الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #11
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 100
بتحريك عرق الشفقة الجنسية، واما بتهييج عرق التنفر من نفرة العموم.. و(في الأرض) هو الذي يوقظ العرقين وينعشهما؛ اذ لفظ (في الارض) يناجيهم بان فسادكم هذا يسري الى نوع البشر فأيّ حقد وغيظ لكم على جميع الناس الذين فيهم المعصومون والفقراء والذين لاتعرفونهم، أفلا تتوجعون لهم ولمَ لاتترحمون بهم؟ هب ان ليست لكم تلك الشفقة الجنسية فلا أقل من أن تلاحظوا ان حركتكم هذه تجلب عليكم معنى نفرة العموم.
p فان قلت: أيّ غرض لهم بالعموم وكيف ينجر فسادهم الى الكل؟
قيل لك: كما ان من نظر بمرآة البصر السوداء رأى كل شئ اسود قبيحاً. كذلك من احتجبت بصيرتُه بالنفاق وفسد قلبُه بالكفر رأى كل شئ قبيحاً مبغوضاً، يحصل في قلبه عناد وحقد مع كل البشر بل كل الكائنات.. ثم كما ان انكسار سنّ من جرخ 1 من دولاب من ساعة يتأثر به الكل كلياً أو جزئياً؛ كذلك بنفاق الشخص يتأثر نظام هيئة البشر التي انتظمت بالعدالة والاسلامية والاطاعة. فأسفاً قد تظاهرت سمومهم المتسلسلة حتى انتجت هذه السفالة.
وأما جملة (قالوا انما نحن مصلحون) ففي "قالوا" بدل "لايقبلون النصيحة" الظاهر من السياق اشارة الى انهم يدّعون ويدعون الى مسلكهم.
وفي (انما) خاصيتان:
الاولى: ان مدخوله لابد ان يكون معلوماً حقيقة أو ادعاء. ففيها رمز الى تزييف الناصح واظهار ثباتهم على جهلهم المركب.
والثانية: الحصر ففيها اشارة الى ان صلاحهم لايشوبه فساد فليسوا كغيرهم؛ ففي الاشارة رمز الى التعريض بالمؤمنين.
وفي اسمية (مصلحون) بدل "نصلح" اشارة الى ان الصلاح صفتنا الثابتة المستمرة فحالنا هذه عين الاصلاح بالاستصحاب.. ثم انهم ينافقون في هذا الكلام أيضا اذ يتبطنون خلاف مايظهرون فباطناً يدعون فسادهم صلاحاً وظاهراً يراؤن أن عملهم لصلاح المؤمنين ومنفعتهم.

_____________________
1 جرخ يقرب من معنى دولاب.

إشارات الإعجاز - ص: 101
وأما جملة (ألا انهم هم المفسدون ولكن لايشعرون) فاعلم! انهم لما ادرجوا في معاطف الجملة السابقة معاني: من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصلاح لهم، وان الصلاح صفتهم المستمرة.. وانهم منحصرون عليه.. وان الفساد لايشوب صلاحهم.. وان هذا الحكم ظاهر معلوم.. ومن تعريضهم بالمؤمنين ومنتجهيلهم للناصح؛ أجابهم القرآن الكريم بهذه الجملة المتضمنة لأحكامٍ من اثبات الفساد لهم، وانهم متحدون مع حقيقة المفسدين.. وان الفساد منحصر عليهم.. وان هذا الحكم حقيقة ثابتة.. ومن تنبيه الناس على شناعتهم.. ومن تجهيلهم بنفي الحس عنهم كأنهم جمادات. وان شئت فانظر:
الى (ألا) التي للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها ترويجَهم الناشئ من دعواهم المترشح من "قالوا"..
والى "إنّ" التي للتحقيق كيف ترد دعواهم المعلومية بـ "انما"، كأن "إنّ" تقول حالهم في الحقيقة والباطن فساد، فلا يجديهم الصلاح ظاهراً.
والى الحصر في "هم" كيف يقابل تعريضهم الضمنيّ في "انما" و"نحن" والى تعريف "المفسدون" - الذي معناه حقيقة المفسدين ترى في ذاتهم فهم هي - كيف يدافع حصرهم المستفاد من "انما" أيضا.
والى ولكن (لايشعرون) كيف يدافع تزييفهم الناصح وانهم ليسوا مستحقين للنصيحة بدعوى المعلومية. فتأمل!
***
إشارات الإعجاز - ص: 102
وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ
أَلا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لايَعْلَمُونَ 13
اعلم! ان وجه نظم هذا النوع بالنوع الأول:
من حيث انهما نصيحة وارشاد؛ عطف الأمر بالمعروف والتحلية والترغيب، على النهي عن المنكر والتخلية والترهيب..
ومن حيث انهما من الجناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنين وغرورهم على افسادهم، كما ربط افسادهم بفسادهم اللاتي كل منها غصن من شجرة زقّوم النفاق.
واما وجه النظم بين جمل هذه الآية:
فاعلم! انه لما قيل: (واذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) وأشير بهيئاتها الى وجوب النصيحة على سبيل الكفاية بايمان خالص اتباعا للجمهور الذين هم الناس الكُمّل ليأمرهم الوجدان دائما بهذا الامر، حكى وقال: (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) اشارة الى تمردهم وغرورهم ودعواهم انهم على الحق كما هو شأن كل مبطل يرى باطله حقا ويعلم جهله علما؛ اذ بالنفاق تفسَّد قلبُهم، وبالفساد نشأ غرورٌ وميلُ افساد، وبحكم التفسّد تمردوا، وبحكم الافساد يقول بعضهم لبعض متناجيا بالاضلال، وبحكم الغرور يرون شدة الديانة وكمال الايمان المقتضيين للاستغناء والقناعة سفالة وسفاهة وفقراً. ثم بحكم النفاق ينافقون في كلامهم هذا أيضاً؛ اذ ظاهره: كيف نكون كالسفهاء ولسنا مجانين ونحن أخيار كما تطلبون؟ وباطنه كيف نكون كالمؤمنين الذين أكثرهم فقراء وهم في نظرنا سفهاء تحزبوا من اَوْباش 1 الاقوام؟ وعليك التطبيق بين دقائق الجزئين من الشرطية. ثم القمهم الحجر بقوله: (ألا انهم هم السفهاء)؛ اذ من كان متمرداً بهذه الدرجة وجاهلا بجهله فحقهم الاعلان بين الخلق وتشهيرهم بانحصار السفاهة وانه من الحقائق الثابتة، وان تسفيههم لسفاهة أنفسهم.. ثم قال: (ولكن لايعلمون) اشارة الى انهم جاهلون بجهلهم

_____________________
1 سفلة الناس واخلاطهم.

إشارات الإعجاز - ص: 103
فيكون جهلا مركباً فلا يجديهم النصيحة، فلابد ان يعرض عنهم صفحاً؛ اذ لا يفهم النصيحة الا من يعلم جهلَه.
وأما وجه النظم في هيئات كل جملة جملة:
ففي جملة (واذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) لفظ (اذا) بجزميته رمز الى لزوم الارشاد بالامر بالمعروف.. وبناء المفعول في (قيل) ايماء الى ان وجوب النصيحة على سبيل الكفاية كما مر..
ولفظ (آمنوا) بدل "اخلصوا في ايمانكم" اشارة الى ان الايمان بلا إخلاص ليس بايمان..
ولفظ (كما آمن) تلويح بالأسوة الحسنة وحسن المثال ليخلصوا على منواله..
وفي لفظ (الناس) نكتتان: وهما السبب في جعل الوجدان آمراً بالمعروف دائما؛ اذ (كما آمن السفهاء) يترشح بـ "فاتبعوا جمهور الناس اذ مخالفة الجمهور خطأ من شأن القلب ان لا يقدم عليه"، وأيضا يلوح بانهم هم الناس فقط كأن من عداهم ليسوا بانسان الا صورة، إما بترقى هؤلاء في الكمالات وانحصار حقيقة الانسانية عليهم وإما بتدني اولئك عن مرتبة الانسانية.
اما جملة (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) التي مآلها: لا نقبل النصيحة كيف نكون كهؤلاء الأذلاّء؛ اذ هم في نظرنا سفهاء ولا نقاس نحن معاشر أهل الجاه عليهم.. ففي لفظ (قالوا) رمز الى تبرئة النفس وترويج المسلك والاستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى.. وفي لفظ (أنؤمن) بالاستفهام الانكاريّ اشارة الى شدة تمردهم في جهلهم المركب، كأنهم بصورة الاستفهام يقولون: ايها الناصح راجع وجدانك هل ترى انصافك يقبل ردّنا.؟ ثم ان في متعلق "قالوا" وجوهاً ثلاثة مترتبة؛ أي: قالوا لأنفسهم، ثم لأبناء جنسهم، ثم لمرشدهم، كما هو شأن كل متنصح اذا نصحه الناصح، فاول الأمر يشاور مع نفسه، ثم يحاور مع ابناء جنسه، ثم يراجعك بنتيجة محاكمتهم. فعلى هذا لما قيل لهم ما قيل راجعوا قلوبهم المتفسدة ووجدانهم المتفسخ فاشارت عليهم بالانكار، فقالوا مترجمين عما في ضميرهم، ثم راجعوا بنظر الافساد الى اخوانهم، فاشاروا عليهم أيضاً بالانكار فأخذوا بنجواهم
إشارات الإعجاز - ص: 104
ومحاورتهم، ثم رجعوا بطريق الاعتذار والسفسطة الى الناصح فشاغبوا وقالوا: "بيننا فرق لانقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون مجبورون فشدتهم في الديانة وتصوّفهم بالاضطرار. اما نحن فأهل عزة وجاه" فبحكم الغرور يحيلون الناصح على انصافه. وبحكم الخداع والحيلة يتكلمون بكلام ذي لسانين، أي ايها المرشد! لاتظننا سفهاء ولانكون كالسفهاء في نظركم، بل نفعل كما يفعل المؤمنون الخلص. مع ان مرادهم باطناً: لانكون كهؤلاء المؤمنين الفقراء؛ اذ لا اعتداد بهم في نظرنا. ففي هذا اللفظ رمز خفيّ الى فسادهم وافسادهم وغرورهم ونفاقهم..
(كما آمن السفهاء) أي الذين تظنونهم الناس الكاملين هم في نظرنا اذلاء فقراء مجبورون مع كثرتهم، كلٌ منهم سفيهُ قوم. ففي دعواهم الفرق في القياس اشارة الى ان الاسلامية كهف المساكين وملجأ الفقراء وحامية الحق وحافظة الحقيقة ومانعة الغرور وقامعة التكبّر، وما مقياس الكمال والمجد الاّ هي.. وأيضاً في الفرق اشارة الى ان سبب النفاق في الأغلب هو الغرض والغرور والتكبر كما يفسره: (وما نَريــكَ اتَّبَعَكَ اِلاَّ الَّذيِنَ هُمْ اَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) 1. وأيضاً في الفرق اشارة خفية الى ان الاسلامية لاتصير وسيلة التحكم والتغلب في أيدي أهل الدنيا والجاه؛ بل انما هي واسطة لإِحقاق الحق في أيادي أهل الفقر والضرورة خلاف سائر الأديان. ويشهد على هذه الحقيقة التأريخُ.
أما جملة (ألا انهم هم السفهاء) فاعلم! ان القرآن الكريم انما أكثر من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل ان أكثر بليات العالم الاسلامي من أنواع النفاق.. ثم ان لفظ (ألا) للتنبيه وتشهير سفاهتهم على رؤوس الأشهاد، ولاستشهاد فكر العموم على سفاهتهم. وأصل معنى (ألا) ألا تعلمون انهم سفهاء؟ أي: فاعلموا.. ثم ان "انّ" مرآة الحقيقة ووسيلة اليها كأنه يقول: راجعوا الحقيقة لتعلموا ان سفسطتهم الظاهرية لا أصل لها. ثم لفظ "هم" للحصر لرد تبرئة أنفسهم، ودفع تسفيههم للمؤمنين الذي اشاروا اليه بـ (كما آمن السفهاء) أي ان السفيه مَن ترك الآخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون من أشترى الباقي بترك الهوسات 2 الفانية. ثم ان

_____________________
1سورة هود: 27.
2 الهوس: طرف من الجنون وخفة العقل والمقصود هنا الاغراض النفسية وامانيها.

إشارات الإعجاز - ص: 105
الألف واللام في "السفهاء" لتعريف الحكم أي معلوم انهم سفهاء. وللكمال أي كمال السفاهة فيهم.
أما (ولكن لايعلمون) ففيه اشارات ثلاث:
احداها:
ان تمييز الحق عن الباطل وتفريق مسلك المؤمنين عن مسلكهم محتاج الى نظر وعلم، بخلاف افسادهم وفتنتهم، فانه ظاهر يحس به مَن له أدنى شعور. ولهذا ذيّل الآية الأولى بـ (ولكن لا يشعرون).
والثانية:
ان (لايعلمون) وأمثالها من فواصل الآيات من (لايعقلون) و(لايتفكرون) و(لايتذكرون) وغيرها تشير الى ان الاسلامية مؤسسة على العقل والحكمة والعلم. فمن شأنها ان يقبلها كل عقل سليم لا كسائر الأديان المبنية على التقليد والتعصب. ففي هذه الاشارة بشارة كما ذكرت في موضع آخر.
والثالثة:
الإعراض عنهم وعدم الاهتمام بهم، اذ النصيحة لا تجديهم، اذ لايعلمون جهلَهم حتى يتحرّوا زوالَه.
***
إشارات الإعجاز - ص: 106
واِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا امَنَّا وَاِذَا خَلَوْا اِلَى شَياطِينِهِمْ قَالُوا اِنَّا مَعكُمْْ
اِنَّمَا نحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14 اَلله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون 15
اعلم! ان وجه نظم مآل هذه الآية بمآل سابقتها: عطف الجناية الرابعة، أعني الاستهزاء والاستخفاف على الجنايات السابقة من التسفيه والافساد والفساد.
وان وجه النظم بين جملها هو انه: كما ان للايمان الذي هو نقطة استنادٍ عن الآلام ونقطة استمداد للآمال ثلاث خواص حقيقية:
إحداها: عزة النفس الناشئة من "نقطة الاستناد"، ومن شأن عزة النفس عدم التنزّل للتذلّل.
والثانية: الشفقة التي من شأنها عدم التذليل والتحقير.
والثالثة: احترام الحقائق ومعرفة قيمتها، لأن صاحب غالي القيمة ذو حقيقة، وعنده الجوهر الفريد، وعدم الاستخفاف بالحقيقة لأنه أيضاً رزين؛ كذلك لضد الايمان، أعني النفاق اضدادُ خواصِه الثلاث، فخواص النفاق الناشئة منه: ذلة النفس، وميل الإِفساد، والغرور بتحقير الغير.
اذا عرفت هذا، فاعلم! ان النفاق يولِّد ذلةَ النفس وهي تنتج التذللَ، وهو الرياءَ وهو المداهنةَ وهي الكذبَ. فأشار اليه بقوله: واذا لقوا الذين امنوا قالوا آمنا..
ثم لما كان النفاق مفسداً للقلب وفساده ينتج يُتْمَ الروحِ أي عدم الصاحب والحامي والمالك فيتولد الخوف وهو يلجؤه الى التستر، اشار اليه بلفظ واذا خلوا..
ثم لما كان النفاق قاطعا للرحم وقطعُه يزيل الشفقة، وزوالها ينتج الافسادَ وهو الفتنةَ وهي الخيانةَ وهي الضعفَ وهو يضطره الى الالتجاء الى ظهير ومستند، أشار اليه بلفظ الى (شياطينهم)..
إشارات الإعجاز - ص: 107
ثم لما كان النفاق جهلا تردديا انتج تذبذب الطبيعة وهو عدم الثبات وهو عدم المسلك وهو عدم الأمنية بهم وهو يجبرهم على تجديد عهدهم، أشار الى هذه السلسلة بلفظ (قالوا إنّا معكم)..
ثم لما احتاجوا الى الاعتذار استخفّوا بالحقيقة لخفتهم، ورخّصوا غالي القيمة لعدم قيمتهم، وأهانوا بالعالي لهون نفسهم وضعفها الذي ينشأ منه الغرور فقال: (قالوا انما نحن مستهزؤن)..
ثم بينما كان السامع منتظراً من انصباب الكلام مقابلةَ المؤمنين لهم رأى ان الله قابلهم بدلاً عن المؤمنين اشارة الى تشريفهم، ورمزاً الى ان استهزاءهم في مقابلة جزاء الله تعالى كالعدم، وايماءً الى حمقهم وزجرهم وردهم؛ اذ كيف يُستَهْزأُ بمن كان الله حاميه؟ فقال تعالى: (الله يستهزئُ بهم) أي يعاقبهم على استهزائهم أشد جزاء بصورة استخفاف وتهكمٍ بهم في الدنيا والآخرة مع الاستمرار التجدديّ.. وجملة (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) كشف وتفصيل وتصوير لجزاء استهزائهم بطرز الاستهزاء.
أما وجه نظم هيئات كل جملة جملة:
فاعلم! ان جملة (اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) التي سيقت في مداهنتهم؛ قطعية (اذا) فيها ايماءٌ الى الجزم والتعمد والقصد، أي عزموا بعمد وقصد ملاقاتهم.. ولفظ (لقوا) ايماء الى انهم تعمدوا مصادفتهم في الطرق بين ظهراني الناس.. ولفظ (الذين امنوا) بدل "المؤمنين" اشارة الى مباشرتهم معهم وتماسهم بهم، والى ان ارتباطهم معهم بصفة الايمان، والى ان مدار النظر بين أوصاف المؤمنين صفة الايمان فقط.. ولفظ (قالوا) تلويح الى انهم يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم، وان قولهم للتصنع والرياء والمداهنة ودفع التهمة والحرص على جلب منافع المؤمنين والاطلاع على أسرارهم.. ولفظ (آمنا) بلا تأكيد مع اقتضاء المقام اياه، وبايراده جملة فعلية، اشارة الى ان ليس في قلوبهم مشوق وعشق محرك ليتشددوا ويتجلدوا في كلامهم.. وأيضاً ان في ترك التأكيد ايماء الى تشددهم في دفع التهمة عنهم، كأنهم يقولون: انكاركم ليس في موقعه بل في منزلة العدم، اذ لسنا أهلاً
إشارات الإعجاز - ص: 108
للتهمة.. وأيضاً فيه رمز الى ان التأكيد لايروج عنهم.. وأيضا فيه لمح الى ان هذا الحجاب الرقيق الضعيف على الكذب اذا شدد تمزق.. وأيضا في فعليته اشارة الى انه لايمكن لهم ان يدعوا الثبات والدوام، وانما غرضهم من هذا التصنع الاشتراك في منافع المؤمنين والاطلاع على اسرارهم بادعاء حدوث الايمان.
وأما جملة (واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم) فـ "الواو" الجامعة في (واذا) ايماء الى ان هذا الكلام سيق لبيان ان لامسلك لهم، ولبيان تذبذبهم المفصل بهاتين الشرطيتين.. والجزمية في (اذا) رمز الى انهم بحكم الفساد والافساد يرون الالتجاء وظيفةً ضرورية.. ولفظ (خلوا) اشارة الى انهم بحكم الخيانة يتخوفون، وبحكم الخوف يتسترون.. ولفظ (الى) بدل "مع" المناسب لِـ"خلوا" اشارة الى انهم بحكم العجز والضعف يلتجئون، وبحكم الفتنة والافساد يوصلون اسرار المؤمنين الى الكافرين.. ولفظ "الشياطين" اشارة الى ان رؤساءهم كالشياطين متسترون موسوسون، والى انهم كالشياطين يضرون، والى انهم على مذهب الشياطين لايتصورون الاّ الشر.
وأما جملة (قالوا إنّا معكم) المسوقة لتبرئة ذمتهم وتجديد عهدهم وثباتهم في مسلكهم، فاعلم! انه أكد مع غير المنِكر هنا، وترك التأكيد مع المنِكر هناك 1 اشارةً ودلالةً على عدم الشوق المحرك في قلب المتكلم هناك ووجوده هنا. أما اسمية هذا وفعلية ذاك، فلأن المقصود اثبات الثبوت والدوام في ذا، والحدوث في ذلك.
أما (انما نحن مستهزؤن) فاعلم! انه لم يعطف، اذ الوصل انما هو بالتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع. مع ان هذه الجملة بدلٌ بجهة وتأكيد بجهة وهما من كمال الاتصال، وجوابُ سؤالٍ مقدَّر بجهة أخرى، وهو من كمال الانقطاع لخبرية الجواب وانشائية السؤال في الأغلب.. أما وجه التأكيد ويقرب منه البدل فهو: ان مآلها اهانة الحق وأهله فيكون تعظيما للباطل وأهله وهو مآل (إنّا معكم).. وأما وجه الجوابية للسؤال المقدر فكأن شياطينهم يقولون لهم: "ان كنتم معنا وفي مسلكنا فما بالكم توافقون المؤمنين؟ فإما انتم في مذهبهم او لامذهب لكم" فاعتذَروا مجيبين بـ (إنما نحن مستهزؤن) فصرحوا بانهم ليسوا من الاسلام في شئ، وأشاروا

_____________________
1 اى في الآية: (قالوا آمنا) بلا تأكيد.

إشارات الإعجاز - ص: 109
بحصر (انما) الى انهم ليسوا مذبذبين بلا مذهب معلوم، وباسمية (مستهزؤن) الى ان الاستهزاء شأنهم وصفتهم. ففعلهم هذا ليس بالجد.
وأما جملة (الله يستهزئ بهم) فاعلم! انها لم توصل بسوابقها بل فصلت فصلا؛ لأنها لو عطفت فإما على (نما نحن مستهزؤن) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً تأكيداً لـ (انا معكم).. وإما على (قالوا) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقولا لهم.. وإما على (قالوا) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقيدة بوقت الخلوة مع ان استهزاء الله بالدوام.. وإما على (اذا خلوا) وهو يقتضي ان تكون هذه من تتمة صفة تذبذبهم.. وإما على (اذا لقوا) وهو يستلزم ان يكون الغرض منهما واحداًً. مع ان الأول لبيان العمل، والثاني للجزاء، واللوازم باطلة، فالوصل لايصح. فلم يبق الا ان تكون مستأنفة جواباً لسؤال مقدّر. ثم ان في هذا الاستيناف ايماءً ورمزاً الى ان شناعتهم وخباثتهم بلغت درجة تجبر روح كل سامعٍ وراءٍ ان يسأل بـ"كيف جزاء مَن هذا عمله؟".
ثم ان الافتتاح بلفظة (الله) مع ان ذهن السامع كان منتظراً لتلقي مقابلة المؤمنين معهم، اشارة الى تشريف المؤمنين وترحمه عليهم، اذ قد قابل بدلا عنهم.. وأيضاً رمز الى زجرهم؛ اذ لايُستهزأ بمن استناده بعلاّم الغيوب.. وأيضاً ايماء بالاقتطاع وعدم النظر الى تقرر استهزائهم الى ان استهزاءهم كالعدم بالنظر الى جزائه.. ثم ان التعبير عن نكايات الله تعالى معهم بالاستهزاء - الذي لايليق بشأنه تعالى - للمشاكلة في الصحبة، وللرمز الى ان النكاية جزاء للاستهزاء ونتيجة ولازمة له، مع أن المراد لازم الاستهزاء، أعني التحقير.. وأيضاً ايماء الى ان استهزاءهم الذي لا يفيد بل يضر عين استهزاء الله تعالى معهم؛ كمن يظن انه يستهزئ بك مع انك تراه كالمجنون تريد ان يتكلم ولو بشتمك لتضحك منه، فاستهزاؤه بعض استهزائك.
ثم في (يستهزئ) مضارعا مع ان السابق (مستهزؤن) اسم فاعل اشارة الى ان نكايات الله تعالى وتحقيراته تتجدد عليهم ليحسوا بالألم ويتأثروا به؛ اذ ما استمر على نسق يقلّ تأثيره بل قد يعدم. ولذا قيل شرط الاحساس الاختلاف.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس