الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #13
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 120
تَشَكَّى الاْرْضُ غَيْبَتَهُ اِلَيْهِ وَتَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضاب (1)
فهذه الصورة انما تسنبلت على تصوّت الأرض اليابسة بنزول المطر بعد تأخر. ولابد في كل خيال من نواة من الحقيقة نظير هذا المثال، ولابد في زجاجة كل مجاز من سراج الحقيقة، والاّ كانت بلاغته الخيالية خرافة بلا عرق لا تفيد الاّ حيرة.
المسألة الثالثة:
اعلم! ان كمال الكلام وجماله وحُلته البيانية باسلوبه. واسلوبه صورة الحقائق وقالب المعاني المتخذ من قطعات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعات "سيِمُوطُوغْرَاف" (2) خياليّ؛ كإراءة لفظ "الثمرة" جنتها وحديقتها. ولفظ "بارز" معركة الحرب. ثم ان التمثيلات مؤسسة على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، واخطار امور اموراً؛ كإخطار رؤية الهلال في الثريا في ذهن ابناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود (3). وفي التنزيل (حَتى عادَ كالعُرجُون القديم ) (4).
ثم ان فائدة اسلوب التمثيل كما في الآيات المذكورة هي: ان المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروق العميقة، ويوصل المعاني المتفرقة. واذا وضع بيد السامع طرفاً امكنَ له ان يجرّ الباقي الى نفسه، وينتقل اليه بواسطة الاتصال، فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئاً فشيئاً - ولو مع ظلمة - الى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: "الكلام البليغ ما ثقبته الفكرةُ".. ومن الخمّار ما قال فيه: "ما طُبخ في مراجل العلم".. ومن الجمَّال ما قال فيه: "ما اخذتَ بخطامه واَنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى" ينتقل الى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.
ثم ان الحكمة في تشكل الاسلوب هي: ان المتكلم بارادته ينادي ويوقظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاة عراة. فيخرجون ويدخلون الخيال، فيلبسون ما
(1) للمتنبي في ديوانه 1/263.
(2) الكتابة المتحركة، اصلها: سينماطوغراف ثم اختصرت الى سينما.
(3) لعل الاستاذ يقصد قول قيس بن خطيم:
وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى كعنقود ملاحيّه حين نوّرا
او قول ابن المعتز:
وارى الثريا في السماء كأنها قدم تبدت من ثياب حداد
(4) سورة يس: 39.

إشارات الإعجاز - ص: 121
يجدون من الصور الحاضرة بسبب الصنعة أو التوغل أو الألفة أو الأحتياج، ولا أقل من لفِّ منديلٍ من تلك الصنعة برأسه، أو الانصباغ بلون مّا. وما تجده في ديباجة الكتب من براعة الاستهلال من اظهر امثلة هذه المسألة.
ثم ان اسلوب الكلام قد يكون باعتبار خيال المخاطَب كما في أساليب القرآن الكريم فلا تنسَ. ثم ان مراتب الاسلوب متفاوتة فبعضها ارقّ من النسيم اذا سرى يرمز اليه بهيئات الكلام. وبعضها اخفى من دسائس الحرب لايشمه الاّ ذو دهاء في الحرب؛ كاستشمام الزمخشري(1) من (مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(2) اسلوب "مَن يبرز الى الميدان". وان شئت فتأمل في الآيات المذكورة تر فيها مصداق هذه المسائل بألطف وجه. وان شئت زُرِ الامامَ البوصيريَّ(3) وانظر كيف كتب "رَجَتَتَهُ"(4) باسلوب الحكيم في قوله:
وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزِمْ حِمْيَةَ النَّدَم
ورمز الى الاسلوب بلفظ الحمية. او استمع هدهد سليمان كيف أومأ الى هندسته(5) بقوله: (الاّ يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِج الْخَبْءَ في السَّموَاتِ والارضِ)(6) .
المسألة الرابعة:
اعلم! ان الكلام انما يكون ذا قوّة وقدرة اذا كان اجزاؤه مصداقا لما قيل:
عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ اِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشير
(1) هو ابو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى جار الله. ولد بزمخشر سنة 467هـ، توفي بعد رجوعه من مكة المكرمة سنة 538هـ. إمام عصره في اللغة والتفسير، له "الكشاف عن حقائق التنزيل " و "الفائق في غريب الحديث " و "المفصل في النحو " و "اساس البلاغة " وغيرها.
(2) سورة يس: 78.
(3) (608 - 698هـ) محمد بن سعيد بن حماد بن عبدالله البوصيري المصري. شاعر، حسن الديباجة، مليح المعاني، له ديوان شعر مطبوع، واشهر شعره البردة المشهورة بـ "بردة المديح " (كشف الظنون 1/288 الاعلام 6/139).
(4) وصفة طبية.
(5) ومعرفته الماء تحت الارض (الكشاف).
(6) سورة النمل: 25.
إشارات الإعجاز - ص: 122
بان تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته، ويأخذ كلٌ بيد الآخر ويظاهره، ويمد كلٌ بقَدَرِه الغرضَ الكليِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرض المشترك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة، فيتولد من هذه المجاوبة المعاونةَ، ومنها الانتظام، ومنه التناسب، ومنه الحسن والجمال الذاتي. وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لا سيما في (الـم _ ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) كما سمعتَه مع التنظير بقوله: (ولئن مسَّتهم نفحةٌ من عذاب ربك)(1) .
المسألة الخامسة:
اعلم! ان غناء الكلام وثروته ووسعته هو انه كما أن أصل الكلام يفيد أصل المقصد؛ كذلك كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشير وترمز وتلوحالى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام. وان شئت مثالا تأمل في (واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض) الى آخره. و(واذا لقوا الذين آمنوا) الى آخره، على الوجه المفسَّر سابقا.
المسألة السادسة:
اعلم! ان المعاني المجتناة من خريطة الكلام المأخوذة المنقوشة "بفُوطُغْراف" التلفظ على أنواع مختلفة ومراتب متفاوتة. فبعضها كالهواء يُحسّ به ولايُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤْخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولاينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولايتعين.. وبعضها كالدّرّ المنتظم والذهب المضروب يتشخص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلب الهوائي. وقد تعتور على المعنى الواحد الحالات الثلاث. ألا ترى انه اذا أثر أمر خارجي في وجدانك يتهيج قلبُك؟ فيثير الحسيات فيتطاير معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصل بعضها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسم، ثم ينعقد من ذلك القسم بعض. ففي كل من هذه الطبقات يتوضع وينعقد البعض، ويبقى البعض الآخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل الحروف، والتبن عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ ان يفيد بصريح الكلام ما تعلق به الغرضُ واقتضاه المقام، وطلبه المخاطب. ثم يحيل الطبقات الأُخر - بمقدار نسبة درجة القرب من الغرض - على دلالة القيود، واشارة الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستتبعات
(1) سورة الانبياء: 46.
إشارات الإعجاز - ص: 123
التراكيب، وتلميح الأساليب، وإيماء أطوار المتكلم. ثم ان من تلك المعاني المعلقة معاني حرفية هوائية ليس لها ألفاظ مخصوصة، ولا لها وطن معين بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشربه كلام وقد يتداخل في قصة، فان عصرتَ تقطَّر. كالتحسر في (اِنِي وَضَعْتُها اُنْثى)(1) والتأسف في (لَيْتَ الشَّبَابَ.. الخ). والاشتياق والتمدح والخطاب والاشارة والتألم والتحير والتعجب والتفاخر وغير ذلك. ثم ان شرط حسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيم العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الاساسيّ. وان شئت مثالاً لهذه المسألة فمن رأس السورة الى هنا مثال بيّن على الوجه المشروح سابقاً.
المسألة السابعة:
اعلم! ان الخيال المندمج في اسلوب لابد ان يتسنبل على نواة حقيقة، ويكون كالمرآة في ان ينعكس به - في المعنويات - القوانينُ والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات.
وفلسفة النحو التي هي المناسبات المذكورة في كتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال: الرفع للفاعل لأن القوي يأخذ القوي. وقس عليه..
المسألة الثامنة:
اعلم! ان سيبويه(2) نصّ على ان الحروف التي تعدد معانيها كـ "من" و "الى" و"الباء" وغيرها، أصل المعنى فيها واحد لايزول؛ لكن باعتبار المقام والغرض قد يتشرب معنى معلقاً، ويجذبه الى جوفه، فيصير المعنى الأصلي صورة واسلوباً لمسافره. وكذلك ان العارف بفقه اللغة اذا تأمل عَرف ان اللفظ المشترك في الأغلب معناه واحد، ثم بالمناسبات وقع تشبيهات.. ثم منها مجازات.. ثم منها حقائق عرفية.. ثم يتعدد. حتى ان اسم "العين" التى معناه الواحد البصر أو المنهل، يطلق على الشمس أيضاً(3) بالرمز الى ان العالم العلويَّ ينظر الى العالم السفليِّ بها، او ان ماء الحياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المشرف وقس!..
(1) سورة آل عمران: 36.
(2) هو عمر بن عثمان، امام نحاة البصرة، ولد بالبيضاء من مدن شيراز نشأ بالبصرة ودرس النحو على الخليل الفراهيدى، ورد بغداد فناظر امام نحاة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره عليه، فأسف وعاد الى موطنه، وألف كتابه الذى يعدّ اصل النحو، توفي سنة 796هـ.
(3) والعين: عين الشمس، وعين الشمس: شعاعها الذى لا تثبت عليه العين. وقيل: العين الشمس نفسها، يقال: طلعت العين، وغابت العين. (لسان العرب لابن منظور).
إشارات الإعجاز - ص: 124
المسألة التاسعة:
اعلم! ان أعلى مراتب البلاغة الذي يُعجِز الارادةَ الجزئية والفكر الشخصيّ والتصور البسيط: هو ان يحافظ ويراعي وينظر المتكلم دفعةً نسب قيود الكلام وروابط الكلمات وموازنة الجمل التي يُظهِر كلٌ مع الآخر نقشاً متسلسلاً الى النقش الأعظم. حتى كأن المتكلم استخدم عقولا الى عقله كالباني لقصر يضع الأحجار المتلونة بوضعية تحصل بها نقوشٌ غريبة من مناظرة وموازاة الكل مع الكل كـ"العين"(1) في الخط المشترك بين "الخلفاء الراشدين". ومن اظهر مسائل هذه المسألة قوله تعالى: (الـم _ ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) على ما سمعت سابقا..
وأيضاً من أسباب علوّ الكلام أن يكون كشجرة النسب يتسلسل متناسلا الى المقاصد التي تتدلى على المقام والغرض.. وأيضاً من أسباب رفعة طبقة الكلام أن يكون مستعداً لاستنباط كثير من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السلام.
المسألة العاشرة:
اعلم! ان سلاسة الكلام المنتجة للطافته وحُلْوه هو ان تكون المعاني والحسيات المندمجة فيه ممتزجة تتحد أو مختلفة تنتظم؛ لئلا تتشرب الجوانب قوّة الافادة والغرض، بل يجذب المركزُ القوّةَ من الأطراف.. وأيضاً من السلاسة ان يتعين المقصد.. وأيضاً منه ان يتظاهر ملتقى الأغراض.
المسألة الحادية عشرة:
اعلم! ان سلامة الكلام التي هي سبب صحته وقوّته هي: ان يكون الكلام بحيث يشير الى المبادئ والدلائل، ويرمز الى اللوازم والتوابع، وبقيود الموضوع والمحمول وكيفياتهما يومئ الى رد الاوهام ودفع الشبهات؛ كأن كل قيد جواب لسؤال مقدّر. وان شئت مثالا فعليك بفاتحة الكتاب.

(1) من المعلوم ان اسماء الخلفاء الراشدين الاربعة تبدأ بحرف "العين" وقد استلهم بعض الخطاطين نقشاً بديعاً استعمل فيه حرف "العين" مشتركاً بين اسمائهم.
إشارات الإعجاز - ص: 125
المسألة الثانية عشرة:
اعلم! ان الأساليب على ثلاثة أنواع:
أحدها:
الاسلوب المجرد، الذي لونه واحد، وخاصته الاختصار والسليقية والسلامة والاستقامة فهو أملس سوي، ومحل استعماله المعاملات والمحاورات والعلوم الآلية. وان شئت مثالا سلساً منه فعليك بكتب السيّد الجرجاني.
والثاني:
الاسلوب المزين، وخاصته التزيين والتنوير، وتهييج القلب بالتشويق أو التنفير. والمقام المناسب له الخطابيات كالمدح والذم وغيرهما والاقناعيات ونظائرهما. واذا تحرّيت المثال المزيّن فادخل في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة ترَ فيهما جناناً مزينة.
والثالث:
الاسلوب العالي، وخاصته الشدة والقوّة والهيبة والعلوية الروحانية. ومقامه المناسب الإلهيات والأصول والحكمة. وإن شئت مثلا بيناً وتمثالاً معجِزاً فعليك بـ "القرآن" فان فيه ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بليغ..
(انتهى الفصل بتلخيص).
***
إشارات الإعجاز - ص: 126
ثم اعلم! ان مدار النظر في آيتنا هذه، وهي (مثلهم كمثل الذي استوقد) الخ..:
أوّلاً: نظمها بسابقها.. وثانياً: النظم بين جملها.. وثالثاً: نظم كيفية جملة جملة؛ فمع استحضار مامضى:
اعلم! ان القرآن الكريم لما صرّح بحقيقة حال المنافقين ونص على جنايتهم عقّبها بالتمثيل لثلاث نكت:-
إحداها: تأنيس الخيال الذي هو أطوع للمتخيلات من المعقولات، وتأمين اطاعة الوهم الذي شأنه التشكيكات ومعارضة العقل وانقياده باظهار الوحشي بصورة المأنوس، وتصوير الغائب بصورة الشاهد.
والثانية: تهييج الوجدان وتحريك نفرته ليتفق الحسُ والفكر بتمثيل المعقول بالمحسوس.
والثالثة: ربط المعاني المتفرقة واراءة رابطة حقيقية بينها بواسطة التمثيل.. وأيضا الوضع نصب عين الخيال ليجتني بالنظر الدقائقَ التي أهملها اللسان.
واعلم! ان مآل جمل هذه الآية كما يناسب مآل مجموع قصة المنافقين؛ كذلك يناسب آيةً آيةً منها. ألا ترى ان مآل القصة انهم آمنوا صورةً للمنافع الدنيوية.. ثم تبطنوا الكفر.. ثم تحيروا وترددوا.. ثم لم يتحرّوا الحق.. ثم لم يستطيعوا الرجوع فيعرفوا. وما أنسب هذا بحال من أوقدوا لهم ناراً أو مصباحاً.. ثم لم يحافظوا عليها.. ثم انطفأتْ.. ثم اُظلموا.. ثم لايتراءى لهم شئ حتى يكون كل شئ معدوماً في حقهم!. فلسكون الليل كأنهم صمّ، ولتعامي الليل وانطفاء أنواره كأنهم عُميٌ، ولعدم وجود المخاطَب والمغيث لايستغيثون كأنهم بُكم، ولعدم استطاعة الرجوع كأنهم أشباح جامدة لا أرواح لها.
ثم ان في المشبَّه به نقطاً أساسية تناظر النقط الأساسية في المشبه. مثلا: الظلمة تنظر الى الكفر، والحيرة الى التذبذب، والنار الى الفتنة. وقس!..
إشارات الإعجاز - ص: 127
ان قلت: ان في التمثيل نوراً فأين نور المنافق حتى يتم تطبيق التمثيل؟.
قيل لك: ان لم يكن في الشخص نور ففي محيطه يمكن له الاستنارة.. وان لم، ففي قومه يمكن الاستضاءة.. وان لم، ففي نوعه يمكن له الاستفادة.. وان لم، ففي فطرته كان يمكن له الاستفاضة كما مر.. وان لم تقنع، ففي لسانه بالنظر الى نظر غيره أو بالنظر الى نفسه لترتب المنافع الدنيوية.. وان لم، فباعتبار البعض من الذين آمنوا ثم ارتدوا.. وان لم، فيجوز ان يكون النور اشارة الى ما استفادوا كما ان النار اشارة الى الفتنة.. وان لم ترض بهذا أيضاً، فبتنزيل امكان الهداية منزلة وجودها كما أشار اليه اشتروا الضلالة بالهدى فانه هو الجار الجنب للتمثيل.
أما وجه النظم بين الجمل: فاعلم! ان نظم جملة (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) مناسبتُها للموقع.
نعم، حال هذا المستوقد على هذه الصورة تطابق مقتضى حال الصفّ الأول من مخاطبي القرآن الكريم وهم ساكنو جزيرة العرب؛ اذ ما منهم الا وقد عرف هذه الحالة بالذات أو بالتسامع ويحس (1) بدرجة تأثيرها ومشوشيتها؛ اذ بسبب ظلم الشمس يلتجئون الى ظلمة الليل فيسيرون فيها. وكثيراً مايغمى عليهم السماء فيصادفون حزن الطرق وقد ينجر بهم الطريق الى الورطة.. وأيضاً قد يجولون في معاطف الكهوف المشحونة بالمؤذيات فيضلون الطريق فيحتاجون لإيقاد النار أو اشتعال المصباح ليبصروا رفقاءهم حتى يستأنسوا ويروا أهبتهم وأشياءهم كي يحافظوا عليها، ويعرفوا طريقهم ليذهبوا فيها ويتراءى لهم الضواري والمهالك ليجتنبوا. فبينما هم استضاؤا بنورهم اذ اختطفتهم آفة سماوية.. وبينما هم في ذروة كمال الرجاء وآن الظفر بالمطلوب اذ سقطوا في حضيض اليأس المطلق. فنص على هذا الحال بقوله:
(فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم). اعلم! ان هذه "الفاء" تشير الى انهم أوقدوا النار ليستضيؤا فاضاءت فاطمأنوا بالاستضاءة فتعقبهم الخيبة وسقطوا في أيديهم. وما أشد تأثير العدم عليهم في آن انتظار الحصول!. ثم ان هذه الشرطية تستلزم استلزام الاضاءة لذهاب النور. وخفاء هذا الاستلزام يشير الى تقدير ما يظهر
(1) وأحسّ (ش)
إشارات الإعجاز - ص: 128
به اللزوم هكذا: فلما اضاءت استضاؤا بها فاشتغلوا.. فلم يحافظوا.. فلم يهتموا بها، ولم يعرفوا قدر النعمة فيها.. فلم يمدوها.. فلم يديموها؛ فانطفأت. لأنه لما كانت الغفلة عن الوسيلة للاشتغال بالنتيجة - بسر (اِنَّ الاِْنْسَانَ لَيَطْغَى _ اَن رَآهُ اِسْتَغْنَى)(1) - سبباً لعدم الإدامة المستلزم للانطفاء كان كأن نفسَ الاضاءة سبب لذهاب النور.
أما جملة (وتركهم في ظلمات) فبعدما أشار الى خسرانهم بذهاب النعم بزوال النور عقبه بخذلانهم بنزول النقم بالسقوط في الظلمات.
أما جملة (لا يبصرون) فاعلم! ان الانسان اذا اظلم عليه وأضل السبيل فقد يسكن ويتسلى برؤية رفقائه ومرافقه، واذا لم يبصرهما كان السكون مصيبة عليه كالحركة بل أوحش.
أما (صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون) فاعلم! ان الانسان اذا وقع في مثل هذا البلاء قد يتسلى ويأمل ويرجو النجاة من جهات أربع مترتبة:
فأولاً: يرجو أن يسمع تناجي الخلق من القرى أو أبناء السبيل؛ إن يستمِدْ يَمدّوه. ولما كانت الليلة ساكنة بكماءَ استوى هو والأصم، فقال: "صُم" لقطع هذا الرجاء.
وثانياً: يأمل انه إن نادى أو استغاث يُحتمل أن يسمع أحدٌ فيغيثه، ولما كانت الليلة صماء كان ذو اللسان والأبكم سواء فقال: "بُكم" لإلقامهم الحجر بقطع هذا الرجاء أيضاً.
وثالثاً: يأمل الخلاص برؤية علامة أو نار او نيّرٍ تشير له الى هدف المقصد. ولما كانت الليلة طامية رمداء عبوسة عمياء كان ذو البصر والأعمى واحداً فقال: "عُميٌ" لإِطفاء هذا الأمل أيضاً.
ورابعاً: لايبقى له الاّ ان يجهد في الرجوع، ولما أحاط به الظلمة كان كمن دخل في وحْلٍ باختياره وامتنع عليه الخروج. نعم، كم من أمرٍ تذهب اليه باختيار ثم يُسلَب عنك الاختيار في الرجوع عنه تخلّيه انت ولا يخليك هو، فقال تعالى: فهم
(1) سورة العلق: 6،7
إشارات الإعجاز - ص: 129
(لا يرجعون) لسد هذا الباب عليهم وقطع آخر الحبل الذي يتمسكون به، فسقطوا في ظلمات اليأس والتوحش والسكونة والخوف.
أما الجهة الثالثة، أعني :
نظم قيودات جملة جملة، فانظر الى (مثلهم كمثل الذيِ استوقد ناراً) كيف تتطاير شرارات النكت من قيوداتها.
أما لفظ "المثل" فاشارة الى غرابة حال المنافقين وان قصتهم اعجوبة؛ اذ المَثَل هو الذي يجول على الألسنة ويتناقله الناس لتضمنه لغرابة؛ اذ أخصّ صفاته الغرابة. ثم لاندماج قاعدة أساسية في الأمثال يقال لها: "حكمة العوام" و "فلسفة العموم". فالمراد بالمثل هنا صفتهم الغريبة وقصتهم العجيبة وحالهم الشنيعة. ففي التعبير بالمَثَل مجازاً اشارة الى الغرابة، وفي الاشارة رمز الى ان من شأن صفتهم أن تدور على لسان النفرة والتلعين كضرب المثل.
وأما "الكاف":
فإن قلت: إن حُذف كان تشبيهاً بليغاً فهو أبلغ؟
قيل لك: الأبلغ في هذا المقام ذكره، اذ التصريح به يوقظ الذهن بان ينظر الى المثال تبعياً فينتقل عن كل نقطة مهمة منه الى نظيرها من المشبه. والا فقد يتوغل فيه قصداً فتفوت منه دقائق التطبيق.
وأما "المَثَل" الثاني فاشارة الى ان حال المستوقد بغرابته ووجوده في حس العموم كان في حكم ضرب المثل.
وأما "الذي":
فان قلت: كيف افردَ مع انهم جماعة؟
قيل لك: اذا تساوى الجزء والكل والفرد والجماعة ولم يؤثر الاشتراك في صفة الفرد زيادة ونقصانا جاز الوجهان مثل (كمثل الحمار) ففي افراده اشارة الى استقلال كل فرد في تمثل الدهشة وتصوير شناعتهم، أوكان "الذي" "الذين" فاختُصر.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس