عرض مشاركة واحدة
قديم 02-23-2009
  #1
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
كنت أفكر في لعاب الأسد

كنت أفكر في لعاب الأسد


جلس أبو علي أحمد بن محمد الروبادي البغدادي في مجلس وعظه بمصر بعد وفاة شيخه أبي الحسن بنان الحمال الزاهد الواسطي شيخ الديار المصرية، وكان يضرب المثل بعبادته وزهده، وقد خرج أكثر أهل مصر في جنازته، فكان يومه يومًا كالبرهان من العالم الآخر لأهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إلا اقتنع أنه في شهوات الحياة وأباطيلها كالأعمى في سوء تمييزه بين لون التراب ولون الدقيق؛ إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنافعه مثل هذه النظرة، باللمس لا بالبصر، وبالتوهم لا بالتحقيق، وعلى دليل نفسه في الشيء لا على دليل الشيء في نفسه، وبالإدراك من جهة واحدة دون الإدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء صُبَّ على الدقيق والتراب جميعًا، فلا يرتاب مبصر ولا أعمى، ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق.
وتكلم أبو علي فقال: كنت ذات يوم عند شيخنا الجنيد في بغداد، فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ الري والجبال في وقته يقول فيه: لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيرًا أبدًا! قال: فجعلت أفكر في طعم النفس ما هو، وجاءني ما لم أرضه من الرأي، حتى سمعت بخبر بنان -رحمه الله- مع أحمد بن طولون أمير مصر، فهو الذي كان سبب قدومي إلى هنا؛ لأرى الشيخ وأصحبه وأنتفع به.
والبلد الذي فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب البتة وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال؛ فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صوابٌ ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم؛ إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها؛ ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلًا فاضلًا بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب؛ ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل؛ ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.
وما مثل الكتاب يتعلم المرء منه حقائق الأخلاق العالية، إلا كوضع الإنسان يده تحت إبطه؛ ليرفع جسمه عن الأرض؛ فقد أنشأ يعمل، ولكنه لن يرتفع؛ ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقهم دروسًا أخرى تعمل عملًا آخر غير الكلام؛ فإن أحدهم ليجلس مجلس المعلم، ثم تكون حوله رذائله تُعَلِّم تعليمًا آخر من حيث يدري ولا يدري، ويكون كتاب الله مع الإنسان الظاهر منه، وكتاب الشيطان مع الإنسان الخفي فيه.
قال أبو علي: وقدمت إلى مصر؛ لأرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون، فلما لقيته لقيت رجلًا من تلاميذ شيخنا الجنيد، يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره؛ وهما كالشمعة، والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وكبرت واحدة؛ وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسبًا شابكًا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه؛ لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر؛ فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية للناس، وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.
ومن عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأن القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض: تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذاك، وتفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته، فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق.
وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يعديهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبار القواد وكبار الشجعان وكبار العلماء وأمثالهم -كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى.
قال أبو علي: وهممت مرة أن أسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت: أحتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري: "لا أذاقك الله طعم نفسك"؛ وبينما أهيئ في نفسي كلامًا أجري فيه هذه العبارة، جاء رجل فقال للشيخ: لي على فلان مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة التي كتب فيها الدين، وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها؛ فادع الله لي وله أن يظفرني بديني وأن يثبته على الحق. فقال الشيخ: إني رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى، فاذهب فاشتر رطلًا منها وائتني به حتى أدعو لك!
فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فإذا هي الوثيقة الضائعة، وجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال له: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي! ثم إنه التفت إلي وقال:
لو أن شجرة اشتهت غير ما به صحة وجودها وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها لأكلت نفسها وذوت.
قال أبو علي: والمعجزات التي تحدث للأنبياء، والكرامات التي تكون للأتقياء، وما يخرق العادة ويخرج عن النسق -كل ذلك كقول القدرة عن الرجل الشاذ: هو هذا. فلم تبق بي حاجة إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، وكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري* ذاك الذي يحدث بكتب أبيه كلها من حفظه وهي واحد وعشرون مصنفًا فيها الكبير والصغير؛ فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع ابن طولون، فمن أجله زعمت جئت إلى مصر. قلت: إنه تواضع فلم يخبرني وهِبْته فلم أسأله.
قال: تعال أحدثك الحديث.
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس