الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #16
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 150
مقدمة في نكات هذه الآية:
اعلم! ان البرهان إما "لِمّي" وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر. وإما "اِنّيّ" وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وهذا أسلم 1. وهو إما "إمكانيّ بالاستدلال" بتساوي الطرفين على المرجِّح، واما "حدوثيّ بالاستدلال" بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكل منها اما باعتبار ذوات الاشياء أو باعتبار صفاتها.. وكل منها إما باعطاء الوجود أو بادامة البقاء.. وكل منها إما "دليل اختراعيّ" أو "دليل عنايتيّ". وهذه الآية اشارة الى هذه الأنواع، فالملخص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.
أما دليل العناية على اثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: "النظام المندمج في الكائنات"؛ اذ النظام خيط نيط به المصالح والحكم. فجميع الآيات القرآنية التي تعد منافع الأشياء وتذكر حِكَمها انما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهر لتجلِّي هذا البرهان؛ اذ النظام المرعي به المصالح والحكم كما يثبت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البين وهمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.
ياهذا! ان لم يحط نظرك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحكَم، ولاتقتدر على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون - التي هي الحواس لنوعك - الحاصلة من تلاحق الأفكار - الذي هو في حُكم فكر النوع - لترى نظاماً يبهر العقول، وتعلم ان كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لايعقل أكمل منهما؛ اذ كل نوع من الكائنات اما تشكّل فيه فن أو يقبل ان يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكلية القاعدة تدل على حسن النظام؛ اذ ما لانظام له لاتجري فيه الكلية. ألا ترى ان قولنا "كل عالم فهو ذو عمامة بيضاء" انما يصدق كلية، اذا كان في ذلك النوع انتظام. فانتج أن كل فن من الفنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج بالاستقراء التام نظاماً كاملا شاملا، وان كل فن برهان نيّر يشير الى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقات سلاسل الموجودات، ويلوِّح الى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فترفع الفنونُ اعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته،كأن كل فن نجم ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

_____________________
1 كدلالة النار على الدخان ودلالة الدخان على النار، وهذا اسلم من الشبهات (ت: 96)

إشارات الإعجاز - ص: 151
وان شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو:
ان الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورته الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة ان تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وجدت بنفسها بلا علة لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتي الميزان، ولو وجد الترجح لكان في العدم. فباتفاق العقلاء لابد لها من علة مرجِّحة.. ومن المحال ان تكون العلة أسبابا طبيعية؛ اذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهاية علم وكمال شعور لايمكن تصورهما في تلك الأسباب، التي يخادعون أنفسهم بها. مع انها أسباب بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركها مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا اولوية لبعضها. فكيف تجري في مجرى معين، وتتحرك على محرك محدود، وكيف يترجح بعض وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينة العجيبة المنتظمة التي حيرت العقول في دقائق حكَمها، بل انما تقنع نفسُك وتطمئن بتولدها منها ان اعطيت لكل ذرّة شعور "افلاطون" 1 وحكمة "جالينوس" 2 واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرة عمومية. وما هذه الاّ سفسطة يخجل منها السوفسطائيّ. مع أن أس الأسباب المادية وجود القوة الجاذبة والقوة الدافعة معا في جزء لايتجزأ والجوهر الفرد، وان هذا كاجتماع الضدين.
نعم، قانون الجاذبة والدافعة وأمثالهما اسماء لقوانين عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولة بشرط ان لاتنتقل من القاعدية الى الطبيعية، وان لاتخرج من الذهنية الى الخارجية، وان لاتتحول من الاعتبارية الى الحقيقية، وان لا تترقى من الآلتية الى المؤثرية.
فاذا تفهمت ما في هذا المثال ورأيت عظمته مع صغره ووسعته مع ضيقه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات تر وضوح دليل العناية وظهوره بمقدار درجة وسعة

_____________________
1 427 - 347 ق.م) من مشاهير فلاسفة اليونان، تلميذ سقراط ومعلم ارسطو. من مؤلفاته (الجمهورية) و(المحاورات).
2 (130 - 200م) طبيب وكاتب يوناني، ولد في برجامون وعمل جراحاً لمدرسة المصارعين بها بعد ان اتم دراسته في بلاد اليونان وآسيا الصغرى والاسكندرية ثم اقام بروما حيث ذاع صيته وينسب اليه خمسمائة مؤلف اغلبها في الطب والفلسفة.

إشارات الإعجاز - ص: 152
الكائنات. فكل الآيات القرآنية العادّة لنِعم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل. فكلما أمر القرآن الكريم بالتفكر فانما أشار مخاطباً للعموم الى طريق هذا الاستدلال (فَارجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) 1 ثم ان الذي يومئ الى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى : (الذي جَعَلَ لَكُمْ الارْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ).
وأما الدليل الاختراعيّ المشار اليه بقوله تعالى: (اَلَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فهو:
ان الله تعالى اعطى لكل فرد ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة؛ اذ لانوع يتسلسل الى الازل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولان هذا التغير في العالم يثبت حدوث بعض بالمشاهدة، وبعض آخر بالضرورة العقلية. ثم انه قد ثبت بعلم الحيوانات والنباتات تكثّر الأنواع الى أزيد من مائتي الف نوع ولكل نوع آدم وأب عال. فبسر الحدوث والامكان يثبت بالضرورة صدور تلك الاوادم والآباء للانواع عن يد القدرة الإلهية بلا واسطة. ولا يُتوهم فيها ما يتوهم في السلسلة. وتوهم انشقاق الأنواع بعضها عن بعض باطل، لأن النوع المتوسط لا يتسلسل بالتناسل في الأكثر فلا يكون رأس سلسلة. فاذا كان المبدأ والأصل هكذا، فأجزاء السلسلة كذلك بالطريق الأولى.
نعم كيف يُتصور ان تكون الأسباب الطبيعية البسيطة الجامدة التي لاشعور لها ولا اختيار قابلة لإِيجاد تلك السلاسل التي تحيرت الأفهام فيها، ولاختراع أفرادها التي كل منها صنعة عجيبة من معجزات القدرة. فكل الأفراد مع سلاسلها تشهد بلسان حدوثها وامكانها شهادة قاطعة على وجوب وجود خالقها جل جلاله.
"ان قلت: فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد الانسان بأمثال ضلالات ازلية المادة وحركتها؟.
قيل لك: ان النظر التبعيّ قد يُري المحالَ ممكناً، كالمستهلّ الذي رأى الشعرة البيضاء من اهدابه هلال العيد؛ لأن الانسان بسبب جوهره العالي وماهيته المكرمة انما يدور خلف الحق والحقيقة. وانما يقع الباطل والضلال في يده بلا اختيار ولادعوة ولا تحرٍّ

_____________________
1 سورة الملك: 3.

إشارات الإعجاز - ص: 153
بل بنظره السطحيّ التبعيّ فيقبله اضطراراً؛ لأنه لما تغافل عن النظام الذي هو خيط الحِكَم، وتعامى عن ضدية الحركة والمادة للازلية احتمل عند نظره التبعي اسناد هذا النقش البديع والصنعة العجيبة الى التصادف الأعمى والأتفاق الأعور. كما قال "الجسريّ" 1 في مَنْ دخل قصراً مزينا مشتملاً على آثار المدنية، من انه حينما لايرى صاحبه فيعتقد عدمه يضطر لإِسناد زينته وأساساته الى الاتفاق والتصادف وناموس الانتخاب الطبيعيّ.
وأيضاً لما تعامى وتغافل عن شهادة كل الحكم والفوائد في نظام العالم على اختيار تام وعلم شامل وقدرة كاملة احتمل في نظره التبعي اثبات تأثير حقيقي لهذه الأسباب الجامدة.
فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جل جلاله تأمل في اظهر الآثار التي تسمى "طبيعة" وهو الارتسام - بشرط ان تمزق حجاب الالفة - كيف تقنع نفسك ويقبل عقلك ان خاصية وجه المرآة علة مؤثرة مناسبة لكشط وجه السماء وجلب صورة ارتفاعها ونقشها بنجومها في زجيجتها؟. وكيف يقنع عقلك بأن الأمر الوهميّ في الحقيقة المسمّى بالجاذب العموميّ علة مؤثرة كخيط المنجنيق لإِمساك الأرض والنجوم وتحريكها وتدويرها بانتظام محكم؟
الحاصل: ان الانسان اذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً الى الأمر الباطل المحال ولم ير العلة الحقيقية احتمل صحته عنده. الا انه اذا نظر اليه قصداً وبالذات وتحراه مشترياً له لايمكن ان يقبل شيئاً من تلك المسائل التي يطنطنون بها في الحكميات، الاّ ان يتبلّه بفرض عقل الحكماء وحكمة السياسيّين في الذرّات.
" ان قلت: فما الطبيعة والنواميس والقُوَى التي يدمدمون بها ويسلّون أنفسهم بها؟

_____________________
1 هو حسين بن محمد بن مصطفى الجسر (1261 - 1327هـ)(1845 - 1909م) عالم بالفقه والادب، من بيت علم في طرابلس الشام. له نظم كثير. دخل الازهر سنة 1279هـ واستمر الى سنة 1284هـ، وعاد الى طرابلس فكان رجلها في عصره، علماً ووجاهة، وتوفي فيها. كتبه (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الاسلامية) و(الحصون الحميدية) في العقائد الاسلامية. و«سيرة مهذّب الدين» و «رياض طرابلس» وهى مجموعة دراسات ادبية واجتماعية في عشرة اجزاء.

إشارات الإعجاز - ص: 154
قيل لك: ان الطبيعة مِسْطر 1 لامصدر.. ومطبعة لا طابع.. وقوانين لاقوة. بل انما هي شريعة فطرية إلهية أوقعت نظاما بين أفعال أعضاء جسد عالم الشهادة.كما ان الشريعة محصَّلُ وخلاصةُ قواعد الأفعال الاختيارية، ونظام الدولة مجموع الدساتير السياسية. فكما ان الشريعة والنظام أمران معقولان اعتباريان؛ كذلك الطبيعة أمر اعتباريّ ملخَّصُ عادة الله الجارية في الخلقة. وأما توهم وجودها الخارجيّ فكتوهم الوحشي الذي يرى فرقة العسكر يتحركون بانتظام، وجودَ أمر خارجيّ ربط بينهم. فمن كان وجدانه وحشيا يتخيل الطبيعة بسبب الاستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً.
الحاصل: ان الطبيعة صنعة الله تعالى وشريعته الفطرية. واما نواميسها فمسائلها. وأما قواها فأحكام تلك المسائل.
أما دليل التوحيد الذي أشار اليه (اعبدوا) على تفسير ابن عباس أي وحّدوا، فاعلم! ان القرآن المعجز البيان ما ترك من دلائل التوحيد شيئاً. وما تضمنته آية (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا) 2 من برهان التمانع دليل كاف ومنار نيِّر على ان الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للالوهية، ثم في هذه الآية رمز الى دليل لطيف على التوحيد وهو: ان تعاونَ الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات - لتُعَيِّش نوع البشر وجنس الحيوان - ومشابهةَ آثار العالم وتعانقَ أطرافه وأخذ بعضٍ يد بعضٍ بتكميل بعض انتظام بعض، وتجاوبَ الجوانب وتلبيةَ بعضٍ لسؤال حاجة بعض، ونظرَ الكل الى نقطة واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد؛ تلوِّح بل تصرِّح بان صانع هذه الماكينة الواحدة واحد وتتلو على كلٍ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى اَنَّهُ وَاحِدٌ 3
ثم اعلم! ان الصانع كما انه واجب الوجود وواحد؛ كذلك انه متصف بجميع الأوصاف الكمالية؛ لأن ما في المصنوع من فيض الكمال انما هو مقتبس من ظل تجلي كمال صانعه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية من عموم ما في عموم الكائنات من الحسن والكمال

_____________________
1مِسطَر: ما يُسطر به الكتّاب.
2 سورة الانبياء: 22.
3 لابى العتاهية في ديوانه وينسب الى الامام علي كرم الله وجهه. ونسبه إبن كثير في مقدمة تفسيره الى إبن المعتز.

إشارات الإعجاز - ص: 155
والجمال؛ اذ الاحسان فرعٌ لثروة المحسِن ودليل عليها، والايجاد لوجود الموجِد، والايجاب لوجوب الموجب، والتحسين لحسن المحسّن المناسب له..
وكذلك ان الصانع منزَّه عن جميع النقائص، لأن النواقص انما تنشأ عن عدم استعداد ماهيات الماديات وهو تعالى مجرد عن الماديات..
وكذلك انه تعالى مقدس عن لوازم وأوصافٍ نشأت من إمكان ماهيات الكائنات وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جلاله. ولقد أشار الى هاتين الحقيقتين بقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً).
أما الدليل الامكانيّ المشار اليه بقوله تعالى: (وَالله الْغَنِيُّ وَاَنْتُمُ الفُقَرَاءُ) 1 فاعلم! ان كل واحدة من ذَرات الكائنات باعتبار ذاتها، وباعتبار فردٍ فردٍ من صفاتها، وباعتبار واحدٍ واحدٍ من أحوالها، وباعتبار جهةٍ جهةٍ من وجوهها؛ بينما تراها تتردد بين الامكانات الغير المتناهية في الذات والصفات والأحوال والوجود، اذاً انتعشت وقامت وسلكت طريقاً معيناً منها ولبست صفة مخصوصة، وتكيفت بحالة منتظمة، وركبت على قانون مسدَّد، وتوجهت الى مقصد معيّن، فأنتجت حكمةً ومصلحةً لا تحصلان الاّ بذلك الطرز المعين.. أفلا تنادي بلسانها المخصوص، وتصرّح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما ان كل ذرة بنفسها دليل على الانفراد؛ كذلك تتزايد دلالتها باعتبار كونها جزءاً من مركبات متداخلة متصاعدة؛ اذ لها في كل مركب مقام.. وفي كل مقام لها نسبة.. وفي كل نسبة لها وظيفة.. وفي كل وظيفة تثمر مصالح.. وفي كل مرتبة تتلو بلسانها دلائل وجوب وجود صانعها.. مثلها كمثل جنديّ في "طاقمه وطابوره وفرقته الخ".
***
ولنشرع في نظم هذه الآية باعتبار نظم مجموعها بما قبلها، ثم نظم جملها بعض مع بعض، ثم نظم هيئات كل جملة جملة.
أما نظم المجموع بما قبله:

_____________________
1 سورة محمد: 38.

إشارات الإعجاز - ص: 156
فاعلم! ان القرآن لما بيّن أقسام البشر وأنواع المكلَّفين من المؤمنين المتّقين والكافرين المعاندين والمنافقين المذبذبين توجه اليهم كافة مخاطبا بقوله: (يا أيها الناس اعبدوا) عقّبه ورتّبه على سابقه ترتيب البناء على الهندسة، والأمر والنهي بالعمل على قانون العلم، والقضاء على القدر، والانشاء والايجاد على القصة والحكاية؛ اذ لما ذكر مباحث الفرق الثلاث، وذكر خاصة كلٍ وعاقبة كلٍّ تهيأ الموضع وانتبه السامع فالتفت مخاطبا بذلك الخطاب.. ثم ان في هذا الالتفات - أعني ذكرهم أولاً بالغيبة ثم الخطاب معهم هنا - نكتة عمومية في اسلوب البيان وهي: انه اذا ذكر محاسن شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايد بحكم الايقاظ والتهييج ميلان استحسان أو ميل نفرة. ويتقوى ذلك الميل شيئاً فشيئاً الى أن يجبر صاحبه على المشافهة مع ذلك الشخص، وبالنظر الى المقام يقتضي ميولات السامعين لأوصافه ان يحضر المتكلم ذلك الشخص ويجره الى حضورهم فيتوجه اليه بالخطاب..
وفيه نكتة خصوصية هنا: وهي تخفيف أعباء التكليف بلذة الخطاب.. وفيه أيضاً اشارة الى ان لا واسطة في العبادة بين العبد وخالقه.
وأما نظم الجمل فـ (يا أيها الناس اعبدوا) خطاب لكل انسان من الفرق الثلاث في الأزمنة الثلاثة من كل طبقات الفرق. أي: ايها المؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام.. وأيها المتوسطون اعبدوا على كيفية الازدياد.. وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من الايمان والتوحيد.. وايها المنافقون اعبدوا على كيفية الإخلاص. فالعبادة هنا كالمشترك المعنوي فتأمل!.
(ربكم) أي: اعبدوه لأنه رب يربيكم فلابد ان تكونوا عباداً تعبدونه.
تذييل: في (ربكم) رمز دقيق الى دليل امكان الذوات. وفي (جعل لكم الأرض فراشا) الى دليل امكان الصفات. وفي (الذي خلقكم والذين من قبلكم) الى دليل حدوث الذوات والصفات. والذي ينصّ على دليل امكان الذوات قوله تعـالى
Lوالله الغنيّ وانتم الفقراء) وايضا الى ربك المنتهى 1 وأيضاً (فانهم عدوّ لي إلاّ رب العالمين) 2 وكذلك (قل الله ثم ذَرْهم في

_____________________
1سورة النجم: 42.
2 سورة الشعراء: 77.


إشارات الإعجاز - ص: 157
خوضهم يلعبون) 1 وأيضا (ففروا الى الله) 2 وكذلك (اَلاَ بذكر الله تطمئنُّ القلوب) 3 وقس فتأمل.!.
وأما جملة (الذي خلقكم) فاعلم! ان الله تعالى لما أمر بالعبادة وهي تقتضي ثلاثة أشياء:
وجود المعبود، ووحدته، واستحقاقه للعبادة..
أجاب عن هذه الأسئلة المقدرة بالاشارة الى دلائلها الثلاثة:
فدلائل الوجود قسمان: آفاقي وأنفسي. والأنفسي نوعان: نفسي وأصولي. فاشار الى النفسي الأقرب الأوضح بقوله: (الذي خلقكم) والى الاصولي بقوله: والذين من قبلكم.
وأما نظم (لعلكم تتقون) فاعلم! ان القرآن الكريم لما علق العبادة على خلقهم وآبائهم اقتضى ترتيب العبادة على خلق البشر نقطتين:
إحداهما: ان تكون خلقتهم باستعداد العبادة، وجبليتهم على قابلية التقوى؛ حتى من يرى ذلك الاستعداد يأمل ويرجو منهم العبادة كمن يرى المخالب يأمل الافتراس.
والثانية: ان يكون المقصد من خلقتهم ووظيفتهم التي هم مأمورون بها وكمالهم الذي يتوجهون اليه هو التقوى الذي هو كمال العبادة.
(ولعلكم تتقون) أي المقصد من خلقكم وكمالكم والذي هيئ له استعدادكم انما هو التقوى.
وأما جملة (جعل لكم الأرض فراشا) فاشارة الى أقرب الدلائل الآفاقية على وجوده تعالى. . وأيضاً فيها رمز الى رد التأثير الحقيقي للأسباب الذي هو منشأ لنوع شرك. أي تمهيد الأرض بجعله تعالى لا بالطبيعة.

_____________________
1 سورة الانعام: 91.
2 سورة الذاريات: 50.
3 سورة الرعد: 28.

إشارات الإعجاز - ص: 158
وأما (والسماء بناء) فإشارة - بذكر السماء التي هي لصيق الأرض - الى أعلى الدلائل الآفاقية البسيطة.
ثم اشار بقوله (وأنزل من السماء) الى وجه دلالة المركبات والمواليد على وجود صانعها.
ثم ان كل من الجمل السابقة كما تدل على اثبات الوجود؛ كذلك المجموع يلوّح بالوحدة. وصورة الترتيب المشير الى النظام الملوح بالنعم مع دلالة (رزقا لكم) تثبت استحقاقه تعالى للعبادة، لأن شكْرَ المُنْعِم واجبٌ. وفي (رزقا لكم) اشارة الى انه كما ان الارض والمواليد تخدم لك لابد ان تخدم لمن سخرها لك.
وأما نظم (فلا تجعلوا لله انداداً) فاعلم! انه قد امتدت من نظمها خطوط الى (يا ايها الناس اعبدوا ربكم) والى (الذي خلقكم) والى (الذي جعل لكم) والى (وانزل). أي: اذا عبدتم ربكم فلا تشركوا له لأنه هو الرب، ولأنه هو الخالق لكم ولنوعكم فلا يجعل بعضكم بعضا أرباباً من دون الله، ولأنه هو الذي خلق الأرض وفرشهاومهدها لكم، ولأنه هو الذي خلق السماء وجعلها سقفا لبنائكم فلا تعتقدوا تأثيراً حقيقياً للأسباب الطبيعية التي هي منشأ الوثنية، ولأنه هو الذي أرسل الماء الى الأرض لرزقكم ومعيشتكم، ولا نعمة الا منه فلا شكر ولا عبادة الاّ له.
وأما نظم كيفيات وهيئات جملة جملة، فاعلم! ان كلمة (يا أيها) في جملة "يا ايها الناس اعبدوا" قد أكثر التنزيل من ذكرها لنكت دقيقة ولطائف رقيقة، اذ هذا الخطاب مؤكد بوجوه ثلاثة:
بما في "يا" من الايقاظ، وما في "اَيُّ" من التوسم، وما في "ها" من التنبيه.
فالخطاب هنا رمز الى فوائد ثلاث: مقابلة مشقة التكليف بلـذة الخطاب.. وان ترقى الانسان من حضيض الغيبة الى مقام الحضور انما هو بواسطة العبادة 1.. وأيضاً اشارة الى ان المخاطب مكلف بجهات ثلاث: باعتبار قلبه بالتسليم والانقياد، ومن جهة عقله بالايمان والتوحيد، وبالنظر الى قالبه بالعمل والعبادة..
وأيضاً ايماء الى ان المخاطبين ثلاث فرق 2.. وأيضاً تلويح الى الطبقات الثلاث من الخواص والمتوسطين والعوام..

_____________________
1 وان لا واسطة في العبادة بين العبد وخالقه (ش).
2 المؤمنون والكفار والمنافقون (ت: 108)


إشارات الإعجاز - ص: 159
وأيضاً تلميح الى الطرز المألوف والنسق المأنوس وهو ان المرء اولا ينادي أحداً فيوقفه. ثم يتوسمه فيوجهه. ثم يخاطبه فيخدمه. 1
فبناء على هذه النكت تكون التأكيدات في الخطاب مؤسسة من تلك الجهات.
أما النداء في "يا" فلأن المنادى هو الناس المشتمل على الطبقات المختلفة من الغافلين والغائبين والساكنين والجاهلين والمشغولين والمعرضين والمحبين والطالبين والكاملين يكون هذا النداء للتنبيه، وكذا للإِحضار، وكذا للتحريك، وكذا للتعريف، وكذا للتفريغ، وكذا للتوجيه، وكذا للتهييج، وكذا للتشويق، وكذا للازدياد، وكذا لهزّ العطف..
وأما البُعد في "يا" مع ان المقام مقام القرب، فاشارة الى جلالة وعظمة امانة التكليف.. وأيضاً ايماء الى بُعد درجة العبودية عن مرتبة الالوهية.. وأيضاً رمز الى بُعد اعصار المكلفين عن محلِّ وزمانِ ظهور الخطاب. وأيضاً تلويح الى شدة غفلة البشر.
وأما "أيّ" الموضوع للتوسم من العموم فرمز الى ان الخطاب لعموم الكائنات. فيخصص من بينها الانسان بتحمل الأمانة على طريق فرض الكفاية. فاذاً قصور الانسان تجاوزٌ لحق مجموع الكائنات.. ثم في "أي" جزالة الاجمال ثم التفصيل. 2
وأما "ها" فمع كونه عوضاً عن المضاف اليه، اشارة الى تنبيه من حضر بـ "يا".
وأما (الناس) فاشارة - بحكم تلميح الوصفية الأصلية - الى العتاب، أي "ايها الناس كيف تنسون الميثاق الأزلي"؟ وأيضاً الى العذر أي "ايها الناس لابد ان يكون قصوركم عن السهو والنسيان لا بالعمد والجد"!.
أما (اعبدوا) فبحكم جوابيته للنداء العام مناداه للطبقات المذكورة يدل على الاطاعة، ويشير الى الاخلاص، ويرمز الى الدوام، ويلوح الى التوحيد. أي اطيعوا.. واخلصوا.. واثبتوا.. وازدادوا.. ووحدوا.

_____________________
1 فيستخدمه (ب)
2 لأن في كلمة «ايّ» إجمال وإبهام حيث ذكرت غير مضافة، الاّ ان كلمة «الناس» تزيل ذلك الابهام وتفصّل ذلك الاجمال (ت: 109)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس