الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #11
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الحقيقة الثامنة
باب الوعد والوعيد
وهو تجلي اسم ((الجميل والجليل))
أمن الممكن لمبدع هذه الموجودات وهو العليم المطلق والقدير المطلق ألاّ يوفي بما أخبر به مكرراً الانبياء عليهم السلام كافة بالتواتر من وعد ووعيد، وشهد به الصدِّيقون والاولياء كافة بالاجماع، مُظهراً عجزاً وجهلاً بذلك؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. علماً ان الأمور التي وعد بها، وأوعدها، ليست عسيرة على قدرته قطعاً، بل هي يسيرة وهينة، وسهلة كسهولة اعادة الموجودات التي لا تحصى للربيع السابق بذواتها(1) أو بمثلها(2) في الربيع المقبل. أما الوفاء بالوعد فكما هو ضروري لنا ولكل شئ ضروري كذلك لسلطنة ربوبيته. بعكس اخلاف الوعد فهو مضاد لعزة قدرته، ومنافٍ لإحاطة علمه، حيث لا يتأتى اخلاف الوعد اِلا من الجهل أو العجز.
فيا أيها المنكر! هل تعلم مدى حماقة ما ترتكب من جناية عظمى بكفرك وانكارك! انك تصدّق وهمَك الكاذب وعقلك الهاذي ونفسَك الخدّاعة، وتكذّب مَن لا يضطر الى اخلاف الوعد، ولا الى خلافه ابداً، بل لا يليق الاخلاف بعزته وعظمته قطعاً. واِن جميع الاشياء وجميع المشهودات تشهد على صدقه وأحقيته!!.. انك ترتكب اذن جناية عظمى لا نهاية لها مع صغرك المتناهي، فلا جرم انك تستحق عقاباً عظيماً أبدياً.. ولقياس عِظَم ما يرتكبه الكافر من جناية فقد وَرَد ان ضرس بعض اهل النار كالجبل(3).. ان مَثَلك هو كمثَل ذلك المسافر الذي يغمض عينيه عن نور الشمس ويتبع ما في عقله من خيال، ثم يريد أن ينوّر طريقه المخيف بضياء ما في عقله من بصيص كنور اليراعة!.
فما دام الله سبحانه قد وعد، وهذه الموجودات كلماته الصادقة بالحق، وهذه الحوادث في العالم آياته الناطقة بالصدق، فانه سيوفي بوعده حتماً، وسيفتح محكمة كبرى، وسيهب سعادة عظمى.
الحقيقة التاسعة
باب الإحياء والاماتة
وهو تجلي اسم ((الحي القيوم والمحيي والمميت))
أمن الممكن للذي اظهر قدرتَه باِحياء الأرض الضخمة بعد موتها وجفافها، وبعث اكثر من ثلاثمائة ألف نوع من انوع المخلوقات، مع ان بعث كل نوع عجيب كأعجوبة بعث البشر.. والذي اظهر احاطةَ علمه ضمن ذلك الإحياء بتمييزه كل كائن من بين ذلك الامتزاج والتشابك.. والذي وجّه انظار جميع عباده الى السعادة الأبدية بوعدهم الحشر في جميع أوامره السماوية.. والذي اظهر عظمة ربوبيته بجعله الموجودات متكاتفة مترافقة، فادارها ضمن أمره وارادته، مسخراً أفرادها، معاوناً بعضها بعضاً.. والذي أولى البشر الاهمية القصوى، بجعله أجمع ثمرة في شجرة الكائنات، وألطفها وأشدها رقةً ودلالاً، واكثرها مستجاباً للدعاء، مسخراً له كل شئ، متخذاً اِياه مخاطباً.. أفمن الممكن لمثل هذا القدير الرحيم ولمثل هذا العليم الحكيم الذي أعطى هذه الأهمية للانسان ان لا يأتي بالقيامة؟ ولا يحدث الحشر ولا يبعث البشر، أو يعجز عنه؟ وان يعجز عن فتح أبواب المحكمة الكبرى وخلق الجنة والنار؟!. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
نعم، ان الرب المتصرف في هذا العالم جلّ جلاله يُحدث في هذه الأرض المؤقتة الضيقة في كل عصر وفي كل سنة وفي كل يوم نماذج وأمثلة كثيرة واشارات عديدة للحشر الاكبر. فعلى سبيل المثال:
انه يحشر في بضعة ايام في حشر الربيع ويبعث اكثر من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات من صغير وكبير، فيحيي جذور الاشجار والاعشاب، ويعيد بعض الحيوانات بعينها كما يعيد أمثال بعضها الآخر. ومع أن الفروق المادية بين البُذيرات المتناهية في الصغر جزئية جداً، اِلا أنها تُبعث وتُحيا بكل تميّز، وتشخّص في منتهى السرعة في ستة ايام، أو ستة أسابيع، وفي منتهى السهولة والوفرة، وبانتظام كامل وميزان دقيق، رغم اختلاطها وامتزاجها. فهل يصعب على من يقوم بمثل هذه الاعمال شئ، أو يعجز عن خلق السموات والارض في ستة أيام، أولا يستطيع ان يحشر الانسان بصيحة واحدة؟.. سبحان الله عما يصفون.
فيا ترى ان كان ثمة كاتبٌ ذو خوارق يكتب ثلاثمائة ألف كتاب مُسحت حروفُها ومُسخت، في صحيفة واحدة دون اختلاط ولا سهو ولا نقص، وفي غاية الجمال، ويكتبها جميعاً معاً خلال ساعة واحدة. وقيل لك: ان هذا الكاتب سيكتب من حفظه في دقيقة واحدة كتابك الذي وقع في الماء وهو من تأليفه. فهل يمكنك أن ترد عليه وتقول: لا يستطيع. لا أصدق؟!.. أو أن سلطاناً ذا معجزات يرفع الجبال وينسفها ويغير المدن بكاملها ويحول البحر براً، باشارة منه، اظهاراً لقدرته وجعلها آية للناس.. فبينما ترى منه هذه الاعمال اذا بصخرة عظيمة قد تدحرجت الى وادٍ وسدّت الطريق على ضيوفه، وقيل لك: ان هذا السلطان سيميط حتماً تلك الصخرة من على الطريق ويحطمها مهما كانت كبيرة، حيث لا يمكن ان يدع ضيوفه في الطريق.. كم يكون جوابك هذياناً أو جنوناً اذا ما أجبته بقولك: لا، لا يستطيع أن يفعل؟!!.. أو أن قائداً يمكنه أن يجمع من جديد افراد جيشه الذي شكله بنفسه في يوم واحد. وقيل لك: ان هذا سيجمع افراد تلك الفرق وسينضوي تحت لوائه أولئك الذين سرّحوا وتفرّقوا، بنفخة من بوق، فأجبته: لا، لا اصدق!. عندها تفهم أن جوابك هذا ينبئ عن تصرف جنوني، أيّ جنون!!
فاذا فهمت هذه الأمثلة الثلاثة فتأمل في ذلكم البارئ المصور سبحانه وتعالى الذي يكتب امام انظارنا باحسن صورة واتمها بقلم القدرة والقدر اكثر من ثلاثمائة الف نوع من الانواع على صحيفة الارض، مبدلاً صحيفة الشتاء البيضاء الى الاوراق المتفتحة للربيع والصيف، يكتبها متداخلة دون اختلاط، يكتبها معاً دون مزاحمة ولا التباس، رغم تباين بعضها مع البعض الآخر في التركيب والشكل. فلا يكتب خطأ مطلقاً. أفيمكن ان يُسال الحفيظ الحكيم الذي أدرج خطة روح الشجرة الضخمة ومنهاجها في بذرة متناهية في الصغر محافظاً عليها، كيف سيحافظ على ارواح الاموات؟. أم هل يمكن أن يُسأل القدير ذو الجلال الذي يُجري الارض في دورتها بسرعة فائقة، كيف سيزيلها من على طريق الآخرة، وكيف سيدمّرها؟ أم هل يمكن أن يُسأل ذو الجلال والاكرام الذي أوجد الذرات من العدم ونسّقها بأمر ((كُنْ فَيَكُونُ)) في أجساد جنود الاحياء ، فأنشأ منها الجيوش الهائلة، كيف سيجمع بصيحة واحدة تلك الذرات الاساسية التي تعارفت فيما بينها، وتلك الاجزاء الاساسية التي انضوت تحت لواء فرقة الجسد ونظامه؟
فها أنت ذا ترى بعينيك كم من نماذج وأمثلة وامارات للحشر شبيهة بحشر الربيع، قد أبدعها الباري سبحانه وتعالى في كل موسم، وفي كل عصر، حتى ان تبديل اللّيل والنّهار، وانشاء السحاب الثقال وافناءها من الجو، نماذج للحشر وأمثلة وامارات عليه.
واذا تصورت نفسك قبل ألف سنة مثلاً، وقابلت بين جناحي الزمان الماضي والمستقبل، ترى أمثلة الحشر والقيامة ونماذجها بعدد العصور والايام.
فلو ذهبت الى استبعاد الحشر الجسماني وبعث الاجساد متوهماً انه بعيد عن العقل ، بعد ما شاهدت هذا العدد الهائل من الأمثلة والنماذج، فستعلم انت كذلك مدى حماقة من ينكر الحشر.
تأمل ماذا يقول الدستور الاعظم حول هذه الحقيقة:
] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذلِكَ لَمُحيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ[ (الروم: 50)
الخلاصة: لا شئ يحول دون حدوث الحشر، بل كل شئ يقتضيه ويستدعيه. نعم! ان الذي يحيي هذه الارض الهائلة وهي معرض العجائب ويميتها كأدنى حيوان، والذي جعلها مهداً مريحاً وسفينة جميلة للانسان والحيوان، وجعل الشمس ضياءً وموقداً لهذا المضيف، وجعل الكواكب السيّارة والنجوم اللامعة مساكن طائرات للملائكة.. ان ربوبية خالدة جليلة الى هذا الحدّ، وحاكمية محيطة عظيمة الى هذه الدرجة، لا تستقران ولا تنحصران في أمور الدنيا الفانية الزائلة الواهية السيالة التافهة المتغيرة. فلابد أن هناك داراً اخرى باقية، دائمة، جليلة، عظيمة، مستقرة، تليق به سبحانه فهو يسوقنا الى السعي الدائب لأجل تلك الممالك والديار ويدعونا اليه وينقلنا الى هناك. يشهد على هذا اصحاب الأرواح النيرة، وأقطاب القلوب المنورة، وأرباب العقول النورانية، الذين نفذوا من الظاهر الى الحقيقة، والذين نالوا شرف التقرب اليه سبحانه. فهم يبلغوننا متفقين انه سبحانه قد أعد ثواباً وجزاءاً، وأنه يَعِد وعداً قاطعاً، ويوعد وعيداً جازماً..
فاخلاف الوعد لا يمكن أن يدنو الى جلاله المقدّس، لأنه ذلّة وتذلل. وأما اخلاف الوعيد فهو ناشئ من العفو أو العجز. والحال أن الكفر جناية مطلقة(1) لا يستحق العفو والمغفرة. اما القدير المطلق فهو قدوس منزّه عن العجز، وأما المخبرون والشهود فهم متفقون اتفاقاً كاملاً على اساس هذه المسألة رغم اختلاف مسالكهم ومناهجهم ومشاربهم. فهم من حيث الكثرة بلغوا درجة التواتر، ومن حيث النوعية بلغوا قوة الاجماع، ومن حيث المنزلة فهم نجوم البشرية وهداتها وأعزة القوم وقرة عيون الطوائف. ومن حيث الأهمية فهم في هذه المسألة ((أهل اختصاص وأهل اثبات)). ومن المعلوم ان حكم اثنين من أهل الاختصاص في علم أو صنعة يرجّح على آلاف من غيرهم، وفي الاخبار والرواية يرجح قول اثنين من المثبتين على آلاف من النافين المنكرين، كما في اثبات رؤية هلال رمضان، حيث يرجّح شاهدان مثبتان، بينما يضرب بكلام آلاف من النافين عرض الحائط.
والخلاصة: لا خبر اصدق من هذا في العالم، ولا قضية أصوب منها، ولا حقيقة اظهر منها ولا اوضح.
فالدنيا اذن مزرعة بلا شك، والمحشر بيدر، والجنة والنار مخزنان.
الحقيقة العاشرة
باب الحكمة والعناية والرحمة والعدالة
وهو تجلي اسم ((الحكيم والكريم والعادل والرَّحيم))
أمن الممكن لمالك الملك ذي الجلال الذي أظهر في دار ضيافة الدنيا الفانية هذه، وفي ميدان الامتحان الزائل هذا، وفي معرض الارض المتبدل هذا، هذا القدر من آثار الحكمة الباهرة، وهذا المدى من آثار العناية الظاهرة، وهذه الدرجة من آثار العدالة القاهرة، وهذا الحد من آثار الرحمة الواسعة! ثم لا ينشئ في عالم ملكه وملكوته مساكن دائمة، وسكنة خالدين، ومقامات باقية، ومخلوقات مقيمين. فتذهب هباءاً منثوراً جميع الحقائق الظاهرة لهذه الحكمة، ولهذه العناية، ولهذه العدالة، ولهذه الرحمة؟.
وهل يعقل لحكيم ذي جلال اختار هذا الانسان من بين المخلوقات، وجعله مخاطباً كلياً له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى، ومقدّراً لما في خزائن رحمته من ينابيع، ومتذوقاً لها ومتعرفاً اليها، والذي عرّف سبحانه ذاته الجليلة له بجميع أسمائه الحسنى، فأحبّه وحبّبه اليه.. أفمن المعقول بعد كل هذا ان لا يُرسل ذلك((الحكيم)) جل وعلا هذا الانسان المسكين الى مملكته الخالدة تلك؟ ولا يسعده في تلك الدار السعيدة بعد أن دعاه اليها؟؟
أم هل يعقل أن يحمّل كل موجود وظائف جمّة - ولو كان بذرة - بثقل الشجرة، ويركّب عليه حِكَماً بعدد أزهارها، ويقلّده مصالح بعدد ثمارها، ثم يجعل غاية وجود تلك الوظائف والحكم والمصالح جميعها مجرّد ذلك الجزء الضئيل المتوجه الى الدنيا. أي يجعل غاية الوجود هي البقاء في الدنيا فقط، الذي لا أهمية له حتى بمثقال حبة من خردل؟ ولا يجعل تلك الوظائف والحِكَم والمصالح بذوراً لعالم المعنى، ولا مزرعة لعالم الآخرة لتثمر غاياتها الحقيقية اللائقة بها.
وهل يعقل ان تذهب جميع هذه المهرجانات الرائعة والاحتفالات العظيمة هباءً بلا غاية، وسدى بلا معنى وعبثاً بلا حكمة؟!
أم هل يعقل ان لا يوجّه كلها الى عالم المعنى وعالم الآخرة لتظهر غاياتُها الأصيلة وأثمارُها الجديرةُ بها؟!
نعم! أمن الممكن ان يظهر كل ذلك خلافاً للحقيقة، خلافاً لأوصافه المقدّسة وأسمائه الحسنى: ((الحكيم، الكريم، العادل، الرحيم)) كلا.. ثم كلا.
أم هل من الممكن أن يكذِّب سبحانه حقائقَ جميع الكائنات الدالة على أوصافه المقدّسة من حكمةٍ وعدلٍٍ وكرمٍ ورحمة، ويردّ شهادة الموجودات جميعاً، ويبطل دلائل المصنوعات جميعاً! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهل يقبل العقل أن يعطي للانسان اجرة دنيوية زهيدة، زهادة شعرة واحدة، مع انه اناط به وبحواسه مهاماً ووظائف هي بعدد شعرات رأسه؟ فهل يمكن ان يقوم بمثل هذا العمل الذي لا معنى له ولا مغزى خلافاً لعدالته الحقة، ومنافاة لحكمته الحقيقة؟ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
أوَ من الممكن أن يقلّد سبحانه كل ذي حياة، بل كل عضو فيه - كاللسان مثلاً - بل كل مصنوع، من الحِكم والمصالح بعدد أثمار كل شجرة مُظهراً حكمته المطلقة ثم لا يمنح الانسان البقاء والخلود، ولا يهب له السعادة الأبدية التي هي أعظم الحِكَم، وأهم المصالح، وألزم النتائج؟ فيترك البقاء واللقاء والسعادة الابدية التي جعلت الحكمة حكمة، والنعمة نعمةً، والرحمة رحمةً، بل هي مصدر جميع الحكم والمصالح والنعم والرحمة ومنبعها. فهل يمكن ان يتركها ويهملها ويسقط تلك الأمور جميعها الى هاوية العبث المطلق؟ ويضع نفسه - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - بمنزلة من يبني قصراً عظيماً يضع في كل حجر فيه آلاف النقوش والزخارف، وفي كل زاوية فيه آلاف الزينة والتجميل، وفي كل غرفة فيه آلاف الآلات الثمينة والحاجيات الضرورية.. ثم لا يبني له سقفاً ليحفظه؟! فيتركه ويترك كل شئ للبلى والفساد! حاشَ لله.. ان الخير يصدر من الخيّر المطلق، وان الجمال يصدر من الجميل المطلق، فلن يصدر من الحكيم المطلق العبث البتة.
نعم! ان كل من يمتطي التاريخ ويذهب خيالاً الى جهة الماضي سيرى انه قد ماتت بعدد السنين منازلُ ومعارضُ وميادين وعوالمُ شبيهة بمنزل الدنيا وميدان الابتلاء ومعرض الاشياء في وقتنا الحاضر. فعلى الرغم مما يُرى من اختلاف بعضها عن البعض الآخر صورةً ونوعاً، فانها تتشابه في الانتظام والابداع وابراز قدرة الصانع وحكمته.
وسيرى كذلك - ما لم يفقد بصيرته - ان في تلك المنازل المتبدلة، وفي تلك الميادين الزائلة، وفي تلك المعارض الفانية.. من الأنظمة الباهرة الساطعة للحكمة، والاشارات الجليّة الظاهرة للعناية، والامارات القاهرة المهيمنة للعدالة، والثمار الواسعة للرحمة ما سيدرك يقيناً أنه:
لا يمكن ان تكون حكمةٌ اكملَ من تلك الحكمة المشهودة، ولا يمكن ان تكون عناية أروع من تلك العناية الظاهرة الآثار، ولا يمكن أن تكون عدالة أجلّ من تلك العدالة الواضحة أماراتها. ولا يمكن ان تكون رحمة اشمل من تلك الرحمة الظاهرة الثمار.
واذا أفتُرض المحال، وهو أن السلطان السرمدي - الذي يدير هذه الامور، ويغيّر هؤلاء الضيوف والمستضافات باستـمرار - ليست له منـازل دائمة ولا أماكن راقية سامية ولا مقامات ثابتة ولا مساكن باقية ولا رعايا خالدون، ولا عبادٌ سعداء في مملكته الخالدة. يلزم عندئذٍ انكار الحقائق الاربعة: (الحكمة والعدالة والعناية والرحمة) التي هي عناصر قوية شاملة كالنور، والهواء والماء والتراب، وانكار وجودها الظاهر ظهور تلك العناصر. لانه من المعلوم ان هذه الدنيا وما فيها لا تفي لظهور تلك الحقائق، فلو لم يكن هناك في مكان آخر ما هو اهل لها، فيجب انكار هذه الحكمة الموجودة في كل شئ أمامنا - بجنون من ينكر الشمس الذي يملأ نورها النهار - وانكار هذه العناية التي نشاهدها دائماً في أنفسنا وفي أغلب الاشياء. وانكار هذه العدالة الجلية الظاهرة الامارات(1). وانكار هذه الرحمة التي نراها في كل مكان. وكذلك يلزم ان يعتبر صاحب ما نراه من الاجراءات الحكيمة والافعال الكريمة، والآلاء الرحيمة (حاشَ لله ثم حاشَ لله) لاهياً لاعباً ظالماً غدّاراً تعالىالله عن ذلك علواً كبيراً، وما هذا الاّ انقلاب الحقائق باضدادها، وهو منتهى المحال، حتى السوفسطائيون الذين انكروا وجود انفسهم لم يدنوا الى تصوّر هذا المحال بسهولة.
والخلاصة: أنه ليست هناك علاقة أو مناسبة بين ما يُشاهَد في شؤون العالم من تجمعات واسعة للحياة، وافتراقات سريعة للموت، وتكتلات ضخمة، وتشتتات سريعة، واحتفالات هائلة، وتجليات رائعة.. وبين ما هو معلوم لدينا من نتائج جزئية، وغايات تافهة مؤقتة، وفترة قصيرة تعود الى الدنيا الفانية. لذا فالربط بينهما بعلاقة، أو ايجاد مناسبة، لا ينسجم مع عقل ولا يوافق مع حكمة، اذ يشبه ذلك ربط حِكَم هائلة وغايات عظيمة كالجبل بحصاة صغيرة جداً، وربط غاية تافهة جزئية مؤقتة - بحجم الحصاة - بجبل عظيم!!.
أي اِنّ عدم وجود هذه العلاقة بين هذه الموجودات وشؤونها وبين غاياتها التي تعود الى الدنيا، يشهد شهادة قاطعة، ويدل دلالة واضحة على ان هذه الموجودات متوجهة الى عالم المعنى، حيث تعطي ثمارها اللطيفة اللائقة هناك، وان انظارها متطلعة الى الاسماء الحسنى، وان غاياتها ترنو الى ذلك العالم. ومع ان بذورها مخبوءة تحت تراب الدنيا الاّ ان سنابلها تبرز في عالم المثال. فالانسان - حسب استعداده - يَزرع ويُزرع هنا ويحصد هناك في الآخرة.
نعم! لو نظرت الى وجوه الموجودات المتوجهة الى الاسماء الحسنى والى عالم الآخرة لرأيت:
ان لكل بذرة - وهي معجزة القدرة الإلهية - غايات كبيرة كبر الشجرة.
وان لكل زهرة - وهي كلمة الحكمة(1) - معاني جمّة بمقدار ازهار الشجر.
وان لكل ثمرة - وهي معجزة الصنعة وقصيدة الرحمة - من الحِكَم ما في الشجرة نفسها. أما من جهة كونها أرزاقاً لنا فهي حكمة واحدة من بين الوف الحكم، حيث أنها تنهي مهامها، وتوفي مغزاها فتموت وتدفن في معداتنا.
فما دامت هذه الاشياء الفانية تؤتي ثمارها في غير هذا المكان، وتودع هناك صوراً دائمة، وتعبّر عن معانٍ خالدة، وتؤتي اذكارها وتسابيحها الخالدة السرمدية هناك. فالانسان اذن يصبح انساناً حقاً مادام يتأمل وينظر الى تلك الوجوه المتوجهة نحو الخلود. وعنده يجد سبيلاً من الفاني الى الباقي.
اِذن هناك قصد آخر ضمن هذه الموجودات المحتشدة والمتفرقة التي تسيل في خضم الحياة والموت، حيث ان احوالها تشبه - ولا مؤاخذة في الأمثال - احوالاً وأوضاعاً تُرتّب للتمثيل، فتنفق نفقات باهظة لتهيئة اجتماعات وافتراقات قصيرة، لأجل التقاط الصور وتركيبها لعرضها على الشاشة عرضاً دائماً.
وهكذا فان احدى غايات قضاء الحياة - الشخصية والاجتماعية - في فترة قصيرة في هذه الدنيا هي أخذ الصور وتركيبها، وحفظ نتائج الاعمال، ليحاسب امام الجمع الاكبر، وليعرض امام العرض الاعظم، وليهيأ استعداده ومواهبه للسعادة العظمى. فالحديث الشريف: (الدنيا مزرعة الآخرة)(1) يعبّر عن هذه الحقيقة.
وحيث أن الدنيا موجودة فعلاً، وفيها الآثار الظاهرة للحكمة والعناية والرحمة والعدالة، فالآخرة موجودة حتماً، وثابتة بقطعية ثبوت هذه الدنيا.
ولما كان كل شئ في الدنيا يتطلع من جهة الى ذلك العالم، فالسير اذن والرحلة الى هناك، لذا فان انكار الآخرة هو انكار للدنيا وما فيها.
وكما ان الأجل والقبر ينتظران الانسان، فان الجنة والنار كذلك تنتظرانه وتترصدانه.
الحقيقة الحادية عشرة
باب الانسانية
وهو تجلي اسم ((الحق))
أمن الممكن للحق سبحانه وهو المعبود الحق ان يخلق هذا الانسان ليكون اكرمَ عبدٍ لربوبيته المطلقة، واكثر اهمية لربوبيته العامة للعالمين، واكثر المخاطبين ادراكاً وفهماً لأوامره السبحانية، وفي احسن تقويمٍ حتى اصبح مرآة جامعة لأسمائه الحسنى ولتجلي الاسم الاعظم ولتجلي المرتبة العظمى لكل اسم من هذه الاسماء الحسنى. وليكون أجملَ معجزات القدرة الإلهية، واغناها اجهزةً وموازينَ لمعرفة وتقدير ما في خزائن الرحمة الإلهية من كنوز، واكثرالمخلوقات فاقة وحاجة الى نعمه التي لا تحصى، واكثرها تألماً من الفناء، وأزيدها شوقاً الى البقاء، وأشدها لطافة ورقة وفقراً وحاجة. مع انه من جهة الحياة الدنيا اكثرها تعاسة، ومن جهة الاستعداد الفطري أسماها صورة.. فهل من الممكن ان يخلق المعبود الحق الانسانَ بهذه الماهية ثم لا يبعثه الى ما هو مؤهّل له ومشتاق اليه من دار الخلود؟! فيمحق الحقيقة الانسانية ويعمل ما هو منافٍ كلياً لأحقيته سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً..
وهل يعقل للحاكم بالحق والرحيم المطلق الذي وهب لهذا الانسان استعداداً فطرياً سامياً يمكّنه من حمل الامانة الكبرى التي أبت السموات والارض والجبال ان يحملنها، أي خَلقَه ليعرف صفات خالقه سبحانه الشاملة المحيطة وشؤونه الكلية وتجلياته المطلقة، بموازينه الجزئية وبمهاراته الضئيلة.. والذي بَرأه بشكل ألطف المخلوقات واعجزها وأضعفها. فسخر له جميعَها من نبات وحيوان، حتى نصبه مشرفاً ومنظماً ومتدخلاً في انماط تسبيحاتها وعباداتها.. والذي جعله نموذجاً - بمقاييس مصغّرة - للاجراءات الإلهية في الكون، ودلاّلاً لاعلان الربوبية المنزهة - فعلاً وقولاً - على الكائنات، حتى منحه منزلة اكرم من منزلة الملائكة، رافعاً اياه الى مرتبة الخلافة.. فهل يمكن ان يهب سبحانه للانسان كل هذه الوظائف ثم لا يَهَبَ له غاياتها ونتائجها وثمارها وهي السعادة الابدية؟ فيرميه الى درك الذلّة والمسكنة والمصيبة والاسقام، ويجعله أتعس مخلوقاته؟ ويجعل هذا العقل الذي هو هدية مباركة نورانية لحكمته سبحانه ووسيلة لمعرفة السعادة آلةَ تعذيبٍ وشؤم، خلافاً لحكمته المطلقة، ومنافاة لرحمته المطلقة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الخلاصة: كما اننا رأينا في الحكاية أن في هوية الضابط ودفتر خدمته رتبته، ووظيفته ومرتّبه وأفعاله وعتاده، واتضح لدينا أن ذلك الضابط لا يعمل لأجل هذا الميدان المؤقت، بل لما سيرحل اليه من تكريم وإنعام في مملكة مستقرة دائمة.
كذلك فان ما في هوية قلب الانسان من لطائف، وما في دفتر عقله من حواس، وما في فطرته من اجهزة وعتاد متوجهة جميعاً ومعاً الى السعادة الابدية،بل ما مُنحت له الاّ لأجل تلك السعادة الأبدية. وهذا ما يتفق عليه أهل التحقيق والكشف.
فعلى سبيل المثال:
لو قيل لقدرة التخيل في الانسان وهي أحدى وسائل العقل وأحد مصوّريه: ستُمنح لكِ سلطنةَ الدنيا وزينتها مع عمر يزيد على مليون سنة ولكن مصيرك الى الفناء والعدم حتماً. نراها تتأوه وتتحسر. (ان لم يتدخل الوهم وهوى النفس).
أي ان أعظم فانٍ - وهو الدنيا وما فيها - لا يمكنه ان يُشبع اصغر آلة في الانسان وهي الخيال!
يظهر من هذا جلياً ان هذا الانسان الذي له هذا الاستعداد الفطري والذي له آمالٌ تمتد الى الابد، وافكارٌ تحيط بالكون، ورغباتٌ تنتشر في ثنايا انواع السعادة الابدية. هذا الانسان انما خلق للابد وسيرحل اليه حتماً. فليست هذه الدنيا الاّ مستضافاً مؤقتاً، وصالة انتظار الآخرة.
الحقيقة الثانية عشرة
باب الرسالة والتنزيل
وهو تجلي ((بِسْمِ الله الرَّحْمن الرَّحيم))
أمن الممكن لمن أيّد كلامَه جميعُ الأولياء الصالحين المعزّزين بكشفياتهم وكراماتهم، وشهد بصدقه جميعُ العلماء والأصفياء المستندين الى تدقيقاتهم وتحقيقاتهم.. ذلكم هو الرسول الكريم e الذي فتح بما أوتي من قوة طريقَ الآخرة وباب الجنة، مصَّدقاً بألفٍ من معجزاته الثابتة، وبآلاف من آيات القرآن الكريم الثابت اعجازُه بأربعين وجهاً. فهل من الممكن ان تسد اوهامٌ هي أوهى من جناح ذبابة ما فتحه هذا الرسول الكريم e من طريق الآخرة وباب الجنة؟!
***
وهكذا لقد فُهم من الحقائق السابقة ان مسألة الحشر حقيقة راسخة قوية بحيث لا يمكن ان تزحزحها أيّة قوة مهما كانت حتى لو استطاعت أن تزيح الكرة الأرضية وتحطمها، ذلك لان الله سبحانه وتعالى يقرّ تلك الحقيقة بمقتضى اسمائه الحسنى جميعها وصفاته الجليلة كلها. وان رسوله الكريم e يصدّقها بمعجزاته وبراهينه كلها. والقرآن الكريم يثبتها بجميع آياته وحقائقه. والكون يشهد لها بجميع آياته التكوينية وشؤونه الحكيمة.
فهل من المكن يا ترى ان يتفق مع واجب الوجود سبحانه وتعالى جميعُ الموجودات - عدا الكفار - في حقيقة الحشر، ثم تأتي شبهة شيطانية واهية ضعيفة لتزيح هذه الحقيقة الراسخة الشامخة وتزعزعها؟! كلاّ... ثم كلا...
ولا تحسبنّ ان دلائل الحشر منحصرة في ما بحثناه من الحقائق الاثنتي عشرة، بل كما ان القرآن الكريم وحدَه يعلّمنا تلك الحقائق، فانه يشير كذلك بآلاف من الأوجه والامارات القوية الى أن خالقنا سينقلنا من دار الفناء الى دار البقاء.
ولا تحسبنّ كذلك ان دلائل الحشر منحصرة فيما بحثناه من مقتضيات الاسماء الحسنى ((الحكيم، الكريم، الرحيم، العادل، الحفيظ)) بل ان جميعَ الاسماء الحسنى المتجلية في تدبير الكون تقتضي الآخرة وتستلزمها.
ولا تحسب ايضاً ان آيات الكون الدّالة على الحشر هي تلك التي ذكرناها فحسب، بل هناك آفاق وأوجه في اكثر الموجودات تفتح وتتوجه يميناً وشمالاً، فمثلما يدل ويشهد وجه على الصانع سبحانه وتعالى يشير وجه آخر الى الحشر ويومئ اليه.
فمثلاً: ان حسن الصنعة المتقنة في خلق الانسان في احسن تقويم، مثلما هو اشارة الى الصانع سبحانه، فان ما فيه من قابليات وقوى جامعة، التي تزول في مدّة يسيرة، تشير الى الحشر. حتى اذا ما لوحظ وجهٌ واحدٌ فقط بنظرتين، فانه يدل على الصانع والحشر معاً.
فمثلاً: اذا لوحظت ماهيةُ ما هو ظاهرٌ في اغلب الاشياء من تنظيم الحكمة وتزيين العناية وتقدير العدالة ولطافة الرحمة، تبين انه صادرة من يد القدرة لصانع حكيم، كريم، عادل، رحيم. كذلك اذا لوحظت عظمة هذه الصفات الجليلة وقوتها وطلاقتها، مع قصر حياة هذه الموجودات في هذه الدنيا وزهادتها فان الآخرة تتبين من خلالها.
اي ان كل شئ يقرأ ويستقرئ بلسان الحال قائلاً:
امَنْتُ بِالله وَبِالْيَوْم اْلاخِرِ
الخاتمة
ان الحقائق الاثنتي عشرة السابقة يؤيد بعضها البعض الآخر، وتكمل احداها الاخرى وتسندها وتدعمها، فتتبين النتيجة من مجموعها واتحادها معاً. فأي وهم يمكنه ان ينفذ من هذه الاسوار الاثنى عشر الحديد، بل الالماس المنيعة ليزعزع الايمان بالحشر المحصّن بالحصن الحصين؟
فالآية الكريمة ] مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ اِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ (لقمان:28) تفيد ان خلق جميع البشر وحشرهم سهل ويسير على القدرة الإلهية، كخلق انسان واحد وحشره. نعم، وهو هكذا حيث فصلت هذه الحقيقة في بحث ((الحشر)) من رسالة ((نقطة من نور معرفة الله)). اِلا اننا سنشير هنا الى خلاصتها مع ذكر الامثلة، ومن اراد التفصيل فليراجع تلك الرسالة.
فمثلاً: ولله المثل الاعلى- ولا جدال في الأمثال - ان الشمس مثلما تُرسل - ولو ارادياً - ضوءَها بسهولة تامة الى ذرة واحدة، فانها ترسله بالسهولة نفسها الى جميع المواد الشفافة التي لا حصر لها، وذلك بسر ((النورانية)).
وان أخذ بؤبؤ ذرّة شفافة واحدة لصورة الشمس مساوٍ لأخذ سطح البحر الواسع لها، وذلك بسر ((الشفافية)).
وان الطفل مثلما يمكنه ان يحرك دُميَتَه الشبيهة بالسفينة، يمكنه أن يحرّك كذلك السفينة الحقيقية، وذلك بسرّ ((الانتظام)) الذي فيها.
وأن القائد الذي يسيّر الجندي الواحد بامر ((سِر))، يسوق الجيش باكمله بالكلمة نفسها، وذلك بسرّ ((الأمتثال والطاعة)).
ولو افترضنا ميزاناً حساساً جداً في الفضاء، بحيث يتحسس وزن جوزة صغيرة في الوقت الذي يمكن ان توضع في كفتيه شمسان. ووجدت في الكفتين جوزتان أو شمسان، فان الجهد المبذول لرفع احدى الكفتين الى الأعلى والاخرى الى الاسفل هو الجهد نفسه، وذلك بسر ((الموازنة)).
فما دام اكبر شئ يتساوى مع أصغره، وما لا يعــدّ من الاشياء يظهر كالشــئ الواحد في هذه المخلوقات والممكنات الاعتيادية - وهي ناقصة فانية - لما فيها من (النورانية والشفافية والانتظام والامتثال والموازنة) فلابدّ أنه يتساوى أمام القدير المطلق القليل والكثير، والصغير والكبير، وحشرُ فرد واحد وجميع الناس بصيحة واحدة، وذلك بالتجليات ((النورانية)) المطلقة لقدرته الذاتية المطلقة وهي في منتهى الكمال، و ((الشفافية)) و ((النورانية)) في ملكوتية الاشياء، و ((انتظام)) الحكمة والقدرة، و ((امتثال)) الاشياء وطاعتها لأوامره التكوينية امتثالاً كاملاً، وبسر ((موازنة)) الامكان الذي هو تساوي الممكنات في الوجود والعدم.
ثم ان مراتب القوة والضعف لشئ ما عبارة عن تداخل ضده فيه، فدرجات الحرارة - مثلاً - ناتجة من تداخل البرودة، ومراتب الجمال متولدة من تداخل القبح، وطبقات الضوء من دخول الظلام. اِلاّ انّ الشئ ان كان ذاتياً غير عرضي، فلا يمكن لضده أن يدخل فيه، واِلا لزم اجتماع الضدين وهو محال. أي أنه لا مراتب فيما هو ذاتي وأصيل. فما دامت قدرة القدير المطلق ذاتية، وليست عرضية كالممكنات، وهي في كمال المطلق، فمن المحال اذن أن يطرأ عليها العجزُ الذي هو ضده. أي ان خلق الربيع بالنسبة لذي الجلال هيّن كخلق زهرة واحدة، وبعث الناس جميعاً سهل ويسير عليه كبعث فرد منهم، بخلاف ما اذا اُسند الامرُ الى الاسباب المادية، فعندئذٍ يكون خلقُ زهرةٍ واحدة صعباً كخلق الربيع.
***
وكل ما تقدّم من الامثلة والايضاحات - منذ البداية - لصور الحشر وحقائقه ما هي اِلاّ من فيض القرآن الكريم، وما هي اِلا لتهيئة النفس للتسليم والقلب للقبول؛ اذ القول الفصل للقرآن الكريم والكلام كلامه، والقول قوله، فلنستمع اليه.. فلله الحجَّة البالغة...
] فانظر الى آثار رَحمتِ الله كيف يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير[ (الروم: 50)
] قال مَن يحيي العظام وهي رميم ^ قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم[ (يس:78،79)
] يا أيها الناسُ اتقوا ربكمْ ان زلزلة الساعَة شيءٌ عظيمٌ ^ يوم تَرونَها تَذهَل كلّ مرضعةٍ عما أرضعت وتـضعُ كلّ ذات حملٍ حَملها وترى الناسَ سُكارى وما هم بِسُكارى ولكنّ عذاب الله شديدٌ[ (الحج: 1 - 2)
] الله لا اِلهَ الاّ هو ليجمَعَنّكُمْ الى يوم القيامَةِ لا ريبَ فيهِ ومن اصدَقُ من الله حَديثاً[ (النساء:87)
] ان الأبرار لفي نعيم ^ وانّ الفجّارَ لفي جحيم [ (الانفطار: 13 - 14)
] اذا زُلزلت الارض زلزالها ^ وأخرجَتِ الارض اثقالها ^ وقال الانسان ما لها ^ يومئذٍ تحدِّث أخبارَها ^ بأن ربَّك أوحى لها ^ يومئذٍ يصدُرُ النّاسُ اشتاتاً ليروا اعمالهم ^ فمنْ يَعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يَرَه ^ ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرّاً يَرَهُ[ (سورة الزلزال)
] القارعة^ ما القارعة ^ وما ادراك ما القارعة ^ يومَ يكونُ الناس كالفراش المبثوث ^ وتكون الجبال كالعِهنِ المنفوش ^ فأما مَن ثقلت موازينُه ^ فهو في عيشةٍ راضيةٍ ^ وأما مَنْ خفَّت موازينُه ^ فأمه هاوية ^ وما ادراك ماهِيَهْ ^ نارٌ حامية[ (سورة القارعة)
] ولله غيبُ السمواتِ والارض وما أمرُ الساعة الاّ كلمحِ البصر أو هو أقرب ان الله على كلٌ شيءٍ قدير[ (النحل:77)
* * *
ولنستمع الى امثال هذه الآيات البينات. ولنقل آمنا وصدقنا:
آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى، والبعث بعد الموت حق، وان الجنة حق، والنار حق، وان الشفاعة حق، وان منكراً ونكيراً حق، وأنَّ الله يبعث من في القبور.
اشهد أن لا اِله اِلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
اللّهم صلّ على ألطف وأشرف واكمل وأجمل ثمرات طوبى رحمتك الذي أرسلته رحمةً للعالمين ووسيلة لوصولنا الى أزين واحسن وأجنى واعلى ثمرات تلك الطوبى المتدلية على دار الاخرة أي الجنّة.
اللّهم أجرنا وأجر والدينا من النار وأدخلنا وأدخل والدينا الجنّة مع الابرار بجاه نبيّك المختار... آمين.
C فيا أيها الأخ القارئ لهذه الرسالة بانصاف! لا تقل لِمَ لا احيط فهماً بهذه الكلمة العاشرة.. لا تَغتَم ولا تتضايق من عدم الاحاطة بها، فان فلاسفة دهاة - امثال ابن سينا - قد قالوا: (الحشر ليس على مقاييس عقلية) اي ((نؤمن به فحسب، اذ لا يمكن سلوك سبيله، وسبر غوره بالعقل)) وكذلك اتفق علماء الاسلام بأن قضية الحشر قضية نقلية، أي ان أدلتها نقلية، ولا يمكن الوصول اليها عقلاً. لذا فان سبيلاً غائراً، وطريقاً عالياً سامياً في الوقت نفسه، لا يمكن ان يكون بسهولة طريق عام يمكن ان يسلكه كل سالك.
ولكن بفيض القرآن الكريم، وبرحمة الخالق الرحيم قد مُنَّ علينا السير في هذا الطريق الرفيع العميق، في هذا العصر الذي تحطم فيه التقليد وفسد الاذعان والتسليم. فما علينا اِلاّ تقديم آلاف الشكر الى البارى عز وجل على احسانه العميم وفضله العظيم، اذ ان هذا القدر يكفي لانقاذ ايماننا وسلامته. فلابد ان نرضى بمقدار فهمنا ونزيده بتكرار المطالعة.
هذا وان أحد اسرار عدم الوصول الى مسألة الحشر عقلاً هو ان الحشر الاعظم هو من تجلي (الاسم الاعظم)، لذا فان رؤية واراءة الافعال العظيمة الصادرة من تجلي الاسم الاعظم، ومن تجلي المرتبة العظمى لكل اسم من الاسماء الحسنى هي التي تجعل اثبات الحشر الاعظم سهلاً هيناً وقاطعاً كاثبات الربيع وثبوته، والذي يؤدي الى الاذعان القطعي والايمان الحقيقي.
وعلى هذه الصورة توضّح الحشر ووُِضِح في هذه (الكلمة العاشرة) بفيض القرآن الكريم. واِلاّ لو اعتمد العقل على مقاييسه الكليلة لظلّ عاجزاً مضطراً الى التقليد.
ذيل رسالة الحشر
القطعة الأولى
من لاحقة الكلمة العاشرة وذيلها المهم
بسم الله الرحمن الرحيم
] فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ ^ وَلَهُ الْحَمْدُ فىِ السَّمواتِ وَاْلارْضِ وَعَشِيّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ ^ يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْيىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرجونَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ اَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ اِذَآ اَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ^ وَمِنْ آيَاتِه اَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ اَنْفُسِكُمْ اَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا اِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً اِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ وَاْخْتِلافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَالْوَانِكُمْ اِنَّ فى ذلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالِمينَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالّيْلِ والنَّهَارِ وَاْبتغَآؤُكُمْ مِنْ فـَضْلِهِ اِنَّ فى ذلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ^ وَمِنْ آيَاتِه يُريكُمُ اْلبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعَاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَيُحْيى بِهِ اْلاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ فى ذلِكَ لايَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ^ وَمنْ آيَاتِهِ اَنْ تَقُومَ السَّمآءُ وَاْلاَرضُ بِاَمْـرِه ثـُمَّ اِذَا دَعـَاكـُمْ دَعْـوَةً مِنَ الاَرْضِ اِذا اَنْتُـمْ تَخرُجُونَ ^ وَلَهُ مَنْ فىِ السَّمواتِ وَاْلارْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ^ وَهُوَ الَّذى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ اَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمثَلُ الاَعْلى فىِ السَّمواتِ وَالارْضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيمُ[ (الروم17 - 27)
سنُبيّن في هذا (الشعاع التاسع) برهاناً قوياً، وحجةً كبرى، لما تبينه هذه الآيات الكريمة من محور الايمان وقطبه، وهو الحشر، ومن البراهين السامية المقدسة الدالة عليه.
وانه لعناية ربانية لطيفة ان كتب (سعيد القديم)(1) قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلّفه (محاكمات) الذي كتبه مقدمة لتفسير (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) ما يأتي:
المقصد الثاني: سوف يفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران اليه.
ولكنه ابتدأ بـ: نخو(2) بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم. وتوقف، ولم تتح له الكتابة.
فألف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر واماراته أن وفّقني لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة. فأنعمَ سبحانه وتعالى عليّ بتفسير الآية الاولى:
] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمَـتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَمُحيىِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِِّ شَيءٍْ قَديرٌ[ (الروم: 50)
وذلك بعد نحو عشر سنوات، فأصبحت (الكلمة العاشرة) و (الكلمة التاسعة والعشرين) وهما حجتان ساطعتان قويتان اخرستا المنكرين الجاحدين..
وبعد حوالى عشر سنوات من بيان ذلك الحصن الحصين للحشر، أفاض عليّ سبحانه وتعالى وانعم بتفسير الآيات المتصدرة لهذا الشعاع، فكان هذه الرسالة.
فهذا (الشعاع التاسع) عبارة عن تسعة مقامات سامية مما اشارت اليها الآيات الكريمة مع مقدمة مهمة.
المقدمة
هذه المقدمة نقطتان:سنذكر اولاً وباختصار نتيجة واحدة جامعة من بين النتائج الحياتية والفوائد الروحية لعقيدة الحشر، مبينين مدى ضرورة هذه العقيدة للحياة الانسانية ولاسيما الاجتماعية.
ونورد كذلك حجة كلية واحدة - من بين الحجج العديدة لعقيدة الايمان بالحشر - مبينين ايضاً مدى بداهتها ووضوحها حيث لا يداخلها ريب ولا شبهة.
النقطة الأولى
سنشير الى أربعة أدلة على سبيل المثال وكنموذج قياسي من بين مئات الادلة على أن عقيدة الاخرة هي أس الاساس لحياة الانسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته ومُثله وسعادته.
الدليل الأول:
ان الاطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم ان يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو مؤلمةً ومفجعة امامَهم من حالات الموت والوفاة اِلاّ بما يجدونه في انفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من ((الايمان بالجنة)). ذلك الايمان الذي يفتح باب الامل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب. فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور. فيحاور الطفل المؤمن بالجنة نفسه: أن اخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي، اصبح الآن طيراً من طيور الجنة، فهو اذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش افضل واهنأ منّا. واِلاّ فلولا هذا الايمان بالجنة لهدم الموتُ الذي يصيب اطفالاً امثاله - وكذلك الكبار - تلــك القــوة المعنــوية لهــؤلاء الذين لا حيــلة لهم ولا قــوة، ولحطـّم نفسياتهم، ولدمّر حياتهم ونغَصها فتبكي عندئذٍ جميع جوارحــهم ولطـائفهم من روح وقلب وعقل مع بكاء عيونهم. فإما أن تموت احاسيسهم وتغلظ مشاعرهم أو يصبحوا كالحيوانات الضالة التعسة.
الدليل الثاني:
اِن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، انما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بـ ((الايمان بالآخرة)). ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم اِلاّ في ذلك الايمان. فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالاطفال واصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، انما يقابلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشئ من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة. والاّ فلولا هذا الايمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباء والامهات - الذين هم اجدر بالشفقة والرأفة والذين هم في أشد الحاجة الى الاطمئنان والسكينة والحياة الهادئة - ضراماً روحياً واضطراباً نفسياً وقلقاً قلبياً، ولضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، ولتحولت سجناً مظلماً رهيباً، ولانقلبت الحياة الى عذاب أليم قاسٍ.
الدليل الثالث:
ان الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية لا يهدّئ فورة مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود الى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش انفسهم ونزواتها، ولا يؤمّن السير الافضل في علاقاتهم الاجتماعية الاّ الخوف من نار جهنم. فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم الدنيا الى جحيم تتأجج على الضعفاء والعجائز، حيث ((الحُكُم للغالب)) ولحوّلوا الحياة الانسانية السامية الى حياة حيوانية سافلة.
الدليل الرابع:
ان الحياة العائلية هي مركز تجمّع الحياة الدنيوية ولولبها وهي جنة سعادتها وقلعتها الحصينة وملجأها الامين. وان بيت كل فرد هو عالمَه ودنياه الخاصة. فلا سعادة لروح الحياة العائلية اِلاّ بالاحترام المتبادل الجاد والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة والرحمة التي تصل الى حد التضحية والايثار. ولا يحصل هذا الاحترام الخالص والرحمة المتبادلة الوفية اِلاّ بالايمان بوجود علاقات صداقة أبدية، ورفقة دائمة، ومعيّة سرمدية، في زمن لا نهاية له، وتحت ظل حياة لا حدود لها، تربطها علاقات أبوّةٍ محترمة مرموقة، واخوةٍ خالصة نقية، وصداقةٍ وفيّة نزيهة، حيث يحدّث الزوجُ نفسه: ((ان زوجتي هذه رفيقة حياتي وصاحبتي في عالم الابد والحياة الخالدة، فلا ضير اِن اصبحت الان دميمة أو عجوزاً، اذ إن لها جمالاً أبدياً سيأتي، لذا فأنا مستعد لتقديم اقصى ما يستوجبه الوفاء والرأفة، وأضحي بكل ما تتطلبه تلك الصداقة الدائمة)).. وهكذا يمكن أن يكنّ هذا الرجل حباً ورحمة لزوجته العجوز كما يكنّه للحور العين. والاّ فان صحبة وصداقة صورية تستغرق ساعة أو ساعتين ومن ثم يعقبها فراق أبدي ومفارقة دائمة لهي صحبة وصداقة ظاهرية لا اساس لها ولا سند. ولا يمكنها ان تعطي الاّ رحمة مجازية، واحتراماً مصطنعاً، وعطفاً حيواني المشاعر، فضلاً عن تدخُل المصالح والشهوات النفسانية وسيطرتها على تلك الرحمة والاحترام فتنقلب عندئذٍ تلك الجنة الدنيوية الى جحيم لا يطاق.
وهكذا فان نتيجة واحدة للايمان بالحشر من بين مئات النتائج التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للانسان، وتعود اليها، والتي لها مئات الأوجه والفوائد، اذا ما قيست على تلك الدلائل الاربعة المذكورة آنفاً، يُدرك أن وقوع حقيقة الحشر وتحققها قطعي كقطعية ثبوت حقيقة الانسان السامية وحاجاته الكلية. بل هي اظهر دلالة من حاجة المعدة الى الاطعمة والاغذية، واوضح شهادةً منها. ويمكن ان يقدّر مدى تحققها تحققاً أعمق واكثر اذا ما سلبت الانسانية من هذه الحقيقة، الحشر، حيث تصبح ماهيتها التي هي سامية ومهمة وحيوية بمثابة جيفة نتنة ومأوى الميكروبات والجراثيم.
فليلق السمعَ علماء الاجتماع والسياسة والاخلاق من المعنيين بشؤون الانسان واخلاقه واجتماعه، وليأتوا ويبينوا بماذا سيملأون هذا الفراغ؟ وبماذا سيداوون ويضمدون هذه الجروح الغائرة العميقة؟!
النقطة الثانية
تبين هذه النقطة بايجاز شديد برهاناً واحداً - من بين البراهين التي لا حصر لها - على حقيقة الحشر وهو ناشئ من خلاصة شهادة سائر الاركان الايمانية. وعلى النحو الآتي.
ان جميع المعجزات الدالة على رسالة سيدنا محمد e مع جميع دلائل نبوته وجميع البراهين الدالة على صدقه، تشهد بمجموعها معاً، على حقيقة الحشر، وتدل عليها وتثبتها، لأن دعوته e طوال حياته المباركة قد انصبّت بعد التوحيد على الحشر. وأن جميع معجزاته وحججه الدالة على صدق الانبياء عليهم السلام - وتحمل الآخرين على تصديقهم - تشهد على الحقيقة نفسها، وهي الحشر. وكذا شهادة ((الكتب المنزلة)) التي رقّت الشهادة الصادرة من ((الرسل الكرام)) الى درجة البداهة، تشهدان على الحقيقة نفسها. وعلى النحو الآتي:
فالقرآن الكريم - ذو البيان المعجز - يشهد بجميع معجزاته وحججه وحقائقه - التي تثبت أحقيته - على حدوث الحشر ويثبته، حيث ان ثُلث القرآن بأكمله، وأوائل أغلب السور القصار، آيات جلية على الحشر. أي أن القرآن الكريم ينبئ عن الحقيقة نفسِها بآلاف من آياته الكريمة صراحة أو اشارةً ويثبتها بوضوح، ويظهرها بجلاء. فمثلاً:
] اذا الشمسُ كُوّرت[
] يا ايها الناسُ اتقوا ربَّكم ان زلزلة الساعة شيءٌ عظيم[
] اذا زلزلت الارض زلزالها[
] اذا السماءُ انفطرت[
] اذا السماء انشقت[
] عمّ يتساءلون[
] هل اتاك حديثُ الغاشية[
فيثبت القرآن الكريم بهذه الآيات وأمثالها في مفتتح ما يقارب أربعين سورة ان الحشر لا ريب فيه، وأنه حَدثٌ في غاية الأهمية في الكون، وان حدوثه ضروري جداً ولابد منه، ويبين بالآيات الأخرى دلائل مختلفة مقنعة على تلك الحقيقة.
تُرى ان كان كتاب تثمر اشارةٌ واحدةٌ لآيةٍ من آياتِه تلك الحقائق العلمية والكونية المعروفـة بالعـلـوم الاسـلامية، فكيـف اذن بشهادة آلاف من آيـاته ودلائـله التي تبين الايمان بالحشر كالشمس ساطعة؟ ألا يكون الجحود بهذا الايمان كانكار الشمس بل كانكار الكائنات قاطبة؟! ألا يكون ذلك باطلاً ومحالاً في مائة محال؟!
تُرى هل يمكن ان يوصَم آلاف الوعد والوعيد لكلام سلطان عزيز عظيم بالكذب أو انها بلا حقيقة، في حين قد يخوض الجيش غمار الحرب لئلا تُكذَّب اشارةٌ صادرة من سلطان.
فكيف بالسلطان المعنوي العظيم الذي دام حكمه وهيمنته ثلاثة عشر قرناً دون انقطاع، فربّى ما لا تعد من الارواح والعقول والقلوب والنفوس، وزكّاها وأدارها على الحق والحقيقة، ألا تكفي اشارة واحدة منه لإثبات حقيقة الحشر؟ علماً أن فيه آلاف الصراحة الواضحة المثبتة! أليس الذي لا يدرك هذه الحقيقة الواضحة احمقَ جاهلاً؟ ألا يكون من العدالة المحضة ان تكون النار مثواه؟
ثم ان الصحف السماوية والكتب المقدسة جميعها التي حكَمت كل منها لفترة من العصور والازمنة، قد صدّقت بآلاف من الدلائل دعوى القرآن الكريم في حقيقة الحشر مع ان بيانها لها مختصر وموجز، وذلك بمقتضى زمانها وعصرها، تلك الحقيقة القاطعة التي بيّنها القرآن الكريم الذي ساد حكمه على العصور جميعها، وهيمن على المستقبل كله، بيّنها بجلاء وافاض في ايضاحها.
يُدرج هنا نص ما جاء في آخر رسالة (المناجاة) انسجاماً مع البحث، تلك الحجة القاطعة الملخَّصة للحشر، والناشئة من شهادة سائر الاركان الايمانية ودلائلها على الايمان باليوم الآخر، ولاسيما الايمان بالرسل والكتب، والتي تبدد الاوهام والشكوك، حيث جاءت باسلوب موجز، وعلى صورة مناجاة.
((يا ربي الرحيم.. لقد أدركتُ بتعليم الرسول e وفهمتُ من تدريس القرآن الحكيم، ان الكتبَ المقدسة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم، والأنبياءَ عليهم السلام جميعهم، وفي مقدمتهم الرسول الاكرم e ، يدلّون ويشهدون ويشيرون بالاجماع والاتفاق الى ان تجليات الاسماء الحسنى - ذات الجلال والجمال - الظاهرةَ آثارُها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دواماً اسطعَ وأبهرَ في أبد الآباد.. وان تجلياتها - ذات الرحمة - وآلاءها المــشاهدة نمـاذجــها في هذا العـالم الفاني، ستثمر بابهى نور واعظم تألق، وستبقى دوماً في دار السعادة.. وان اولئك المشتاقين الذين يتــملّونها - في هــذه الحيــاة الدنيا القصــيرة - بلهفــةٍ وشــوق سيرافـقـونـها بالمحبة والودّ، ويصحبونها الى الابد، ويظلون معها خالدين.. وان جميع الانبياء وهم ذوو الارواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الاكرم e ، وجميع الأولياء وهم اقطاب ذوي القلوب المنورة، وجميع الصديقين وهم منابع العقول النافذة النيّرة، كل اولئك يؤمنون ايماناً راسخاً عميقاً بالحشر ويشهدون عليه ويبشرون البشرية بالسعادة الابدية، وينذرون اهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشرون أهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة، مستندين الى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة، والى ما ذكرتَه انت يا ربي مراراً وتكراراً في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلها من آلاف الوعد والوعيد. ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غير المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها. وبناءً على ايمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجة علم اليقين وعين اليقين.
فيا قدير ويا حكيم ويا رحمن ويا رحيم ويا صادق الوعد الكريم، ويا ذا العزة والعظمة والجلال ويا قهار ذو الجلال. انت مقدّس ومنزّهٌ، وانت متعال عن ان تُوصِم بالكذب كل أوليائك وكل وعودك وصفاتك الجليلة وشؤونك المقدسة.. فتكذّبهم، أو تحجب ما يقتضيه قطعاً سلطان ربوبيتك بعدم استجابتك لتلك الأدعية الصادرة من عبادك الصالحين الذين احببتهم واحبّوك، وحبّبوا انفسهم اليك بالايمان والتصديق والطاعة، فانت منزّه ومتعال مطلق عن أن تصدّق أهل الضلالة والكفر في انكارهم الحشر، اولئك الذين يتجاوزون على عظمتك وكبريائك بكفرهم وعصيانهم وتكذيبهم لك ولوعودك، والذين يستخفّون بعزة جلالك وعظمة ألوهيتك ورأفة ربوبيتك..
فنحن نقدّس بلا حد ولا نهاية عدالتَك وجمالك المطلقين ورحمتك الواسعة وننزّهها من هذا الظلم والقبح غير المتناهي..
ونعتقد ونؤمن بكل ما اوتينا من قوة بأن الآلاف من الرسل والأنبياء الكرام، وبما لا يعدّ ولا يحصى من الاصفياء والأولياء الذين هم المنادون اليك هم شاهدون بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين على خزائن رحمتك الأخروية وكنوز احساناتك في عالم البقاء، وتجليات اسمائك الحسنى التي تنكشف كلياً في دار السعادة..
ونؤمن ان هذه الشهادة حق وحقيقة، وان اشاراتهم صدق وواقع، وان بشاراتهم صادقة وواقعة.. فهؤلاء جميعاً يؤمنون بأن هذه الحقيقة الكبرى - أي الحشر - شعاع عظيم من اسم ((الحق)) الذي هو مرجع جميع الحقائق وشمسها، فيرشدون عبادك - باذن منك - ضمن دائرة الحق، ويعلمونهم بعين الحقيقة.
فيا ربي! بحق دروس هؤلاء، وبحرمة ارشاداتهم، آتنا ايماناً كاملاً وارزقنا حسن الخاتمة، لنا ولطلاب النور، واجعلنا اهلاً لشفاعتهم... آمين)).
وهكذا فان الدلائل والحجج التي تثبت صدق القرآن الكريم بل جميع الكتب السماوية، وان المعجزات والبراهين التي تثبت نبوة حبيب الله بل الانبياء جميعهم، تثبت بدورها أهم ما يدعون اليه، وهو تحقق الآخرة وتدل عليها. كما ان اغلب الادلة والحجج الشاهدة على وجوب واجب الوجود ووحدته سبحانه، هي بدورها شاهدة على دار السعادة وعالم البقاء التي هي مدار الربوبية والالوهية وأعظم مظهر لهما، وهي شاهدة على وجود تلك الدار وانفتاح أبوابها - كما سيُبين في المقامات الآتية - لأن وجوده سبحانه وتعالى، وصفاته الجليلة، وأغلب اسمائه الحسنى، وشؤونه الحكيمة، وأوصافه المقدسة أمثال الربوبية والالوهية والرحمة والعناية والحكمة والعدالة تقتضي جميعها الآخرة وتلازمها، بل تستلزم وجود عالم البقاء بدرجة الوجوب وتطلب الحشر والنشور للثواب والعقاب بدرجة الضرورة أيضاً.
نعم، ما دام الله موجوداً، وهو واحد، أزلي أبدي، فلابد ان محور سلطان الوهيته وهو الآخرة، موجود ايضاً.. وما دامت الربوبية المطلقة تتجلى في هذه الكائنات ولا سيما في الاحياء وهي ذات جلال وعظمة وحكمة ورأفة ظاهرة واضحة، فلابد أن هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أيّ ظن بكونها تترك الخلق هملاً دون ثواب، وتبرئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر. أي أن تلك الدار موجودة قطعاً ولابد من الدخول فيها.
وما دامت هذه الأنواع من الإنعام والاحسان واللطف والكرم والعناية والرحمة مشاهدة وظاهرة أمام العقول التي لم تنطفئ، وامام القــلوب الـتي لــم تمـت، وتدلّنا على وجوب وجود رب رحمن رحيم وراء الحجاب، فلابد من حياة باقية خالدة، لتنقذ الإنعامَ من الاستهزاء أي يأخذ الانعام مداه، وتصون الاحسان من الخداع ليستوفي حقيقته، وتنقذ العناية من العبث لتـستكمل تحقـقها، وتنجي الرحمــة من النقمة فيتم وجوهها، وتبرىء اللطف والكرم من الاهانة ليفيضا على العباد. نعم، ان الذي يجعل الاحسان احساناً حقاً، والنعمة نعمةً حقاً، هو وجود حياةٍ باقيةٍ خالدةٍ في عالم البقاء والخلود.. نعم، لابد ان يتحقق هذا.
وما دام قلم القدرة الذي يكتب في فصل الربيع وفي صحيفة ضيقة صغيرة، مائة الف كتاب، كتابةً متداخلة بلا خطأ ولا نصب ولا تعب، كما هو واضح جليٌ امام اعيننا. وان صاحب ذلك القلم قد تعهّد ووعد مائة ألف مرة لأكتبنّ كتاباً اسهل من كتاب الربيع المكتوب أمامكم ولأكتبنّه كتابةً خالدة، في مكان اوسع وارحبَ وأجملَ من هذا المكان الضيق المختلط المتداخل.. فهو كتاب لا يفنى ابداً، ولأجعلنكم تقرأونه بحيرة واعجاب!. وانه سبحانه يذكر ذلك الكتاب في جميع أوامره، اي ان اصول ذلك الكتاب قد كُتبت بلا ريب، وستُكتب حواشيه وهوامشه بالحشر والنشور، وستدوّن فيه صحائف اعمال الجميع..
وما دامت هذه الارض قد اصبحت ذات اهمية عظمى من حيث احتواؤها على كثرة المخلوقات، ومئات الالوف من انواع ذوي الحياة والأرواح المختلفة المتبدلة، حتى صارت قلب الكون وخلاصته، ومركزه وزبدته ونتيجته وسبب خلقه. فذُكرت دائماً صنواً للسماوات كما في ] رَبُّ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ[ في جميع الأوامر السماوية...
وما دام ابن آدم يحكم في شتى جهات هذه الارض - التي لها هذه الماهيات والخواص - ويتصرف في اغلب مخلوقاتها مسخِّراً اكثر الاحياء له، جاعلاً اكثر المصنوعات تحوم حوله وفق مقاييسه وهواه، وحسب حاجاته الفطرية، وينظمها ويعرضها ويزيّنها، وينسّق الأنواع العجيبة منها في كل مكان بحيث لا يلفت نظر الانس والجن وحدهم، بل يلفت ايضاً نظر أهل السموات والكون قاطبة، بل حتى نظر مالك الكون، فنال الاعجاب والتقدير والاستحسان، وأصبحت له - من هذه الجهة - أهمية عظيمة، وقيمة عالية، فاظهر بما أوتي من علم ومهارة انه هو المقصود من حكمة خلق الكائنات، وأنه هو نتيجتها العظمى وثمرتها النفيسة، ولا غرو فهو خليفة الارض..وحيث أنه يعرض صنائع الخالق البديعة، وينظّمها بشكل جميل جذاب في هذه الدنيا، فقد اُجّل عذابه على عصيانه وكفره، وسُـمح له بالعيش في الدنيا واُمهل ليقوم بهذه المهمة بنجاح..
وما دام لابن آدم - الذي له هذه الماهية والمزايا خلقةً وطبعاً، وله حاجات لا تُحدّ مع ضعفه الشديد، وآلام لا تُعدّ مع عجزه الكامل - ربٌ قدير، له القدرة والرأفة المطلقة مما يجعل هذه الارض الهائلة العظيمة مخزناً عظيماً لأنواع المعادن التي يحتاجها الانسان، ومستودعاً لأنواع الاطعمة الضرورية له، وحانوتاً للأموال المختلفة التي يرغبها، وانه سبحانه ينظر اليه بعين العناية والرأفة ويربيه ويزوده بما يريد...
وما دام الرب سبحانه - كما في هذه الحقيقة - يحبّ الانسان، ويحبّب نفسه اليه، وهو باقٍ، وله عوالم باقية، ويُجري الامور وفق عدالته، ويعمل كل شئ وفق حكمته، وان عظمة سلطان هذا الخالق الأزلي وسرمدية حاكميته لا تحصرهما هذه الدنيا القصيرة، ولا يكفيهما عمر الانسان القصير جداً، ولا عمر هذه الارض المؤقتة الفانية. حيث يظل الانسان دون جزاء في هذه الدنيا لما يرتكبه من وقائع الظلم، وما يقترفه من انكار وكفر وعصيان، تجاه مولاه الذي انعم عليه ورباه برأفة كاملة وشفقة تامة، مما ينافي نظام الكون المنسّق، ويخالف العدالة والموازنة الكاملة التي فيها، ويخالف جماله وحسُنه، اذ يقضي الظالم القاسي حياته براحة، بينما المظلوم البائس يقضيها بشظف من العيش. فلا شك ان ماهية تلك العدالة المطلقة - التي يشاهد آثارها في الكائنات - لا تقبل أبداً، ولا ترضى مطلقاً، عدم بعث الظالمين العتاة مع المظلومين البائسين الذين يتساوون معاً امام الموت.
وما دام مالك الملك قد اختار الارض من الكون، واختار الانسان من الارض، ووهب له مكانة سامية، وأولاه الاهتمام والعناية، واختار الانبياء والأولياء والأصفياء من بين الناس، وهم الذين انسجموا مع المقاصد الربانية، وحبّبوا انفسهم اليه بالايمان والتسليم، وجعلهم أولياءه المحبوبين المخاطبين له، واكرمهم بالمعجزات والتوفيق في الأعمال وأدّب اعداءهم بالصفعات السماوية، واصطفى من بين هؤلاء المحبوبين إمامَهم ورمزَ فخرهم واعتزازهم، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم . فنوّر بنوره نصف الكرة الأرضية ذات الأهمية، وخُمس البشرية ذوي الأهمية، طوال قرون عدة، حتى كأن الكائنات قد خُلقت لأجله، لبروز غاياتها جمـيعاً به، وظهورهـا بالدين الـذي بُعث به، وانجلائها بالقرآن الـذي اُنزل عليه. فبينما يستــحق أن يكافأ على خدماته الجليلة غير المحدودة بعمرٍ مديد غيـر محدود وهو أهـلٌ له، اِلاّ أنه قضى عمراً قصيراً وهو ثلاث وستون سنة في مجاهدة ونصَب وتعب! فهل يمكن، وهلٌ يعقل مطلقاً، وهل هناك أي احتمال ألاّ يُبـعَث هو وأمــثــاله وأحبـاؤه معاً؟! وألاّ يــكون الآن حياً بروحه؟! وان يفنى نهائياً ويصير الى العدم؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألف ألف مرة. نعم، ان الكون وجميع حقائق العالم يدعو الى بعثه ويريده ويطلب من رب الكون حياتَه.
ولقد بيّنتْ رسالة ((الآية الكبرى)) وهي الشعاع السابع واثبتت بثلاثة وثلاثين اجماعاً عظيماً، كل منه كالجبل الأشم في قوة حجّته، بأن هذا الكون لم يصدر اِلاّ من يد واحدٍ أحد، وليس ملكاً اِلا لواحد احد. فاظهرت التوحيد - بتلك البراهين والمراتب بداهةً - انه محور الكمال الآلهي وقطبه. وبيّنت أنه بالوحدة والأحدية يتحول جميعُ الكون بمثابة جنودٍ مستنفرين لذلك الواحد الاحد، وموظفين مسخّرين له. وبمجئ الآخرة ووجودها تتحقق كمالاته وتصان من السقوط وتسود عدالته المطلقة، وتنجو من الظلم، وتُنزّه حكمته العامة وتبرأ من العبث والسفاهة، وتأخذ رحمتُه الواسعة مداها، وتُنقذ من التعذيب المشين. وتبدو عزته وقدرته المطلقتان وتُنقَذان من العجز الذليل. وتتقدّس كل صفة من صفاته سبحانه وتتجلى منزّهة جليلة.
فلابد ولا ريب مطلقاً أن القيامة ستقوم، وان الحشر والنشور سيحدث، وان أبواب دار الثواب والعقاب ستُفتح، بمقتضى ما في حقائق هذه الفقرات الثمانية المذكورة المبتدئة بـ ((ما دام)) التي هي مسألة دقيقة ونكتة ذات مغزى لطيف من بين مئات النكات الدقيقة للايمان بالله؛ وذلك: كي تتحقق اهمية الارض ومركزيتها، وأهمية الانسانية ومكانتها.. ولكي تتقرر عدالة رب الارض والانسان وحكمته ورحمته وسلطانه.. ولكي ينجو الاولياء والاحبّاء الحقيقيون والمشتاقون الى الرب الباقي من الفناء والاعدام الأبدي.. ولكي يرى اعظمُهم وأحبّهم وأعزّهم ثوابَ عمله، ونتائج خدماته الجليلة التي جعلت الكائنات في امتنان ورضى دائمين.. ولكي يتقدس كمال السلطان السرمدي من النقص والتقصير، وتتنزّه قدرتُه من العجز، وتبرأ حكمتُه من السفاهة، وتتعالى عدالته عن الظلم.
والخلاصة: ما دام الله جل جلاله موجوداً فان الآخرة لا ريب فيها مطلقاً.
وكما تثبت الاركان الايمانية الثلاثة - المذكورة آنفاً - الحشرَ بجميع دلائلها وتشهد عليه. كذلك يستلزم الركنان الايمانيان ((وبملئكته، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى)) أيضاً الحشرَ، ويشهدان شهادة قوية على العالم الباقي ويدلان عليه على النحو الآتي:
ان جميع الدلائل والمشاهدات والمكالمات الدالة على وجود الملائكة ووظائف عبوديتهم، هي بدورها دلائل على وجود عالم الأرواح وعالم الغيب وعالم البقاء وعالم الآخرة ودار السعادة والجنة والنار اللتين ستعمران بالجن والانس، لان الملائكة يمكنهم - بإذن إلهي - ان يشاهدوا هذه العوالم ويدخلوها، لذا فالملائكة المقربون يخبرون بالاتفاق - كجبريل عليه السلام الذي قابل البشر - بوجود تلك العوالم المذكورة وتجوالهم فيها. فكما اننا نعلم بديهة وجود قارة امريكا التي لم نرها من كلام القادمين منها، كذلك يكون الايمان بديهة بما اخبرت به الملائكة - وهو بقوة مائة تواتر - عن وجود عالم البقاء ودار الآخرة والجنة والنار... وهكذا نؤمن ونصدق.
وكذلك الدلائل التي تثبت ((الايمان بالقدر)) - كما جاءت في رسالة القدر ((الكلمة السادسة والعشرين)) هي بدورها دلائل على الحشر ونشر الصحف وموازنة الاعمال عند الميزان الاكبر، ذلك لأن ما نراه أمام أعيننا من تدوين مقدّرات كل شئ على ألواح النظام والميزان، وكتابة احداث الحياة ووقائعها لكل ذي حياة في قواه الحافظة، وفي حبوبه ونواه، وفي سائر الالواح المثالية. وتثبيت دفاتر الاعمال لكل ذي روح ولا سيما الانسان، واقرارها في ألواح محفوظة.. كل هذا القدر من القَدَر المحيط، ومن التقدير الحكيم، ومن التدوين الدقيق، ومن الكتابة الأمينة، لا يمكن أن يكون الاّ لأجل محكمة كبرى، ولنيل ثواب وعقاب دائمين. والاّ فلا يبقى مغزى ولا فائدة أبداً، لذلك التدوين المحيط والكتابة التي تسجل وتحفظ أدق الامور. فيقع اذن ما هو خلاف الحكمة والحقيقة. أي اِنْ لم يحدث الحشر فان جميع معاني كتاب الكون الحقة التي كتبت بقلم القَدَر سوف تمسخ وتفسد! وهذا لا يمكن ان يكون مطلقاً، وليس له احتمال ابداً، بل هو محال في محال. كإنكار هذا الكون، بل هو هذيان ليس اِلاّ.
نحصل مما تقدم: ان جميع دلائل اركان الايمان الخمسة هي بدورها دلائل على الحشر ووجوده، وعلى النشور وحدوثه، وعلى وجود الدار الآخرة وانفتاح ابوابها. بل تستدعيه وتشهد عليه، لذا فانه من الوفاق الكامل والانسجام التام ان يبحث ثلث القرآن الكريم المعجز البيان بكامله عن الحشر لما له من الاسس والبراهين التي لا تتزعزع، ويجعله اساساً وركيزة لجميع حقائقه التي يرفعها على ذلك الحجر الاساس.
(انتهت المقدمة)
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس