون – من حيث هذا الاقتضاء – يدل ويشهد على صدق هذا النبي الكريم e وصوابه الذي هو أفضل من أتم هذه الوظائف والمهمات، وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين.
الدليل التاسع: ما دام هناك وراء الحجاب مَن يُشهر كمال كونه بديعاً متقناً، بمصنوعاته هذه؛ ذات الاتقان والحكمة.. ويعرِّف نفسَه ويودّدها، بمخلوقاته غير المحدودة ذات الزينة والجمال.. ويُوجب الشكر والحمد له، بنعمه التي لا تحصى ذات اللذة والنفاسة.. ويشوّق الخلق الى العبادة نحو ربوبيته بعبودية تتسم بالحب والامتنان والشكر إزاء هذه التربية، والاعاشة العامة، ذات الشفقة والحماية (حتى انه يهيئ أطعمة وضيافات ربانية ما تُطَمئِن أدق أذواق الأفواه وجميع أنواع الاشتهاء)... ويُدين الخلق الى الايمان والتسليم والانقياد والطاعة نحو الوهيته التي يظهرها بتبديل المواسم، وتكوير الليل على النهار، واختلافهما، وأمثالها من التصرفات العظيمة، والاجراءات الجليلة، والفعالية المدهشة والخلاقية الحكيمة... ويُظهر عدالته وانتصافه بحمايته دوماً البرّ والابرار وازالته الشر والاشرار ومحقه الظالمين والمكذبين واهلاكهم بنوازل سماوية.
فلاجرم، ان احب مخلوق لدى ذلك المستتر بالغيب، وأصدق عبدٍ له هو مَن كان عاملاً خالصاً لمقاصده المذكورة آنفاً، ومَن يحل السر الأعظم في خلق الكون ويكشف لغزه، ومن يسعى دوماً باسم خالقه ويستمد القوة منه ويستعين به وحده في كل شئ فينال المدد والتوفيق منه سبحانه. ومن ذا يكون هذا غير محمد القرشي عليه الصلاة والسلام.
ثم خاطب السائح عقله: لَمّا كانت هذه الحقائق التسع شاهدة اثبات على صدق هذا النبي الكريم. فلا ريب اذآً: انه قطب شرف البشرية، ومدار افتخار العالم، وانه حري ولائق تسميته شرف بني آدم، وتلقيبه بفخر العالمين. وان ما في يده من أمر الرحمن وهو القرآن الكريم المهيمن جلال سلطانه المعنوي على نصف الارض مع ما يملك من كمالاته الشخصية وخصاله السامية يظهران: ان اعظم انسان في الوجود هو هذا النبي العظيم، فالقول الفصل اذن بحق خالقنا سبحانه هو قوله e .
فتعال يا عقلى وتأمل: ان أساس جميع دعاوى هذا النبي الكريم e ، وغاية حياته كلها، انما هي الشهادة على وجود واجب الوجود، والدلالة على وحدانيته، وبيان صفاته الجليلة، واظهار اسمائه الحسنى، واثبات كل ذلك، واعلانه، واعلامه؛ استناداً الى ما في دينه من ألوف الحقائق الراسخة الأساس والى قوة ما اظهره الله على يده مئات من معجزاته القاطعة الباهرة.
أي ان الشمس المعنوية التي تضئ هذا الكون والبرهان النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيته، انما هو هذا النبي الكريم الملقب بـ ((حبيب الله)) e ، فهنالك ثلاثة أنواع من الاجماع عظيمة لا تخدع ولا تنخدع، تؤيد شهادته وتصدّقها:
الاجماع الاول:
اجماع الذين اشتهروا، وتميزوا في العالم باسم (آل محمد e ) تلك الجماعة النورانية التي يتقدمها الامام علي رضي الله عنه الذي قال: ((لو رُفع الحجاب ما ازددتُ يقيناً))، وخلفه الاف الأولياء العظام من ذوي البصائر الحادة والنظر الانيس للغيب من أمثال الشيخ الكيلاني (قدس سره) الذي كان ينظر ببصيرته النافذة الى العرش الاعظم واسرافيل بعظمته وهو بعد على الارض.
الاجماع الثاني:
اجماع تلك الجماعة المعروفة بالصحابة الكرام المشهورين في العالم ((رضي الله عنهم أجمعين)) وتصديقهم بالاتفاق وبايمان راسخ قوي لهذا النبي الكريم، حتى ساقهم ذلك الى التضحية والفداء بأرواحهم وأموالهم وآبائهم وعشيرتهم، وهم الذين كانوا قوماً بدواً يقطنون في محيط أمّيٍ خالٍ من مظاهر الحياة الاجتماعية والافكار السياسية، ليس لهم هدى ولا كتاب منير. وكانوا مغمورين في ظلمة عصر ((الفترة))، فصاروا في زمن يسير أساتذة مرشدين وسياسيين وحكاماً عادلين لأرقى الامم حضارة وعلماً واجتماعاً وسياسةً، فحكموا العالم شرقاً وغرباً ورفرفت رايات عدالتهم براً وبحراً.
الاجماع الثالث:
هو تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الاجلاء الذين لا يعدون ولا يحصون، المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى ولهم في كل عصر آلاف من الحائزين على قصب السبق - بدهائهم - في كل علم، فتصديق هؤلاء جميعاً له بالاتفاق وبدرجة علم اليقين اجماع أي اجماع!..
فحكم السائح بان شهادة هذا النبي الامي e على الوحدانية ليست شهادة شخصية وجزئية، وانما هي شهادة عامة وكلية راسخة لا تتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطين كافة في أية جهة ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذُكرت إشارة مختصرة لما تلقاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانب الحياة من تلك المدرسة النورانية في المرتبة السادسة عشرة من المقام الاول كالآتي:
((لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحدُ الأحدُ الذي دلَّ على وجوب وجوده في وحدتِهِ: فخرُ عالمٍ وشرف نوع بني آدم، بعظمةِ سلطنة قرآنِهِِ، وحشمَةِ وسعَة دينه، وكثرة كمالاتِه، وعُلويّةِ اخلاقه، حتى بتصديق أعدائِهِ. وكذا شهد وبرهن بقوةِ مئات المعجزات الظاهرات الباهرات المُصدِّقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، باجماع آله ذوي الأنوار، وباتفاق اصحابه ذوي الأبصار، وبتوافق محُققِي أمـِّتهِ ذوي البراهين والبصائِرِ النوّارة)).
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس