الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #17
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

أيها الاخوة الاعزاء الأوفياء!

لقد رأيت انوار سلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وارزاقهم.

النقطة الأولى:

ان كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن ان يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن ان يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - الى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن ان يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان باداء الفرائض والتوبة الى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته الى السجن، والتوجه اليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً ان السجن نفسه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

النقطة الثانية:

ان زوال الألم لذةٌ، كما ان زوال اللذة ألمٌ.

نعم! ان كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه حسرة وأسفاً عليها، حتى ينطلق لسانه بكلمات الحسرات: اواه.. آه.. بينما اذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فانه يشعر في روحه وقلبه فرحاً وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمد لله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركة ثوابها. فينشرح صدره ويرتاح.

أي أن ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذة موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعات المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عداد المعدوم، وان أيام البلايا لم تأت بعدُ، فهي ايضاً في حكم المعدوم.. وانه لا ألم من غير شئ.. ولا يرد من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة اذن اظهار الجزع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّت، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً انها جميعاً في عداد المعدوم. ومن الحماقة أيضاً اظهار الشكوى من الله وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَليس من يفعل هذا أشد بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طوال اليوم خشية أن يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم! ان الانسان اِن لم يشتت قوة صبره يميناً وشمالاً - الى الماضي والمستقبل - وسدّدها الى اليوم الذي هو فيه، فانها كافية لتحل له حبال المضايقات.

حتى انني أذكر ـ ولا أشكو – ان ما مرّ عليّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة(1) في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس اذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري ايّما انشراح وولت تلك المضايقات فرضيت بالسجن وآلامه والمرض وأوجاعه. اذ مَن كان مثلي على شفير القبر يعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن ان تمر بغفلة الى عشر ساعات من العبادة... فشكرت الله كثيراً.

النقطة الثالثة:

ان القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة واعطاءهم ارزاقهم التي يحتاجون اليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلي والعزاء، مع انه عمـل بسيـط الاّ أنه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث أن تسليم ارزاقهم التي تُرسل اليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما ان كان المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فان ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.

وهذا الربح العظيم مشروط باداء الفرائض من الصلوات لتصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو ان تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون ان يحمّل شيئاً من المنة.

u u u

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً.

يا اخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!.

لقد اُخطر لقلبي ان أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم باذن الله من عذاب الدنيا والآخرة وهي كما أوضحها بمثال:

ان أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه. فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن. وفي الوقت نفسه يظل اقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحين الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه. فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له الاّ الصلح والمصالحة بينهما، وذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو اليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الانسانية، ويحث عليه الاسلام.

نعم، ان المصلحة والحقيقة في الصلح، والصلح خير؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجله قد جاء. اما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الاسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام. فان لم يكن ذلك القتل قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في اشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما اذا ما تصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فان الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجداً أمامه اخوة اتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء الله وقدره، ولا سيما الذين استمعوا الى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، اذ الأخوة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلها نبذ الخلافات واحلال الوفاق والوئام. ولقد حصل هذا فعلاً بين مسجونين يعادي بعضهم بعضاً في سجن ((دنيزلي)) فاصبحوا بفضل الله أخوة متحابين بعد ان تلقوا دروساً من رسائل النور، بل غدوا سبباً من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بداً أمام هذا التحابب الاخروي، فقالوا مضطرين: ما شاء الله.. بارك الله!! وهكذا انشرحت صدور السجناء جميعاً وتنفسوا الصعداء بفضل الله.اذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى انهم لا يخرجون معه الى فناء السجن في أوقات الراحة.. ألا ان المؤمن الغيور لا تسعه شهامته ان يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلابد ان يسارع الى التوبة والإنابة الى الله حالما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.

u u u



باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً

اخوتي المسجونين الاعزاء الجدد والقدامى!

لقد بت على قناعة تامة من ان العناية الإلهية هي التي ألقت بنا الى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي ان مجيئنا الى هنا انما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور اليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وانقاذ آخرتكم من ان تكون كدنياكم حزينة باكية.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم ان تكونوا اخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)).

فها أنتم اولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى انهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة ينقضُّ الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن انكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا مع هؤلاء الأخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة.

قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:

((ليست الآلات الجارحة البسيطة، بل لو سلمتم الى أيدينا أسلحة نارية فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نكبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداء أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا الاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بارشاد القرآن الكريم وبأمر اخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً)).

وهكذا تحوّلون هذا السجن الى مدرسة طيبة مباركة.

[ ذيل المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

مسألة مهمة تخطرت في ليلة القدر

هذه حقيقة واسعة جداً وطويلة في الوقت نفسه، خطرت على القلب ليلة القدر سأحاول ان أشير اليها اشارة مختصرة جداً، كالآتي:

أولاً:

لقد قاست البشرية من ويلات هذه الحرب العالمية الأخيرة ايّ مقاساة، اذ رأت أشد أنواع الظلم وأقسى أنواع الاستبداد والتحكم، مع الدمار الظالم المريع في الارض كافة، فقد نكبت مئات الابرياء بجريرة شخص واحد، ووقع المغلوبون على أمرهم في بؤس وشقاء مريرين، وبات الغالبون في عذاب وجداني أليم لعجزهم عن اصلاح دمارهم الفظيع وخشيتهم من ان يعجزوا عن الحفاظ على سيادتهم. وظهر للناس بجلاء تام؛ ان الحياة الدنيا فانية لا ريب فيها، وان زخارف المدنية خادعة ومخدّرة لا تجدي شيئاً، وتلطخت البشرية بدماء الطعنات القوية التي نزلت بالذات الانسانية وبالاستعدادات الرفيعة في فطرتها.. وظهر للعيان تحطم الغفلة والضلالة والطبيعة الجامدة الصماء تحت ضربات سيف القرآن الالماسي.. وافتضحت الصورة الحقيقة للسياسة الدولية الشوهاء الغدارة والتي هي أوسع ستار واكثفه لإغفال الناس واضلالهم واشده خنقاً وخداعاً لروحهم.

فلاشك ان فطرة البشرية - بعد وضوح هذه الأمور - ستبحث عن معشوقها ((الحقيقي)) وهو الحياة الباقية الخالدة وتسعى اليها بكل قواها - وقد بدت اماراتها في شمال العالم وغربه وفي أمريكا - وستعلم جيداً ان الحياة الدنيا التي تتعشقها عشقاً ((مجازياً)) دميمة شوهاء، فانية زائلة.

ولا ريب انها ستبحث عن القرآن الكريم الذي له في كل عصر ثلاثمائة مليونٍ من العاملين له المتتلمذين عليه منذ ألف وثلاثمائة وستين سنة.. والذي يصدق كل حكم من احكامه ودعاويه ملايين من أرباب الحقيقة.. والذي يحـتفظ بمكانـته المقـدسة في قلوب ملايـين الحــفاظ فــي كــل دقيقـة.. والـذي يرشـــد البشرية بألسـنـتــهم، ويبشرها باسلوبه المعجز بالحياة الباقية والسعادة الدائمـة، مضمداً بها جراحــاتها الغائرة، بل يبشر بها بألوف آياته القوية الشديدة المكررة، بل قد يخبر عنها صراحة أو اشارة بعشرات الألوف من المرات، ناصباً عليها ما لايعد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والحجج الثابتة.

فان لم تفقد البشرية صوابها كلياً ولم تقم عليها قيامة - مادية أو معنوية - فستبحث حتماً عن القرآن الكريم المعجز البيان كما حدث في قارات العالم كله ودولها العظمى، وحدث فعلاً في السويد والنرويج وفنلندا، ومثلما يسعى لقبوله خطباء مشهورون من انكلترا وتقوم بالبحث عنه جمعية تتحرى الدين الحق وهي ذات شأن في أمريكا.. ولابد انهم بعد ان يدركوا حقائقه سيعتصمون به ويلتفون حوله بكل مهجهم وارواحهم. ذلك لأنه ليس من نظير للقرآن في معالجة هذه الحقيقة، ولن يكون، ولا يمكن ان يسد مسدّ هذه المعجزة الكبرى شئ قطعاً.

ثانياً:

ان رسائل النور قد أظهرت خدماتها كسيف ألماسي قاطع بيد هذه المعجزة الكبرى، حتى ألزمت الحجة أعداءها العنيدين وألجأتهم الى الاستسلام، وانها تقوم بوظيفتها بين يدي هذه الخزينة القرآنية من حيث كونها معجزةً لمعانيه المعجزة على نحو تستطيع ان تنور القلب والروح والمشاعر، مناولةً كلاً منها علاجاتها الناجعة، ولا غرو فهي الداعية الى هذا القرآن العظيم والمستفيضة منه وحده ولا ترجع الاّ اليه.

وانها اذ تقوم بمهمتها خير قيام، انتصرت في الوقت نفسه على الدعايات المغرضة الظالمة التي يشيعها أعداؤها، وقضت على أشد الزنادقة تعنتاً، ودكّت أقوى قلاع الضلالة التي تحتمي بها وهي (الطبيعة) برسالة (الطبيعة)، كما بددت الغفلة وأظهرت نور التوحيد في أوسع ميادين العلوم الحديثة وأشد الظلمات الخانقة للغفلة بالمسألة السادسة (للثمرة) وبالحجج الأولى والثانية والثالثة.. والثامنة من رسالة (عصا موسى).

ومن هنا فانه من الضروري لنا - وأكثر ضرورة للأمة - ان يفتح طلاب النور - في حدود القدرات المتاحة - في كل مكان مدارس نورية صغيرة بعدما سمحت الدولة - في الوقت الحاضر - بفتح مدارس خاصة لتدريس الدين(1).

صحيح ان كل قارئ للرسائل يستطيع ان يستفيد منها شيئاً لنفسه الاّ انه لا يستطيع ان يستوعب كل مسألة من مسائلها؛ ذلك لانها ايضاح لحقائق الإيمان. فهي دروس علمية، ومعرفة إلهية، وسكينة للقلب وعبادة لله في الوقت نفسه(1).

ان النتائج التي كان يمكن الحصول عليها في المدارس الدينية طوال خمس أو عشر سنوات يمكن الحصول عليها في مدارس النور في خمسة أو عشرة أسابيع بإذن الله، بل ضمنت تلك النتائج في العشرين سنة التي خلت والحمدلله.

ثم بات من المسلّم به فائدة هذه الرسائل الداعية الى القرآن والتي هي لمعات من أنواره الباهرة، لحياة الأمة ولأمن البلاد، وحتى لحياتها السياسية فضلاً عن حياتها الأخروية، فمن الضروري اذن للدولة الاّ تتعرض لها بسوء بل تسعى جادة الى نشرها وتشجع الناس على قراءتها.. ليكون عملها هذا كفّارة عما اقترفت من سيئآت فاحشة سابقة وسداً منيعاً في وجه ما سيقبل من ويلات ومصائب وفوضى وارهاب.

المسألة السادسة

من رسالة الثمرة



هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقـط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.

جاءني فريق من طلاب الثانوية في ((قسطموني))(1) قائلين:

((عرّفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا!)).

فقلت لهم:

((ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين)).

فمثلاً: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدليا حكيماً، وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء نباتاً وحيواناً، وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة. فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها وانتظامها وعظمتها، قياساً على تلك الصيدلية التي في السوق، وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.

ومثلاً: كما أن مصنعاً خارقاً عجيـباً ينسـج ألوفاً من أنـواع المنســوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا بلا شك صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الآلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.

C ومثلاً: كما ان حانوتاً أو مخزناً للأعاشة والارزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع من المواد الغذائية، وميّز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكاً ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.

C ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزوّدهم وحده بالأرزاق المختلفة، والاسلحة المتـباينة، والألبــسة المتغــايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجنّد مجدداً جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من اربعمائة ألف نوع من شعوب النبـاتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، بلا نسيان لأحد ولا اختلاط ولا تحير وفي منتهى الكمال وغاية الأنتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الأرض حسب العلوم العسكرية وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الاجلّ، ويعرّفه لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.

C ومثلاً: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري - باعجاب وتقديرــ أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائياً بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟.. فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي اكبر من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات حسب علم الفلك وتسير أسرع من انطلاق القذيفة، من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقاً ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود وفق ما تقرأونه في علم الفلك.. هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة . فشمسنا مثلاً وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة، ما هي الا مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الأرض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الأرض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى أمثالها - بلا وقود ولا فحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لا حدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبّره البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.

C ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضـها البعض، فهـذا الكتاب العجــيـب يبين بلاشـــك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعــريفاً يضــاهــي وضوح النـهــار، ويبين كمـالَه وقـدرتَه، ويثـيـر مـن الاعجـاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله،سبحان الله،ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الارض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما ان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد ان وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم اذن ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ ((الله اكبر)) وكيف يعلّم التقديس بـ ((سبحان الله)) وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء ((الحمدلله)).

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياساً على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: ] خَلَق السموات والأرض[ و] ربّ السموات والأرض[ انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير الجزاء ورضي عنك.

قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الأنواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الأعداء ما لا يحد سواء الماديين أو المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لا تحصر، فهو مخلوق مسكين يتجّرع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال بالايمان والعبودية، مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمكانة منزلته لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان الى القدير الذي لا نهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته، بالطاعة والشكران، يبدّل الأجل والموت من الاعدام الأبدي الى تذكرة مرور ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدّروا كم يكون هذا الانسان متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيّده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.

ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:

ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً:

انني لا انتهى الى الفناء ولا اُعدم، بل اُسرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين عليكم بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد اخذت ثأرى منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا اله الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا انّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

نكتة توحيدية في لفظ ((هو))

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً

اخوتي الاعزاء الأوفياء:

لقد شاهدت ـ مشاهدة آنية ـ خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ ((هو)) الموجود في ] لا إله اِلاّ هو[ وفي ] قل هو الله أحد[ ورأيت فيها ان سبيل الايمان سهل ويسير الى حد الوجوب بينما سبيل الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات الى حد الامتناع.

سأبين باشارة في منتهى الاختصار تلك النكتة الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم! ان حفنة من تراب، يمكن ان تكون موضع استنبات مئات من النباتات المزهرة اِنْ وضعتْ فيها متعاقبةً. فاِن اُحيل هذا الامر الى الطبيعة والأسباب يلزم؛ اِما ان تكون في تلك الحفنة من التراب مئات من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو ان كل ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناء تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة واجهزتها الحيوية، اي لها علم محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الآله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرش من عروش الأمر والارادة الإلهية، فلكل جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الانسان الضَئيل عندما ينطق كلمة ((هو)) وظائف لا تعد ولا تحصى.

فلو اُسندت هذه الوظائف الى الطبيعة والمصادفة والاسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكز بــث واستقــبـال لجميع ما فـي العالم من اصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من انواع الاصوات للكلام والمحادثات، وان يكون له القدرة على القيام بتلك الـوظـائف جميـعها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزء من الهواء الموجود في كلمة ((هو))، وكل جزء من اجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصيات معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاماً من الراديوات، وان تعلم لغاتهم ولهجاتهم جميعاً، وتعلّمه في الوقت نفسه الى الذرات الاخرى، وتنشره وتبثه. حيث ان قسماً من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وان اجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. اذاً فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات واشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن ان اُسند الأمر الى الصانع الجليل، فان الهواء يصبح بجميع ذراته جندياً مستعداً لتلقي الأوامر. فعنئذٍ تقوم ذراتُه باداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد باذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها اليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجلياً آنياً ــ بسرعة البرق ــ وبسهولة قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسر تلفظ كلمة "هو" وتموج الهواء فيها. اي يكون الهواء صحيفة واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراته بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلاً كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت اشاهد عالم الهواء واطالع صحـيفـته فـي سيـاحتي الفـكرية وتأمـلي في ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ وعلمت بعلم اليقين ان في الهواء الموجود في لفظ ((هو)) برهاناً ساطعاً للوحدانية مثلما ان في معناه وفي اشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينة الاشارة المطلقة المبهمة لضمير ((هو)) اي: الى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآن الكريم واهل الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم! لو أراد شخص ان يضع نقطة معينة ـ مثلاً ـ على ورقة بيضاء في مكان معين، فان الامر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الاذن معاً..

ولكني شاهدت بعين اليقين، وبدلالة لفظ ((هو)) هذا الذي اصبح مفتاحاً وبمثابة بوصلة، ان نقاطاً مختلفة تعد بالالوف وحروفاً وكلماتٍ توضع ـ أو يمكن ان توضع ـ على كل جزء من اجزاء الهواء الذي اسيح فيه فكراً بل يمكن ان توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون ان يحدث اختلاط او تشابك أو ينفسخ النظام، علماً ان تلك الذرة تقوم بوظائف اخرى كثيرة جداً في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شئ، وتحمل اثقالاً هائلة جداً من دون ان تبدي ضعفاً او تكاسلاً، فلا نراها قاصرة عن اداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ اذ ترد الى تلك الذرات الوف الالوف من الكلمات المختلفة في انماط مختلفة واصوات مختلفة، وتخرج منها ايضاً في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون ان يفسد احداها الاخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذاناً صاغية صغيرة على قدّها، وألسنة دقيقة تناسبها فتدخل تلك الكلمات تلك الآذان وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الامور العجيبة فان كل ذرة ـ وكل جـزء من الهواء ـ تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ بلسان الحقيقة المذكورة آنفاً وشهادتها.

وحينما تحدث العواصف القوية وتدّوي اهازيج الرعد، ويتلمع الفضاء بسنا البرق، يتحول الهواء الى امواج ضخمة متلاطمة.. بيد ان الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في اداء وظائفها فلا يمنعها شغل عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

اذن، فإما ان تكون كل ذرة ـ وكل جزء من الهواء ـ صاحبة علم مطلق وحكمة مطلقة وارادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام باداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذا الاّ محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلاناً مطلقاً. بل حتى لا يذكره اي شيطان كان..

لذا فان البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه انما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحة محوٍ واثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما ان الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الامور العجيبة المذكورة آنفاً، وذلك لدى اداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الاصوات، ويبين في الوقت نفسه بياناً واضحاً محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الاهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل الى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤدياً هناك مهماته الحياتية باتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح ـ أي وظيفة تلقيح النباتات ـ وهكذا امثال هذه الوظائف الاساسية لإدامة الحياة؛ مما يثبت يقيناً ان الهواء عرش عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وارادته الجليلة. ويثبت ايضاً بعين اليقين ان لا احتمال قطعاً لتدخل المصادفة العشواء والاسباب السائبة التائهة والمواد العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي اداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين وعرفتُ ان كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها : ] قل هو الله أحد[ و ] لا إله الاّ هو[ .

ومثلما شاهدت هذه الامور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، اعني مفتاح ((هو)) فعنصر الهواء برمته اصبح ايضاً كلفظ ((هو)) مفتاحاً لعالم المثال وعالم المعنى؛ اذ قد علمتُ ان عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جداً تلتقط صوراً لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يضم مشاهد عظيمة وواسعة اُخروية تسع الوف الوف الدُنى تعرض اوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تعرض امام اصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكّرةً اياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجها المصغر هو ما في رأس الانسان من قوة حافظة وما يملك من قوة خيال، فمع انهما لا تشغلان حجم حبة من خردل الاّ انهما تقومان بوظائفهما على اتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل واتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جداً من المعلومات والوثائق. مما يثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع ان الهواء والماء ولا سيما سائل النطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله ــ الذي اوردناه في مستهل البحث ـ صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدر والحكمة كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الارادة وقلم القدر والقدرة. وان مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعاً.



(لم تُكتَّب بقية البحث في الوقت الحاضر)

الف الف تحية وسلام الى الجميع
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس