عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - رشحات


المثنوي العربي النوري - ص: 53
الرسالة الثانية
رشحات
من بحر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم 1

_____________________
1 ترجم الاستاذ النورسي هذه "الرشحات" الى التركية وجعلها »الكلمة التاسعة عشرة« ونحن بدورنا نسّقناها في ضوئها.



المثنوي العربي النوري - ص: 55
بسم الله الرحمن الرحيم
تنبيه: ان ما يعرّف لنا ربَّنا لايعد ولايحد، ولكن البراهين الكبيرة والحجج الكلية ثلاثة:
احداها: هذه الكائنات، وقد سمعتَ بعض آيات هذا الكتاب الكبير.
وثانيتها: الآية الكبرى من هذا الكتاب، وهي خاتم ديوان النبوة، ومفتاح الكنوزالخفية عليه الصلاة والسلام.
وثالثتها: مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الانام، اي القرآن الحكيم.
فلابد ان نعرف هذا البرهان الثاني الناطق ثم نستمع اليه.. فنذكر من بحر معرفته رشحات:
الرشحة الاولى:
اعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة.
فان قلت: ماهو؟ وما ماهيته؟
قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الارض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينةُ منبرَه.. وهو امامُ جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خلْفَهُ.. وخطيبُ جميع البشر يُبين لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيسُ جميع الانبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات اديانهم.. وسيدُ جميع الاولياء، يرشدهم ويربيّهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرةِ حلقةِ ذكرٍ تركّبَتْ من الانبياء والاخيار والصديقين والابرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقها الحيوية المتينة، هي


المثنوي العربي النوري - ص: 56
الانبياء باساساتهم السماوية، واغصانُها الخضرة الطرية وثمراتُها اللطيفة النيرة، هي الاولياء بمعارفهم الالهامية. فما من دعوىً يدّعيها الاّ ويشهد لها جميعُ الانبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الاولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوى من دعاويه خواتمَ جميع الكاملين؛ اذ بينما تراه قال: (لا إله إلاّ الله) وادعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين - اي شموسِ البشر ونجومِه القاعدين في دائرة الذكر - عينَ تلك الكلمة، فيكررونها، ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: "صَدَقْتَ وبالحَق نَطقتَ".
ولاحدّ للوهم ان يَمُدّ يَده لردّ دعوىً تأيدتْ بشهاداتِ مَن لايحد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.
الرشحة الثانية:
اعلم! ان هذا البرهان النوراني الذي دل على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما انه يتأيد بقوة ما في جناحَيه: نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. وكذا تصدّقه اشاراتُ الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وزُبُر الاولين.. وكذلك تصدّقه رموزات الارهاصات الكثيرة المشهودة.. وكذا تصدّقه بشارات الهواتف الشائعة المتعددة.. وكذا تصدّقه شهادات أهل الكهانة المنقولة بالتواتر.. وكذا تصدقه دلالات الف معجزات من امثال شق القمر ونبعان الماء من الاصابع كالكوثر، ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر الى الفٍ مما بيّنَه الرواةُ الثقاة والمحدّثون المحققون.. وكذا تصدّقه شريعته الجامعةُ لسعادات الدارين.
وقد سمعت ورأيت في الدروس السابقة شعاعاتٍ من شمس شريعته المفيضة للسعادات. فيكفيك إن لم يكن على عينك غين وفي قلبك رَين فلا نطوّل هنا.
الرشحة الثالثة:
اعلم! انه كما تصدّقه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدّقه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته افاضل جميع السجايا الغالية


المثنوي العربي النوري - ص: 57
والخصائل النزيهة.. وكذا قوة ايمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سِيَره وكمال جدّيته وكمال متانته.. وكذا قوة امنيته في حركاته بشهادة قوة اطمئنانه، تصدّقه في دعوى تمسكه بالحق وسلوكه على الحقيقة، كما تصدّق الاوراقُ الخضرة والازهار النضرة والاثمار الطرية حياةَ شجرتها.
الرشحة الرابعة:
اعلم! ان للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول!.. فان شئت فتعال، نخلع هذه الخيالات الزمانية والعصرية والمحيطية، ونتجرّد من هذا اللباس الملوّث؛ ثم نخوض في بحر الزمان السيال، ونَسبَحُ فيه الى ان نخرج الى عصر السعادات التي هي الجزيرة الخضراء فيما بين العصور والدهور. فلننظر الى جزيرة العرب التي هي المدينة الشهباء في تلك الجزيرة الزمانية. ولنلبس ما نسج لنا ذلك الزمانُ، وخاطه لنا ذلك المحيط، حتى نزور - ولو بالخيال - قطبَ مركزِ دائرةِ الرسالة، وهو على رأس وظيفته يعمل.
فافتح عينيك وانظر! فان اول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارقٌ، له حسنُ صورةٍ فائقة، في حُسن سيرة رائقة؛ فها هو آخذ بيده كتاباً مُعجزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً يبلّغ خطبة ازلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.
فيا للعجب!.. مايقول؟ نعم، يقول عن أمر ٍجسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم؛ إذ يشرح ويحل المعمّى العجيبة في سرّ خِلقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات، ويوضح ويبحث عن الاسئلة الثلاثة المعضلة التي اشغلت العقول واوقعتها في الحيرة؛ اذ هي الاسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود، وهي: مَن أنت؟ ومِن اين؟ والى اين؟ ..
الرشحة الخامسة:
انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نَوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً! حتى صيّر ليل البشر نهاراً وشتاءه ربيعاًً، فكأن الكائنات تبدل شكلُها فصار العالم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً. إذ:


المثنوي العربي النوري - ص: 58
اذا لم نستضئ بنوره نرى في الكائنات مأتماً عمومياً، ونرى موجوداتها كالاجانب والاعداء، لايعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه؛ ونرى جامداتها جنائز دهاشة، ونرى حيواناتها واناسيها ايتاماً باكين بضربات الزوال والفراق. ونرى الكائنات بحركاتها وتنوعاتها وتغيّراتها ونقوشها ملعبة التصادف منجرة الى العبثية مهملة لامعنى لها. ونرى الانسان قد صار بعَجزه المزعج وفقره المعجز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل الى رأس الانسان، ادنى واخسر من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.
فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلس الجذبة والشكر.. وتحول الاعداء الاجانب من الموجودات احباباً واخواناً.. وتحول كلّ من جامداتها الميتة الصامتة حياً مؤنساً مأموراً مسخراً، ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحول ذوو الحياة منها - الايتام الباكون المشتكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحولت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمهملية وملعبة التصادف الى صيرورتها مكتوبات ربانية وصحائف آيات تكوينية ومرايا اسماءٍ إلهية، حتى ترقى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة الى اوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة ايمان عقله. ثم انظر كيف صارت اسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل اسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!
ثم انظر الى الماضي، ذلك المزار 1 الاكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الانبياء وبنجوم الاولياء! والى الاستقبال تلك الليلة الليلاء في ظلماته، كيف تنور بضياء القرآن وتكشف عن بساتين الجنان!.
فعلى هذا؛ لو لم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والانسانُ، وكل شئ الى درجة العدم، لاقيمة ولااهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من
_____________________
1 المقبرة.



المثنوي العربي النوري - ص: 59
مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فاذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لامعنى لها بالنسبة الينا. فما اصدق ما قالَ مَنْ "قوله الحق وله الملك": (لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الاَفلاكَ).. 1
الرشحة السادسة:
فان قلت: مَن هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات، وما يقول؟
قيل لك: انظر واستمع ما يقول! ها هو يخبر عن سعادة ابدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلاّلُ محاسن سلطنة الربوبية ونظّارُها، وكشافُ مخفيات كنوز الاسماء الالهية ومعرِّفها.
فانظر اليه من جهة وظيفته؛ تَرَه برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة..
ثم انظر اليه من جهة شخصيته تره مثال المحبةِ الرحمانية، وتمثال الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الانسانية، وأنورَ أزهرِ ثمراتِ شجرة الخلقة.
ثم انظر كيف احاط نورُ دينه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب قريبٌ من نصف الارض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته بحيث تُفدي لها ارواحها.
فهل يمكن للنفس والشيطان ان يناقشا بدون مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي اساس كل مدعياته وهو "لاإله إلاّ الله" بجميع مراتبه؟ ..
الرشحة السابعة:
فان شئت ان تعرف ان ما يحرّكه، انما هو قوّة قدسية. فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الاقوام الوحشية في هذه الصحراء العجيبة، المتعصبين

_____________________
1 اي: ان هذا حديث قدسي. وقد تكلم علماء محققون حول هذا الحديث ، فمنهم من اقره، ومنهم من ضعفه ومنهم من انكره ولعلّ قول على القاري في شرح الشفا (1 / 6) يعدّ خلاصة جيدة، اذ يقول: "انه صحيح معنىً ولو ضعف مبنى " وايده ابن تيمية من حيث صحة معناه في الفتاوى ( 11 / 96 - 98)



المثنوي العربي النوري - ص: 60
لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، القاسية قلوبُهم بدرجة يدفن احدُهم بنتَه حيةً بلا تأثّر! كيف رفع هذا الشخص جميع اخلاقهم السيئة والوحشية، وقلعَها في زمان قليل! وجهّزهم باخلاق حسنة عالية، فصيّرهم معلمي العالم الانساني واساتيذ 1 الامم المتمدنة. فانظر ليست سلطنته على الظاهر فقط، بقوة الخوف كسائر الملوك، بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الارواح والنفوس حتى صار محبوبَ القلوب ومعلم العقول ومربي النفوس وسلطان الارواح.
الرشحة الثامنة:
من المعلوم ان رفع عادةٍ صغيرة (كالتتون) 2 مثلاً، من طائفة صغيرة بالكلية قد يَعسَرُ على حاكم عظيم بهمّة عظيمة، مع أنّا نرى هذا الذات ها هو قد رفع بالكلية؛ عاداتٍ عظيمة كثيرة، من اقوام عظيمة متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسياتهم، بقوة جزئية، وهمةٍ قليلة وفي زمان قصير، وغَرسَ بدلها برسوخ تام في سجيتهم عادات عالية، وخصائل غالية. فانظر الى "عمر" رضى الله عنه قبل الاهتداء وبعده، تَرَه نواةً قد صار شجرةً باسقة. وهكذا يتراءى لنا من خوارق اجراآته الاساسية الوف ما رأينا، فمن لم يَرَ هذا العصر نُدخل في عينه هذه الجزيرة!. فليجرّب نفسه فيها. فليأخذوا مائة من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم ان يفعلوا بالنسبة الى هذا الزمان جزءٌ من مائة جزءٍ مما فعل سيدُنا في سنةٍ بالنسبة الى ذلك الزمان؟! .
الرشحة التاسعة:
اعلم! ان كنت عارفاً بسجية البشر، انه لايتيسر للعاقل ان يدّعي في دعوى فيها مناظرة كذباً يخجل بظهوره، وان يقوله بلا حجاب وبلا مبالاة وبلا تأثر يشير الى حيلته، وبلا تصنّع وتهيّج يُوميان الى كذبه، في انظار خصومه النقادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بحيثية حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع انه

_____________________
1 جمع استاذ
2 التتون : التبغ والتدخين.



المثنوي العربي النوري - ص: 61
يحتاج لأمنية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، وفي مقابلة خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوى عظيمة؟ وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا حجاب وبلا تخوف وبلا تأثر، وبصفوةٍ صميمية، وبجذبة خالصة، وبطرزٍ يحرِّك اعصاب خصومه بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزّتِهم، باسلوب شديد علوي. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلاَّ (انْ هوَ إلاّ وَحيٌ يُوحى) 1.
نعم، ان الحقَّ اغنى من ان يُدلِّس، ونظر الحقيقة اعلى من ان يُدلَّس عليه! ..
نعم، ان مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرهُ النفّاذ منزّهٌ من ان يلتبس عليه الخيال بالحقيقة..
الرشحة العاشرة:
انظر واستمع ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويُنذر البشر ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، لازمة جالبة للعقول الى الدقة 2 فيبشّر البشر. ومن المعلوم ان شوقَ كشفِ حقائق الاشياء، قد ساق الكثيرين من اهل (المَرَق) 3 الى فداء الارواح. ألا ترى انه لو قيل لك: ان أفديتَ نصفَ عمركَ او نصف مالك، لنزل من القمر او المشتري شخصٌ يخبرك بغرائب احوالهما ويخبرك بحقيقة استقبالك، اظنك ترضى بالفداء؟ فياللعجب! ترضى لدفع (مَرَقِك) بترك نصف العمر والمال، ولاتهتم بما يقول هذا ويصدِّقه اجماعُ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الانبياء والصديقين والاولياء والمحققين؛ فيبحث عن شؤون سلطانٍ: ليس القمرُ في مملكته الاّ كذبابٍ يطير حول فراشٍ، يطير ذلك الفراشُ حول سِراج ٍمن القناديل التي اسرجها في منزلٍ أعدّه لضيوفه المسافرين من الوفِ منازله! .. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، فرضاً لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار عشير غرائب ذلك الانقلاب.

_____________________
1 النجم : 4
2 اي الملاحظة والتدبر وإنعام النظر.
3 اي الولع واللهفة والرغبة الملحة والاهتمام . ويستعملها الاستاذ في اماكن متفرقة ويعقبها بمعناها العربي.



المثنوي العربي النوري - ص: 62
فان شئت فاستمع من لسانه امثال: (اذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ) و (اذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) و (اذا زُلْزِلَتِ الارضُ زِلْزالَهَا) و (القَارِعَةُ) .. وكذا يخبر بتحقيقٍ عن استقبال؛ٍ ليس الاستقبال الدنيوي بالنسبة اليه الا كقطرةِ سرابٍ بلا طائلٍ بالنسبة الى بحر بلا ساحل.. وكذا يبشّر عن شهودٍ بسعادةٍ؛ ليست السعادة الدنيوية بالنسبة اليها الا كبرقٍ زائل بالنسبة الى شمس سرمدية.
نعم، تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب - عجائبٌ، تنتظرنا وتنظر الينا. ولابد لاخبار تلك العجائب والخوارق شخصٌ عجيب خارق يشاهِد ثم يشهَد، ويبصُر ثم يُخبر. نعم، نشاهد من شؤونه واطواره انه يشاهد ثم يشهَد فينذر ويبشّر. وكذا يخبر عن مرضيات رب العالمين ومطالبه منّا وهكذا.. من عظائم مسائل لامفرّ منها، وعجائب حقائق لامنجأ منها، ولا سعادة بدونها.
فيا حسرةً على الغافلين! وياخسارةً على الضالين! وياعجباً من بلاهة اكثر الناس! كيف تَعامَوا عن الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة! لا يهتمون بمثل هذا الذات في عجائبه، مع ان من شأن مثله ان تُفدى له الارواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها.
الرشحة الحادية عشرة:
اعلم ! ان هذا الشخص، المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية؛ كما انه برهانٌ ناطقٌ صادقٌ على الوحدانية، ودليلٌ حقٌّ بدرجة حقانية التوحيد.. كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الابدية؛ بل كما انه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الابدية ووسيلة وصولها.. كذلك هو بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة ووسيلة ايجادها.
فان شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وُسعَتها صيّرت هذه الجزيرة، بل الارض، مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجةٍ كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفّ خلفَه، مقتدين به جميعُ افاضل بني آدم، من آدم الى هذا العصر الى آخر الدنيا، في صفوف الاعصار مؤتَمّين به ومؤمنّين على دعائه.. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدةٍ عظيمةٍ عامةٍ بحيث يشترك معه في دعائه الارضُ، بل السماء، بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الاحوال: نعم يا ربَّنا تقبل


المثنوي العربي النوري - ص: 63
دعاءه، فنحن ايضاً نطلبه، بل مع جميع ما تجلى علينا من اسمائك، نطلب حصول ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرّع بافتقارٍ عظيم ٍفي اشتياق شديد وبحزن عميق في محبوبية حزينة! بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركُها في دعائه.. ثم انظر لأيّ مقصدٍ وغاية يتضرع؛ ها هو يدعو لمقصدٍ لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ بل العالم بل كل المخلوقات الى اسفل سافلين لاقيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقى الموجوداتُ الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمدادٍ مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرشَ والسموات، ويهيّج وجدَها، حتى كأن يقول العرش والسموات: آمين اللهم آمين.. ثم انظر ممّن يطلب مسؤولَه؟ نعم، يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يسمع اخفى دعاءٍ من اخفى حيوانٍ في اخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر ادنى املٍ في ادنى ذي حياة في ادنى غاية؛ إذ يوصله اليها من حيث لايحتسب بالمشاهدة، ويُكرم ويَرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم؛ لايبقى ريب في ان هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.
الرشحة الثانية عشرة:
فياللعجب! .. مايطلب هذا الذي قام على الارض وجمَعَ خلفَه جميع الانبياء، افاضل بني آدم، ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم ويدعو دعاءً يُؤمِّن عليه الثقلان، ويُعلَم من شؤونه انه شرف نوع الانسان، وفريد الكون والزمان، وفخر هذه الكائنات في كل آن؛ ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الالهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الاسماء عين ما يطلب هو . فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضاء. فلو لم يوجَد مالا يُعد من الاسباب الموجبة لاعطاء السعادة الابدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة - على وجود الاخرة، وكذا جميع الاسماء القدسية، اسباباً مقتضية لها؛ لكفى دعاءُ هذا الشخص النوراني لان يبني ربُّهُ له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته.


المثنوي العربي النوري - ص: 64
فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافأة والمجازاة.
فهل يمكن ان يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلاقصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجة انطق امثال الغزالي بـ"ليس في الامكان ابدع مما كان".. وان تتغير هذه الحقائق بقبحٍ خشين، وبظلم مُوحش، وبتشوش عظيم؛ اذ سماع ادنى صوت في ادنى خلق في ادنى حاجة وقبولها باهمية تامة، مع عدم سماع ارفَع صوتٍ ودعاءٍ في اشد حاجة، وعدم قبول احسن مسؤول، في اجمل امل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح، وقصورٌ لايساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لايقبل مثلُ هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض، والاّ لانقلبت الحقائقُ بانقلاب الحُسن الذاتي قبحاً ذاتياً.
الرشحة الثالثة عشرة:
يارفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك مارأيت؟ فان اردت الاحاطة فلايمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولامَلَلْنا من النظر بجزءٍ واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته.. فلنرجع قهقرياً، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرّت تلك العصور واستفادت من فيض هذا العصر؟
نعم، نرى كلَّ عصرٍ نمرُّ عليه قد انفتحت ازاهيرهُ بشمس عصر السعادة واثمَر كلُ عصرٍ من امثال ابي حنيفة 1، والشافعي 2، وابي يزيد البسطامي 3، والجنيد

_____________________
1 ابو حنيفة (80 - 150هـ) النعمان بن ثابت، امام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، احد الائمة الاربعة عند اهل السنة، ولد ونشأ بالكوفة، وتوفي ببغداد، وأخباره كثيرة، وله تصانيف منها: "مسند " في الحديث، جمعه تلاميذه و "الفقه الاكبر " و "المخارج " في الفقه. (الاعلام 8/36 الزركلي)
2 الشافعي (150 - 204هـ)(767 - 820م) احد الائمة الاربعة عند اهل السنة، ولد في غزة بفلسطين وحمل منها الى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين، وقصد مصر سنة 199هـ فتوفي بها، وقبره معروف في القاهرة، وكان من احذق قريش بالرمي برع في ذلك اولاً كما برع في الشعر واللغة وايام العرب ثم اقبل على الفقه والحديث وافتى وهو ابن عشرين سنة، وله تصانيف كثيرة اشهرها كتاب "الام " في الفقه و "احكام القرآن ". (الاعلام 6/26 الزركلي).
3 ابو يزيد البسطامي (188 - 261هـ) طيفور بن عيسى البسطامي، ابو يزيد زاهد مشهور، اصله من بسطام ووفاته فيها (بلدة بين خراسان والعراق). (وفيات الاعيان 1/240 ابن خلكان والاعلام 3/235 للزركلي وميزان الاعتدال 1/481 للذهبي حلية الاولياء 10/33 ابو نعيم).

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس