عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ

المثنوي العربي النوري - ص: 396
اعلم ! ان النظر الى الهوام الذاكرات لفاطرها في جو الهواء بألسنة احوالها واطوارها ونقوشها المنظومة واجسامها الموزونة المكتوبة كالكلمات المنقوشة كما تذكُر الله وتفهِّم ذكرها لك، وإن لم تفهم هي بنفسها بألسنتها المخصوصة واصواتها الملفوظة. كأن كل طويرة منها كلمةٌ ناطقة بلسانها عين ما تنطق به ذاتها.. وكذا النظر الى الحشرات المسبحات لخالقها في جوف الغبراء بألسنة نقوشها وتزيناتها المكتوبة بقلم القدرة، كما تسبّح بكلامها الملفوظ المخصوص بها، لابد ان يفيدك اموراً اربعة: فأولا: اطمئنان النفس، بانك في مأمن حصين وحصن أمين محاط من كل وجه بمولودات واطفال وطفيلات تربيها شفقةُ عليم، وتدبرها تربيةُ حكيم، وتزينها عناية كريم، وتحُسن اليها رحمة رحيم . فانت تحت نظر هذا العليم الحكيم الكريم الرحيم دائما.. وثانيا: لابد ان يفيدك ذلك النظر قناعة النفس، بانك لستَ سدى مهملا، غاربك على عنقك تسرح كما تشاء، وان لست موكولا مفوَّضاً الى نفسك العاجزة عن ادنى حاجاتك الغير المحدودة حتى تقعد ملوما محسورا، متوحشا عن عجزك المطلق وحاجاتك الغير المحصورة. لاجل انك ترى في تلك الصغار نظاما تاما خاصا في عموميته، عاما في خصوصيته. وميزاناً حساسا في وسعته، وجساسا بالاقتصاد والامساك في عين سماحته..
ايها الغافل! الا تتلو عليك هذه الحواشي الدقيقة، والكتب الرقيقة الموجودة في بعض الحروف الكبيرة انك موزون بين موازين.. فَتَنَبَّهْ وأقِمْ الوزن بالقسط.. والحال انك تلهو كمجنون بين مجانين، فتتبله وتخسر الميزان بالسقط 1. وثالثاً: لابد ان تلقنك هذه الرؤية التوكل والاعتماد بان من ترجوه لكل شئ وتخافه دائماً، في نهاية القرب اليك في عينِ نهايةِ بعدك عنه. يتصرف فيك وفيما حواليك بقدرته التي يتساوى بالنسبة اليها الاصغرُ والاكبر، والاقل والاكثر، والاقرب والابعد؛ لاتكلُّفَ ولامعالجة، ولامباشرة اختلاطٍ في افاعيلها بالحدس الشهودي. افلا تقرأ عليك هذه الحقيقة ان: لاتخف ولاتحزن ولاتتوحش؛ اذ اينما كنتَ فهناك
_____________________
1 اي بالخطأ.




المثنوي العربي النوري - ص: 397
مُلكُه، واينما توجهتَ فَثَمَّ وجهُه، وانت في وطنك، ولو في بطن الارض. وانت تحت نظره، ولو فيجوف العدم. تأخذك بأذنه وامره الأيادي الرحيمة الكريمة الحكيمة من حال الى حال، وطور الى طور. لا تخرج من يد الا وتسابقَ لأخذك يدٌ اخرى بالانتظام، ولاتصادف في سفرك غَول التصادف اصلا. ولاتُظلَم بالعدم ولايظلمك الفناء بالاعدام. وكم من عدم ترى خلفه - ان اقتحمته - او تحته او فيه خزينةً من خزائن الرحمة مشحونة مما " هو يبقى " من جنس ما "هو يفنى" في هذا الوجود. ورابعا: لابد ان تفيدك رؤية صغار الهوام وضوح برهان المخلوقية التامة، والمصنوعية العامة في كل شئ للصانع الواحد. وتُكْبِرَ في نظرك هذا البرهان بدرجة صغرها 1، وتُظهر بدرجة خفاها 2؛ اذ من المحال ان يخرج المحاطُ من دائرة تصرف خالق المحيط، فخالقُهُ هو خالقُه بالضرورة القطعية. إلا ان الصنعة فيها ابتلعت المادة وغمرتها، خلافا للمصنوعات الكبيرة.
اعلم ! ايها الغافل ان اكثر وسوستك انما تنشا من امور اربعة:
فاولا: من نسيانك نفسَك الى درجة تنقلب شعرةُ الانانية حبلاً غليظاً؛ لانك لما نسيت الله بالهوى، فأنساك نفسك، تغلظتْ انانيتك فتفسّقت مِن قشرها المتشقق بكبرها.
وثانيا: من قياس كل ذي حيـاة على نفسك. . مثلا: اذا رأيت حيــوانــــا فمع ان المشهود حيوان معصوم، مأمون، ممنون؛ تفرضه انساناً متفكراً محزوناً متشتت الخواطر.. فتظن رقصه في فرح ؛ اضطراباً في ترح.
وثالثاً: من قِصَر نظرك على تجلّي اسم الظاهر فقط، حتى تتوهم ان ما خرج عن دائرة هذا الاسم لا يرجع الى دائرة مسماه. كلا ان المسمى الذي له الاسماء الحسنى، كما انه هو فوق الفوق، فهو في ابطن البطون فهو الاول والآخر و الظاهر والباطن.
ورابعاً: مِن طلب تجلي الاحدية التي هي اعلى التجليات، وابعدها واخفاها، وابسطها في اوسع واكثر وارق ما انبسطت اليها الكثرة وانتشرت ؛ اذ تنظر الى
_____________________
1 اي صغر المصنوعية والمخلوقية.
2 اي رغم خفائها.



المثنوي العربي النوري - ص: 398
حيوان مثلا: فتفنى فيه بالقياس النفسي المار آنفاً، فتدخل معك فيه انواع حسياتك. مثلا: تتصوره مثلك حزينا لفراق أليفهِ او وطنهِ، ومغموما بالتفكير في عاقبته ورزقه. فتتألم لمرض الشفقة من آلامه الموهومة، مع انك لو دخلت في عالمه بالتحقيق لما رأيت شيئا مما توهمته حينما دخلت فيه بالفرض من طريق القياس النفسي.
وكما أخطأت بهذا القياس قد تخطئ اعظم خطأ بقياس آخر، وهو انك ترى النحلة مثلا، مصنوعة فتقيس بلا شعور صانعها الواجب الواحد الحكيم الذي لاكلفة ولا معالجة ولا مباشرة بالاختلاط ولاتَعَمُّلَ في افاعيله ؛ قياساً على الممكن المسكين الكثير الكثيف المقيد المحدود الذي افاعيله لا تكون الا بالمباشرة والمخالطة والكلفة والمعالجة؛ فتتوهم من هذا القياس قربَك وقربَ تلك المصنوعة التي يجول قلم الصانع عليها الآن بل دائما، من صانعها المتقدس المتنزه المتعالى. نعم هو جل شأنه من جانبه سبحانه قريب.. لا اقربَ منه، اقربُ من كل قريب، واقربُ من حبل الوريد.. لكن انت ، وهذا المصنوع، من جهتكما بعيدان ببعدٍ لا نهاية له، كمثل الزجاجة التي تمثلت فيها الشمسُ بالتجلي فتلألأت بشعاعها، وتنورت بضيائها، وتزينت بأنكسار الالوان السبعة التي في ضيائها، وانفتح من ملكوت قلب الزجاجة الى ذات الشمس منفذٌ وسبيل فيرى من ظاهر مُلكها تمثالَ الشمس مع لوازمه في بطن وجه تلك الزجاجة بالقرب من يدك. لكن ان مددت يَدَك ما وصلتَ الى شئ، ولو مُد يدك بسبعين بل بسبعمائة مثل قطر الارض. حتى ان من في عقله بلاهة وفي قلبه محبة للشمس، قد يريد ان يصل الى محبوبته الشمس في كل ما تلألأت فيه، مستنداً بهذا الوهم السطحي، والرؤية الظاهرة.
وكذا قد يَطلب من كل ما تمثل فيه الشمس تمام ما سمعَه او عرفَه من اوصاف ذات الشمس ، ولوازماتها التي لايسعها الا مجموع عالم منظومتها، فان لم يجد الاوصاف في المثال في شئ، يشرع ينكر وجود الشمس في ذلك الشئ . بل قد ينكرها مطلقا.
والقلب مرآة الاحد الصمد، لكن له شعور احتساس بما تجلّى فيه، وعلاقةُ مفتونيةٍ بما تمَثل فيه، خلافا لسائر المرآيا. كما بيّنه الامام الربّاني رضي الله عنه. وبهذه الخاصية يستعد القلب لسعادات لاتعد.


المثنوي العربي النوري - ص: 399
فان قلت: ما السر في اقتران فعاليةٍ خارقة في مصنوع ذي حياة، مع سكونةِ ما حوله كأنه لاشئ هناك، ومع عدم ترشح هذه الفعالية المدهشة من ارق لفائفه الى الخارج، ولو بمقدار ذرة ؟
قيل لك، كما قيل لي في قلبي: لو كانت الفعالية للاسباب الامكانية، ومن انفَس الاشياء؛ لَلَزم ان يكون في كل حيوان فاعل مستقل له علم محيط، وفي كل ثمرة صانع قدير له قدرة مطلقة تامة بحيث لايتعسر على تلك القدرة خلقَ الارض بما فيها، فحينئذ يكون الترشح والتفشي والانتشار والطغيان من الضروريات، ولكن هذا الامن والامان المشهودان في الكون والمكان، وهذا السكون والسكوت المرئيان في غير عالم الانسان، وهذا الانقياد والسلم والسلام في هذا العالم في كل زمان.. ما هو الا لأن هذه الصنعة الموزونة، والصبغة المنظومة صنعة وصبغة لمن
(انَّمَا امْرُهُ اذَا ارَادَ شَيْئاً انْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 1 ولمن يقول (وانْ مِنْ شَئٍ الاَّ عِنْدنا خَزَائِنُهُ ومَا نُنزِّلُهُ الاَّبِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) 2. فنسبة فعلك بيدك الى فعلكَ باسرع الخيال، كنسبة الفعل بالخيال - لو امكنَ - الى فعلِ قدرة الباري بل لا مناسبة..
اعلم ! ايها السعيد المسكين المغرور! انه ليس اليك منك من الوف حاجاتك الا واحد او اقل. والباقي بالتمام مفوضٌ باليقين الى فاطرك الذي خلقك اولا كالفطير 3 بقدرته، ثم فتح صورتَك في الماء بلطيف صنعه، لتصير مرآة اسمائه.. وشق سمعك وبصرك برحمته، لتسمع الحق وتعتبر بالخلق فتعرف الخالق.. وعلّق في كهف وجهك بعنايته لسانا لتذْكُره.. وأدرج في رأسك عقلا لتَعرفَه.. واودع في صدرك جَنانا لتحبَّه.. ولطف بك في ظلمات الاحشاء، وتصرف فيك بربوبيته كيف يشاء، وركّب في وجودك بحكمته هذه الحواسَ بانواعها، وهاتيك الاعضاء باقسامها؛ لاجل احساس جميع انواع ثمرات نِعَمِهِ، ولاذاقة اقسام تجليات اسمائه.
فيا ايها الغافل المغرور! الى كم تتهمه، وهو هذا وقد لطف بك هكذا. وتعتمد على ذرة اقتدارك الجزئي، فيفوضك حينئذ الى نفسك بسبب سوء اختيارك فتصير ظالما لنفسك لتحميلها ما لا طاقة لها به. وما بالك وما منعك ان تتوكل على مَن
_____________________
1 يس:82
2 الحجر: 21
3 العجين الذي لم يتم تخميره بعد.




المثنوي العربي النوري - ص: 400
ناصيتُك بيده، وحاجاتُك راجعة اليه حتى تلقى بالتسليم له ما اليك، على ما اليه. وتُلقى بالتوكلِ عليه نفسك في سفينته الجارية بين طوفان الشؤون فتقول (بِسْمِ الله مَجْريـــها وَمُرْسيـــها) 1 حتى تستوي على الجودي الاسلامي، وتستريح في ساحل السلامة. الا ترى ان شمس الحياة قد اقترب ان تغترب! وان قمر الوجود قد انخسف بالشَيب، واكفهرّ ببياض الهرم. وان لا فائدة فيما سواه تعالى، بل كما انه لا فائدة فيما سواه ان لم يأذن به ففيه ضررٌ عظيم. فان كان بدونه فكل شئ ضررٌ وعدو. وان كان به فهو مغنٍ عن كل شئ، فلابد من التَرْكِ على الحالين:
أما في حال، فلكونه ضرراً محضاً.
وأما في حال، فلتفويت طلب الغير غاية الغايات مع فوات نفسه.
نعم، وبدونـه الالم ازيد من اللذة في كل لذة، بل اللذة بدونه المٌ مموّه…
(ففروا الى الله) 2 فان عنده من كل شئ - يفنى عندكم - ما هو يبقى من نوع ذلك الشئ، فما يزول هنا ولايدوم بدونه، يستمر هناك ويدوم به. مع ان الوقت ضيق.. الا ترى انك في سكراتِ الموت، اذ تمام عمرك سُكر في سَكرات.. وسَفَر في سقطات. فارفع رأسك من الدنيا، كي ترى عند بارئك نعمةً ابدية، ورحمة سرمدية، ومحبة ازلية.
اعلم! ايها المتفكر المتحير المتحري ! اذا انتهى علمك الى شئ، او رأيت في شيء جهةً من عدم التناهي، فسبّح بحمده تعالى على قربك الى الحق ؛ اذ المجهولية واللاتناهية عنوانان وعلامتان نصبتا على حدود تصرّف ربوبيته المطلقة جل جلاله..
اعلم! ايها الوهّام ! اذا تهاجمت عليك الاوهام، فانظر يمينا لترى دوائر تصرف الخلاقية تتناظر متضايقةً، من دائرة المجرّة ومدار السيارات؛ متسلسلة الى دائرة الجوهر الفرد ومدار الذرات. ومن خلق السموات مسردةً، الى خلق الثمرات. ومن انشاء الارض، الى ايجاد الارَضَة الآكلة للشجرة بتناظر، وتشابه، وتساند. تدل على اتحاد القَلَم، ووحدةِ السكّة، وانت في وسط مخروط الكائنات قائمٌ، حامل للامانة، مقلَّد بالخلافة.
_____________________
1 هود:41
2 الذاريات: 50




المثنوي العربي النوري - ص: 401
ثم انظر شمالا لترى النظام العام يأمر بالعدل في كل شئ.
وترى الميزان التام ينهى عن الميل في كل شئ.
ففي ذاك؛ ما هو كالبرق يطيِّر الاوهامَ. وفي هذا ؛ ما هو كالرعد يطردُ الاحلامَ..
ثم انظر اليك، لترى نفسَك وجسمك مصنوعين من الرأس الى القدم، من اصغر حجيرة، الى تمام بدنك الذي هو ايضا حجيرة كبرى..
ثم انظر في قلبك، الى فوقك، لترى بايمانك انوار نور الانوار.. الذي خلق النور.. ونوّر النور.. وصوّر النور.. ونفذ انوار تجلياته في كل شئ جل جلاله.
اعلم! ان استعمال اسم التفضيل في بعض اسماء الله وصفاته وافعاله كـ "أرحم الراحمين واحسن الخالقين، والله اكبر" وغير ذلك لاينافي محض التوحيد. اذ المراد تفضيل الموصوف بالحقيقة وبالذات، على الموصوف بالوهم وبالنظر الظاهري الاسبابي او بالامكانات العقلية. وكذا لاينافي عزة الواحد القهار؛ اذ ليس المراد منه الموازنة بين صفاته او فعله في نفس الامر، وبين صفات المخلوقين وافعالهم؛ لان مجموع ما في المصنوعات من الكمال ظل مُفاضٌ بالنسبة الى كماله سبحانه. فلا حقَّ للمجموع - من حيث المجموع - ان تكون له نسبةُ موازنة معه، حتى يصير مفضَّلا عليه.. بل المراد الموازنةُ بين اثرِه الخاص على مفعولٍ خاص، وتأثّر المفعول من تأثيره الحقيقي فيه على درجة استعداده الخاص.. وبين اثر الوسائط الظاهرية في ذلك الشئ الخاص وتأثره منها. كما يُقال لنفر لا يعظّم اِلاّ جاوِشَه 1 ويحصُر شكرَه وحرمته عليه: يا هذا !. السلطان اعظمُوارحم من جاوشك.. وليس المراد المفاضلة بين الجاوش والسلطان في نفس الامر ؛ اذ هو هزلٌ، ما هو بالجد. بل المراد المفاضلة بالنسبة الى ذلك النفر، باعتبار درجة مربوطيته بالسلطان حقيقةً، وبالجاوش تبعاً مع إذن السلطان.
واما ارأف من كل رؤف، واكرم من كل كريم، واعز من كل عزيز وامثالها؛ فالمراد ان لو اجتمع جميع رأفات جميع الكرماء على شخص، ما ساوت ما اصاب ذلك الشخص من بحر رحمته التي لانهاية لها.

_____________________
1 رتبة عسكرية تقابل العريف.



المثنوي العربي النوري - ص: 402
ففيها تفضيلٌ من اربعة اوجه: اذ المفضّل حقيقي، وواحد، وفي واحد، وبواحد. والمفضَّل عليه اعتباري، وجماعة، وبجميع ما في ايديهم، لا يساوي حصة واحدة، في شـخص واحـد مما لايـتـنـاهى مـن فيض الاحـد الصـمـد.. وكما قـــال تـعـالى (انَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دون الله لَنْ يَخْلُقُوا ذبَاباً ولو اجْتَمَعوا لَهُ) 1.
اعلم! ان لفظ "الله" يدل بالدلالة الالتزامية، على معاني كل الاسماء الحسنى وعلى جميع الاوصاف الكمالية. خلافا لسائر الاعلام الدالة على ذوات المسميات فقط.. بسرّ ان صفات سائر الذوات ليست بلازمة للذوات، فلا يدل اسم الذات على صفتها، لا مطابقةً، ولا تضمنا، ولا التزاما. واما الذات الاقدس؛ فلوجود اللزوم البيّن، بينَه وبين صفاته واسمائه.. وكذا لاستلزام الالوهية لها، يدل اسمه العَلَمي على جميع صفاته بالدلالة الالتزامية.. وكذا لفظ الإله، في سياق النفي. 2
اذا علمت هذا ؛ فاعلم ان "لا اله الا الله" يتضمن من التوحيد، ومن احكام التوحيد عدد الاسماء الحسنى..
فهذا الكلام الواحد يشتمل على الوف كلام، كل كلام مثل هذا الكلام مركب من نفي واثبات. ولاجل ان النفي يتوجه الى فردٍ فرد بالاستغراق الفردي؛ يكون في الاثبات، اثبات مجموع ما نفي عن الغير، بالقاعدة المقررة في المنطق. فكأنه قيل: "لا خالق، ولارازق، ولا قيوم، ولا مالك، ولا فاطر، ولا قهار، الا الله".. وهكذا، فيمكن ان ينبسط هذا الكلام للذاكر المترقي في الاطوار والمراتب، على كل مراتبه واحواله. فيكون التكرار كالتأكيد بالتأسيس..
اعلم! انك اذا عرفتَ ان الكلَّ منه تعالى، واذعنتَ به، لابد ان ترضى بما سرّ او ضر. وان لم ترض، اضطررت الى الغفلة. ومن هذا السر، وضعت الاسباب الظاهرية، وغُطيت الاعين بالغفلة؛ اذ ما من احد الا وما يخالف هَوَسَه، وهواه، ومشتهاه، ومناه - من حادثات الكائنات - ازيد اكثر مما يوافقها.. اذ ما بنيت الكائنات على هندسة هَوَس ذي الاماني، بل تجري الرياح بما لا تشتهي السُفن. فلو لم ير المرءُ ذو الهوى هذه الاسباب، ولم يغفل عن مسبِّب الاسباب لتوجّه اعتراضه الباطل،
_____________________
1 الحج: 73
2 اي في: لا اله الاّ الله




المثنوي العربي النوري - ص: 403
وكراهتُه، ونفرته، وحدته وغيظه الواهية الى الفاطر الحكيم والمالك الكريم. فاذا رمى الغافلُ سهم اعتراضه اصاب الفلك 1، او الشيطان، او انعكس الى رأسه ونفسه..
اعلم! انك اذا امعنت النظر، تفطنت ان ُبعدَ "الممكن" عن درجة الايجاد، بمراتبَ غير متناهية، بالنسبة الى مقدار ما يُشاهد في ذلك المصنوع المستند الى ذلك الاقتدار الغير المتناهي..
اعلم! ان الدعاء على ثلاثة افسام:
الاول: دعاء الانسان، بهذا اللسان بالقول. وكذا الحيوانات الصائحات بالسنتها المخصوصة، في الحاجات المشعورة لهم.
والثاني: الدعاء بلسان الاحتياج، كدعاء جميع النباتات، والاشجار "لا سيما في الربيع". وكذا في كل الحيوانات في الحاجات الضرورية الغير المشعورة..
والثالث: الدعاء بلسان الاستعداد، كدعاء كل ما فيه نشوء ونماء، وتحوّل وتكمل. فكما ان:
(وانْ من شئٍ الاَّ يُسبحُ بِحَمْدِهِ) 2 كذلك إن من شئٍٍ الا ويدعوه، ويشكره بذاته وحاله دائما، كما قد يدعو بلسانه.
اعلم! ان النواة قبل ان تتشجر.. والنطفة قبل ان تتبشر.. والبيضة قبل ان تتطير.. والحبة قبل ان تتسنبل، لابد ان تكون تحت تدبير علمٍ تام نافذ وتربيةٍ، لتساقَ مِن بين ما لايُحَدّ من الطرق العقيمة المعوجة، الى الصراط المستقيم المنتجَة. فما هو الا علمُ علام الغيوب الذي يصوِّر في الارحام كيف يشاء، عالم الغيب: "غيب الماضي، والمستقبل، والشهادة، شهادة الحال الحاضر". فكأن كلاً من النواة والنطفة والبيضة والحبة تذكرةٌ مختصرة، استنسخت من الكتاب المبين من كتب القُدرة.. او فهرستةٌ، أستخرجت من الامام المبين من كُتب العلم الازلي ومكتوباته.. او دساتيرٌ، أستنبطت من ام الكتاب من كُتب القَدَر الازلي، لا سيما من باب الميزان والنظام.. او فذلكةُ اوامرٍ متمثلة متمركزة ممتزجة، تنزَّلتْ من ربوبية القدير على كل شئ، العليم بكل شئ. جل جلاله.
_____________________
1 الدهر : المقدرات الالهية : القدر
2 الاسراء: 44



المثنوي العربي النوري - ص: 404
اعلم! ان نظر المؤمن الى المصنوعات حرفيٌ ؛ انما ينظر اليها لتدل على معنى في غيرها..
واما نظر الكافر اليها، فقصدي اسمىٌ؛ لتدل على معنى في نفسها.
ففي كل مصنوع وجهان: وجه، ينظر الى ذاته وصفاته الذاتية. ووجه، ينظر الى صانعه، والى ما تجلى اليه من اسماء فاطره..
والوجه الثاني؛ اوسع مجالا، واكملُ مالا، اذ كما ان كل حرف من كتاب، يدل على نفسه بمقدار حرف، وبوجهٍ واحد. ويدل على كاتبه بوجوه كثيرة، ويعرّف كاتبه، ويصفه للناظر بمقدار كلمات كثيرة.. كذلك ان كل مصنوع الذي هو حرفٌ من كتاب القُدرة، يدلّ على وجوده ونفسه بمقدار جِرمه، ونفسِه، وبوجهٍ واحد، وهو وجوده الصُوري. لكن يدل على نقاشه الازلي بوجوه متنوعة كثيرة، وينشد من اسمائه المتجلية على ذلك المصنوع، بمقدار قصيدة طويلة.
ثم ان من المقرر ان المعنى الحرفي، لا يُحكَم عليه بالاحكام القصدية، تصديقاً وتكذيباً. ولا يستتبع اللوازم، 1 الاّ بنظر ثانوي. فلهذا لا يتغلغل ذهنُ ناظره في دقائقه، الا اذا نظر قصداً، فحينئذ يصير الحرفُ اسماً. بخلاف المعنى الاسمي 2.
فمن هذا السر ترى كتب الفلاسفة، احكم فيما يعود الى الكائنات في انفسها، مع انها اوهن من بيت العنكبوت فيما يعود اليها، بالنسبة الى صانعها 3. وكلام المتكلمين مثلا، لا ينظر الى المسائل الفلسفية والعلوم الكونية، الاّ بالمعنى الحرفي التبعي و الاستطرادي، وللاستدلال فقط.. حتى انه يكفي لهم ان تكون الشمس سراجاً، والارض مهاداً، والليل لباساً، والنهار معاشا، والقمر نورا، والجبال اوتادا. اي بمشاطيتها للهواء، ومخزنيتها للماء والمعادن، وحمايتها للتراب عن التوحل، وتسكين غضب الارض المتزلزلة بتنفسها فيها ـ ولا يكفي للفلسفي الا ان تكون
_____________________
1 اي لا يكون محكوماً عليه بالاحكام القصدية ولا يستتبع لوازم الحكم.
2 اي يكون محل حكم تصديقاً وتكذيباً (ت: 216)
3 ان الاحكام التي تخص الكائنات بذاتها تبدو في كتب الفلاسفة قوية في الظاهر إلاّ ان حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت (ت : 216)



المثنوي العربي النوري - ص: 405
الشمس مركز عالم منظومتها، وناراً عظيمة بدرجة تتطاير السيارات مع ارضنا حولها كالفراش المبثوث. وهكذا، حتى لو لم يطابق رأيُ المتكلمين الواقعَ، مع مطابقة الحس العمومي، والتعارف العام لما ضرَّهم، ولا استحقوا التكذيب 1.. فلهذا يُرى آراؤهم بادي الرأي ؛ اضعف وادنى طبقةً في المسائل الفلسفية، واقوى من الحديد في اساسات المسائل الالهية..
ومن هذا السر ايضا تصير الغلبةُ في الاكثر في الاوائل في الاولى لاهل الضلال، فيما يعود الى الدنيا، والى ظاهر هذه الحياة. اذ هم بجميع لطائفهم الساقطة الى درجــة نفوســــــهم، متـوجهـون قصــدا وبالذات الى الدنيـــا قـائـلون بـأعمالهم:
(ان هي الا حياتنا الدنيا) 2 ولكن العاقبة للمتقين الذين قيل لهم ولسيدهم: (وللآخرةُ خَيْرٌ لَكَ مِن الاولى) 3 (وما الحَيَاةُ الدنيا الا لَعِبٌ ولَهْوٌ ولَلَدارُ الاخِرةُ خَيْرٌ لِلَّذين يَتَّقُونَ افلا تعقلون) 4 (وانَّ الدَّار الآخِرةَ لَهِيَ الحَيوانُ لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) 5 فحسبنا الله ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير..
اعلم! ان عفوه تعالى فضل، وعذابه عدل؛ اذ كما ان من اكل سمًّا، فهو مستحق للمرض بحكم عادة الله المستمرة. فان لم يمَْرض، فهو فضل وكرامة من الله بخرق العادة.
نعم، مناسبة المعصية للعذاب قويةٌ بدرجة من القوة، حتى ضلّت فيها المعتزلة فاسندوا الشرَّ الى غيره تعالى، واوجبوا الجزاء عليه. واستلزام الشر للعذاب، بسر النظام العام لا ينافي كمال الرحمة ؛ اذ هذا الضرر الجزئي متصلٌ بانبوب في سلسلة نظام محيط، تدلت منه كالعناقيد خيراتٌ كثيرة. مع ان ترك هذه الخيرات الكثيرة لمنع هذا الضرر الجزئي والشر القليل، ضررٌ كلي، وشر كثير. وهو ينافي حكمةَ عدالة العدل، الحكيم، الكريم.
_____________________
1 لانهم لم يذكروا الرأي إلاّ للاستدلال والاستطراد .
2 الانعام: 29
3 الضحى: 4
4 الانعام: 32
5 العنكبوت: 64



المثنوي العربي النوري - ص: 406
ايها الانسان الظلوم الجهول! اتق الشر ما استطعت. والا استحققت جزاءَ تركك 1 مع جزاء تفويتك لنتيجة سائر الاسباب السابقة عليك، في سلسلة مبادي وجود النتيجة. اذ الشرُّ عدمٌ. وبعدم الجزء الآخر من العلة ينعدم المعلول. فيعود على الجزء الآخر، كل ضرر عدم المعلول. الا ان ثمرات الوجود لا تعود اليه الا بمقدار حصته، اذ وجود الجزء ليس علة لوجود الكل. فمن هنا يُرى كمال عفوه تعالى، وكمال فضله؛ اذ يجزي بالشر مثلَه، وبالخير عشرةَ امثاله. مع اقتضاء الاستحقاق الواقعي عكسه 2. وكذا يُرى ظلم البشر بحكمهم بعكس الواقع..
اعلم ! ان الانسان مبتلىً بالنسيان، واسوأ النسيان نسيانَ نفسه. الا ان نسيان النفس ان كان في المعاملة، والخدمة، والسعي، والتفكر فهو الضلال. وان كان في النتائج والغايات فهو الكمال. فاهل الضلال، واهل الهدى متعاكسان في النسيان والتذكر. اما الضال ؛ فينسى نفسه عند النظر للعمل، و تطبيق دساتير الوظيفة، بل يمدّ نظرَه الى الآفاق لتطمين الانانية المتفرعنة، وغرورَه المنبسط الذي تضيق عنه النفس. لكن يتذكر نفسه في كل شئ من الغايات فتيلاً او نقيراً. حتى لا غاية عنده، الا ما يعود الى نفسه. وان غاية الغايات في نظره، حب ذاته.
واما من زكّاها فيتذكر نفسَه قبل كل شئ عند السعي، والسلوك في الحركة، او التفكر، فكأن نفسه واحد قياسي، ومبدأ مركزي لكل عملٍ وتفكر. لكن ينسَى نفسه في النتائج، والاعراض، والفوائد، والمقاصد. حتى كأن نفسه فانية، وداخلة في لا شئ، او مملوكة خدمت سيدها بلذة الاخلاص، في وظيفة عائدة من كل وجه الى السيد. فلا حق لها في مقاضاة شئ، فما اعطى سيدُها لها، تراه النفس من محض الفضل..
اعلم ! ان سر تساند المؤمنين في عباداتهم، ودعواتهم في جماعاتهم سر عظيم، وامر جسيم، له شأن فخيم ؛ اذ يصير به كلُ فرد كالحجر المجصوص، في البناء
_____________________
1 جزاء تركك الخير .
2 حيث الحسنات لانها ايجابية ووجودية فلا تتعدد مادياً ولا تحصل بايجاد العبد، فالمفروض ان تكتب حسنة واحدة بعكس السيئات التي تتعدد وتتجاوز، فالمفروض ان تكتب الف سيئة. راجع ان شئت رسالة »حكمة الاستعاذة« اللمعة الثالثة عشرة، ففيها التفصيل الشافي.




المثنوي العربي النوري - ص: 407
المرصوص. يستفيد من اخوانه في الايمان، بالوف الف الف ما يستفيد من عملِ نفسه. (فاذا نظمهم سلكُ الايمان) يصير كلٌ لكلٍ، وللكل شفيعا، وداعيا، ومسترحما، وراجيا، ومادحا، ومزكيا. لاسيما لرئيسهم، ورأسهم 1. فيتلذذ كلُ فرد بسعادات سائر اخوانه كتنعم الام الجائعة، بلذة ولدها. والاخ الشفيق بسعادة شقيقه. حتى يصير هذا الانسان المسكين الفاني مستعداً لعبودية خلاّق الكائنات، وقبول السعادة الابدية.
فانظر الى النبي عليه الصلاة والسلام فاذا تراه، وهو يدعو بـ "يا ارحم الراحمين"!. ترى الامة كلهم يقولون: اللهم صل وسلم على عبدك وحبيبك محمد بحر انوارك، ومعدن اسرارك، وناشر ذكرك وشكرك، ودلال محاسن سلطنة ربوبيتك. فيزكونه عند ربهم. ويحببونه الى مَن ارسله رحمة لهم. ويؤيدون شفاعته. وكذا ينادون بلسان عجزهم المطلق، وفقرهم المطلق، غناءه سبحانه المطلق، في استغنائه الاكمل. وينادون جوده المطلق، في عزته الاجلّ. وينادون بلسان عبوديتهم المطلقة، ربوبيتَه المطلقة. وبهذا التعاون العلوي المعنوي يترقى الانسان، من اسفل سافلي الحقارة والصغر والعجز؛ الى اعلى عليي الخلافة، وحمل الامانة وقابلية المكّرمية بتسخير السموات والارض له.
اعلم ! ان من بَعُدَ عن شئ لا يرى، كما يراه القريب منه. ولو كان البعيد اشد ذكاء واحدّ بصراً. فاذا تعارضا ترجّح القريب مطلقا. فالفلاسفة الاوروبائية المتغلغلون في المادية، تباعدوا بمراتب عديدة، ومسافات طويلة عن مقام الاسلام والايمان والقرآن. فاعظم فلاسفتهم لا يساوي عاميًا يفهم بالاجمال مآل القرآن فقط.
هكذا شاهدتُ وهو الواقع. فلا تقل: من كشف خواص البرق والبخار، كيف لا يفهم اسرار الحق، وانوار القرآن ؟ نعم، ليس له، اذ عقلُه في عينه 2، والعينُ لا ترى ما يراه القلب والروح. لا سيما مع البعد، ولاسيما عند موت القلب بانقلاب الغفلة الى الطبيعة.
(طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمِ وسَمْعِهِمْ وابصْارهِمْ) 3
_____________________
1 المقصود : الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم (ت: 217)
2 اي لا يفهم ولا يصّدق الاّ ما يرى.
3 النحل: 108



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس