عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2008
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

ما كيفية تدريجه للمريد رضي الله عنه فقد كانت تختلف، فمنهم من يتكلم معه في صورة آدم، ومنهم من كان يتكلم معه في صفات المعاني، ومنهم من كان يتكلم معه في الأفعال الإلهية، وكل كلام بكيفية تخصه.
أما السير الغالب الذي كان يعتمده، واعتمدناه نحن من بعده أيضاً، فهو أن يُكلف المريد بذكر الإسم المُفرد مع تشخيص حُروفه، حتى ترتسم –أعني الحروف- في مُخيلته، ثم يأمره ببسطها وتعظيمها إلى أن تملأ الحروف مابين الخافقين، ويُديم الذكر على تلك الهيئة إلى أن تنقلب صفاتها إلى شبه النور، ثم يُشير له بالخروج عن هذا المظهر بكيفية يتعذر التصريح بها، فينتهي روح المُريد بسرعة مع تلك الإشارة إلى خارج الكون مالم يكن المريد قليل الإستعداد، وإلا احتيج إلى تصفية وترويض، وعند تلك الإشارة يقع للمريد التمييز بين الإطلاق والتقييد، ويظهر له هذا الوجود مثل الكرة أو القنديل، معلقاً في فراغ معدوم البداية والنهاية، ثم يصير يضعف في نظره مع ملازمة الذكر، ومصاحبة الفكر، إلى أن يصير أثراً بعد عين، ثم يصير لا أثر ولا عين، ويبقى على تلك الحالة حتى يستغرق المريد في عالم الإطلاق، ويتمكن يقينه من ذلك النور المجرد، والشيخ في كل ذلك يتعاهده ويسأله عن أحواله، ويُقويه على الذكر حسب المراتب، حتى ينتهي إلى غاية يشعر بها المريد من نفسه ولا يكتفي منه إلا بذلك. وكان رضي الله عنه دائماً يتلو قوله تعالى : (ويتلوه شاهد منه)، فإذا تمت غاية المريد في هذا المشهد حسب المشارب من قوة وضعف، فيرجع به إلى عالم الشهادة، بعد الخروج عنه، فينقلب في نظره على خلاف ما كان عليه، وما ذلك إلا لإشراق بصيرته، وكيفما كان لا يراه إلا نوراً على نور، وكذلك كان من قبل. وفي هذا المقام قد يختلط على المريد الحابل بالنابل، فيقول كما قال غير واحد :"أنا من أهوى ومن أهوى أنا"، وما هو من هذا القبيل فيرجمه من لا خبرة له بمحصولات القوم وشطحاتهم بما شاء أن يرجمه به. ولكن لا يبعد صاحب هذا المقام أن يتلوه التمييز بين المشاهد، فيصير يُعطي المراتب حقها، ويُوفي المقامات قسطها، وقد كان أخذني هذا المقام واستوطنت به سنوات، فتفننت فيه، ونوهت بمقتضياته، فتناول الأتباع ما كتبناه في ذلك في كوني تحت حال سُطوته، فمنهم من هو الآن على علم بمُقتضياته، ومنهم من هو دون ذلك. وهكذا لا يزال يعدوني أحياناً، ولكنه لم يقض علي بالكتابة فيه. نعم يدعوني إلى كلام لكنه أيسر مؤونة، وأقرب إلى الشعور منه إلى الإستغراق.
ثم أقول أن المسلك الأخير الذي ذكرناه عن أستاذنا رضي الله عنه، هو الذي اعتمدناه في طريقنا، وسيرنا عليه أكثر أتباعنا، بما أنّا وجدناه أقرب المسالك في طريق السيرإلى الله، هذا وبعدما استنتجت ثمرة الذكر التي هي المعرفة بالله على طريق المشاهدة، ظهر لي تقصيري فيما كنت عليه من جهة معلوماتي في فن التوحيد، وذقت حينئذ ماكان يشير إليه الأستاذ، وبعد ذلك أمرني أن أشتغل بحضور الدروس التي كنت أحضرها قبل، ولما أخذت في حضورها وجدت نفسي على غير ما كنت عليه من الفهم، وصرت أتلقف المسألة قبل أن يُتم الشيخ تصويرها، ثم أستنتج فهما زائداً على ما يعطيه ظاهر اللفظ، وبالجملة إني وجدت فهماً لا مناسبة بينه وبين ما كنت عليه من قبل، وهكذا أخذت تتوسع عندي دائرة الفهم، حتى كنت إذا قرأ القارئ شيئاً من كتاب الله تسبق مشاعري إلى حل معانيه بأغرب كيفية في زمن التلاوة، ولما تمكن ذلك مني، وتحكَّم تحكُّم الطبيعيات، خشيت أن أدخل تحت تصرف ذلك الوارد الملازم، فأخذت في كتابة ما يُمليه الضمير في كتاب الله، فأُخرجه في صبغة ليست مألوفة، بما أني كنت تحت تصرف ذلك الوارد، وهذا هو الذي حملني في البدء على (شرح المرشد المعين بطريق الإشارة)، تحاشياً مني أن أقع فيما هو أبلغ عبارة. وعند ذلك وقف الفهم مني فيما يقرب من الاعتدال، وقد كان وقع لي مثل ذلك أيضاً قبل أن أجمع الكتاب المُسمى (بمفتاح الشهود في مظاهر الوجود)، الذي هو في الهيأة، تعلقت همتي بالعلويات لأسباب، وطاش سهم الفكر والحديث يطول. وقد نبهنا على شيء من ذلك في الكتاب نفسه، وبما أني كنت لا أستطيع دفع ذلك التيار، اشتكيت إلى الأستاذ رضي الله عنه فقال لي : "انزعه من دماغك، وضعه في كتاب فإنك تستريح من ذلك". فكان الأمر كما ذكر، والكتاب إلى الآن لم تسمح نفسي بنشره، والله يعلم بما في المستقبل.
ثم أعود لما كنت بصدده فأقول : ولما فرغت من الإشتغال بالإسم الذي كنت كلفته على سبيل اللزوم، وما كان ذلك إلا بعد أيام طوال، قال رضي الله عنه : "ينبغي لك الآن أن تحدث وترشد الناس إلى هذه الطريق، حيث إنك على يقين من أمرك". فقلت له : "وهل ترى أنهم يسمعون لي؟" فقال : "إنك تكون مثل الأسد، مهما وضعت يدك على شيء إلا أخذته". فكان الأمر كما ذكر، وكنت مهما تكلمت مع أحد وعقدت العزيمة على انقياده للطريق إلا وانقاد لكلامي، وعمل بإشارتي، حتى انتشرت تلك النسبة والحمد لله. وقد كنت سألته مرة عن أمره إياي بالتحدث، بعد أن كان أمرني بالسكوت أولاً. فقال لي :"كنت عندما قدمت من المغرب تكلمت بهذا الفن كما كنت قد تكلمت به من قبل، ولما واجهني الوجود بالإعتراض، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير علي بالسكوت، ومن ذلك العهد وأنا ساكت حتى كدت أن أحترق، ولهذا قبلت منكم نشر الدعوة، وإلا لما تجاسرت أن آذن لكم في الإعلان، وفي هذه الأيام الأخيرة رأيت من يقول لي : تحدث ولا حرج". ولعله كان يعني بالقائل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله أعلم. وهذا ما كان من أمر بدايتنا، ثم دمنا على صحبته خمسة عشر من السنين، عاملين في كل ذلك على نصرة الطريق، وقد آزرني على ذلك عدة رجال، فما بقي من كبارهم إلا ما يقرب من العشرة أمدّ الله في حياتهم وزاد في عنايتهم، آمين. أما أنا فقد كنت في طريق تلك المدة متفانياً في خدمة الشيخ، وعاملاً على بث الطريق، حتى كنت أهمل بعض الضروريات من الأشغال، ولولا صحبة المقدم ولي الله سيدي "الحاج بن عودة بن سليمان" الذي كان يحافظ لي على ماليتي، ويضبطني من جهة تجارتي، لقضيت عليها من أصلها، وبما كنا عليه من التفنن في خدمة الطريق، حتى كاد يظهر محل تجارتنا بصفة زاوية، أكثر من أنه كان به التدريس ليلاً، والذكر به نهاراً، وكل ذلك لم ينقص والحمد لله من ماليتنا، ولا قضى بتقصير في تجارتنا.
ثم أنه قبل وفاة الأستاذ رضي الله عنه ألقى الله في قلبي حب الهجرة فأخذت أتسبب في الإنتقال إلى جهة المشرق بكل وسيلة، بما كنت أرى عليه الوطن من فساد الأخلاق، وعندما كنت على وشك السفر إذ الأستاذ رضي الله عنه اشتد به المرض، وظهرت عليه بشائر الرحيل، فلم تسمح نفسي بمفارقته وهو على تلك الحالة، وهكذا لم يسمح أصدقائي بذلك , أما أنا فالأمر الذي كان يؤلمني بكثرة هو ما تشعب علي من الأعمال التي يتعذر تطبيقها، منها ما كان عليه الأستاذ من المرض الذي يستلزم المكث معه، ويُباينه ما كان بيدنا من رخصة السفر مع الأهل، وكان الأجل المضروب لها على انقضاء، وإذا تم ذلك فلا تُسخر من بعد، ويكون الضرر أشد، بما أن الرخصة يتعذر صدورها في ذلك الحين، ولما كنت عليه أيضاً من تعطيل الأسباب وبيع الأثاث، وبالجملة فكأني كنت في بلد غير بلدي، وقبل ذلك كنت بعثت الزوجة إلى أهلها بمدينة تلمسان لتُوادعهم، وكيفما كان الحال، اخترت أن أترك الأستاذ على آخر نفس وأذهب بعدما قضيت معه خمس عشرة سنة أُحافظ على بره، وما كنت عققته بشيء ولو قل، ولم تمر أيام قلائل حتى انتقل الأستاذ إلى رحمة الله .
فدمنا على الإحسان والملاطفة مع ابنه، وكان لا يثقل علينا شيء من أحواله التي كانت تثقل على غيرنا، إلى أن توفي رحمة الله عليه، ولم يُخلف إلا بنت فقمنا على مراعاتها أيضاً إلى أن تزوجت، وقد تزوجها أحد الأتباع وفقه الله إلى كمال البرور معها ومراعاة احترامها، ومازلنا نحن في مراعاة الإحسان لها، وفقنا الله وإخواننا لمثل ذلك.
ثم أعود لما كنت بصدده فأقول: بعدما أخذنا وديعة الأستاذ رضوان الله عليه، أخذت الاحبة في تجهيزه، ثم دفن بزاويته بعدما قدمت في ذلك للصلاة عليه، أمطر الله على قبره سحائب الرحمة وجلائل النعم، وبعد تلك المدة بأيام قلائل ورد عليّ خبر من أصهارنا بمدينة تلمسان يقولون فيه أن زوجتكم في أشد مرض، فذهبت إلى تلمسان وعندما وصلت وجدتها على آخر رمق، وكانت متدينة بارة حسنة المعاشرة، وبعدما مكثتُ معها نحو الثلاثة أيام انقضى نحبُها، وانتقلت شهيدة إلى عفو الله. رجعت إلى مستغانم حالة كوني فاقد الأستاذ رضي الله عنه، والزوجة، وما بيدي من الأثاث وأسباب المواد مع فقدان رخصة السفر، لأنه انقضى أجلها. وقد كانت الإشارة من الشيخ رضوان الله عليه أنني خليفة الشيخ و وراث سره وعلى هذا كان الإجماع من الفقراء لما سمعوه من الشيخ رضوان الله عليه ولما رأوه من رؤيا , فتوافدت جموع الخواص والعوام من أهل الطريقة للبيعة , وبعدها قمنا بسياحة وأسفار إلى بعض البلدان الإسلامية , وخلال مدة مُكثي بتونس تتوارد علي أفراد الفقهاء والفضلاء، وكانت تحصل مذاكرات ومفاهمات في عدة نوازل، ومن جملة من عقلت من أسماء الفقهاء الذين اجتمعت بهم حضرة المحدث الشيخ سيدي (الأخضر بن الحسين) وحضرة الشيخ سيدي (صالح القصيبي) والمدرس الشيخ السيد (احسونة الجزائري) وهكذا عدة طلبة منهم مطوعون ومنهم دون ذلك، وقد دخل الطريقة جماعة من القسم الأخير، وقد كان اقترح علي بعض الطلبة أن أجعل لهم درساً في "المرشد المعين" وأبسط لهم كلاماً فيه من طريق الإشارة، فكان ذلك في قول المصنف :
وجوده له دليل قاطع * حادة كل محدث للصانع
فوقع ذلك موقعاً حسناً عند السامعين، وكان هو السبب في تعلق بعض الطلبة بالطريق، وهكذا قضينا تلك المدة بين الذكر والتذكير، وقد انتفع البعض فالحمد لله بتلك الزيارة.
أما الأستاذ فمنذ أن استقر به النوى، لم يزل معتكفاًُ على تدريس الفقه والعربية، وبث الهداية الإسلامية من بين أبناء الملة ورجالها المؤمنين، وعلى إثر هذا العمل انتشرت نسبته في عدة بلدان، خصوصاً في البوادي حول مدينة غليزان، ومدينة تلمسان، وقد بلغ أمره فيها أن صارت أتباعه تُعد بالمئات، وقد شهد له فيها بكرامات عديدة، وفيوضات ربانية , وكانت أهل تلمسان تُجله كل الإجلال، سواء في ذلك مشايخها وفقهاؤها وذوو الفضل من تجارها، الأمر الذي لم يكن لغيره من معاصريه.
وفي تلك الأيام أيضاً ألف كتابه المسمى ب"لباب العلم في تفسير سورة والنجم" فجاء من أكمل ما ينتفع به المنتسب، ويرغب فيه الراغب من مرضاة الله، وقد كثر تردده في ذلك التاريخ على مدينة تلمسان حتى كان يزورها المرتين والثلاث في السنة، ويكاد يستغرق في كل زيارة ما يقرب من نحو الشهر أو الشهرين بتمامها، وإن اليوم الذي كان ينزل فيه بين أهلها يكون يوماً مشهوداً من بين الناس، بحيث كانت تغص فيه محطة القطار بالمنتظرين، وكان يُقابل فيها بكل حفاوة وإكرام, توفي رحمه الله تعالى سنة 1934 ميلادية رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته . (بتصرف)
................
عن موقع الطريقة الشاذلية
www.shazly.com

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 04-05-2011 الساعة 02:59 AM
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس