عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011
  #37
عمرأبوحسام
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرأبوحسام
 
تاريخ التسجيل: Oct 2011
المشاركات: 47
معدل تقييم المستوى: 0
عمرأبوحسام is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في القرآن والنبوة:

الكـتيبة الخضراء
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة بعد البعثة يعاني اضطهاد قومه. ما كان له ولأصحابه شوكة يحتمون بها، ولا نزل الإذنُ بقتال المشركين. إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل واحد من أصحابه يتمتع بالوضع الاجتماعي القائم الذي كان يقضي أن تدافعَ العشيرة عن بنيها. أحيانا كانت حماية العشيرة لا تكفي كما حدث بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هجرة الطائف حين التمس جِوار المطعم بن عديّ، فلم يدخل مكة إلا في جواره. ونقرأ على أي مدى تتحرك عصبية العشيرة في صالح الإسلام بالتضامن القوي الذي أظهره بنو هاشم حين قاطعتهم قريش في الشِّعْبِ.
نزل الإذن بالقتال قُبَيْلَ بيعة العقبة، فكانت هذه البيعة تأسيسا عسكريا، إضافة إلى معناها الشمولي. حتى إذا استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبنى المسجد، وكتب وثيقة المهادنة مع اليهود، بدأ يهيئ النفوس للتجنيد الدائم الذي كان ضروريا لبقاء عُصْبَةِ الإسلام حية وسط محيط مُنَاوِئٍ. كانت قبائل العرب تدين لقريش بنوع من الولاء لما لقريش من حرمة سدانة البيت المعظم، ثم لما لها من مال. فيمكن أن نعتبر أنَّ بلاد العرب كلها عَدُوٌّ بالفعل للإسلام يومئذ أو عدوٌّ محتمل جدا. ولم يكن المومنون في بدء الدولة القرآنية النبوية إلاَّ عشرات قليلة. لكن نفوسهم التي زكتها العبادة، وزكتها صحبته صلى الله عليه وسلم، ووثَّقت مراسها بيعةٌ صادقةٌ مع الله ورسوله، كانت مستعدة لتَلَقِّي الأوامر الجُلَّى وتنفيذها.
روى الحاكم رحمه الله وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم! إنا لله وإنا إليه راجعون! لَيَهْلِكُنَّ! فأنزل الله عز وجل: " ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [1]"وهي أول آية نزلت في القتال.
"ثم فرض الله تعالى عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم. فقال عزَّ من قائل: " ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [2]"ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرما ثم مأذونا به ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين. إمَّا فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كفاية على المشهور. والتحقيق أن جنس الجهاد فرضُ عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع. أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية. وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان والصحيح وجوبه" [3]قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد بعد أن ألهب في النفوس حب الله ورسوله، حبا يفدي الإسلام الغاليَ العزيز بكل ما يملكه إن بَخِلَ المالكون. بدأت سرايا الجهاد ببعثة حمزة بعد ستة أشهر من الهجرة. كان قوامها ثلاثون رجلا. ثم السرايا والغزوات حتى بلغ الجند المومن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا في غزوة بدر، ثم قُرَابَةَ ثلاثين ألفا في غزوة تبوك. بدأ الجهاد مناوشات مع وثنيي العرب، ثم مواجهةً مع الشرك والكفر والنفاق كافة في غزوة الخندق، ثم تفرُّغاً لليهود، ثم يصعد الجهاد حتى يرتفع جند الله إلى قوة تقاتل القوى العالمية إذ ذاك في غزوتي مُؤْتَةَ وتبوك. وتدرجت الصعاب من امتحان استعداد المومنين للقتال في غزوة بدر، فامتحانهم على الصبر في تحمل الهزيمة في أحد، فامتحانهم على التوكل على الله ولو أجمع العالم كله على قتالهم في غزوة الخندق، ثم امتحانهم على الطاعة في صلح الحديبية، ثم امتحانهم على العفو عند المقدرة في فتح مكة، ثم امتحانهم على ألاَّ تعجبهم كثرتهم في غزوة حنين، ثم الامتحان الأكبر في غزوة العُسْرة.
علمهم نصر الله وتأييد الملائكة في بدر أن النصر من عند الله. وعلمتهم أحد أن الشهادة في سبيل الله أخت النصر وإحدى الحسنيين. وعلمتهم الخندق أن لا غالب إلا الله. وعلمتهم الحديبية أن سلاح السياسة قد يكون أنجع من سلاح الحديد عند الاقتضاء. وعلمهم فتح مكة أن وعد الله حق. وعلمتهم حنين أن التكتل في جسم مختلط لا يفيد بل هو كارثة. وعلمتهم العسرةُ التجردَ التام عن كل مقاييس القدرة البشرية، وعن كل حسابات ما هو ممكن وما هو مستحيل. فقد كان سفر ثلاثين ألف رجل في صيف الصحراء، وفي سنة مجدبَة، وبالضبط في وقت طابت فيه الثمار بالمدينة بعد انتظار، والمسافة بعيدة، وهجوما على عدو متفوق جدا في قعر داره، أموراً غير عادية، محَّصَ الله عز وجل بها المومنين تمحيصا، وفرَزَ بها المنافقين والكسالى من بين جند الله الذين لا يصدهم صاد عن المُضِيِّ فيما نُدِبُوا إليه.
آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أشقَّها وأقواها: جوع، وعطش، وصحراء، ونفاق مثبِّط، وثمار طابت فهي تغري قوما مستهم المسغبة. وكان الجهاد جهدا مضنيا، وبذلا لا حد له، وصبرا مثاليا.
على هذا ترَكَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم. تركنا أمة مقاتلة قوية على رد التحديات، وعلى اتخاذ المبادرات، وتحمل المشقات. قابِلْ غثائيَّةَ اليوم بقوة ذلك الجيل، ثم لا تنس أن تلك القوة كانت ثمرةَ تربية. فأين المفتاح؟ هل ضاع؟ كلا والله! وإنها غدا للخلافة الثانية على المنهاج الخالد إن شاء الله تعالى.
في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش هدنتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعانت حلفاءها من بني بكر على قتال حلفاء رسول الله صلى الهأ عليه وسلم من خُزاعَةَ. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاجأ المشركين بمكة، فما كان لهم إلا الاستسلام مخرجٌ. بعد ثمان سنوات رجع ذلك الطريد في جبال مكة ومعه جند الله. معه الكتيبة الخضراء، يردِفها كتائب المسلمين من قبائل العرب. هلكت قريش كما كان نطق أبو بكر رضي الله عنه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إظهار قوة جنده ليردَعَ بذلك ما بقي من نخوة الجاهلية. فقد روى البخاري رحمه الله عن هشام عن أبيه رضي الله عنهما قال: "لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح(...) فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم) للعباس: احبس أبا سفيان عند خَطْمِ الجبل حتى ينظر إلى المسلمين. فحبسه العباس. فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم. تمر كتيبةً كتيبةً على أبي سفيان. فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غَفَارُ. قال: مالي ولغفار! ثم مرت جُهَيْنَةُ. قال مثل ذلك. ثم مرت سعد بن هُذَيْم، فقال مثل ذلك. ومرت سُلَيْمُ، فقال مثل ذلك. حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها. قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية. فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يومُ المَلْحَمَةِ! اليومَ تُسْتَحَلُّ الكعبة! فقال أبو سفيان: يا عباس! حبذا يوم الذِّمار! (أي الهلاك. كان يظن أن هذا الجند المجند سيخرب مكة ويذبح أهلها). ثم جاءت كتيبة -وهي أقل الكتائب عَدداً- (وهي الكتيبة الخضراء كما جاء في روايات أخرى لخضرة، أي سواد، دروعهم) فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام. فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: قال كذا وكذا. قال: كذب سعد، ولكنْ هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة" . الحديث. وروى ابن إسحاق رحمه الله أن أبا سفيان بعد أن رأى قوة المسلمين قال للعباس رضي الله عنه: "ما لأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك الغَداةَ عظيما! فقال: يا أبا سفيان! إنها النبوءة! قال: فنعم إذن!".
ما لي ولغَفار! ما لي ولسُليم! هذا عربي جاهلي لا يعرف من القتال إلا النزاع القبلي والثارات والغارات. أما أن تتآلف القبائل تحت راية واحدة وتقاتل على غاية أسمى من العداوات البدوية فهذا فوق تصوره. وذُهِلَ الرجل أمام الكتائب المنظمة، وأمام مشهد الكتيبة الخضراء المدججة بالسلاح، فأيقن بهلاك قريش، لا سيما بعد أن سمع مقالة رجل من المسلمين ما اكتمل عنده الفرقان بين حروب الجاهلية وجهاد الإسلام. وحَسِبَها أبو سفيان مُلكاً لما رأى من النظام والطاعة ووحدة القيادة.
كان فتح مكة رحمة. "اذهبوا فأنتم الطلقاء". كلمة نبي رحيم لا مَلِكٍ جبار.
هكذا ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة وهكذا تركها. بيضاء واضحة هي المحجة النبوية. لا إسلام الخمول والاستسلام، ولا الثورة والعنف، ولا الزهادة والانزواء، لكن القوة في خدمة الحق والعدل: اليقظة الإيمانية المقاتلة.
[1] الحج: 39
[2] البقرة: 190
[3] زاد المعاد ج2 ص58
عمرأبوحسام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس