عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ


المثنوي العربي النوري - ص: 408
اعلم ! ان من اعظم كفران النعم، ومن اشد تكذيب الالآء، عدم الشكر على ما عَمَّه وغيره ؛ كالسمع والبصر. أو دام واستمر، كالنور والنار. او احاط وطم كالهواء و الماء؛ بل انما يشكر الله على مايخصه من دون الناس، او يتجدد عليه، او يندر لندر الحاجة. مع ان الاعمَ الدائم الادوم، هو النعمة الاعظم الاتم. العموم يدل على كمال اهميتها، والدوام على غلو قيمتها..
اعلم ! ان من آياتِ أنه تعالى
(واحصْى كُلَّ شَئٍ عَدداً) 1 التساوي، والتوازن، والانتظام بين اعداد المتجاورات، والمتقابلات، والمتشابهات كالاصابع في الايادي، والحبات في السنابل، والنواة في الثمرات، والاوراق في الازهار.. فسبحان من احصى كل شئ عدداً واحاط بكل شئٍ علما.
اعلم ! ان التلقيح والتولد مع التربية الشفيقة ؛ وظيفتان عامتان نافذتان ساريتان الى اصغر الاشياء. لهما مكافاة عاجلة هي اللذة المودعة فيهما. فعموم جود المحسن الكريم، مع شدة شوق كل الاشياء (المزدوجة) في ايفاء هاتين الوظيفتين بالمشاهدة؛ يدلان على ان النباتات، والاشجار، والمعادن، بل الجامدات ايضا لها حصة من هذه النعمة واللذة بوجه يليق بها. فمراعاة المكافاة، والرحمة، والعدل بهذه الدرجة، وسر
(ورحمتي وسعت كل شئ) 2 وكثرة الروايات المؤيدات للمكافأة، والقصاص في الحيوانات في الحشر ؛ تشير الى بقاء ارواح الحيوانات، ومكافاتها على وظائفها التي امتثلوها بكمال الاطاعة والانقياد 3. واما المنقلب ترابا بعد الحشر؛ فهو اجسادُهم. الا انه يجوز ان يجتمع تمام نوع منه "مجتمعا، او فرداً فرداً" في جسد شخص مبارك، كالناقة المذكورة في القرآن والكبش، والكلب، والهدهد، والنملة وغيرها..
_____________________
1 الجن: 28
2 الاعراف: 156
3 عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لتؤدُّن الحقوق الى اهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" : رواه مسلم برقم 2582 والترمذي 2535 (تحفة الاحوذي) وقال : في الباب عن ابي ذر وعبدالله بن انيس . (ومعنى الجلحاء : اي التي لا قرن لها).



المثنوي العربي النوري - ص: 409
اعلم ! ايها السعيد المسكين الحريص على بقاء الوجود، في هذه الدنيا الفانية، فرغمًا على انفك تفنى، الاّ ما ابقاه الباقي. ويزول وجودك، الا ما توجه الى جهته سبحانه. وتنطفئ حياتُك، الا ما افنيته في سبيله.
فما دام هذا هكذا.. فقل: حسبي من البقاء، ان الله المالك الباقي.. وحسبي من لذة البقاء، علمي بانه معبودي الباقي.. وحسبي من غاية البقاء، معرفتي بانه ربي الباقي.. وحسبي من البقاء وكماله، ايماني بانه موجدي الباقي.. حسبي من الوجود، كوني اثر واجب الوجود.. حسبي من قيمة الوجود، اني صنعة من فطر السموات والارض.. حسبي من غاية الوجود، علمي باني صبغة من زيّن السماء بمصابيح، والارض بازاهير.. حسبي من لذة الوجود، علمي باني مصنوعه ومخلوقُه وهو ربي وموجدي.. حسبي من الحياة، مظهريتي لتجليات اسماء خالق الموت والحياة.. حسبي من الحياة وحقوقها وغاياتها، اظهاري على رؤس الاشهاد، وتشهيري بين ذوي الادراك من اخواني الكائنات، واعلاني في سوق العالم بسر جامعية وجودي لغرائب آثار تجليات اسماء خالق السموات والارض.. حسبي من غاية الحياة، كوني انموذجا وفهرستةً لآثار تجليات اسمائه الحسنى.. حسبي من الحياة وكمالها، اظهاري بلسان احوالي لتجليات اسماء من قامت السمــوات بامره، واستقرت الارض باذنه.. حسبي من لذة الحياة، علمي باني مملوكُه ومصنوعُه ومخلوقه وعبده وفقيره، وهو خالقي والهي وربي وفاطري ومالكي ورحيمٌ بي ومنعِمٌ عليّ.. حسبي من الكمال، الايمان بالله.. وحسبي من كل شئ "الله"..
اعلم ! ان في التوحيد، واسناد الاشياء الى الواحد سهولة بلا نهاية، الى درجة الوجوب، وقيمة غالية بلا نهاية. وان في الشرك، واسناد المصنوعات الى الكثرة صعوبة بلا نهاية الى درجة الامتناع. وسقوط قيمة، وذلة نازلة بلا غاية، كما مر مراراً. الا ترى كيف يتعاظم ما في يد الجندي مما يُنسب الى السلطان ويعزّ منه ما هو في امر السلطان. ويغلو كلامه الذي هو بحساب السلطان قيمةً وأهميةً. ويتيسر بكمال السهولة "تدارك كل لوازمات الحياة" من خزائن الملك وماكيناته. وكيف يتساقط ما ذُكر، هباء منثورا ؛ ان انقطع الربط بعصيان الجندي!


المثنوي العربي النوري - ص: 410
اعلم ! ان الضر كالنفع منه.. وكذا الشر كالخير منه.. والموت كالحياة بقدرته وقدره؛ اذ في موت شئ، حياة آخر او مبدؤها. او هو، هي. وكذا الشر والضر.
اعلم ! ان في روح الانسان قابليةً بوجهين: لِلَذّات غير متناهية، وآلام غير محصورة من جهة جامعية ماهيته، وكثرة جهازاته بلا حد. ومن جهة تلذذه بتنعمات اولاده واخوانه من ابناء نوعه او جنسه او اخوانه من اجزاء الكائنات، وتألمه بتألماتها..
اعلم ! اني قد شاهدتُ ان النظر الى الغير مع نسيان النفس، يقلب الحقائق. كالنظر في الماء يريك الاشياء المعنوية، معكوسة منتكسة. فمع انك تجهل، تعتقد أنك تعلم..
اعلم ! ان ما اقتضى " تكرار بعض اجزاء القرآن " ما اقتضى تكرار الأذكار والأدعية. اذ القرآن كما انه كتاب حقيقة وشريعة، وكتاب معرفة وحكمة، كذلك هو كتاب ذكر ودعاء ودعوة.. والذكر يردَّد، والدعاء يُكرر، والدعوة تؤكّد..
اعلم ! ان من مزيّات علو القرآن ؛ ايرادُ مذكّرات الوحدة، خلفَ مباحث الكثرة. والاجمالُ عقيب التفصيل. وترديف بحث الجزئيات، بدساتير الربوبية المطلقة. ونواميس الصفات الكمالية العامة الشاملة، بذكر فذلكات كالنتائج. او كالتعليلات في اُخريات الآيات. لاجل ان لا يتغلغل ذهن السامع في ذلك الجزء الكوني المذكور، فينسى "عظمة مرتبة الالوهية المطلقة". حتى يخل بلوازم آداب العبودية الفكرية، لذى العظمة والهيبة والكبرياء . وكذا ليبسط ذهنك من ذلك الجزئي، الى امثاله واشباهه.. وكذا يريك القرآن بهذا الاسلوب، ويفهّمك ان في كل جزئي ولو حقيرا وزائلا سبيلا واضحا ، وصراطا مستقيما، ومحجةً بيضاء الى معرفة سلطان الازل والابد، والى شهود جلوات اسماء الاحد الصمد.
مَثلُ القرآن في هذا الاسلوب؛ كمثل من يريك قطرة ماء فيها شُميسة، او زهرةً فيها تجلي الوان ضياء الشمس. فيريك بلا مهلة "الشمس" في رابعة النهار بحشمتها. ويرفع رأسك اليها، لئلا تتشوش عليك الحال، فتتصاغر عندك الشمس فتصير تنكر لوازم عظمتها.


المثنوي العربي النوري - ص: 411
مثلا في سورة يوسف: (وفَوْقَ كُلّ ذي عِلْمٍ عَليم) 1 خلف امر جزئي 2.. وكذا في سورة الحج: (مَا قدروا الله حَقَّ قَدْرِهِ) 3 وفي سورة النور: (واذا بَلَغَ الاطْفاَلُ) الى (والله عَليم حَكيم) 4. وفي سورة العنكبوت: (وانَّ اوهَنَ البُيُوتِ) الى (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) 5 وامثالها..
اعلم ! ان همة الاولياء ومدَدَهم، وافاعليهم المعنويةبالافاضات نوعٌ من الدعاء، حالي او فعلي. والهادي هو الله وهو المغيث المعين. ولقد تلمّع لي شئ، لكن ما تشخص واضحاً؛ وهو ان في الانسان لطيفة وحالة، اذا دعا الانسان - ولو كان فاسقا - بلسانها استجيب له قطعا. نعم هي لطيفة اذا اقسمت على الله ابرّها .
اعلم ! يا مَن يتيقن الماضي، ويشك في الآتي!.. اذهب بنفسك الى عصرين من قبل، وافرض نفسَك جدّك الذي هو في وسط شجرة نَسَبك. ثم انظر الى اجدادك الذين هم موجودات ماضوية. ثم الى اولادك المتسلسلين منك اليك، الذين هم ممكنات استقبالية، هل ترى تفاوتا بين الجناحين؟ كلا لاترى، لا في الانتظام، ولا في شئ يوهم وجود التصادف. بل كما ان الاول مصنوع بعلم واتقان يراه صانعُه. كذا الثاني ؛ سيُصنَع كذلك وهو مشهودٌ لصانعه قبل كونه. فاعادة اجدادك، ليست بأغرب من ايجاد اولادك. بل هو اهون منه. كما قال سبحانه
(وهُوَ اهْوَنُ عَلَيْه) 6. فقس على هذا الجزء الجزئي، الكل الكلي. لترى كل الوقوعات الماضية معجزات، تشهد على ان صانَعها قدير على كل الممكنات الاستقبالية. وعليمٌ بتفاصيلها، ومحيطٌ وبصير بها .
نعم، كما ان هذه الموجودات الجلية، والاجرام العلوية، في بستان الكائنات: معجزات تشهد وتنادي على ان خلاقها على كل شئ قدير، وبكل شئ عليم. كذلك هذه النباتات المتلونة المتزهرة المنثـورة، وهـذه الحيوانات المتنوعة المتزينة
_____________________
1 يوسف: 76
2 المقصود : الكيد الذي دُبّر لابقاء الاخ الحقيقي لسيدنا يوسف عليه السلام.
3 الحج : 74
4 النور: 59
5 العنكبوت: 41
6 الروم: 27



المثنوي العربي النوري - ص: 412
المنشورة في حديقة الارض، خوارقُ صنعةٍ ؛ تشهد بأعلى صوتها على ان صانعها على كل شئ قدير، وبكل شئ عليم. تتساوى بالنسبة الى قدرته الذراتُ والشموس، ونشرُ اثمار الشجر، وحشرُ ابناء البشر.. نعم ليس انشاء ازهار شجرة منشورة على اغصانها الرقيقة الدقيقة، بأهونَ من انشاء ابناء نوع الانسان على عظامهم الرميمة المتفرقة..
اعلم ! انه كم من نعمة كقطرة معصورة بنظام رقيق، وميزان دقيق من كل الكون كالثمرة من الشجرة. فان كانت معصورة محلوبة على الحقيقة مع غاية البعد، فما المنعِم الاّ مَن في قبضته كل الكون يعصره كيف يشاء، كما هو الظاهر الحق المشهود. فما المُنعِم الاّ الذي خزائنهُ بين الكاف والنون. فما من نعمة الا مِن الذي صيّر "كن" مصدر الكون. وما المنة والشكر الاّ له سبحانه.
اعلم ! ان مما افيض على قلبي من فيض القرآن من كثرة ذكره احياء الارض، وجلبه انظار البشر الى التراب؛ ان الارضَ قلبُ العالم. والترابَ، قلبُ الارض. وان اقرب السبل الى المقصود يذهب في التراب، من باب التواضع والمحوية والفناء. بل هو اقرب من اعلى السموات الى خالق السموات؛ اذ لا يُرى في الكائنات شئ يساوي التراب في تجلي الربوبية عليها، وفعالية القدرة فيها، وظهورِ الخلاقية منها، والمظهرية لجلوات اسمَي الحي القيوم.
وهكذا، فكما ان "عرش الرحمة" على الماء، كذلك ان "عرش الحياة والاحياء" على التراب، والتراب اجمع المرايا واتمها. اذ مرآة الكثيف كلما كان الطفَ واشفّ؛ تريك صورةَ الكثيف اوضحَ واظهر واتم. لكن مرآة اللطيف النوراني كلما كان اكثفَ؛ كان التجلي بالاسماء عليها اتم. ألا ترى الهواء لا يأخذ من فيض الشمس الا ضياءً ضعيفا. والماء وان اراك الشمس بضيائها، لكن لا يفصل الوانه. مع ان التراب يريك بازاهيره مفصل كل ما اندمج في ضيائها من الالوان السبعة ومركباتها. مع ان هذه الشمس قطرةٌ متلمعة كثيفة؛ بالنسبة الى نور شمس الازل. وتزين التراب وتبرّجه في الربيع؛ بما لا يحد ولا يعد من لطيفات الازاهير، وجميلات الحيوانات المنادية على كمال ربوبيته، شاهدٌ مشهود. فان شئت فانظر الى هذه الواحدة، المسماة


المثنوي العربي النوري - ص: 413
بالتركي (هرجائي منكشه) 1 كيف تتصرف يدُ الصانع الحكيم في تلويناتها وتزييناتها وهي واحدة. لكن تظهر وتنظر اليك متبسمة، لا بل متعبسة في عشرين صورة.
فسبحان من يتعرف الينا بلطيف صنعه. ويعرِّف الخلائق في قدرته بعجائب تصرفه في التراب. ومما يرمز الى هذا السر حديث (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). 2
فان كان هذا هكذا؛ فلا تتوحش من التراب وذهابك فيه، ولا تتدهش من القبر وسكونك فيه..
اعلم ! ان عقلي قد يرافق قلبي في سيره فيعطي القلبُ مشهودَه الذوقي ليد العقل؛ فيبرزه العقلُ على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي. ومن تلك الحقائق ان الفاطر الحكيم كما انه بعيد بلا نهاية، كذلك قريب بلا غاية. وكما انه في اَبطن البطون، كذلك فوق الفوق. وكما انه ليس داخلا، كذلك ليس خارجاً.
فان شئت فانظر الى آثار رحمته المنثورة على سطح كرة الارض، والى معمولات قدرته المنشورة في دوائر صحائف الارض لتشاهد هذا السر متلمعاً من سطورها: اذ لابد لصانع ذرتين، او زهرتين، او ثمرتين، او نحلتين في مكانين في آن واحد، من بُعْدٍ ازيد من البعد بينهما. واذا كانتا: في الكرة والدائرة، 3 مع تخلل اعظم القوس بينهما، فحينئذٍ لابد للمقابلة التامة - على التساوي الضرورية المشهودة - من بُعدٍ بلا حد. هذا في وجه الظاهر، وفي جانب المُلك. واما في وجه الباطن وفي جهة الملكوت؛ فلابد لتساوي المقابلة - بلاكيفية - المشهودة، في كمال سهولة الايجاد وسرعته، مع الجود المطلق، في الاتقان المطلق من قرب بلا نهاية. لا كقرب المركز لتفاوت نسبِ نقاط الدوائر المتداخلة بالنسبة الى المركز. مع انه لاتفاوت بالنسبة الى "الموجد" الذي اتقن كل شئ صنعاً. واحسن كل شئ خلقه.
نعم هذا السر من خصائص دائرة الوجوب والتجرد، ومن خواص الاطلاق، ومن خصوصيات تجلي الاحدية في الوحدة، ومن لوازم مباينة ماهية الفاعل الاصلي للمنفعل الظلي.

_____________________
1 نوع من الاقحوان من نباتات الظل.
2 تكملة الحديث : "فاكثروا الدعاء ": اخرجه مسلم برقم 482 وابو داود برقم 875 والنسائي 2 / 226 عن ابي هريرة ( وانظر كشف الخفاء للعجلوني 1 / 160)
3 اى احداهما في الكرة الارضية والاخرى في مدارها.



المثنوي العربي النوري - ص: 414
مثلا: "ولله المثل الاعلى": ان لذات الشمس قرباً بلا حد؛ من تماثيلها في المرايا والازاهير. اذ ذات الشمس قيوم التماثيل، واقرب اليها من لصيقها، بل من انفسها. وكذا لها بُعد بلا حد من تلك الظلال؛ اذ لايتيسر، بل لايمكن قطع المسافة المتخللة بين الظل المتمكن في مرآتك، وبين الاصل.
فسبحان من تقدس عن الاشباه ذاتُه، وتنزهتْ عن مشابهة الامثال صفاتُه. هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم..
اللّهم ياعدل. يا حكم. يا عليم. ياحكيم. انه ليس في الرياح مَرّةٌ، ولا في السحاب قطرة، ولا في الرعود زجرة، ولا في البروق لمعة، ولا في الرياض زهرة، ولا في الجنان ثمرة، ولا في الهواء نحلة، ولا في النبات صبغة، ولا في الحيوان صنعة، ولا في الوجود زينة، ولا في الكون ذرة، ولا في الخلق نظام، ولا في الفطرة ميزان، ولا في العرش شئ، ولا في الكرسي شأن، ولا في السماء نجم، ولا في الارض آية: الا وهي لك ادلة شهدت، وآيات تشهد على انك واجب، واحد، احد، صمد. وبراهين نيرة شاهدات على انك انت الله، وانت علام الغيوب مخرج الحبوب، مسخر القلوب. جميع الخلق مقهورون تحت قدرتك، قلوبهم في قبضتك، نواصّيهم بيدك، مقاليدهم لديك. لا تتحرك ذرة الا باذنك.
يا اله الأولين والآخرين. يارب محمّد عليه الصلاة والسلام وابراهيم وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! اسألك باسمك العظيم، وبنور وجهك الكريم، وبدينك القويم، وبصراطك المستقيم، وبالسبع المثاني، وبالقرآن العظيم، وبالف الف " قُلْ هُوَ الله احَدُ " وبالف الف فاتحة الكتاب، وباسمائك الحسنى، وباسمك الاعظم، وبالحجر الاسود، وببيتك المكرم، وبليلة القدر، وبرمضان المعظم، وبانبيائك المكرمين، وبحبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم؛ ان ترحم امة محمد، واشرح صدورهم للايمان والاسلام، وسلّمنا من شر الملاحدة وسلّم ديننا، ونوّر برهان القرآن، وعظّم شريعة الاسلام.
آمين يا ارحم الراحمين..
***
[ بارك الله فيكم الف الف مرة ووفقكم الله] 1

_____________________
1 كتب الاستاذ النورسي هذه الجملة الطيبة بالتركية في المخطوط بخط يده.



المثنوي العربي النوري - ص: 415
ذيل الشعلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة على نبيه
اعلم ! انه لا يتستر عن النور المحض المحيط شئ من الاشياء، وكذا لا يخرج امر من الامور عن دائرة القدرة الغير المتناهية؛ والا لزم تناهي غير المتناهي بالتحديد بالمتناهي، وهو محال بوجوه..
وكذا ان الحكمة تعطي كل شئ، الفيض بقدره كما يقال: [كلّ بقدره].. وان بقدر الظرف يغترف من البحر، وان المقدر القدير الحكيم لا يشغله صغير عن كبير، ولا خطير عن حقير. وان المحيط الظاهر الباطن المجرد عن المادة لا يواري الاكبرُ عنه الاصغر. ولا النوعُ الفردَ. وان الصغير مادةً قد يكون كبيراً من جهة الصنعة. وان نوع الصغير، عظيم كثير كبير. وان العظمة المطلقة لا تقبل الشركة اصلا ولا تتحملها.


المثنوي العربي النوري - ص: 416
وان ما يشاهد من الجود المطلق في السهولة المطلقة، في السرعة المطلقة، في الاتقان المطلق، مع ارادة التعرف التام.. مع محبة ذي الجمال مشاهدةَ جماله المطلق وكماله المطلق، وتشهيرهما.. ومع الرحمة المطلقة، والغناء المطلق بشهادة الآيات التكوينية.. ومع وجود مالا يحد ولا يعد من الناظرين المتفكرين المشاهدين المعتبرين.. يقتضي - بهذه الاسباب - بلاشك وجود انواع الحوينات والطويرات ايضا، بل اَولى، اذ الصغيرُ الادق اقربُ الى الوجود.. والى القدرة النورانية..
اعلم ! يا (انا) اذا كان نفسك احب اليك، لانها اقرب اليك من كل شئ؛ فلابد ان يكون ربك احب اليك منك؛ اذ هو اقرب اليك من نفسك. الا ترى ان ما لا يصل اختيارُك وخيالك اليه من اسرار ما رُكّب فيك، هو حاضر مشاهَد لربك..
اعلم ! انه لا تصادف؛ فانظر الى الرياض واستمع كيف تقرأ على الناظر بنهاية الانتظام في غاية الاختلاط، وكمال الامتياز في كمال امتزاج اشتاتِ الاشياء.. آيات حكمة الصانع العليم المحيط..
اعلم ! انك ان لم تُوَحِّدْ بنسبة كل شئ الى الواحد، تضطر الى فرض وجود آلهة بعدد تجليات الله على جميع افراد الانواع في العالم. كما اذا اغمضت عينيك عن الشمس، وتغافلت عنها، وقطعت عنها نسبةَ الشُميسات المتلمعات في قطرات وجه البحر بتجليها، اضطررت الى قبول وجود شموس بالاصالة فيها بعدد تلك القطرات. مع ان القطرة لا تسع اصغر مصباح، فكيف بسراج العالم!!
اعلم ! انه يشاهد للمدقق؛ ان طوائف المخلوقات واصناف المصنوعات تتسابق بالرقابة والاشتياق الى التبرّج والتزين، للعرض والظهور، لنظر شاهد جليل يشاهدها كلها، ودائما، وبجميع دقائق محاسنها؛ اذ المصنوعات تظهر بالمشاهدة هيئة تتضمن مالا يتناهى من لطائف اتقان الصنعة الجالبة لنظر الدقة، والاستحسان والحيرة.. فما هذا التهالك بالمسابقة للظهور، متزينةً الاّ لاجل العرض لنظر لايتناهى. وما هو الا نظر الشاهد الازلي الذي خَلَقَ الخلق ليشاهد في مرايا اطوارها جلوات انوار جماله وجلاله وكماله.. ثم يستشهد عليها شهداء تعرّف اليهم، باراءة ذلك الكنز الخفي.


المثنوي العربي النوري - ص: 417
فاعلى غايات وجود الشئ واغلى حقوق حياة الحي ؛ هو المشهودية والظهور لنظر فاطره، بمظهريته لآثار اسمائه. والذّ لذائذ هذه الحياة، هو الشعور بهذا الشهود..
واما الظهور لانظار اخوانه من المخلوقات، فهو ايضا غاية. لكن نسبتها الى الغاية الاولى، كنسبة المتناهي الى غير المتناهي..
واما ما اشتهر بين الناس من "حق الحياة" وهو حفظ الحياة مع نوع راحة ؛ فاقل واصغر وادنى واحقر من ان يكون جزءاً من ملايين اجزاء "حق الحياة" تلك الحياة التي هي من أعلى واغلى واعجب واغرب والطف واشرف معجزات قدرة الحي القيوم الاحد الصمد. بل ماهو الا وسيلة وانما يتشرف ما بقي وسيلةً. فاذا ترقى الى المقصدية، سقط بالزوال هباءً منثوراً..
اتظن ايها الغافل! ان غاية عجيب صنعة الرمانة مثلا، هي اكلُك ومضغك في دقيقة بغفلة.. كلا، بل انما هي كلمة افادت معناها للمكوّن سبحانه، وللكون؛ فوفّت فتوفّت فدفنت مِن فيكَ فيك، ويكفي من الزمان والبقاء لهذه الغاية آن سيال، فلا عبثية.
وكذا فاعلم ان من له جمال فائق، فلذته الحقيقية في المشاهدة لجماله شهوداً بالذات، وشهوداً باراءة مصنوعاته لمخلوقاته فيشهدونها.. فيشهد ايضا في شهودهم بشهودهم..
واما لذة التفوق بملاحظة الغير فغيرذاتية، بل عرضية ضعيفة، ومشوبة مخصوصة بالامور النسبية..
واما ذو الكمال الذاتي والجمال الحقيقي المجرد السرمدي، المحبوب لذاته، لذاته الذي له المثل الاعلى، فقد اخبرنا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام؛ "انه خلق الخلق ليُعرف" 1.. أي صوّر مرايا ليشاهد فيها تجليات جماله المحبوب لذاته بذاته..

_____________________
1 وهذا مقارب بالمعنى ماورد (كنت كنزاً لا اعرف فاحببت ان اعرف فخلقت خلقاً فعرفتهم لي فعرفوني): لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف الاّ ان على القاري قال : ولكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى(وما خلقت الجن والانس الاّ ليعبدون) اي ليعرفوني كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما . (كشف الخفاء 2 / 132 باختصار)



المثنوي العربي النوري - ص: 418
اعلم ! ايها الفاني كفاك بقاءً، انك مشهوده في علمه ومعلومه في شهوده بعد فنائك من بعض الوجوه. (ياهو) اعط كل شئ لصاحبه الحقيقي وانسبه اليه. وخذه باسمه. ثم استرح، والا اضطررت الى قبول آلهة بعدد تجليات الله كما مر آنفاً. بل بعدد ذرات الكائنات كما مر مراراً ايضا. وكذا بعدد اجزاء التراب.. اذ اي جزء من التراب تراه يصلح لحصول ما لا يعد من المصنوعات المنتظمة المتنوعة.
فسبحان من تنزّه عن الاشباه ذاته.
وتقدست عن مشابهة الامثال صفاتُه.
ودلّت على وحدانيته مصنوعاته.
وشهِدت بربوبيته آياته.
واحاط بكل شئ علمُه وقدرته.
جل جلاله. ولا اله الاهو ..

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس