عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - نور من انوار نجوم القرآن


المثنوي العربي النوري - ص: 446
ومن هذا السر انتظَرها أهلُ كلِّ عصرٍ من عصرِ السعادة الى الآن، كما هي الحكمة الدافعة للغفلة العامة، وهذا الانتظار، من هذه الحكمة، لا من ارشادِ النبوة، في التعيين والحكم بالانتظار للوقوع، بل بالانتظار الذي يقتضيه الإبهام لدفع الغفلة. ولقد سهى مَن لم يميّز الحكمة من العلّة.
واما المهدي فلتقوية القوة المعنوية وردّ اليأس عند استيلاء الضلالة، ولتشجيع ذوي الهمم المجدّدين في الانسلاك في سلك نوراني إمامُه ورأسُه المهدي رضي الله تعالى عنه. فهذه الحكمة تقتضي الابهام ليُمكَن الانتظار في كلّ زمان.
اعلم 1! أيها المسلم في الظاهر والاسم! مَثَلُك في تقليد الكفار في السفاهة ومعارضة الأحكام الاسلامية كمثل فردٍ من عشيرة يرى رجلاً عدوّاً من عشيرة أخرى يذم عشيرة الأول ويزيّف رئيسَها ويحقّر عاداتها، مستنداً الى عشيرته متمدحاً بمفاخرها. فيظنّ ذلك المسكين اَنْ لَو ذمّ هو أيضاً عشيرة نفسِه وحقّر عاداتها صار كذلك الرجل العدو! ولا يعرف ذلك أنَّهُ بهذا الردِ والارتداد، اِما مجنونٌ جرئ أو رذيل دنئ يكسر ظهرَهُ فيصير يتيماً طريداً.
ألا ترى ان الشخص الأوروبائي ينكر محمّداً عليه الصلاة والسلام ولكن يتسلى (بالخرستيانية) 2 المموّهة وبمدنيتهم المخصوصة الممزوجة بعاداتهم الملّية، فيمكن ان يبقى في روحه بعضُ الاخلاق الحسنة الدنيوية، وبعض الهمم العالية لأجل هذه الحياة الدنيوية. فلا يرى بسبب هذا التسلي ظلمات روحه ولايُتمَ قلبه.
واما أنت ايّها المرتد! ان انكرت محمداً عليه الصلاة والسلام وآثاره لايمكن لك قبول واحدٍ من الأنبياء. بل ولاقبول ربّك، بل ولاقبول شئ من الكمالات الحقيقية. فانظرْ الى دهشة التخريبات في روحك، وابصرْ شدة الظلمات في وجدانك، ووحشة اليتم واليأس في قلبك، وعن قريب يترشح قبحُ باطنِك الى ظاهرك فيصير حُسنُكم وجميلتكم المرتدّة أقبحَ من أقبح كافر. فالمرتدُ محرومٌ من الحياتين دون الكافر، اذ الكافرُ لهُ حقُ حياةٍ اِن لم يُحاربْ.
_____________________
1 المسألة الثالثة من رسالة الثمرة - الشعاع الحادى عشر - توضح هذا المبحث.
2 كلمة يونانية يقصد بها: النصرانية.




المثنوي العربي النوري - ص: 447
اعلم 1! يامن يضيق صدرُه ولا يسع فكرُه عظمةَ بعضِ المسائل من الحقائق القرآنية كأمثال: (خَلقَ السمــوات والأرضَ في ستة أيام) 2 و (وما أمرُ السّاعة اِلاّ كَلَمْح البَصَر) 3 و (ما خَلْقكُم ولا بَعثكم اِلاّ كَنفسٍ واحدةٍ) 4 و (ثم نُفخ فيه اُخرى فاذا هم قيامٌ ينظرون) 5 و (يومَ نطوي السّماءَ كطيّ السجل للكُتُب) 6 وامثالها..
ان كتابَ الكونِ المشهود بآياته الشؤونية تفسّر تلك الآيات القرآنية، وتقرِّبُها الى فهمك بإراءة كثيرٍ من نظائرها المشهودة لعينك، في تلافيف اختلاف الليل والنهار، وفي معاطفِ تحولِ الفصول والاعصار.
فان شئت الشهودَ فافتح كنز آية
(فَانْظُر الى آثار رَحمتِ الله كيفَ يُحيي الأرضَ بَعد مَوتها اِنّ ذَلك لمَحيي الموتى) 7 لترى بعينك ما لايعد من المسائل العظيمة نظائرَ ما استبعدتَ!
مثلاً: تشاهد في الحشر الربيعي إحياءَ آلافِ عوالمَ من انواع النباتات والحيوانات التي ماتت في القيامة الخريفية. وايجاد كلٍّ منها بنظامات مخصوصة، وموازين معينة في أيام معدودة. مع ان لكلِّ واحدٍ من أكثر تلك العوالم وسعةً، بحيث يُزيّن أكثر وجه الأرض كبرقعٍ منمنم.. وهكذا مما لايحد ولا يحصى من الشّواهد المشهودة الصادقة.
فمما لا يحد من تلك العوالم انظر الى عالم الشجر.. ومما لا يعد من أنواعها الى نوع شجر التفاح.. ومما لا يحصى من أفرادها الى هذه الشجرة! لترى ثلاث حشرٍ ونشرٍ متعاقبة متداخلة.. بنشر أوراقها المهتزة المنتظمة.. وحشر أزهارها المزينة المنظومة.. واحياء اثمارها اللذيذة الموزونة.. فمن يفعلْ هذه الأفاعيل في سطح الأرض ويكتب بتقليب صحيفة الشتاء الوف صحائف كصفحة الأرض في الوسعة، هو الذي يخبر عن نفسه بانّه
(خَلَق السموات والارضَ في ستة أيام) الى آخر ما مرّ.
_____________________
1 ان شئت التفصيل راجع الكلمة الرابعة عشرة.
2 يونس: 3
3 النحل: 77
4 لقمان: 28
5 الزمر: 68
6 الانبياء: 104
7 الروم: 50



المثنوي العربي النوري - ص: 448
اعلم 1! ان لكل أحدٍ علاقات بالمحبة والشفقة مع أقاربه، ثم مع أفراد عشيرته، ثم مع أفراد ملّته، ثم مع أفراد نوعه، ثم مع أبناء جنسه، ثم مع أجزاء الكائنات. بحيث يمكن ان يتألم بمصائبهم ويتلذذ بسعاداتهم واِن لم يشعر. لا سيما مع من أحبّه لكماله من جماهير الأنبياء والأولياء والأتقياء. وكم من أحدٍ لا سيما اذا كانت "أُمّاً" تفدي نفسَها وتزيل راحتها لعلاقةٍ واحدة، ولمحبوب واحدٍ مما لايحد من أودّائها.. فالغافل الحاكمُ على نفسه وعلى أودّائه حالة الغفلةِ باليُتم وعدم التعهد مُبتلىً بحمل آلامٍ لا تعد منهم، مع آلام نفسه واِن لم تشعر نفسُه السكرانة بعذابِ قلبه وروحه!. فلو ظفر هذا الغافل بجنةٍ - مثلاً - صار مِثل: الـذُبيبةُ المتلمعة في الليل لها لمعةُ نورٍ لكن استولت الظلماتُ الموحشة على جميع مناظرها ومحبوباتها ومأنوساتها، مع ان نورها الذاتي قد يضرّها باراءتها لرقيبها. واما اذا طرد الغفلة وردّ المُلك الى مالكه الحقيقي ينفتح لقلبه منفذٌ الى اشعّات شمسٍ سرمد، خطُّ استوائها الأزل والأبد، ورأى ان كل هذه المحبات المنتشرة على هذه المحبوبات الكثيرة كانت لهذا الواحد الذي يكفي عن الكل ويُنسيك الكل، ولا يكفي عنه الكل، بل ولا عن تجلٍّ من تجليات حبّه. فلو دخل هذا المؤمن الموقن جهنّماً - مثلاً - أمكن له باذن الله الظفر بجنّة روحانية بالتلذذ بالعلم بأن كل أودّائه مصونون من الفراق الأبدي، ومنعمون بالسعادة السرمدية.
فيا أيها السعيد الغافل؛ اترك نفسَك ووهمَ مالكيتك تظفر بسلامة جميع محبوباتك وسعاداتهم بتسليمهم لمالكهم الكريم الرحيم.
اعلم! 2 ان كل شئ بخلقه سبحانه، اِلا أن الشرور والقبائح والقصور والمساوي انّما تترتّب على لوازمات ماهيات الممكنات وقابلياتها، فيُجيب الخالقُ الجواد المطلق بالايجاد، كلَّ ما تسألُه الممكناتُ بألسنة استعداداتها.. فالحُسن راجعٌ اليه بالوجهين: أي بالخلق والاقتضاء. واما القبحُ والقصور، فبالخلق راجعٌ اليه، دون المقاضاة والسؤال. فله الحمدُ دائماً؛ اذ السؤال في الحسن والخير كالجواب منه ومن
_____________________
1 المسألة الثامنة من رسالة الثمرة فيها بيان قيّم لهذا المبحث.
2 رسالة القدر (الكلمة السادسة والعشرون) فيها شرح وافٍ .



المثنوي العربي النوري - ص: 449
اسمائه. وله التسبيح دائماً؛ اذ سؤال الشر والقبح من الممكنات، والجواب المتضمن لمحاسن كثيرة مترتبةٌ على وجود القبح منه سبحانه. (ما أصابكَ من حَسَنة فمنَ الله وما أصابكَ من سَيئة فمن نفسك) 1
اعلم! ان انواع المصنوعات في العالم لاسيّما انواع النباتات والحيوانات في سطح الارض كاللفائف المبسوطة المفروشة على وجه الأرض بعضٌ على بعضٍ، وكالأقمصة المنمنمة المتراكبة المتداخلة، لبستْها الأرضُ او العالمُ. لكن بعضَها أرقّ، وبعضها أقصر، وبعضها منفصل الانساج، وبعضها يتمزّق خريفاً ويتجدّد ربيعاً، وفيها كلها نسجٌ موزون بانسجام منظوم. فتعانقُ الأنواع وتعاونها بشوقٍ، وترافق الأفراد وتجاورها بحسنِ معاشرةٍ تشهد:
بان الكلَّ نسجُ نسّاج واحدٍ وخُدّام سيّد واحد. ونسجُ كل واحدٍ منها بنسجٍ مخصوصٍ بلا مزجٍ، وبأسداءٍ ممتازٍ بلا درجٍ، واِلحامٍ معيّن بلا التحام، في تلافيف تلك اللّفائف المشتبكة المختلطة بلا تشوش ولاخلطٍ ولاغلطٍ يشهد كعين اليقين: بأنها صنعةُ مَن لا نهاية لقدرته وحكمته.
وان ما يشاهَد من ترتّب أمثال التزيين القصدي على جميع المتخالفات يشهد:
بأن مَن زيّن قصرَ العالم بمزيّنات ألوان الأنواع هو الذي خلق لوازماته واساساته وأجزاءه. لعمرك ان التزيين في الصنعة من أهمّ المقاصد المهمّة المعرِّفة للصانع، ومن أشفِّ مرايا التودد والتعرُّف، ومن ألطف عنوانات التحبّب.
فان شئت فانظر مما لا يتناهى من الأمثلة الى هذه الواحدة وهي: الزّهرةُ الصّفراءُ الشمسية المتبرقعةُ ليلاً والمتبرّجة نهاراً، الشابةُ من أول الربيع الى آخر الخريف. صيّرها صانعُها مسكناً لطيفاً نظيفاً لبعض الحوينات اللطيفة تجول مسبّحاتٍ - جماعةٌ منها في واحدةٍ منها - كأنّها حديقةٌ لها أو قصر أو قرية.
فسبحان مَن ظهر في كل شئ لُطفُه.. ويعرِّف الخلائقَ قدرتَه، ويتعرّف متودّداً الى عباده بتزيينات مصنوعاته، جلّ جلالُه ولا اله الاّ هو. [9]
(قوله الحقُ وله الملكُ) 2.. (لا يُسئل عمّا يفعل). 3
_____________________
1 النساء: 79
2 الانعام: 73
3 الانبياء: 23



المثنوي العربي النوري - ص: 450
اعلم! 1 انه لايُسأل عما يفعلْ. فلا حقّ لشئ ولا لعلمٍ ولحكمةٍ اَن يَسأل عنه؛ اذ يتصرف في مُلكه كيف يشاء وهو عليم حكيم. يعلم ما لا نعلم. فعدم علمنا بحكمةِ شئ لا يدلّ على عدمها. اذ شهود الحكمة في الأكثر المطلق شاهدٌ على وجود حكمة مستورة عنا هنا أيضاً.
مثلاً: نتألّم من موت ذوي الحياة.. ولا نرى حسناً في قِصَر عُمر بعض الحيوانات اللطيفة.. ولانفهم وجه الرحمة في انقراض بعض المصنوعات الحيويّة الطالبة للحياة في أمثال الشتاء.. والحال ان هذا التألم والاعتراض المعنوي انّما ينشأ من جهلنا بحقيقة الحال، اِذ ما من ذي حياة الاّ وهو كَنَفرٍ موظفٍ وعبدٍ مأمورٍ بإيفاء وظائف تكاليف الحياة، الكاتبة تلك الوظائف تسبيحات وتحميداتٍ بحساب خالق الموت والحياة وبإسمه. وحقوق الحياة وغاياتها عائدة اليه سبحانه، يكفي لشهوده آنٌ، بل تكفي النيّةُ الحالية بالقوة، كما في نيّة النواتات والبذور. فما الموت الاّ ترخيص وتحرير واِذنٌ وترويجٌ ودعوةُ حضور، كما قال
(ثم الى ربهم يُحشرون) 2 على ان من كمال رحمته ان لايُبقي ذوي الحياة في أرذل العمر، وأن لا يديمهم في شدائد العمر في الشرائط المزعجة، كترخيص عشاق الأزاهير وسفرائها والمتلذذين بالخضراوات وامرائها من الوظيفة التي صارت كُلفة بعد ما كانت لذة، فاستعملهم صانعُهم واستخدمهم سيّدُهم في مدة شوقهم مع موافقة شرائط الحياة وسهولة حمل تكاليف الحياة. فاذ تعبّس في وجوههم شرائط الحياة بامثال الشيب والشتاء واستيلاء سلطنتها بتحولات الشؤون وانطفاء شوقهم، أمدَّهُم رحمةُ الرحمن بالإذن والترخيص. الى ان يُرسل امثالهم فينسجون على منوالهم فيسبّحون مولاهم.. يبتدؤن في أعمالهم من حيث انتهت أعمال أسلافهم..
فيا أيّها الغافل المتفرعن الزاعم انّك مالكٌ نفسك وحياتك والمتوهم ان سعادتك في بقاء حياتك بالراحة! أخطأتَ وخَلَطتَ وغلطتَ وعصيتَ وَقِسْتَ الحيوان الممنون المأمور والمتمِثل المسرور على نفسك الناسية لمالكها، فتراءت لكَ وَلْوَلَةُ جلوات الرحمة العامة في الشؤون "واويلاه" نعيات المأتم العمومي، فلا تتألم لهم حتى يكون
_____________________
1 الكلمة السابعة عشرة توضح مسألة وجه الرحمة في الموت والانقراض الذي يعترى الموجودات.
2 الانعام: 38




المثنوي العربي النوري - ص: 451
"التألم" شفقة ممدوحة، بل "تألم" لنفسك المفروضة في موقعهم، الفانية بطريق القياس فيهم.
واما تسليط 1 بعض الحيوانات على بعضٍ فلحمل الضّعفاء على الحزم والتيقظ والجوالية والخفّة واستعمال جهازاتها اللطيفة واخراج استعداداتها من القوة الى الفعل وغير ذلك.
فوازن بين الأهلية والوحشية كَيْ ترى هذه الحكمة ظاهرةً باهرةً.
اعلم! 2 ان سرّ تخالف أحكام الأولياء في مشهوداتهم مع الاتفاق في الأصول.. وان سرّ اجمال الأنبياء السالفين وأبهام الأولياء العارفين في غير التوحيد من سائر أركان الايمان؛ اذ قد أجمل قسمٌ من اولئك في الجملة في تفاصيل الحشر وغيره وأبهم بعضٌ من هؤلاء في ما سوى معرفة الله، مع ان القرآن والمنزَل عليه القرآن فصّلا كلاًّ من المقاصد الايمانية بما لا مزيد عليه تفصيلاً قصدياً واضحاً، وان حكمتها.. هو: توسّط البرازخ.. وتفاوت القابليّات.. وتنوّع ألوان جلوات الاسماء في المظاهر الكلية والجزئية والظلية والأصلية.
[10] مثلاً "ولله المثل الاعلى" ان الشمس لها تجلٍّ كلي بإذن خالقها على الأزاهير، ثم تجلٍّ أخص على نوعٍ نوعٍ منها، ثم تجلٍّ جزئيّ على زهرةٍ زهرةٍ، على قول من يقول ان ألوانها من استحالات ضياء الشمس.
وكذا لها تنويرٌ واِفاضة كلّية باذن مُبدعها على السيّارات والقمر، مع ان القمر يفيض ذلك النور الظلّي المُستفاد منها على البحار وحَباباتها وقطراتها، وعلى التراب وشفافاته. وعلى الهواء وذراته.
وكذا لها انعكاسٌ صافٍ كلّي بأمر فاطرها في مرايا جوّ الهواء ووجوه البحار. ثم لها انعكاسات جزئية وتماثيل صغيرة في الظاهر على حبابات وجه البحر، وقطرات الماء، ورشحات الهواء، وزُجَيجات الثلج.
فللشمس الى كلّ زهرة، وقطرة، ورشحة في الوجوه الثلاثة طريقان:
_____________________
1 النقطة الثانية من الكلمة الثامنة عشرة تشرح الحكمة في هذا.
2 راجع ان شئت بالتفصيل الكلمة الرابعة والعشرين - الغصن الثاني.




المثنوي العربي النوري - ص: 452
احدهما: بالاصالة وبلا برزخ، بلا حجاب.. الممثّل لمنهاج فيض النبوة.
والثانية: تتوسّط فيها البرازخ.. وتصبغ الجلوات بقابليات المرايا والمظاهر وهذه ممثل لمسلك الولاية.
فللزهرة، والقطرة، والرشحة ان تقول في الأول: أنَا مرآة شمس العالم، وفي الثاني: انما تقول أنَا مرآة شمسي أو شمس نوعي. مع ان شمس نفسها أو نوعها أو جنسها لاتسع "وهي في مضيقات البرازخ" كل لوازمات الشمس المطلقة من ربط السيارات بها وتسخين الأرض وتنويرها وتحريك حياة النباتات وغيرها، بل انما تسندها الى المقيد المشهود لها، من جهة ان المقيد عين المطلق، لكن هذا الحكم له، عقلي لا شهودي. بل قد يصادم شهودَه.
يارفيقي فلنفرض انفسنا إياها. فَصِرْ أنت ياذا النفس الكثيفة الترابية "زهرة" تضمن لونُها ضياءً محلّلاَ متضمناً للتمثال الممتزج للشمس. وليكن هذا الفيلسوف المنغمس في الاسباب "قطرة" تأخذ من القمر ظل ضوء الشمس. أنا قائلاً: "لا مؤثر في الكون الا الله"، شَبْنمة 1 فقيرة خالية من كل لَون، صيرتْ مثالَ عين الشمس انسان عينيها.
ثم ان جاذبة محبة مَن باحسانه تَنوَرنا وتَزيّنا، حَرّكَتْنا لطلبِ قُربه وقصدِ شُهوده. فسلكت "أيتها الزهرة" الى ان وصلت الى المرتبة الكلية لجنس الزهرة - المرآة الكثيفة التي تحلل فيها ألوان ضياء تمثال الشمس - فلا تخلص من التفرق والتشتت بين خصوصيات ألوان المقيدات، ولا تسلم من الفراق بتستر عين الشمس بحجب البرازخ والصور. الاّ ان ترفع رأسَك من الولوغ في محبة ذاتك، وتُصعِد نظَرك من الافتتان والتلذذ والتفاخر بمحاسن نفسك الى عين الشمس في وجه السماء. وتوّجه بباطن وجهك المتوجّه الى التراب بجلب الرزق المرسَل المسرِع اليك - واِن لم تتوجه اليه ولم تعلم به - الى هذه الشمس.. اذ أنت مرآتها كما انها قطرةٌ متلمعة من بحر السماء صارت مرآة للَمعةٍ من انور قدرة "النور الحق" سبحانه.. ومع ذلك لاتراها كما هي في نفسها بل متلونة بلون صفاتك ومرصادك ومقيدة بقيود قابلياتك.
_____________________
1 ندى.



المثنوي العربي النوري - ص: 453
وذهبت ايها "القطرة" الى ان ترقيت الى القمر بسلّم فلسفتك فرأيت القمَر كثيفاً مظلماً لا ضياء في جرمه، بل ولا حياة. فصار سعيُك وعملُك هباءً منثوراً. فلا تخلص من ظلمات اليأس ووحشة اليتم ودهشة الاضطراب بين ازعاجات الغيلان المتشاكسين الاّ بترك ليل الطبيعة والتوجه الى شمس الحقيقة واليقين بان الأنوار الليلية ظلالٌ للاضواء الشمسية ومع ذلك لا يصفو لك شهود الشمس وصفاؤها. وانما تتجلى لك خلف مألوفاتك ومعلوماتك بصبغٍ من لون قابلياتك.
فاذهبي انت ايتها "الرشحة" [11] الفقيرة الضعيفة بالتبخر راكبة على البخار الى الهواء ثم انقلبي ناراً ثم تحولي نوراً ثم اركبي على شعاع من أشعات جلوات الضياء.. فأين ما كنت من تلك المراتب لكِ منفذٌ صافٍ الى العين 1، تراها بالعين اليقين - وان لم يكن بالعين 2 - وترى لزوم لوازماتها لها، ولا يأخذ على يدك في اثبات آثار سلطنتها الذاتية ضيقُ البرازخ، ولا قيدُ القابليات، ولا صُغر المرايا.
اذ تفطنت ان ما يشاهد في المظاهر جلواتُها لا هي هي أي ذاتها في ذاتها. فالواصلون من هذه الطرق الثلاثة متفاوتون في تفاصيل المزايا والشهود وان اتفقوا على الحق والتصديق.
اعلم! 3 ايها الانسان انك واحد قياسيّ بخمسة وجوه:
اذ أنت فهرستةٌ جامعة لغرائب آثار جلوات الاسماء الحسنى.
ومقياسٌ بجزئيات صفاتك وربوبيتك الموهومة لمعرفة صفاته المحيطة وفهمها بتصور حدود موهومة.
وميزان لدرجات نفي الشِركة في الآفاق، بحيث اذا أذعنتَ بانك كُلّكَ مُلكه آمنتَ بان لا شريك له في العالم واذا أعطيتَ ثلثك له وثلثك للاسباب وثلثك لنفسك حصل هذا التقسم في جميع الكائنات. واذا ملّكتَ أنانيتك درهماَ من مُلكه لزِمك ان تصدّق مالكيةَ كل فردٍ وكل سببٍ لدرهمٍ فتُقسم مالَ الله على ما سواه.
_____________________
1 المقصود: الشمس.
2 اي بالبصر.
3 توضيح هذا المبحث في اللمعة الثلاثين (اسم الله القيوم) والنافذة الحادية والثلاثين من الكلمة الثالثة والثلاثين.




المثنوي العربي النوري - ص: 454
وكذا خريطة للعلوم الكونية والمعارف الآفاقية فاِذا إنفتحتْ (أنت) 1 لك انكشف لك الكون، واذا اُنسيتَ نفسَك انغلق عليك المعارف الآفاقية، وانقلبت الى جهالات مركبات وسفسطيات ما لا يعنيات..
وكذا خزينة مفاتيح لمطلسمات الكنوز المخفية في الأسماء الالهية، فاذا رأيت فيك عجزاً بلا نهاية شَاهدتَ لخالقك قدرةً بلا غاية، واذا شاهدتَ فيك فقراً بلا غاية، رأيت لرازقك غناءً بلا نهاية.. وهكذا كأن جلوات اسمائه حروفٌ نورية مكتوبة في ظلمات حالاتك، فبدرجة ظهور شدة الظلمة تظهر نورانيةُ الكتابة.
فانت في الوجه الأول حاملٌ، وقابلٌ، ومظهرٌ، ليس لك منك شئ، بل انت قصيدةٌ منظومة للسان كن فيكون.
واما في الوجه الخامس فانت عامل، وفاعل، ومعكس - برابطة الضدية - وسائل بألسنة الاستعدادات والاحتياجات والافعال والاقوال، لك منك كل السيئات والقصورات والظلمات والفاقات، ولفاطرك منك كل الحسنات والكمالات والنورانيات والفيوضات. وكذا ان الأول يُظهر الأصل، والخامس يظهر مراتب الاسم المتجلّي. كما ان الحسن بلا ملاحظة القبح واحد، وبه تتفاضل مراتب الحسن ودرجاته.
(ان الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بانّ لَهم الجنة) 2
اعلم! 3 أيها الانسان
(ماغرّك بربك الكريم) 4 الذي:
يشتري منك ملكَه الذي عندك امانةً ليحفظه لك من الضياع.. ولتترقى قيمتُه من درجةٍ الى ألوفٍ.. ويعطيك بَدَله ثمناً عظيماً.. ويبقيه [12] في يدك لاستفادتك.. ويتكفل عنك كلفة تعهّده.. ربحاً في ربح في ربح في ربح في ربح..
وانت أيها الغافل لا تبيعه.. فتخون في أمانته.. وتُسقط قيمته من الثريا الى الثّرى.. ثم يضيع بلا فائدة.. فيفوتك ذلك الثمن العظيم. وتبقى في ذمتك تكاليف
_____________________
1 أي انانيتك انت.
2 التوبة: 111
3 الكلمة السادسة شرح هذا المبحث بمثال جميل.
4 الانفطار: 6



المثنوي العربي النوري - ص: 455
تعهّده وآثامه ويثقل ظهرك كلفة محافظته وآلامه.. خسارة في خسارة في خسارة في خسارة في خسارة.
مَثَلُكَ في هذهِ المعاملةِ كَمثَلِ رجل مسكين في رأس جبلٍ، أصابت ذلك الجبلَ زلزلةٌ جعلت يتساقط منه في أعماق الأودية جميعُ أمثال ذلك الرجل فيتمزقُ ما في أيديهم، ويرى هذه الحالة وهو أيضاً "على شفا جرف هار" أوشك ان ينهار به في البوار. مع ان في يده امانةً وهي ماكينةٌ مرصّعة عجيبة، فيها موازين لا تعد وآلات لاتحد وفوائد لا تحصى وثمرات لا تُستَقْصى. فقال له مالك الماكينة كرماً ورحمةً: أريد ان أشتري منك مالي الذي في يدك كأنه مالُك - لئلا تنكسرَ ضايعاً بسقوطك - فأحافظها واُسلّمها لك حين خروجك من الوادي بصورة باقية لاتنكسر أبداً. ولأجل ان تتصرف في آلاتها وتستعمل موازينها في بساتيني الواسعة وخزائني المشحونة فتتزايد قيمتُها وتأخذَ أنواع أجوراتها وثمراتها، والاّ صارت كآلةٍ عاديةٍ ساقطةِ القيمة مستعملة في مضيقات بطنك وغارَيك. اِذ أين بطنُك وشهوتَك وأين البساتينُ والخزائنُ الالهية وكيف يَسعُ غاراك استعمالَ ماكينة تضيق عنها الدنيا. وها أنا أعطيك بدلها ثمناً عظيماً. ولا أخرجها من يدك في مدة بقائك في هذا الجبل، بل آخذ حلقتها العليا ليتخففَ عنك ثقلُها ولا تتعجز بكلفتها. فان قبلتَ البيعَ فتصرّف فيها باسمي وحسابي كنفرٍ يعمل في ما في يده باسم السلطان وحسابه بلا خوف مما يأتي ولا حزن على مامضى، وان لم تقبلْ هذا البيعَ الذي فيه ربحٌ بخمسةِ وجوهٍ خسرتَ بخمسةٍ وجوهٍ وصرتَ خائناً في الأمانة مسؤولاً عن ضياعها.
"خداء بر كرم خود ملك خود رامى خردازتو: بهاء بى كران داده نكه دار دبراء تو"
ودرسُ القرآن للبشر وتعليمه له: "البيع". يقول له: بِعْ تربَحْ.. (انّ الدار الآخرة لهي الحيوان) 1 واما درسُ فلسفةِ مدنيةِ الكفار يقول: تملّك (اِنْ هي الا حياتنا الدنيا) 2 فانظر التفاوتَ بين الهدى المنوّرِ والدّهاء المزوّر.
اعلم 3....
_____________________
1 العنكبوت: 64
2 الانعام: 29
3 المباحث الموجودة هنا ابتداء من ص [12] الى ص [16] ومن ص [17] الى ص [24] من المخطوط منشورة في رسائل متفرقة من المثنوي العربي النوري.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس