الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #11
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 105
المسألة السادسة
ان ثمرات الكلام هي: المعاني المتولدة في صور متعددة والمتفجرة في طبقات متفاوتة. فكما هو معلوم لدى الكيمياويين: ان الذهب عند استحصاله، يمرر في انابيب معامل متعددة ويرسب ترسبات مختلفة في طبقات متفاوتة ويشكل باشكال متنوعة. وفي الختام يحصّل على قسم من الذهب. كذلك الكلام الذي هوخريطة مختصرة اخذت من صورة المعاني المتفاوتة، فالمفاهيم المتفاوتة تتشكل صورها كالآتي:
انه باهتزاز قسم من احاسيس القلب بتأثيرات خارجية، تتولد الميول. وبتكّون معان هوائية منها وتعلّقها بنظر العقل توجِّه العقل الى نفسها.. ثم بتكاثف قسم من ذلك المعنى البخاري يبقى قسم من الميول والتصورات معلقة.. ثم بتقطر قسم آخر يرغب فيه العقل.. ثم القسم المائع يتحصل منه ويُصلّب، فيضمه العقل ضمن الكلام.. ثم ذلك المتصلب لانه يتجلى ويتمثل برسم خاص به، يُظهره العقل بكلام خاص حسب قامته المخصوصة.
بمعنى ان المتشخص من المعنى يأخذه العقل ضمن صورة خاصة للكلام. ومالم يصلّب يسلّمه ليد الفحوى، ومالم يتحصل يحمله على اشارات الكلام وكيفياته، ومالم يتقطر يحيله الى مستتبعات الكلام، ومالم يتبخر يربطه باهتزازات الاسلوب واطوار المتكلم التي ترافق الكلام.
ومن هذا النبع ينفجر مسمّى (الاسم)، ومعنى (الفعل)، ومدلول (الحرف) ومظروف (النظم)، ومفهوم (الهيئة)، ومرموز (الكيفية)، ومشار (المستتبعات) ومحرك (الاطوار المشايعة للخطاب) ومقصود (الدال بالعبارة) ومدلول (الدال بالاشارة) والمفهوم القياسي (للدال بالفحوى) والمعنى الضروري (للدال بالاقتضاء) وامثالها من المفاهيم كل منها ينعقد في طبقة من طبقات هذه السلسلة.
فان اشتقت فتطلع في وجدانك تشاهد هذه المراتب، وذلك اذا ما ألقى محبوبك شعاع حسنه وبريقه من نافذة العين الى الوجدان؛ فذلك العشق المسمى بالنار الموقدة، يحرق مباشرة الحسيات ويلهبها، فتتهيج الآمال والميول، فتثقب تلك الامال مباشرة سقف ذلك الخيال الذي في الطبقة العليا. ويستغيث فتسعى الى تلك الآمال


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 106
الخيالاتُ الممسكة بيدها محاسن المحبوب او المشبعة بمحاسن غيرها، فتهاجم معاً وتنطلق من تلك الخيالات الى اللسان وتستردف ميل زلال الوصال، وتضع على يمينها آلام الفراق، وتضع في يسارها التعظيم والتأدب والاشتياق، وتضع امامها محاسن المحبوب المقتضي للعطف والترحم، فتنشر تحية ثنائها، وتنظم قلائد مدحها، المتجلية من الكل بوصف الفضائل المستجلب لزلال الوصال، المطفئ للنار الموقدة على الافئدة . فانظر كم من المعاني ترفع رأسها من غير الطبقات التي تعرفها.
فان لم تخف فانظر الى وجدان كل من ابن الفارض وابي الطيب المنبهر اكثر من عيونهما، وتأمل في ترجمان الوجدان في:
غرستُ باللحـظ ورداً فـوق وجـنتها حقٌ لطرفي ان يجني الذي غرسا 1
وايضاً:
فللعين والاحشــــاء اول هل أتى تلا عائدي الآسي وثالث تبت 2
وايضاً:
صـــــدٌّ حَمى ظمأي لـُماكَ لماذا وهواك قلبي صار منه جذاذاً 3
وايضاً:
حشاي على جمر ذكي من الغضا وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع 4
فشاهد واستمع كيف ان عيونهم تتجول في جنة وسعيرُ وجدانهم تُعذِّب.
ولقد بيّن الشعراء خيالات رقيقة جداً بالاشارة الى محاسن المحبوب، وبالرمز الى استغنائه، وبالايماء الى التألم من فراقه، وبالتصريح بالشوق اليه، وبالتلويح بطلب الوصال، وبالنص على الحسن الجالب للعطف.. مع ما يحرك الحسيات من اطوار.
_____________________
1 وفي رواية الديوان: غرست باللحظ ورداً فوق وجنته... ص177 دار صادر - بيروت.
2 اول هل اتى : اراد به سورة من القرآن الكريم اولها (هل أتى ...) تلا: من التلاوة، والقراءة. وثالث تبت: اراد بها ثالث لفظة من سورة (تبت يدا ابي لهب...) وهي: ابو لهب. يريد الشاعر: انه اصبح كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً ، وصارت احشاؤه تكنى بأبي لهب، لشدة اشتعالها بنار الوجد (ص 42 من الديوان)
3 الصدّ: الإعراض. حمى : منع. لُماك: سمرةُ شفتيك . وهواك : أي قسماً بهواك. منه: أي من صدك . جذاذاً : قطعاً.
4 وفي رواية الديوان: حشاي على جمر ذكيٍ من الهوى...



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 107
اشارة: كما يلزم في نظام اية دولة كانت، ان يكون اجر الموظف حسب وظيفته وبمقدار خدماته وعلى وفق قابليته واستعداده، كذلك يلزم تقسيم العناية وتوزيع الاهتمام توزيعاً عادلاً، بحيث تأخذ كل معنى من المعاني المتزاحمة في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبه وحظه بنسبة قربه من مركز الغرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الاساس. وذلك ليحصل بتلك المعادلة: الانتظام، ومن الانتظام: التناسب، ومن التناسب: حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق: حسن المعاشرة، ومن حسن المعاشرة: ميزان التعديل لكمال الكلام.
وبخلاف هذا فان دخول مَن هو خادم وظيفةً وصبي طبعاً في مراتب كبيرة يتكبر فيفسد التناسب ويشوش المعاشرة. اي يلزم اخذ استعداد قيود الكلام بنظر الاعتبار.
نعم! يجب ان يرفع مقام كل شئ بقدر استعداده؛ اذ العين والانف وما شابههما من الاعضاء مهما كان جميلاً فانه يتشوه اذا جاوز الحد ولوكان ذهباً.
تنبيه:
قد يذهب جندى بسيط الى مواضع من العدو لاستكشاف مالا يقدر عليه المشير، او يؤدي تلميذ صغير من العمل ما لايؤديه عالم كبير. اذ الكبير لايلزم ان يكون كبيراً في كل أمر، بل كلٌ كبيرٌ في صنعته.
وكذلك قد يترأس معنى صغير بين تلك المعاني المتزاحمة، فيأخذ قيمة اعلى، لان وظيفته ذات اهمية كما سنبينها. والذي يشير الى تلك المعاني المتزاحمة، والمنار على قيمتها عدم صلاحية صريح الحكم المنصوص ولازمه القريب لسفارة الكلام وسوق الخطاب وارسال اللفظ لاجله. اما لكونه بديهياً معلوماً مشهوداً.. او خفيفاً وضعيفاً لا يُهتم به في الغرض الاساس.. او لفقدان من يتقبله و يستمع اليه.. أو لايوافق حال المتكلم ولايفي بداعي الرغبة في التكلم.. أو لا يمتزج ولا يقبل الامتزاج مع حيثية المخاطب ومنزلته.. أو يبدو غريباً في مقام الكلام وتوابع المستتبعات.. أو ليس له استعداد للحفاظ على الغرض وتهيئة لوازمه. بمعنى: ان كل مقام يستمع الى سبب واحد من بين هذه الاسباب. ولكن لو اتحدت عموماً ترفع الكلام الى اعلى طبقة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 108
خاتمة:
هناك معان معلقة، ليس لها شكل مخصوص ولاوطن معين. فهي كالمفتش الذي يمكنه الدخول الى اية دائرة كانت وبعضها يقلّد لفظاً خاصاً بها. هذه المعاني المعلقة قسم منها معان حرفية هوائية، قد تستتر في كلمة، او يتشربها كلام او تتداخل في جملة او قصة، فان عصرت تقطّر ذلك المعنى كالروح فيها كما في معاني "التحسر" و"الاشتياق" و"التمدح" و"التأسف" وغير ذلك.

المسألة السابعة
ان العقدة الحياتية للبلاغة، او بتعبير اخر "فلسفة البيان" او "حكمة الشعر" هي التمثل بنواميس الحقائق الخارجية ومقاييسها. اي: تمكين قوانين الحقائق الخارجية في المعنويات والاحوال الشاعرة من حيث القياس التمثيلي وبطريق الدوران وبتصرف الوهم. اي ان البليغ يتمثل اشعة الحقائق المنعكسة من الخارج كالمرآة وكأنه يقلّد الخلقة ويحاكي الطبيعة بصنعته الخيالية وبنقش كلامه.
نعم! لو لم تكن في الكلام حقيقة ففي الاقل لابد فيه من شبيه للحقيقة وما يستمد من نظامها والتسنبل على نواتها. ولكن لكل حبة سنبلها الخاص فلا تتسنبل الحنطة شجرة.
فان لم تؤخذ فلسفة البيان بنظر الاعتبار، فالبلاغة تكون كالخرافة لا تغني السامع غير الحيرة.
اشارة: ان للنحو فلسفته كما للبيان فلسفته. هذه الفلسفة تبين حكمة الواضع وهي مؤسسة على المناسبات المشهودة المشحونة بها كتب النحو، فمثلاً لايدخل عاملان على معمول واحد. وان لفظ (هل) ما ان يرى الفعل الاّ ويطلب الوصال بلا صبر، وان الفاعل قوي، والقوى يضم الضمة لنفسه. فهذه وامثالها نظائر القوانين الجارية في الكائنات وفي الخارج.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 109
تنبيه:
ان هذه المناسبات النحوية والصرفية - التي هي حكمة الواضع - وان كانت لا تبلغ درجة فلسفة البيان الاّ ان لها قيمة رفيعة جداً. فمثلاً: تحول العلوم النقلية الثابتة بالاستقراء الى صور العلوم العقلية.

المسألة الثامنة
ان تلقيح المعاني البيانية وانقلاباتها، انما هو: بتشرب معنى الكلمة الحقيقي بغرض الكلام او جذبه بمعنى من المعاني المعلقة الى جوفه، وحالما يدخل فيه يرجع المعنى الى الحقيقة والاساس التي هي صاحب البيت. اما المعنى الذي هو صاحب اللفظ الاصلي فيرجع الى صورة حياتية تمدّه، وتستمد من المستتبعات. هذا هو السر في وجود معان عدة لكلمة واحدة ومنه ينبع التلقيح والتبادل والانقلاب.
فمن لم يفهم هذه النقطة فاتته بلاغة عظيمة.
اشارة: وكم من شئ يركب عليه فيستحق لفظ "على" ولكن ما ان يكون ظرفاً، فانه يستدعي لفظ "في" كـ: "تجري في البحر".. او آلة تستلزم لفظ "باء" كـ: "صعدت السطح بالسلم" ولكن لكونها مكاناً او مركوباً تقتضي ايضاً "في" و"على".. او يكون غاية فيطلب "الى" و "حتى" ولكن لكونه علةً وظرفاً يناسبه "اللام" و "في" كـ
(والشمس تجري لمستقرلها). فقس.
تنبيه:
قدّم ضمن هذه المعاني المتداخلة وصرِّح ما كان امسّ لغرضك واقرب رحماً الى القصد، وشيّع الباقي وضمّنه. والاّ كان المعنى عرياناً عاطلاً من حلّة البيان.

المسألة التاسعة
ان أعلى مراتب الكلام وكماله الذي يُعجز الارادة الجزئية والتصور البسيط للانسان هو: تضمن الكلام واستعداده بتعدد المقاصد المتداخلة المتسلسلة،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 110
وبتسلسل المطالب المرتبطة المتناسلة، وباجتماع الاصول المولدة لنتيجة واحدة، وباستنباط الفروع الكثيرة المولدة لثمرات متباينة. وذلك:
ان الذي يعطي الكلام عظمة وسعة هو: ان المقاصد القادمة من ابعد هدف واعلاه - وهو مقصد المقاصد - يرتبط بعضها ببعض، ويكمل احدها نقصان الاخر، ويؤدي الواحد منها حق جاره، حتى كأن وضع هذا في موضعه يمكّن الآخر في مكانه، ويقرّ الاخر في مستقره.. وهكذا كلٌ يأخذ محله الملائم له؛ فتنصب تلك المقاصد في قصر الكلام المشيد بملاحظة نسب يمين هذا وشماله وكل جهاته. وكأن المتكلم استعار عقولاً الى عقله للتعاون، وغدا كل مقصد من تلك المقاصد جزءاً تشترك فيه التصاوير المتداخلة، بمثل ما اذا وضع رسام نقطة سوداء في صور متداخلة، فانها تكون عين هذا ومنخر ذاك وفم هذا وشامة ذلك.. وهكذا ففي الكلام ارفيع نقاط امثال هذه ..
النقطة الثانية:
ان المطالب تتسلسل وتتناسل بسرالقياس المركب المتشعب حتى كأن المتكلم يشير الى شجرة النسب لبقاء المطالب وتناسلها.
فمثلاً: العالم جميل، فصانعه اذاً حكيم، لا يخلق عبثاً، ولايسرف في شئ، ولايهمل الاستعدادات والقابليات، اي سيكمّل الانتظام دوماً. اي لايسلط على الانسان الهجران الابدي والعدم الذي يمحي الكمالات ويقتل الامل.. فلا بد اذاً من سعادة ابدية.
وافضل مثال لهذا: الجهة الثالثة من الفرق بين الانسان والحيوان من مباحث النبوة في مقدمة الشهادة الثانية من المقالة الثالثة.
النقطة الثالثة:
ان الذي يجعل النتيجة الواحدة تولد نتائج متعاقبة هو: جمع الاصول المتعددة وذكرها، لان لكل اصل من الاصول، وان لم يكن له ارتباط بالذات وقصدٌ بالنتيجة الرفيعة، ففي الاقل يهزها ويكشفها الى حد ما. فكأن الكلام يشير بتباين الاصول - التي هي مظاهر ومرايا - وبوحدة النتيجة والمتجلّى، الى تجرد المقصد وسموّه،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 111
واتصال قوته الحياتية بحقيقة الحياة الكلية، حياة العالم المسماة بالدوران العمومي. فالمقصد الاول من المقاصد الثلاثة التي في ختام المقالة الثالثة مثال لهذا؛ وكذلك الاشارة والارشاد والتنبيه ومسلك المحاكمة العقلية التي في المسالة الرابعة من المقالة الثالثة مثال جيد لهذا ايضاً.. [فانظر الى كلام الرحمن الذي علم القرآن. فبأي آيات ربك لا تتجلى هذه الحقيقة؟ فويل حينئذٍ للظاهريين الذين يحملون ما لا يفهمون على التكرار].
النقطة الرابعة:
هي افراغ الكلام افراغاً تاماً، ومنحه استعداداً كاملاً، بحيث يتضمن بذور كثير من الفروع، ويكون مصدر كثير من الاحكام، ويصبح دليلاً على وجوه عديدة ومعاني مختلفة. وكأن الكلام بتضمنه هذا الاستعداد يلوّح الى مافيه من قوة للنمو، ويبين كثرة غلته ومحصوله. اذ يجمع في المسألة تلك الفروع والوجوه ليوازن بين مزاياه ومحاسنها، ويسوق كل فرع الى غرض ويعيّن كل وجه في وظيفة: [فانظر الى قصة موسى فانها أجدى من تفاريق العصا، أخذها القرآن بيده البيضاء، فخرّت سحرة البيان ساجدين لبلاغته].
ايها الاخ!
ان الخيال البلاغي الموجود في هذه المسالة يرسم لك - بمثل هذه الاساليب - شجرة حقيقة عظيمة، عروقها الجسيمة متشابكة، وعقدها الطويلة متناسقة، واغصانها المتشعبة متعانقة، وثمراتها وفواكهها متنوعة. فتأمل في المسألة السادسة فهي مثال لهذه المسألة وان كانت مشوشة.

تنبيه واعتذار:
ايها الاخ!
اعلم يقيناً ان هذه المقالة تبدو لك غامضةً مغلقةً، ولكن ما الحيلة فان شأن المقدمة الاجمال والايجاز. وسيتجلى لك الامر في الكتب الثلاثة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 112
المسألة العاشرة
ان سلاسة الكلام، بعدم التشابك، عدم الطفر من حسّ الى اخر، مع تقليد الطبيعة وتمثل الخارجيات، والسداد الى مسيل الغرض، وتميّز المقصد والمستقر، كالآتي:
ان الوثوب من حسّ الى آخر قبل ان يتم الاول، ومن بعد ذلك مزجه مع الاخر يخل بالسلاسة ويغيرها، فيلزم التدرج في المعاني المتسلسلة والحذر من الاشتباك العشوائي بدون نظام.
وينبغي ايضاً مساوقة الطبيعة والتتلمذ عليها بصنعة المتكلم الخيالية، كي تنعكس قوانينها في صنعته.
وكذا يجب محاكاة تصوراته مع الخارجيات ومشاكلتها معها، بحيث لو تجسمت تصورات المتكلم في الخارج - هاربة من الدماغ - لايردّه الخارج ولايستلحقها الى المتكلم، ولاينكر نسبها اليه. بل يقول: هي انا، او كأنها انا او هي من صلبي.
وكذا يجب السداد وعدم التمايل يميناً وشمالاً، للحيلولة دون التفرق في مسيل الغرض والتشتت في مجرى القصد، وذلك لئلا تهون الجوانب من الغرض بتشرب قوته، بل تمده الجوانب - كالحوض - بما تتضمه من الطراوة واللطافة.
ويلزم ايضاً - لسلامة السلاسة - تميّز مستقر القصد، وتعيّن ملتقى الغرض.

المسألة الحادية عشرة
ان سلامة البيان وصحته: اثبات الحكم بلوازمه ومبادية وبآلات دفاعه، كالاتي: يجب عدم الاخلال بلوازم الحكم، وعدم افساد راحته، مع رعايته، والرجوع الى مبادئه لاستمداد الحياة.. وذلك بالتقلد بقيود الاجابة عن كل سؤال مقدر في ردّ الاوهام ودفع الشبهات.. اي ان الكلام شجرة مثمرة نضدت فيها اشواكها لحمايتها من اجتناء ثمراتها والتجني عليها. فكأن الكلام نتيجة لكثير من المناظرات


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 113
والمناقشات وزبدة كثير من المحاكمات العقلية. فلا يسترق منه السمع شياطين الاوهام ولايسعهم النظر اليه نظرة سوء. لان المتكلم قد احاط بجهاتكلامه الست وشيّد حوله سوراً، اي جهّزه بتقييد الموضوع او المحمول او بالتوصيف او بجهة اخرى دفاعاً عن كل سؤال مقدر ووضعها في نقاط يتوقع هجوم الاوهام منها. وان شئت مثالاً لهذا، فهذا الكتاب كله مثال طويل له، ولاسيما المقالة الثالثة فهي مثاله الساطع.
المسألة الثانية عشرة
ان سلامة الكلام وملاسته واعتدال مزاجه: بتقسيم العناية وتوزيع خلع الاساليب حسب ما يستحقه كل قيد. فان كان الكلام حكاية، فيجب على المتكلم فرض نفسه في موضع المحكي عنه، اذ لا بد من الحلول في المحكى عنه والنزول ضيفاً الى قلبه والتكلم بلسانه لدى تصوير افكاره وحسياته. واذا تصرف في ماله فيجب العدالة فيتقسيم الرعاية والاهتمام - الدالين على القيمة والمكانة - باخذ كل قيدٍ للكلام واستعداده ورتبته، بنظر الاعتبار، والباس الاساليب على قامة استعداد كل قيد. حتى يتحلى المقصد بما يناسبه من اسلوب، اذ اسس الاساليب ثلاثة:
الاول: الاسلوب المجرد، كالاسلوب السلس للسيد الشريف الجرجاني ونصير الدين الطوسي.
الثاني: الاسلوب المزين، كالاسلوب الباهر الساطع لعبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز واسرارالبلاغة.
الثالث: الاسلوب العالي، كبعض الكلام المهيب للسكاكي والزمخشري وابن سينا او بعض الفقرات العربية لهذا الكتاب، ولاسيما في المقالة الثالثة، فهي تبدو مشوشة الا انها تحوي فقرات رصينة، ذلك لان علو الموضوع قد افرغ هذا الكتاب في اسلوب عالٍ. وما صنعتي انا الاّ جزئية فيه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 114
الخلاصة:
ان كنتَ في بحث الالهيات وتصوير الاصول، فعليك بالاسلوب العالي، ففيه الشدة والقوة والهيبة، بل عليك الاّ تغادر هذ الاسلوب.
وان كنت في بحث الخطاب والاقناع، فعليك بالاسلوب المزيّن ذي الحلي والحلل والترغيب والترهيب. لا تدع هذا الاسلوب ما استطعت، بشرط الاّ يداخله التصنع والتظاهر، وما يثيرالعوام.
وان كنت في المعاملات والمحاورات وفي العلوم الآلية، فعليك بالاسلوب المجرد وحده فهو الذي يحقق وفاء الموضوع واختصار البحث وسلامة القصد ويجري على وفق السليقة حتى انه يبين جماله الذاتي بسلاسته.
خاتمة هذه المسالة:
اعلم ان قناعة الكلام واستغناءه وعصبيته، ان لاتمدّ عينيك الى اسلوب خارج المقصد. فلو اردت ان تفصّل اسلوباً على قامة معنى من المعاني، فالمعنى نفسه والمقام والصنعة والقصة والصفة يعينك بتفاريق لوازمها وتوابعها، فتخيط من تلك التفاريق لباس اسلوبك. فلا تمد نظرك الى الخارج الاّ مضطراً. او بتعبير اخر قاطع اموال الاجانب، فهو اساس مهم للحيلولة دون تبعثر ثروة البلاد. فمقاطعة الاجانب تزيد قوة الكلام، اي: ان المعنى والمقام والصنعة يفيد الكلام بدلالته الوضعية، اذ كما يُظهر الكلام المعنى بدلالته الوضعية، فمثل هذا الاسلوب يشير بطبيعته الى المعنى.
وان شئت مثالاً فانظر في المسألة التاسعة الى: [فانظر الى كلام الرحمن الذي علّم القرآن، فبأي أيات ربك لاتتجلى هذه الحقيقة؟ فويل حينئذ للظاهريين الذين يحملون ما لايفهمون على التكرار] وفيها ايضاً: [فانظر الى قصة موسى، فانها اجدى من تفاريق العصا، اخذها القرآن بيده البيضاء فخرّت سحرة البيان ساجدين لبلاغته]. وان شئت فانظر الى ديباجة كتب العلوم الآلية، فان مافيها من براعة الاستهلال - وان لم يكن بلاغتها دقيقة ولطيفة - براعة استهلال لهذه الحقيقة.
وايضاً ففي ديباجة هذا الكتاب امثلة: اذ اظهر النبيّ الكريم معجزة لنبوته.. وفي ديباجة المقالة الثالثة: قد بُينت جملتا كلمة الشهادة، كل منها شاهدة على
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 115
الاخرى.. وكذا قيل في المقدمة السابعة لاولئك الذين قالوا بنزول القمر الى الارض بعد انشقاقه: لقد اصبحتم سبباً لخسف معجزة القمر الظاهر كالشمس الساطعة برهاناً على النبوة وجعلتم تلك المعجزة الظاهرة مخفية كنجم السهى!
وقياساً على هذا تجد امثلة كثيرة لهذه الحقيقة، لان مسلك هذا الكتاب مقاطعة اموال الخارج، وعدم الاخذ منها الاّ للضرورة كما هو حالي انا. بل مقاطعتها في المسائل والامثلة والاساليب، لكن ربما يرد توافق في الخواطر. اذ الحقيقة واحدة، فمن اي باب دخلت عليها تجدها تجاهك.
خاتمة:
لقد قيل: انظر الى القول دون القائل! ولكني اقول: انظر الى مَن قال؟ ولمن قال؟ وفيمَ قال؟ ولِمَ قال؟ اذ يلزم مراعاة هذه الامور كمراعاة القول نفسه في نظر البلاغة بل هذا هو الالزم.
اشارة: اعلم ان شرطاً مهماً لمزايا علم المعاني وفن البيان - من حيث البلاغة - هو: القصد والعمد، بنصب الامارات والاشارات الدالة على جهة الغرض، فلا تقام للعفوية وزناً.
اما شرط علم البديع والمحسنات اللفظية فهو عدم القصد، والعفوية، او القرب من طبيعة المعنى الشبيهة بالعفوية.
تلويح: لايخفى ان شأن الآلات التي تثقب السطح نافذة الى الحقيقة، وتدل على الطبيعة والحقيقة الخارجية، وتربط الحكم الذهني بالقانون الخارجي، بل انفذ تلك الالات هي "إنّ" التحقيقية. نعم! ان "إنّ" بناءً على خاصيته هذه استعملت كثيراً في القرآن الكريم.
ايها الاخ!
ان القوانين اللطيفة التي تضمها هذه المقالة لايورطك في مغالطة، لتبرئتها ونفورها عن هذه الاساليب الخشنة الواهية! فلا يذهب بك الظن الى القول: لو كانت هذه القوانين صالحة وصائبة لكانت تلقّن واضعها درساً قوياً في البلاغة فكانت تلبس اساليب جميلة، بينما الذي وضعها اميّ واساليبه متهرئة.. دع عنك هذا الظن، لانه
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 116
لا يلزم لكل علم ان يكون كلُ عالم ماهراً فيه. فضلاً عن ان القوة المركزية الجاذبة اقوى من القوة الدافعة، ولان للاذن قرابة مع الدماغ وصلة رحم مع العقل، بينما القلب الذي هو منبع الكلام ومعدنه بعيد عن اللسان وغريب عنه. وكثيراً لايفهم اللسان فهماً تاماً لغة القلب، لا سيما ان كان القلب يئن في غور المسائل وفي اعماق بعيدة كغيابة الجب فلا يسمعه اللسان، وكيف يترجمه؟
وحاصل الكلام: الفهم اسهل من الافهام ....
والـسلام
اعتذار:
ايها الاخ الصابر الجلد! ويامن يرافقني في هذه المسالك الضيقة المظلمة! لااحسبك الاّ متفرجاً حائراً في هذه المقالة الثانية، ولم تك مستمعاً لانك لم تفهمها، ولك الحق في ذلك؛ اذ المسائل عميقة جداً، وجداولها طويلة جداً. بينما العبارات غامضة مختصرة. ولغتي التركية مشوشة وقاصرة ووقتى ضيق، وانا اكتب باستعجال، وصحتي معتلة فانا مصاب بالزكام. ففي مثل هذه الاحوال لا يصدر الاّ مثل هذه الوريقات.. [والعذر عند كرام الناس مقبول].
ايها الاخ!
امزج عنصر الحقيقة - قوة كبرى - وعنصرالبلاغة - قوة صغرى - وامرر في المزيج الحدس الصادق الذي هو كشعاع الكهرباء. لينتج لك عنصر العقيدة المضيئة، وليمنح ذهنك استعداداً لفهمها.
سنبحث عن عنصر العقيدة في المقالة الثالثة .
فاشرع واقول : نخو 1

_____________________
1 كلمة كردية باللهجة الكرمانجية الشمالية، تعني: اذن -. المترجم.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس