الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #14
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 130
وأما (استوقد) فسينُه اشارة الى التكلف والتحري. وفي افراده مع جمع الضمير في "نورهم" رمز لطيف الى أن فرداً يوقدُ لجماعةٍ. ولقد ألطف في الإفراد إيقاداً والجمع استنارة.
وأما (ناراً) بدل "المصباح" أو غيره فاشارة الى المشقة في نور التكليف، ورمز الى انهم يوقدون تحت النور الظاهري نارَ فتنة. وأما تنكيره فايماء الى شدة احتياجهم حتى انهم يرضون بأية نار كانت.
ثم اَجِلِ النظرَ فيما حول جملة (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) لترى كيف تضئ قيوداتُها على ظلمات الدهشة التي هي الغرض الأساسي. ولقد سمعت في المسألة الرابعة ان قوة الكلام بتجاوب القيود:
أما "الفاء" فإيماء الى ان هجوم اليأس المطلق تعقب كمال الرجاء.
وأما (لما) فلتضمنه قياساً استثنائياً مستقيماً مع دلالته على تحقق المقدم ينتج تحقق التالي وقطع التسلي.
وأما (أضاءت) فاشارة الى ان الايقاد للاستنارة لا للاصطلاء. وفيه رمز الى شدة الدهشة اذ ما أفاد لهم الاضاءة إلا رؤية المهالك والعلم بوجودها. ولولاها لأمكن مغالطة النفس وتسكينها.
وأما (ما حوله) فاشارة الى احاطة الدهشة من الجهات الأربع، والى لزوم التحفظ بالاضاءة عن هجوم الضرر عن الجهات الست.
وأما (ذهب) فلأنه جزاء الشرط، لا بد ان يكون لازماً. ولخفاء اللزوم - كما مر - يرمز الى انهم لم يتعهدوها ولم يعرفوا قَدْرَ النعمة فيها فبنفس الاضاءة اُخذوا عن أنفسهم وأنساهم البطر والفرح تعهّدها فأخذها الله عنهم..
وأما اسناد "ذهب" الى (الله) فاشارة الى قطع رجاءين: رجاء التعمير ورجاء الرحمة؛ لأنه يشير الى ان الآفة سماوية لاتقبل التعمير، ويرمز الى انه جزاءٌ لقصور المرء، ولهذا يأخذه الله تعالى. فينقطع المتمسك به عند انقطاع الأسباب وهو أمل الرحمة، اذ لايستعان من الحق على ابطال الحق.
إشارات الإعجاز - ص: 131
وأما "الباء" فاشارة الى اليأس عن العَود؛ اذ لا راد لما أخذه الله للفرق البيّن بين ذهب به أي استصحبه، وبين اذهبه أي ارسله، وذهب أي انطلق؛ لإمكان العود في الآخِرَين دون الأول.
وأما "النور" ففيه ايماء لطيف الى تذكر حالهم على الصراط.
وأما الاضافة في (هم) المفيدة للاختصاص فاشارة الى شدة تأثرهم؛ اذ مَن انطفأت نارُه فقط مع ان نار الناس تلتهب أشد تألما.
ولله درّ التنزيل ما ألطفه في فنون البلاغة! ألم تر كيف توجهت هيئاتها الى الغرض الكليّ، أعني الدهشة مع اليأس، كالحوض في ملتقى الأودية؟.
ثم امعن النظر في (وتركهم في ظلمات لايبصرون):
أما "الواو" فاشارة الى انهم جمعوا بين الخسارتين؛ سُلبوا ضياءً وأُلبسوا ظلمةً.
أما "تَرَك" بدل "أبقى" أو غيره فاشارة الى انهم صاروا كجسد بلا روح وقشر بلا لبّ. فمن شأنهم ان يُتركوا سدى ويُلقوا ظهريا.
وأما (في) فرمز الى انه انعدم في نظرهم كل شئ ولم يبق الاّ عنوان العدم وهو الظلمة فصارت ظرفاً وقبراً لهم.
وأما جمع (ظلمات) فايماء الى ان سَواد الليل وظلمة السحاب أولَدتا في روحهم ظلمة اليأس والخوف، وفي مكانهم ظلمة التوحش والدهشة، وفي زمانهم ظلمة السكون والسكوت، فأحاطت بهم ظلمات متنوعة.. وأما تنكيرها فايماء الى انها مجهولة لهم لم يسبق لهم الُفْة بمثلها فتكون أشد وقعا.
وأما (لايبصرون) فتنصيص على اساس المصائب، اذ مَن لم ير كان ارأى للبلايا، وبفقد البصر يبصر أخفى المصائب. وأما المضارعية فلتصوير وتمثيل حالهم نصب عين الخيال ليرى السامع دهشتهم فيتحسس بوجدانه أيضاً.
وأما ترك المفعول فللتعميم، أي لايرون منافعهم ليحافظوها، ولا يبصرون المهالك كي يجتنبوا عنها. ولا يتراءى الرفقاء ليستأنسوا بهم، فكأن كل واحد فرد برأسه.
إشارات الإعجاز - ص: 132
ثم انظر الى جمل (صم بكم عمي فهم لايرجعون) لتسمع ما تتناجى به؛ اذ هذه الأربعة حدٌّ مشترك بين الممثل والممثل به، وبرزخ بينهما ومتوجهة اليهما؛ تتكلم عن حال الطرفين. ومرآة لهما تريك شأنهما. ونتيجة لهما تسمعك قصتهما.
أما الجهة الناظرة الى الممثل به:
فاعلم! ان من سقط في مثل هذه المصيبة يبقى له رجاء النجاة باستماع نجوى منجٍ، فاستلزمت ابكمية الليلة اصميته.. ثم اسماع مغيث فاقتضت اصمية الليل ابكميته.. ثم الهدى برؤية نار أو نيّر فانتج تعامي الليل عميه.. ثم العود الى بدءٍ فانسد عليه الباب كمن سقط في وحل كلما تحرك انغمس..
وأما الجهة الناظرة الى الممثل:
فاعلم! انهم لما وقعوا في ظلمات الكفر والنفاق امكن لهم النجاة عن تلك الظلمات بطرق أربعة مترتبة:
فاوّلاً:
كان عليهم ان يرفعوا رؤسهم ويستمعوا الى الحق ويصغوا الى ارشاد القرآن، لكن لما صارت غلغلة (1) الهوى مانعة لأن يخلُص صدى القرآن الى صماخهم، وأخذ التهوس بآذانهم جاراً لهم عن تلك الطريق، نعى عليهم القرآن بقوله: (صم) اشارة الى انسداد هذا الباب ورمزاً الى ان آذانهم كأنها قطعت وبقيت ثقبات مشوهة أو قطعات متدلية في جوانب رؤسهم.
وثانياً:
لابد لهم ان يخفضوا رؤسهم ويشاوروا وجدانهم فيسألوا عن الحق والصراط، لكن لما اخذ العناد على يد لسانهم وجره الحقد من خلف الى الجوف، ألقمهم القرآن الحجر بقوله: (بكم) اشارةً الى انسداد هذا الباب أيضا في وجوههم ورمزاً الى انهم بالسكوت عن الاقرار بالحق كانوا كمن قلع لسانه فبقي الفم ككهف خلا عن ساكنه مشوهاً للوجه.
(1) في الشئ: دخل فيه على تعب وشدة.
إشارات الإعجاز - ص: 133
وثالثاً:
لزمهم ان يُرسلوا انظار العبرة لتجتني لهم الدلائل الآفاقية، لكن وضعَ التغافلُ يدَه على عيونهم وردّ - وطرد - التعامي الأنظار الى أجفانهم. فقال القرآن: (عميٌ) اشارة الى انهم عمهوا (1) عن هذا الطريق أيضاً. ورمزَ بحذف أداة التشبيه الى ان عيونهم التي هي أنوار الرأس كأنها قلعت فبقيت نُقرات مشوّهة في جباههم.
ورابعاً:
لابد من ان يعرفوا قبح حالهم القبيح ليتنفروا فيندموا فيتوبوا فيرجعوا. لكن لما زيّنت لهم أنفسُهم - لأجل فساد الفطرة بالاصرار وغلبة الهوى والشيطان - تلك القبائحَ، قال القرآن: (فهم لايرجعون) اشارة الى انسداد آخر الطرق عنهم، ورمزاً الى انهم وقعوا باختيارهم فيما لا اختيار لهم في الخروج كالمضطرب في بحر الرمل.
***
(1) تحيروا في طريقهم او امرهم.
إشارات الإعجاز - ص: 134
اَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ
فِي اذانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَالله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين َ 19 يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّما اَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَاِذَا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20
اعلم! ان مدار النظر في هذه الآية ايضا من ثلاثة وجوه، نظمها بسابقتها، والنظم بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملة جملة. مثلها في الارتباط كمثل الامْيال العادّة للساعات والدقائق والثواني.
أما وجه النظم بينها وبين سابقتها فهو: انه كرر التمثيل واطنب في التصوير اشارةً الى احتياج تصوير حال المنافقين في دهشتهم وحيرتهم الى نوعين منه، إذ:
خلاصة التمثيل الأول هي:
ان المنافق يرى نفسَه في صحراء الوجود منفردةً عن الأصحاب مطرودةً عن جمعية الكائنات خارجةً عن حكم شمس الحقيقة. يصير كلُ شئ في نظره معدوماً ويرى المخلوقات اجنبية كلها، ساكنة وساكتة استولى عليها الوحشة والخمود. وأين هذا من حال المؤمن الذي يرى بنور الايمان كل الموجودات احبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟.
وخلاصة التمثيل الثاني هي:
ان المنافق يظن ان العالَم بأجزائه ينعي عليه بمصائبه ويهدده ببلاياه ويصيح عليه بحادثاته ويحيط به بنوازله كأن الأنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافع ضاراً. وما هذه الحالة الا لعدم نقطتي الاستمداد والاستناد كما مر. واين هذا من حال المؤمن الذي يسمع بالايمان تسبيحات الكائنات وتبشيراتها؟..
وأيضاً تكرار التمثيل ايماء الى انقسام المنافقين الى الطبقة السفلية العامية المناسبة للتمثيل الاول والى الطبقة المتكبرة المغرورة الموافقة للتمثيل الثاني.
إشارات الإعجاز - ص: 135
وأما مناسبة هذا التمثيل لمقامه بالنظر الى السامع فهي: ان الصف الأول من مخاطبي القرآن ابناء الفيافي يفترشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء. وما منهم الا وقد رأى بنفسه أو سمع من أبناء جنسه مثل هذه الحادثة حتى استأنس بها حسُّ العموم؛ بحيث تؤثّر فيه كضرب المثل.
وأما مناسبته للتمثيل الأول فأظهر من ان يخفى، اذ هو كالتكملة والتتمة له مع الاتحاد في كثير من النقط.
وأما مناسبة التمثيل للممثل له فبخمسة وجوه:
منها: وقوعهما كليهما في شدة الحيرة بانسداد كل طرق النجاة عليهم، وبان ضلت جميعُ أسباب الخلاص عنهم.
ومنها: وقوعهما في شدة الخوف حتى يتخيل كل من المشبه والمشبه به، ان الموجودات اتفقت على عداوته ولا يأمن من بقائه في كل دقيقة.
ومنها: وقوعهما في شدة الدهشة المنتجة لاختبال العقل حتى ان كلاً منهما يتبلّه. كمثل من يرى برق السيوف فيتحفظ بغمض بصره أو يسمع تقتقة البنادق فيتجنب عن الجرح بسد سمعه. أو كمثل من لا يحب غروب الشمس فيمسك دولاب ساعته لئلا يدور جرخ الفلك الدوّار، فما أخبلهم!.. اذ الصاعقةُ لا تنثني بسد الاسماع، والبرقُ المحرق لايترحم عليهم بغضِّ الأبصار. ومن هنا يُرى ان لم يبق لهم ممسك.
ومنها: ان الشمس والمطر والضياء والماء كما إنها منابع حياة الأزاهير وتربية النباتات، وسبب تعفن الميتات ونتن القاذورات؛ كذلك ان الرحمة والنعمة اذا لم تصادفا موقعَهما المنتظر لهما والعارف بقيمتهما، تنقلبان زحمة ونقمة.
ومنها: انه كما يوجد التناسب بين المآلين الذي هو الأصل في انعقاد الاستعارة التمثيلية بلا نظر الى تطبيق الأجزاء؛ كذلك يوجد مناسبات هنا بين أجزائهما؛ اذ الصيِّب حياة النباتات كما ان الاسلامية حياة الأرواح، والبرق والرعد يشيران الى الوعد والوعيد، والظلمات تريك شبهات الكفر وشكوك النفاق.
إشارات الإعجاز - ص: 136
وأما وجه النظم بين الجمل:
فاعلم! ان التنزيل لما قال (أو كصيب من السماء) مشيراً الى انهم كالذين اضطروا الى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد،كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهن السامع منتظراً لبيان السبب في ان صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمة مرغوبة مصيبةً هائلة فقال مصوراً لدهشته: (فيه ظلمات) مشيراً الى ان المطر كما هو ظرف لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومه وكثرته واحاطته كأنه ظرف للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع (فيه ظلمات) الا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: (ورعد) مشيراً الى تهويل الحال وتشديدها بان السماء أميرة الموجودات عزمت على اهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ اذ المصاب المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على اضراره حركة مزعجة تحت سكونها، ونطقاً مهيباً تحت سكوتها. فاذا سمع الرعد توهَّم انها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ اذ بالخوف يحسب كل صيحة عليه.. ثم ان السامع لايسمع الرعد الاّ ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: (وبرق) مشيراً بالتنكير الى انه غريب عجيب. نعم! هو في نفسه عجيب؛ اذ بتولده يموت عالمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى الى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالم من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث ملء الدنيا دخاناً. ومن شأن المصاب بها ان يمعن النظر ولا يمر بنظر سطحي بناء على الالفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صنع القدرة.. ثم بعد هذا التصوير كأن ذهن السامع يتحرك سائلا: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟ فقال: (يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت) مشيراً الى ان لامناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى انهم كالغريق يتمسكون بما لايُتَمَسك به. فمن التدهش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيدخلون الأصابع من الوجع في الآذان ومن التبله انهم يسدون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلا: أعمّت المصيبة أم خصّت فيُرجى؟ فقال: (والله محيط بالكافرين) مشيراً الى ان هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الالهي المودع في الجمهور. ثم لما سمع شدة الرعد يحدّث نفسه بـ "ألا يفيدهم البرق بأراءة الطريق"؟ فقال:
إشارات الإعجاز - ص: 137
(يكاد البرق يخطف أبصارهم) مشيراً الى انه كما ان الرعد يعاديهم فلا يستطيعون السمع؛ كذلك البرق يخاصمهم باضاءته فيظلم أبصارهم.. ثم بعد سماع تجاوب الكائنات على عداوتهم ينادي ذهن السامع بـ "فما مصير حالهم وما يفعلون؟ وبمه يشتغلون؟" فقال: (كلما أضاء لهم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا) مشيراً الى انهم مشوشون مترددون متحيرون مترقبون لأدنى فرصة ولأدنى رؤية للطريق. فكلما تراءت لهم يتحركون لكن كحركة المذبوح لاضطراب أرواحهم، ويتخطون خطى يسيرة مع علمهم بان لافائدة، وكلما غشيتهم الظلمة فجأة ينجمدون في مقامهم.. ثم يستعد ذهنُ السامع للاستفسار بـ "لِمَ لايموتون أو يعمون أو يصمون بالمرّة فيخلصون عن الاضطراب؟" فقال: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) أي ليسوا مستحقين للخلاص من الاضطراب ولهذا لاتتعلق المشيئة باماتتهم ولو تعلقت لتعلقت بذهاب سمعهم وبصرهم. ولكن بقاء السمع لاستماع العقاب ووجود البصر لرؤية العذاب أجدر بمن شذ ونشز عن قانونه تعالى..
ثم ان هذه القصة لما احتوت على نقاط يتلوح من معاطفها استطراداً: العظمة والقدرة الالهية وتصرفه تعالى في الكائنات، ولا سيما يتذكر السامع تبعا في تلافيفها عجائب الرعد والبرق والسحاب، كان من حق السامع المتيقظ وجدانُه ان يعلن ويقول: سبحانه ما أعظم قدرةَ مَنْ هذه الكائنات تجلِّي هيبته وهذه المصيبات تجلِّي غضبه. فقال: (ان الله على كل شيء قدير).
وأما نظم هيئات جملة جملة:
فاعلم! ان "أو" في (او كصيب) اشارة الى انقسام حال الممثل الى قسمين، ورمز الى تحقيق المناسبة بين التمثيلين وبينهما وبين الممثل له وايماء الى مسلّمية المشابهة.. وأيضا متضمن لـ "بل" الترقية؛ اذ التمثيل الثاني اشدّ هَوْلاً. وان "كصيب" لعدم مطابقته للمثل يقتضي تقدير لازم، والسكوت عن اظهار المقدر للايجاز، والايجاز في اللفظ لاطناب المعنى باحالته على خيال السامع بالاستمداد من المقام. فبعدم المطابقة كأنه يقول: أو كالذين سافروا في صحراء خالية وليلة مظلمة فاصابتهم مصائب بصيب. وان العدول عن لفظ المطر المأنوس المألوف الى الصيب رمز الى أن قطرات ذلك المطر كمصائب ترمى اليهم بقصد فتصيبهم مع فقد الساتر عليهم.
إشارات الإعجاز - ص: 138
وان ذكر (من السماء )مع بداهة ان المطر لا يجئ الاّ من جهتها ايماء بالتخصيص الى التعميم وبالتقييد الى الاطلاق نظير التقييد في (ومَا مِنْ دابّةٍ في الأرضِ ولا طائر يطير بجناحيه)(1) أي مطبق آخذ بآفاق السماء. وما استدل بعض المفسرين بلفظ من السماء هنا وفي آية (ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ فيها مِن بَرَدٍ)(2) على نزول المطر من جرم السماء حتى تخيل "بعض" وجود بحر تحت السماء، فنظرُ البلاغة لايرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء. والتقييد لما عرفت. وقد قيل السماء ما علاك، فالسحاب كالهواء سماء.
وتحقيق المقام: هو انك ان نظرت الى القدرة تتساوى الجهاتُ أي يمكن النزول من أية جهة كانت. وان نظرت الى الحكمة الالهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل فالمطر انما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي احد أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.
وتوضيحه: ان ذراته اذا امرتها الارادة الالهية، يتمثل كلٌ، ويتسللن من الأطراف ومن كل فج عميق. فيتحزَّبن سحاباً هامراً. ثم بارادة آمرها يشتدّ تكاثفُ بعضٍ فتصير قطراتٍ تأخذها بأيديهم الملائكةُ الذين هم ممثلو القوانين ومعكس النظامات لئلا يزاحم ويصادم بعضٌ بعضاً فيضعونها على الأرض. ولأجل محافظة الموازنة في الجوّ لابد من بدلِ ما يتحلل بالتقطر، فيُبخَّر البحر والأرض فيملأ منازلها. وأما تخيل بعضٍ وجود بحر سماويّ فمَحْمله انه تصور المجاز حقيقةً؛ اذ لاراءة خضرة الجوّ لون البحر، ولاحتواء الجو على ماء أكثر من البحر المحيط ما استبعد تشبيهه بالبحر.
أما (وينزّل من السماء من جبال فيها من برد) فاعلم! ان الجمود على الظاهر مع التوقد في استعارتها جمود بارد وخمود ظاهر. اذ كما تضمن (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ)(3) استعارة بديعة؛ كذلك يحتوي (مِنْ جِبَالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ) على استعارة بديعة عجيبة مستملحة. فكما ان ظروف الجنة لم تكن من الزجاجة ولامن الفضة بل في شفافية الزجاج وبياض الفضة ومن حيث ان الزجاجة لاتكون من الفضة لتخالف
(1) سورة الانعام: 38.
(2) سورة النور: 43.
(3) سورة الانسان: 16.
إشارات الإعجاز - ص: 139
النوعين اشار الى الاستعارة بالاضافة بذكر "مِن"، كذلك (من جبال فيها من برد) متضمنة لاستعارتين مؤسستين على خيال شعريّ بالنظر الى السامع. وذلك الخيال مبني على ملاحظة المشابهة والمماثلة بين تمثل العالم العلويّ وتشكل العالم السفليّ. وتلك الملاحظة مبنية على تصور المسابقة والرقابة بين الأرض والجوّ في لبس الصور من يد القدرة كأن الأرض لما برزت بجبالها اللابسة للبيض من حلل الثلج والبَرَد في الشتاء، والمتعممة بها في الربيع. ثم تزينت في الصيف ببساتينها المتلونة فأظهرت في نظر الحكمة بانقلاباتها معجزة القدرة الالهية، قابلَها جوُّ السماء محاكياً لها مسابقاً معها لإظهار معجزة العظمة الالهية فبرز متبرقعاً ومتقمصاً بالسحاب المتقطع جبالا وأطواداً وأودية، والمتلون بألوان مختلفة مصورة لبساتين الأرض، ملوحا ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها. فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استحسن اسلوب العرب تشبيه السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل الى نظر البلاغة ان قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالا صادفت الحشر، أو سفنا يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق. ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها اوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ - كالآلة المعروفة في العسكر - بـ"حَيَّ على الاجتماع والاتحاد!" تسارعوا من منازلهم مهطعين الى داعيهم فيحشرون سحابا. ثم بعد ايفاء الوظيفة وأمرهم بالاستراحة يطير كل الى وكره.. فبناء على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال - إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه - وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبرد وتكيفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس