الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #15
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ونُنـزّل من القرآنِ ما هو شِفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين[ (الاسراء: 82)

] وما علّمناه الشِعْرَ وَمَا يَنْبَغي لهُ[ (يس:69)

اذا اردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، واردت أن تعرف ما يمكن ان يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فامعن النظر وتأمل فيما يأتي:

ان القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، انما يمزّق غطاء الاُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ انها عادية مألوفة مع انها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت انظارهم الى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحاً كنزاً لا يفنى للعلوم امام العقول.

اما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الاُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض امام انظار ذوي الشعور الا افراداً نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية انها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلاً: ان الانسان السوي الذي هو في احسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر اليه حكمةُ الفلسفة نظرها الى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الانظار الى ذلك الانسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة ارجل أو رأسين مثلاً، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلاً: ان اعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب اعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى واعمّها في الوجود، تنظر اليها حكمة الفلسفة أمراً مألوفاً عادياً، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الانظار الى اعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في اعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات اخضر هناك حتى انها لتثير اشجان الصيادين الى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم الى البكاء والحزن(1).

فشاهد في ضوء هذه الامثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وافلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو ان القرآن مع انه في اتم نظام خارق واكمل انتظام معجز ويفسّر - باساليبه المنتظمة - تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. اذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ - غير مقيدة بنظام الوزن - تملك عيوناً باصرة الى اكثر الآيات، ووجوهاً متوجهة اليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافاً من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآناً منه. فسورة الاخلاص - مثلاً - تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستاً وثلاثين سورة اخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! ان عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيـد وكأنها مركز لاكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الاواصر الى كل منها اشارة الى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة - كنجوم الآيات الكريمة - تملك عيوناً باصرة الى النجوم كافة ووجوهاً متوجهة اليها جميعاً .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سراً من أسرار الآية الكريمة ] وما علّمناه الشعر وما ينبغي له[ (يس:69)

واعلم ايضاً حكمةً اخرى لـ] وما ينبغي له[ مما يأتي:

ان شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الاعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى اعظم الخيالات واسطعها قاصرة دونها، وخافته امامها.

فمثلاً:قوله تعالى ] يومَ نطوي السماءَ كطي السّجل للكتب[ (الانبياء104) ] يُغشي الليلَ النهار يطلبُه حثيثاً[ (الاعراف:54) ] ان كانت الاّ صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحـضَرون[ (يس:53). وامثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

اذا شئت ان تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ اعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد اسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، اذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في اذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ] يسبّح لله ما في السموات وما في الارض الملكِ القدوسِ العزيزِ الحكيم[ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم ان وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ[ (الاسراء:44) الى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الارض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري الى ذلك العصر تتذوق دقائق الاعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي اذا نظرت الى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

واذا اردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من اجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فاذا قام احدٌ - من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى اجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - الى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق انما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

فلنـمـثل - ولله المثل الاعلى - الاســمـاء الالهــيـة وصفاتها الجليـلة والشــؤون الربانية وافعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الازل الى الابد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى

اجراءاتها من حدود ] فالق الحب والنوى[ (الانعام:95) ] ويحوُل بين المرء وقلبه[ (الانفال:24) ] وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (آل عمران:6) الى ] خلق السموات والارض في ستة أيام[ (هود:7) والى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) ] وسخر الشمس والقمر[ فنرى ان القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها واغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه)).

فلو اخذنا مثلاً اركانَ الايمان الستة التي تتوجه الى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصناً من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها واغصانها وثمراتها وازاهيرها مراعياً في تصويره انسجاماً بديعاً بين ثمراتها وازاهيرها معّرفاً طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الانسان عاجزاً عن ادراك ابعاده ومبهوتاً أمام حسن جماله.

ثم ان الاسلام الذي هو فرع من غصن الايمان، أبدع القرآن الكريم واتى بالرائع المعجب في تصوير ادق فروع اركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على ابسط ادابها ومنتهى غاياتها واعمق حِكَمها واصغر فوائدها وثمراتها وابهر دليل على ذلك هوكمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوصذلك القرآن الجامع ومن اشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب احكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابداً على أحقية القرآن الكريم بمعنى ان البيانات القرآنية لا يمكن ان تستند الى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان اميّ، بل لابد ان تستند الى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الاشياء معاً..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالازل والابد معاً والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير الى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

] الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً[ (الكهف:1)



اللهم يا منـزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من اُنزل عليه القرآن

نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الايمان والقرآن

آمين يا مستعان!!

المقام الثاني

من الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

[ حوار مع عدد من الشباب الذين تتجاذبهم الاغراءات والأهواء ولكنهم لم يفقدوا بعدُ صوابهم ]

طلب عدد من الشباب ان تعينهم (رسائل النور) وتمدّ لهم يد النجدة سائلين:

كيف يمكننا أن ننقذ آخرتنا ازاء ما يحيط بنا في زماننا هذا من فتنة الاغراء وجاذبية الهوى وخداع اللهو؟

فأجبتهم باسم شخصية (رسائل النور) المعنوية قائلاً:

القبر ماثل أمام الجميع! لا يمكن أن ينكره أحد. كلُّنا سندخله لا مناص! والدخول فيه بثلاثة طرق لا غيرها:

الطريق الاول: يؤدي الى أن القبر باب ينفتح للمؤمنين الى رياض جميلة وعالمٍ رحب فسيح أفضلَ وأجملَ من هذه الدنيا.

الطريق الثاني: يوصل الى أن القبر باب لسجن دائم للمتمادين في الضلالة والغي - مع ايمانهم بالآخرة - فهم يعامَلون بجنس ما كانوا يعتقدونه ويرون الوجود والحياة من خلاله؛ فيُعزَلون عن جميع أحبتهم في هذا السجن الانفرادي، لعدم عملهم بما كانوا يعتقدونه.

الطريق الثالث: ينساق اليه مَن لا يؤمن بالآخرة من أرباب الضلالة، فاذا القبر بابٌ الى العدم المحض واعدامٌ نهائي له. والقبر في نظره مشنقة تُفنيه وتُفني معه جميعَ أحبته. فهذا هو جزاء جحوده بالآخرة.

هذان الشقان بديهيان، لا يحتاجان الى دليل، اذ يمكن مشاهدتهما رأي العين.

فما دام الاجلُ مستوراً عنا بستار الغيب، والموتُ يمكنه أن يدركنا في كل حين، يضرب عنق الانسان دون تمييز بين الشاب والشيخ، فلا شك أن الانسان الضعيف الذي يرى هذه القضية المذهلة أمام عينيه، في كل وقت، سوف يتحرى عما ينجيه من ذلك الاعدام، ويبحث عما يحوّل له بابَ القبر من ظلمة قاتمة الى نور ساطع ينفتح الى عالم خالد ورياض مونقة في عالم النور والسعادة الخالدة.. ولا ريب أن هذه المسألة هي القضية الكبرى لدى الانسان، بل هي أعظم و أجلّ من الدنيا كلها.

ان ظهور هذه الحقيقة، حقيقة الموت والقبر، بالطرق الثلاثة المتقدمة، ينبئ بها مائة وأربعة وعشرون ألفاً من المخبرين الصادقين، وهم الانبياء الكرام عليهم السلام الحاملون لواء تصديقهم الذي هو معجزاتهم الباهرة.. وينبىء بها مائة وأربعة وعشرون مليوناً من الاولياء الصالحين، يصدّقون ما أخبر به أولئك الانبياء الكرام، ويشهدون لهم على الحقيقة نفسها بالكشف والذوق والشهود.. وينبئ بها ما لا يعد ولا يحصى من العلماء المحققين، يثبتون ما أخبر به أولئك الانبياء والاولياء بأدلتهم العقلية القاطعة البالغة درجة علم اليقين(1)، وبما يصل الى تسع وتسعين بالمئة من الثبوت والجزم.. فالجميع يقررون:

أن النجاة من الاعدام الابدي، والخلاص من السجن الانفرادي، وتحويل الموت الى سعادة أبدية، انما تكون بالايمان بالله وطاعته ليس الاّ.

نعم! لو سار أحدُهم في طريقٍ غيرَ مكترث بقول مخبر عن وجود خطر مهلك، ولو باحتمال واحد من المائة، أليس ما يحيط به من قلق وخوف عما يتصوره ويتوقعه من مخاطر كافياً لقطع شهيته عن الطعام؟ فكيف اذن بإخبار مئات الآلاف من الصادقين المصدّقين، إخباراً يبلغ صدقُهم مائة في المائة، واتفاقهم جميعاً على أن الضلالة والجحود يدفعان الانسان الى مشنقة القبر وسجنه الانفرادي الابدي - كما هو ماثل امامكم - وان الايمان والعبادة بيقين مائة في المائة، كفيلان برفع أعواد المشنقة واغلاق باب السجن الانفرادي، وتحويل القبر الى باب يُفتح الى قصور مزيّنة عامرة بالسعادة الدائمة، وكنوز مليئة لا تنضب.. علماً أنهم مع أخبارهم هذا يدلون على اماراتها ويظهرون آثارها.

والآن أوجه اليكم هذا السؤال:

- تُرى ما موقف الانسان البائس، ولا سيما المسلم، ازاء هذه المسألة الجسيمة الرهيبة؟ هل يمكن أن تزيل سلطنةُ الدنيا كلها مع ما فيها من متع ولذائذ، ما يعانيه الانسان من اضطراب وقلق في انتظار دوره في كل لحظة للدخول الى القبر، إن كان فاقداً للايمان والعبادة؟.

ثم أن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من وفيات هنا وهناك، تقطّر ذلك الألم المرير الى نفس كل انسان، وتُنذره دوماً بمصيره المحتوم. فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيمٌ معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم ذلك العذاب الاليم.

فما دام أهل الايمان والطاعة يرون القبر الماثل أمامَهم باباً الى رياض سعادة دائمة ونعيم مقيم، بما مُنحوا من القدر الالهي من وثيقة تُكسبهم كنوزاً لا تفنى بشهادة الايمان، فان كلاً منهم سيشعر لذة عميقة حقيقية راسخة، ونشوة روحية لدى انتظاره كل لحظة مَن يناديه قائلاً: تعال خذ بطاقتك! بحيث أن تلك النشوة الروحية لو تجسمت لاصبحت بمثابة جنة معنوية خاصة بذلك المؤمن، بمثل ما تتحول البذرة وتتجسم شجرةً وارفة.

ولما كان الامر هكذا، فالذي يدَع تلك المتعة الروحية الخالصة لأجل لذة مؤقتة غير مشروعة منغصة بالآلام - كالعسل المسموم - بدافع من طيش الشباب وسفاهته، سينحط الى مستوى أدنى بكثير من مستوى الحيوان.. بل لا يبلغ أن يكون حتى بمثل الملاحدة الاجانب أيضاً؛ لان مَن ينكر منهم رسولَنا الكريم صلى الله عليه وسلم فقد يؤمن برسل آخرين، وإن لم يؤمن بالرسل كلهم، فقد يؤمن بوجوده تعالى. وإن لم يؤمن بالله، فقد تكون له من الخصال الحميدة ما يريه الكمالات. بينما المسلم لم يعرف الرسل الكرام ولا آمن بربه ولا عرف الكمالات الانسانية الا بوساطة هذا النبي الكريم e لذا مَن يترك منهم التأدب بتربيته المباركة ويحل ربقته عن أوامره فلا يعترف بنبي آخر، بل يجحد حتى بالله سبحانه وتعالى. ولا يستطيع أن يحافظ على أسس الكمالات الانسانية في روحه؛ ذلك لان أصول الدين وأسس التربية التي جاء بها الرسول الكريم e هي من الرسوخ والكمال ما لا يمكن أن يحرز نوراً ولا كمالاً قط مَن يَدَعها ويتركها، بل يُحكَم عليه بالتردي والسقوط المطلق، اذ هو e خاتم النبيين وسيد الانبياء والمرسلين، وإمام البشرية بأكملها، في الحقائق كلها، بل هو مدار فخرها واعتزازها، كما أثبت ذلك اثباتاً رائعاً على مدى أربعة عشر قرناً.

فيا مَن فُتنتم بزهرة الحياة الدنيا ومتاعها، ويا مَن يبذلون قصارى جهدهم لضمان الحياة والمستقبل بالقلق عليهما! أيها البائسون!

ان كنتم ترومون التمتع بلذة الدنيا والتنعم بسعادتها وراحتها، فاللذائذ المشروعة تُغنيكم عن كل شئ، فهي كافية ووافية لتلبية رغباتكم وتطمين أهوائكم. ولقد أدركتم - مما بيناه آنفاً - أن كل لذة ومتعة خارج نطاق الشرع فيها ألف ألمٍ وألم، اذ لو أمكن عرض ما سيقع من أحداث مقبلة بعد خمسين سنة مثلاً، على شاشة الآن مثلما تُعرض الاحداث الماضية عليها لبكى أربابُ الغفلة والسفاهة بكاءً مراً أليماً على ما يضحكون له الآن.

فمن كان يريد السرور الخالص الدائم والفرح المقيم في الدنيا والآخرة، عليه أن يقتدي بما في نطاق الايمان من تربية محمد e .

حوار مع فريق من الشباب

جاءني - ذات يوم - فريق من الشباب، يتدفقون نضارة وذكاءً، طالبين تنبيهات قوية وارشادات قويمة تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوة الشباب ومن الاهواء المحيطة بهم.

فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:

اعلموا ان ما تتمتعون به من ربيع العمر ونضارة الحياة ذاهب لا محالة، فان لم تلزموا انفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثوراً، ويجرّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائب وآلاماً تفوق كثيراً ملذات الدنيا التي أذاقكم اياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عفة النفس وفي صون الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الاسلام، اداءاً لشكر الله تعالى على ما أنعم عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهد معنىً، وسيكون لكم وسيلة للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.

فالحياة، ان كانت خالية من الايمان، او فَقَد الايمانُ تأثيره فيها لكثرة المعاصي، فانها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جداً تذيق الآلام والاحزان والهموم اضعافَ اضعافِ تلك المتع والملذات، ذلك لأن الانسان - بما مُنح من عقل وفكر - ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلاً عما هو عليه من زمان حاضر حتى انه يتمكن من ان يذوق لذائذ تلك الازمنة ويشعر بآلامها، خلافاً للحيوان الذي لا تعكر صفو لذته الحاضرة الاحزانُ الواردة من الماضي ولا المخاوف المتوقعة في المستقبل، حيث لم يمنح الفكر.

ومن هنا فالانسان الذي تردّى في الضلالة واطبقت عليه الغفلة تفسد متعتُه الحاضرة بما يردُه من احزان من الماضي، وما يرده من اضطرابٍ من القلق على المستقبل. فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والاوهام، سيما الملذات غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تماماً.

اي ان الانسان هو أدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة. بل ان حياة ارباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو الاّ يومهم الحاضر، حيث ان الازمنة الماضية كلها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالك الظلمات..!

أما الازمنة المقبلة فهي ايضاً معدومة بالنسبة اليهم، وذلك لعدم ايمانهم بالغيب. فتملأ الفراقات الابدية التي لا تنقطع حياتهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.

ولكن اذا ما اصبح الايمانُ حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الازمنة الماضية واستضاءت الازمنة المقبلة، وتجدان البقاء وتمدان روح المؤمن وقلبه من زاوية الايمان، باذواق معنوية سامية وانوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر.

هذه الحقيقة موضحة توضيحاً وافياً في ((الرجاء السابع)) من رسالة ((الشيوخ)) فليراجع.

هكذا الحياة.. فان كنتم تريدون ان تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فاحيوا حياتكم بالايمان وزيّنوها باداء الفرائض، وحافظوا عليها باجتناب المعاصي.

أما حقيقة الموت التي تُطلعنا على اهوالها، الوفياتُ التي نشاهدها كل يوم، في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتها لشبان آخرين من امثالكم

تصوروا ههنا - مثلاً - اعواداً نُصبت امامكم للمشنقة، وبجانبها دائرة توزع جوائز سخية كبرى للمحظوظين.. ونحن الاشخاص العشرة هنا سنُدعى الى هناك طوعاً أو كرهاً. ولكن لأن زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعال.. تسلّم قرار اعدامك، واصعد المشنقة!. أو يقول: تعال خذ بطاقة تربحك ملايين الليرات الذهبية.!

وبينا نحن واقفون منتظرون، اذا بشخصين حضرا لدى الباب. احدهما اِمرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدّمها الينا تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.

أما الآخر فهو رجل وقور كيّس - ليس خباً ولا غرّاً - دخل على اثر تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بطلسم عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، اذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشـنـقة، وتـتـسلـمون - بهذا الطلسـم - بطاقة تلك الجائزة الثمينة.. فها انتم اولاء ترون بأم اعينكم ان مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.

أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع انهم محجوبون عنّا، ويبدون انهم يصعدون منصّة المشنقة الاّ ان اكثر من ملايين الشهود يخبرون بأنهم لم يُشنَقوا، وانما اتخذوا اعواد المشنقة سلماً للاجتياز بسهولة ويسر الى دائرة الجوائز.

فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف ان كبار المسؤولين المشرفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأعلى صوتهم قائلين:

ان اصحاب ذلك الطلسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقيناً كما رأيتم بعين اليقين اولئك الذاهبين الى المشنقة، فلا يساورنكم الشك في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.

وهكذا على غرار هذا المثال:

فان متع الشباب وملذاته المحظورة شرعاً كالعسل المسموم.. وغدا الموت لدى الذي فقد بطاقة الإيمان التي تربحه السعادة الأبدية كأنه مشنقة، فينتظر جلاد الأجل الذي يمكن ان يحضر كل لحظة - لخفاء وقته عنا - ليقطع الاعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيرديه الى حفرة القبر الذي هو باب لظلمات أبدية كما هو في ظاهره..

ولكن اذا ما أعرض الشاب عن تلك الملذات المحظورة، الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحاً، وبادر الى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان واداء الفرائض، فان مائة واربعة وعشرين الفاً من الانبياء عليهم السلام، وما لا يعد ولا يحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثار ما يخبرون عنه بأن المؤمن سيفوز ببطاقة تكسبه كنوز السعادة الأبدية.

حاصل الكلام: ان الشباب سيذهب حتماً وسيزول لا محالة. فان كان قد قضي في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور، فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواءً في الدنيا أو الآخرة.

وان كنتم ترومون أن تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيؤول حالُهم في غالب الأمر الى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة واسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو الى السجون واماكن الاهانة والتحقير، بسبب نزواتهم وغرورهم.. أو الى الملاهي والخمارات بسبب ضيق صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم.. اِن شئتم أن تتيقنوا من هذه النتائج فأسألوا المستشفيات والسجون والمقابر.. فستسمعون بلاشك من لسان حال المستشفيات الأنات والآهات والحسرات المنبعثة من امراض نجمت من نزوات الشباب واسرافهم في امرهم.. وستسمعون ايضاً من السجون صيحات الأسى واصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها اولئك الشبان الاشقياء الذين انساقوا وراء طيشهم، وغرورهم فتلقوا صفعة التأديب لخروجهم على الاوامر الشرعية، وستعلمون ايضاً ان اكثر ما يعذّب المرء في قبره - ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ ابوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه - ما هو الاّ بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سني شبابه، كما هو ثابت بمشاهدات اهل كشف القبور، وشهادة جميع اهل الحقيقة والعلم وتصديقهم.

واسألوا اِن شئتم الشيوخ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون ان أكثريتهم المطلقة يقولون:

((وا أسفى على ما فات! لقد ضيعنا ربيع شبابنا في امور تافهة، بل في امور ضارة! فإياكم إياكم ان تعيدوا سيرتنا، وحذار حذار ان تفعلوا مثلنا!)).

ذلك لأن الذي يقاسي سنواتٍ من الغم والهم في الدنيا، والعذاب في البرزخ، ونار سَقَر في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمس أو عشر سنوات من عمر الشباب بملذات محظورة.. غيرجدير بالاشفاق، مع أنه في أشد الحالات استدراراً للشفقة والرثاء، لأن الذي يرضى بالضرر وينساق اليه طوعاً، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النظر الى حاله بعين الرحمة، وفق القاعدة الحكيمة:((الراضي بالضرر لا يُنظر له)).

حفظنا الله واِياكم من فتنة هذا الزمان المغرية ونجانا من شرورها..

آمـين

[ حاشية المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

باسمه سبحانه

ان المسجونين هم في امسّ الحاجة الى ما في رسائل النور من سلوان حقيقي وعزاء خالص. ولا سيما أولئك الشبان الذين تلقوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنزواتهم واهوائهم. فقضوا نضارة عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء الى النور كحاجتهم الى الخبز.

ان عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها اكثر مما تستجيب للعقل وترضخ له. وسَورات الهوى - كما هو معلوم - لا تبصر العقبى، فتفضل درهماً من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقدم الشاب بدافع الهوى على قتل انسان برئ للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانية آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق الى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث - في قضية تخص الشرف - ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجن وخوف وتوجس من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادة العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.

وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تحوّل ألطف أيام حياتهم واحلاها الى أمرّ الايام وأقساها، وفي حالة يرثى لها. ولا سيما بعد ان هبت عواصف هوجاء من الشمال تحمل فتناً مدمرة لهذا العصر؛ اذ تستبيح لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم الى الاختلاط الماجن البذئ، فضلاً عن إباحتها أموال الأغنياء لفقراء سفهاء.

ان فرائص البشرية كلها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها.

فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب ان يشمّروا عن ساعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلّوا السيوف الالماسية لحجج ((رسائل النور)) وبراهينها الدامغة - التي في رسالة ((الثمرة)) و((مرشد الشباب)) وامثالهما - ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهـجـوم الكاسـح الـذي شُنّ عليهـم من جـهتـين.. والاّ فسيضيع مستــقبل الشـباب في العالم، وتذهب حياته السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلها الى آلامٍ وعذاب؛ اذ سيكون نزيل المستشفيات، بما كَسبت يداه من اسراف وسفاهة.. ونزيل السجون، بطيشه وغيّه.. وسيبكي أيام شيخوخته بكاءً مراً ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.

ولكن اذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق ((رسائل النور)) فسيكون شاباً رائداً حقاً، وانساناً كاملاً، ومسلماً صادقاً سعيداً، وسلطاناً على سائر المخلوقات.

نعم، ان الشاب اذا دفع ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة من يومه في السجن الى اقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه الى السجن، وتجنب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجن اِياها.. فانه سيعود بفوائد جمة الى حياته والى مستقبله والى بلاده والى أمته والى احبّائه واقاربه، فضلاً عن انه يكسب شباباً خالداً في النعيم المقيم بدلاً من هذا الذي لا يدوم خمس عشرة سنة.

هذه الحقيقة يبشرّ بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميع الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم.

نعم! اذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب - ذلك العهد الجميل الطيب - بالاستقامة على الصراط السوي، واداء العبادات، فان تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعة وبهجة.. واِلاّ فانها تكون بلاء ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباء فيكون عهد الشباب وبالاً على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.

هذا وان كل ساعة من ساعات المسجون الذي حكم عليه ظلماً تكون كعبادة يومٍ كامل له، ان كان مؤدياً للفرائض، ويكون السجن بحقه موضع انزواء واعتزال من الناس كما كان الزهاد والعباد ينزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة. أي يمكن ان يكون هو مثل اولئك الزهاد.

وستكون كل ساعة من ساعاته ان كان فقيراً ومريضاً وشيخاً متعلقاً قلبه بحقائق الايمان وقد أناب الى الله وادّى الفـرائض، في حـكم عبـادة عشـرين ساعة له، ويتحول السجن بحقه مدرسـة تربوية ارشادية، وموضع تحابب ومـكان تـعاطف، حيث يقضي أيامه مع زملائه في راحة فضلاً عن راحته وتوجه الانظار اليه بالرحمة، بل لعله يفضل بقاءه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال عليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه. وحينما يغادره لا يغادره قاتلاً ولا حريصاً على أخذ الثأر، وانما يخرج رجلاً صالحاً تائباً الى الله، قد غنم تجارب حياتية غزيرة. فيصبح عضواً نافعاً للبلاد والعباد، حتى حدا الامر بجماعة كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)) الى القول، بعدما أخذوا دروساً ايمانية في سمو الاخلاق ولو لفترة وجيزة من رسائل النور:

((لو تلقى هؤلاء دروس الايمان من رسائل النور في خمسة اسابيع، فانه اجدى لاصلاحهم من القائهم في السجن خمس عشرة سنة)).

فما دام الموت لا يفنى من الوجود، والأجل مستور عنا بستار الغيب، ويمكنه ان يحلّ بنا في كل وقت.. وان القبر لا يُغلق بابه.. وان البشرية تغيب وراءه قافلة اِثر قافلة.. وان الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو الاّ تذكرة تسريح واعفاء من الاعدام الأبدي - كما وضّح ذلك بالحقيقة القرآنية - وانه بحق الضالين السفهاء اعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ اذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلابد ولا شك بان أسعد انسان هو مَن يشكر ربه صابراً محتسباً في سجنه مستغلاً وقته أفضل استغلال، ساعياً لخدمة القرآن والإيمان مسترشداً برسائل النور.

ايها الانسان المبتلى بالملذات والمتع!

لقد علمتُ يقيناً طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبالوف التجارب التي كسبتها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ أن الذوق الحقيقي، واللذة التي لا يشوبها ألم، والفرح الذي لا يكدّره حزن، والسعادة التامة في الحياة انما هي في الايمان، وفي نطاق حقائقه ليس الاّ. ومن دونه فان لذةً دنيوية واحدة تحمل آلاماً كثيرة كثيرة. واذ تقدم اليك الدنيا لذة بقدر ما في حبة عنب تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذة الحياة ومتاعها.

أيها المساكين المبتلون بمصيبة السجن!

ما دامت دنياكم حزينة باكية، وان حياتكم قــد تعــكرت بالآلام والمصـائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية.

فاغتنموا يا اخوتي هذه الفرصة، اذ كما ان مرابطة ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن ان تتحول الى سنة من العبادة، فان كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول الى ساعات كثيرة هناك اذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب الى رحمات وغفران.

u u u
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس