الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #13
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 127
هذه الانواع والخواص المميزة لعموم الاعراض انما هي مخترع من العدم الصرف. والتناسل في التسلسل انما هو الشرائط الاعتيادية.
فهذا اجمال دليل الاختراع وان شئت تفصيله بوضوح فادخل جنان القرآن الكريم فانه لا رطب ولا يابس إلا ّ وتفتح في كتاب مبين زهرةً زاهية او برعماً لطيفاً.
فإن شاء الله تعالى، ووفقني، وساعد الأجل، سأعرض اللآلئ التي تزين هذا البرهان مستخرجاًَ اياها من اصداف الفاظ القرآن.
اذا قلت: ما هذه الطبيعة والقوانين والقوى التي يسلّون بها أنفسهم؟
فالجواب: أن الطبيعة هي شريعة الهية فطرية، اوقعت نظاماً دقيقاً بين أفعال وعناصر واعضاء جسد الخليقة المسمى بعالم الشهادة، هذه الشريعة الفطرية هي التي تسمى بالطبيعة والمطبعة الالهية.
نعم! ان الطبيعة هي محصلة وخلاصة مجموع القوانين الاعتبارية الجارية في الكون. أما ما يسمونه بـ"القوى" فكل منها حكم من أحكام هذه الشريعة. أما القوانين فكل منها عبارة عن مسألة من مسائلها، ولكن لاستمرار احكام هذه الشريعة واطراد مسائلها، وتهيؤ النفوس التي ترى الخيال حقيقة وتريها هكذا، تسلّط الخيال وضيق الفهم، فتجسمت الطبيعة حتى اصبحت موجوداً خارجياً وتنزلت من الخيال الى المثال. وكم للوهم من حيل تروج.
لا يقنع العقل ولا ينجذب الفكر ولا يأنس نظر الحقيقة الى كون آثار القدرة - التي تتحير منها العقول - صادرة من صنعة هذه الطبيعة الشبيهة بالمطبعة، او من امور يسمونها قوى عامة. علماً انها تفتقر الى قابلية لتكون مصدراً أو علّة لوجود هذه الكائنات. فليس اذاً الاّ التغافل عن الله الحكيم والاّ الاضطرار المتولد من إلجاءات الانتظام الجاري في الكون فيتخيلون الطبيعة مصدراً، وهي ليست الاّ مِسطراً، وما محاولة انتاج الملزوم الاخص من اللازم الاعم الاّ قياس عقيم. وهذا القياس العقيم فتح الطرق الكثيرة الى وديان الضلالة والحيرة.
ان الشريعة - والقانون - هي نظّام الافعال الاختيارية، فمع كثرة المخالفات والخرق، يتصور كثير من الجهلة كأن الشريعة حاكم روحاني، ويتصورون النظام كأنه سلطان معنوي، فيتخيلون ان لهما تأثيراً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 128
فالبدوي الذي لم ير الحضارة، اذا ما شاهد حركات الجنود في طابور، حركة مطردة واطواراً منسقة واحوالاً مرتبطة، ظن ان هؤلاء الافراد العديدين أو الهيئة العسكرية مرتبط بعضهم ببعض بحبل معنوي!
أو أن شخصاً عامياً أو ذا طبع شاعري، تراه يتصور النظام الذي يربط الناس بعضهم ببعض موجوداً معنوياً، أو يتصور ان الشريعة خليفة روحانية، وهكذا يغالى من يتصور الشريعة الفطرية الالهية المتعلقة باحوال الكائنات، انها الطبيعة، تلك الشريعة التي لم تخرق الاّ تكريماً للانبياء وتصديقاً للاولياء اذ هي مستمرة دائمة. فكيف لاتتجسم الاوهام على هذا النمط من التصورات؟
كما ان استماع الانسان وتكلمه وملاحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على سبيل التعاقب، كذلك همته جزئية لا تشتغل بالاشياء الاّ على سبيل التناوب فبوساطة التعاقب يتعلق بشئ فحسب وينشغل به.
ثم ان قيمة الانسان بنسبة ماهيته، وماهيته بدرجة همته، وهمته بمقدار اهمية المقصد الذي يشتغل به.
ثم ان الانسان الى أي شئ توجّه يفنى فيه، وينحبس عليه، وكأنه يكون مصداق: "الفناء في المقصد" فبناء على هذه النقطة ترى الناس - في عرفهم - لايسندون شيئاً خسيساً وأمراً جزئياً الى شخص عظيم، بل الى الوسائل، ظناً منهم ان الاشتغال بالأمر الخسيس لا يناسب وقاره، وهو لا يتنزل له، ولايسع الامر الحقير همته العظيمة، ولايوازن الامر الخفيف مع همته العظيمة.
ثم ان من شأن الانسان اذا تفكر في شئ، يتحرى مقاييسه واسسه في نفسه، وان لم يجدها ففيما حوله وفي ابناء جنسه. حتى انه اذا تفكر في واجب الوجود المنزّه عن الشبه بالممكنات، تلجئه قوته الواهمة لأن يجعل هذا الوهم السئ المذكور دستوراً، والقياس الخادع منظاراً، مع ان الصانع جل جلاله لا يُنظر اليه من هذه النقطة، اذ لا انحصار لقدرته. لأن قدرته وعلمه وارادته جل جلاله كضياء الشمس - ولله المثل الاعلى - شاملة لكل شئ، وعامة لكل أمر، فكما تتعلق باعظم شئ تتعلق بأصغره واخسه. فمقياس عظمته تعالى وميزان كماله سبحانه مجموع آثاره، لا كل جزء منه، اذ لا يصلح ان يكون مقياساً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 129
وهكذا فقياس واجب الوجود بالممكنات قياس مع الفارق، ومن الخطأ المحض المحاكمة العقلية بالوهم الباطل المذكور.
فبناء على هذا الخطأ المشين للادب، وتسلط الوهم الباطل، اعتقد الطبيعيون تأثير الاسباب تأثيراً حقيقياً، وادّعى المعتزلة ان الحيوان خالق لأفعاله الاختيارية، ونفى الفلاسفة علم الله بالجزئيات، وقال المجوس: ان للشر خالقاً غيره تعالى. اذ ظنوا وتوهموا ان الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنزهه، كيف يتنزل الى الاشتغال بمثل هذه الامور الجزئية الخسيسة. فتباً لعقولهم التي حبست نفسها اسيرة في هذا الوهم الباطل.
ايها الاخ! ان هذا الوهم ان لم يرد من جهة الاعتقاد، فقد يستحوذ على المؤمنين من حيث الوسوسة.
اذا قلت: ان دليل الاختراع هواعطاء الوجود، واعطاء الوجود يصاحب اعدام الموجود، بينما عقولنا لا تستوعب ظهور الوجود من العدم الصرف، وانقلاب الوجود المحض الى العدم المحض.
فالجواب: يا هذا! ان ما تستصعبونه وتستغربون منه في تصوركم هذه المسألة، هو النتيجة الوخيمة لقياس خادع مضل. اذ تقيسون الايجاد والابداع الالهي بكسب العبد وصنعته، والعبد عاجز عن اماتة ذرة واحيائها. وليس له الاّ الصنعة والكسب في الامور الاعتبارية والتركيبة.
نعم ان هذا القياس خدّاع لا ينجو الانسان منه.
وحاصل الكلام: لما لم ير الانسان في الكائنات قدرة وقوة تتملكها الممكنات الى درجة تتمكن بها الايجاد من العدم المحض، ويبني حكمه على مشاهداته وينشئه منها، اذ ينظر الى الآثار الإلهية من جهة الممكنات، بينما عليه ان ينظر اليها من جهة القدرة الإلهية الثابتة بآثارها المحيرة للالباب. فتراه يفرض الصانع الجليل في قوة وقدرة العباد التي لا تأثير لها الاّ في الامورالاعتبارية. اي في قوة موهومة. فينظر الى المسألة من هذه الزاوية، مع انه يجب عليه ان ينظر اليها من جانب القدرة التامة للواجب الوجود.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 130
اشارة: فلو اخذت آثار احد من الناس بنظر الاعتبار في محاكمة عقلية، يجب اخذ خاصته ايضاً. ولكن لانه لم تؤخذ هذه القاعدة في هذه المسالة، فقد نظر اليها من خلال عجز العبد تحت ستار القياس التمثيلي لقدرة الممكنات. بينما نرى في تكوين العالم ان الله سبحانه وتعالى يخلق قسماً من الممكنات بالابداع - اي بدون مادة - وقسماً آخر بالاختراع - أي ينشؤه من المادة - وهكذا بث في الوجود هذه الآثار المعجزة الباهرة، واظهر قدرته المطلقة بجلاء.
فالانسان اذا صرف نظره عن هذا، ورأى الغائب بصورة الشاهد بقياس خادع او وضع ابناء جنسه في المحاكمة العقلية، اي لو نظر الى واجب الوجود من هذه الزاوية المحددة، توهم ان كثيراً من الامور المعقولة التي يستصوبها العقل السليم غير معقولة.
فلو صرفنا النظر عن المخترعات، فان القوانين العجيبة للضوء - وهو نور عين العالم وانور المصنوعات - ونواميسه البديعة المصغرة في بصر الانسان في ترسيماتها على شبكيته التي اعيا على العقول حلها.. اقول اذا قيست هذه التي تُعد بعيدة عن العقل بكمال القدرة الالهية لرآها الانسان مأنوسة مألوفة وبين اهداب عين العقل وبصره.
وكما ان النظريات تستنتج من الضروريات، كذلك ضروريات آثار الله وصنعته دليل،اي دليل، على مخفيات صنعته. وكلاهما معاً يثبتان هذه المسألة.
فهل يمكن ان يتصور العقل ادق واعجب واغرب من صنعة الله في نظام العالم، وابعد من جنس الممكنات وقدرتها؟ لاشك لايتصور، لأن الحكم والفوائد التي بينتها العلوم تشهد بالضرورة على قصد الصانع وصنعته وحكمته. حتى اضطرت العقول الى قبولها. والاّ فالعقل بمفرده لايقبل اصغر حقيقة من هذه البديهيات.
نعم! ان الذي حمل الارض ورفع السموات بغير عمد وسخر الاجرام وادخل الموجودات تحت نظام، فلا يعصونه في امره كيف يُستغرب منه ان يحمل ما هو اخف واسهل بدرجات لا تقدر.
نعم ان الشك في قدرة من يرفع الجبل عن ان يرفع صخرة ليس الاّ سفسطة.
الحاصل: كما ان القرآن يفسر بعضه بعضاً، كذلك سطور كتاب العالم يفسّر ماوراءه من اتقان وحكمة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 131
اذا قلت: يظهر من كلام قسم من المتصوفة معنى الاتصال والاتحاد والحلول. فيتوهم من كلامهم وجود علاقة مع مذهب وحدة الوجود الذي يتبناه قسم من الماديين.
الجواب: ان شطحات محققي الصوفية، التي هي من قبيل المتشابهات، لم يفهمها هؤلاء، اذ ان مسلكهم المبني على الاستغراق وحصر النظر في الذات الالهية والتجرد من الممكنات قد ساقهم الى ان يكون مطمح نظرهم رؤية النتيجة ضمن الدليل، اي سلكوا مسلك رؤية الصانع الجليل من خلال العالم!. فعبّروا عن جريان التجليات الالهية في جداول الاكوان وسريان الفيوضات الالهية في ملكوتية الاشياء ورؤية تجلي اسمائه وصفاته سبحانه في مرايا الموجودات. عبروا عن هذه الحقائق - لضيق الالفاظ - بالالوهية السارية والحياة السارية. هذه الحقائق لم يفهمها اولئك، اذ طبقوا شطحات المحققين الصوفيين على وهام واهية ناشئة من سوء الفهم وفقر الاستعداد.. فسحقاً وبعداً لعقولهم.
ان الافكار المجردة للعلماء المحققين التي هي بسمو الثريا ابعد بكثير من افكار سافلة للمقلدين الماديين التي هي في دركات الثرى.
نعم! ان محاولة تطبيق هذين الفكرين، في هذا العصر، عصر الرقي، دليل على اصابة العقل البشري بسكتة دماغية، وتنظر الانسانية الى هذا الامر نظر الاسف والاسى وتضطر الى ان تقول بلسان مواهبها وقابلياتها للرقي والتحقيق العلمي: [كلا.. والله.. اين الثرى من الثريا، واين الضياء من الظلمة الدامسة].
اشارة: ان هؤلاء هم اصحاب "وحدة الشهود"، ولكن قد يعبّر عنهم مجازاً باهل "وحدة الوجود" حيث ان وحدة الوجود على حقيقته مسلك باطل لقسم من الفلاسفة القدماء. تنبيه:
لقد قال رئيس هؤلاء المتصوفة وكبيرهم: "من ادّعى الاتصال او الاتحاد اوالحلول، لم يشم من معرفة الله شيئاً. كيف يتصل او يتحد الممكن بالواجب؟ بل أي قيمة للممكن حتى يحل فيه الواجب، تعالى الله وتقدس مما توهم المتوهمون" نعم يتجلى


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 132
فيض من فيوضات الله في الممكن. فمسلك هؤلاء لا علاقة له ولا مناسبة فيه مع اولئك، ولاتماس بينهما قطعاً، لان مسلك الماديين حصر النظر في المادة والاستغراق فيها، حتى تجردت افكارهم وتعرت اذهانهم عن فهم الالوهية وابتعدوا عنه، بل اعطوا للمادة قيمة واهمية عظيمة حتى رأوا فيها كل شئ. بل ولج قسم منهم في مسلك دنئ حيث مزجوا الالوهية بالمادة.
اما اهل "وحدة الشهود" وهم المحققون الصوفيون فقد حصروا نظرهم في واجب الوجود حتى لم يروا للممكنات قيمة، فقالوا: هو الموجود..
الانصاف الانصاف ايها الناس! فالبعد بين المذهبين بعد الثرى عن الثريا. اقسم بالله الذي خلق المادة بانواعها واشكالها، لا ارى في الدنيا ابشع واخسّ وانعى على صاحبه بانحراف مزاج عقله من الرأى الاحمق الذي ينتج التماس بين هذين المسلكين.تنوير:
لو افترض - مثلاً - ان الكرة الارضية قد تشكلت من قطع زجاجية صغيرة جداً مختلفة الالوان، فلا شك ان كل قطعة منها ستستفيض من نور الشمس حسب تركيبها وجرمها ولونها وشكلها.
فهذا الفيض الخيالي ليس الشمس بذاتها ولا ضياءها بعينه. اذ لو نطقت الوان الازهار الزاهية المتجددة - والتي هي تجليات ضياء الشمس، وانعكاسات الوانه السبعة - لقال كل لون منها: ان الشمس مثلي. او ان الشمس تخصني انا.
آن خيالاتى كه دام اولياست عكس مهرويان بوستان خداست 1
ولكن مشرب اهل وحدة الشهود هو: الصحو والتمييز والانتباه، بينما مشرب اهل وحدة الوجود هو: الفناء والسكر. والمشرب الصافي هو مشرب الصحو والتمييز.
حقيقــــــة المرء ليــس المرء يدركها فكيـــف كيفية الجــبار ذي القــدم
هو الذي ابدع الاشــياء وانشــأها فكيف يدركه مستحدث النسم؟ 2
_____________________
1 بيت شعر باللغة الفارسية يعني: (ان الخيالات التي هي شباك الاولياء انما هي مرآة عاكسة تعكس الوجود النير في حديقة الله). والشعر للرومي في مثنويه ج1 / ص3 ط. بومباي.
2 ينسب الى الامام علي كرم الله وجهه - ديوان الامام علي ص158 - بيروت.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 133
تنبيه:هذه هي الدلائل الاجمالية لوجود الصانع، سترد تفاصيلها في الكتب الثلاثة.
اذا قلت: اريد بيان دلائل التوحيد ولو اجمالاً.
اقول: ان دلائل التوحيد اكثر بكثير من ان يضمها هذا الكتاب. وما تضمنته الآية الكريمة
(لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا) (الانبياء: 22) من برهان التمانع دليل كاف، ومنار ساطع على هذا المنهاج.
نعم! الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للالوهية.
ان تشابه آثار العالم، وتعانق اطرافه، واخذ بعضه بيد بعض، وتكميل بعضه انتظام البعض الآخر، وتجاوب الجوانب، وتلبية بعض لسؤال بعض، ونظر الكل الى نقطة واحدة، وحركة الكل بالانتظام على محور نظام واحد، تلوّح بوحدانية الصانع بل تصرح: بان صانع هذه الماكنة الواحدة واحد. وتتلو على الكل:
وفي كل شئ له آيــــة تدل علــى انه واحـــد
ان الابعاد الشاسعة غير المتناهية للآفاق صحائفُ كتاب العالم
والاثار التي لا تعد سطورُ كائنات الدهر
لقد طُبعت في لوح الطبيعة المحفوظ:
ان كل موجود لفظ مجسم حكيم.
لا شك ان الشاعر الفاضل "تحسين" 1 لا يقصد بغير المتناهي وغير المعدود معناه الحقيقي وانما امر نسبي.
اشارة: ان الصانع الجليل متصف بجميع الاوصاف الكمالية. لانه من المقرر: ان ما في المصنوع من فيض الكمال، مقتبس من ظل تجلي كمال صانعه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحسن ما هو اعلى بدرجات غير متناهية حتماً من عموم ما في الكائنات من الحسن والكمال والجلال. اذ الاحسان
_____________________
1 اصله من ألبانيا درس العلوم الحديثة في باريس ثم اصبح مديراً لدار الفنون (الجامعة) باستانبول. عالم فاضل وشاعر رقيق الاّ انه لم يطبع له ديوان. توفي سنة 1291 رومي. - المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 134
فرع لثروة المحسن ودليل عليها، والايجاد، لوجود الموجد، والايجاب لوجوب الموجب، والتحسين لحسن المحسن المناسب له.
وكذلك ان الصانع منزّه عن جميع النقائص، لأنها تنشأ من عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرد عن الماديات. وكذلك انه تعالى مقدس عن لوازم واوصاف نشأت من امكان ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جلاله.

مقدمةان قلت: لقد ذكر في الديباجة ان الكلمة الثانية من كلمتي الشهادة شاهدة على الاولى ومشهودة.
الجواب: نعم ! ان أقوى منهج من بين المناهج المؤدية الى معرفة الله، كعبة الكمالات، واكثرها استقامة، هو المحجة البيضاء التي سلكها صاحب المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم. ذلك المنهج الذي ترجمه لسانه الصادق المبارك العاكس كالمرآة لما في قلبه الشريف - الذي هو كمشكاة مطلة على عوالم الغيب - فهو صلى الله عليه وسلم روح الهداية، واصدق شاهد حي وافصح برهان ناطق واقطع حجة على الصانع الجليل؛ اذ من حيث الخليقة، ذاته برهان باهر، ومن حيث الحقيقة لسانه شاهد صادق.
نعم! ان محمداً صلى الله عليه وسلم حجة قاطعة على وجوده تعالى وعلى النبوة وعلى الحشر وعلى الحق وعلى الحقيقة. كما سيأتي تفصيله.
تنبيه : لا يلزم الدور؛ لان صدقه ثابت بادلة لاتتوقف على ادلة الصانع.
تمهيد: ان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم برهان على وجوده تعالى، لهذا يجب اثبات صدق هذا البرهان، ونتاجه وصحته صورة ومادةً، نحو:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 135
المقصد الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد الذي دل على وجوب وجودك
اما بعد:
فياعاشق الحقيقة! ان كنت تتحرى الحقائق بمطالعة وجداني انا، فطهّر قلبك، تلك اللطيفة الربانية، من الصدأ، اي: الرغبة في المعارضة والخلاف.. والتزام طرف المخالف والمعارض.. واعذار النفس بارجاع اوهامك الى اصل لتحقيقها.. وطلب رؤية نتيجة المجموع في كل فردٍ، الذي يضعف بانفراده عن حمل النتيجة، فيجلب لك استعداداً سيئاً لردّ النتيجة.. او التطلع بطبيعة الصبيان، او سجية الاعداء، اي التشبث بحجج واهية.. او تقمص طبيعة المشتري الذي يتحرى العيوب والنقائص.. وامثالها من الامور.
فاصقل تلك المرآة وطهرها منها، ثم ابدا بالموازنة والمقابلة واجعل الشعلة الجوّالة الناتجة من امتزاج اكثر الامارات قرينة منوِّرة على اقلها، كي تتنور هذا القليل من اوهامك المظلمة ويندفع.
ثم استمع بقلب شهيد وبانصاف ورويّة، ولا تعترض حتى يبلغ الكلام أجله، فانه الى الختام جملة واحدة، حكم واحد، ومن بعد ذلك ان بقي لك ماتقول فاذكره.
استمع الى ما اقول فاني ابدأ بالاصغر: برهان النبوة مطلقاً، ثم الاكبر: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اعلم! ان حكمة الصانع الجليل.. وعدم العبثية في افعاله.. ومراعاته النظام في اقل ما في العالم.. وعدم اهماله اخسّ مافيه.. وضرورة حاجة البشرية الى مرشد.. كل ذلك يستلزم قطعاً النبوة في نوع البشر.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 136
ان قلت: لم افهم هذا الاجمال، يرجى التفصيل:
اقول: اسمع، فانك تشاهد ان النبوة المطلقة التي هي بمثابة معدن نظام البشرية المادي والمعنوي، ومركز انتظام احوال كثير من الانواع التي ضمتها تحت تصرفها قوة العقل.. هذه النبوة المطلقة برهانها: رقي الانسان على الحيوانية في ثلاث نقط:النقطة الاولى:ادراك الانسان وكشفه عن الترتيب في الاشياء، الناشئ من العلل المترتبة المتسلسلة في الخلقة.. وقابليته العلمية والتركيبية ومعرفته الحاصلة من تحليله مركبات بذور كمالات الانسانية الى بسيطات، وارجاعها الى اصلها.. وقدرته على محاكاة الطبيعة،ومساوقة نواميس الله الجارية في الكون بصنعته ومهارته، بالسر الكامن في القاعدة: (بداية الفكر نهاية العمل، نهاية الفكر بداية العمل).فالانسان الذي هذه قابلياته، يدرك قصور نظره في صنعت، وزحمة الاوهام عليه، وافتقاره في جبلته الانسانية.. مما يدله على حاجته الماسة الى نبي مرشد، يحافظ على موازنة النظام المتقن في العالم.

النقطة الثانية: هي استعداد الانسان غير المتناهي، وآماله ورغباته غير المحصورة، وافكاره وتصوراته غير المحدودة، وقوته الشهوية والغضبية غيرالمحددّة.
فنرى الانسان يتأسفُ ويتأفف ويقول: ليت كذا وكذا، حتى لو منح ملايين السنين من العمر وتمتع بلذائذ الدنيا وحكم حكماً نافذاً في كل شئ.. وذلك بحكم اللاتناهية المغروزة في استعداده، فكأن عدم الرضا هذا يرمز ويشير الى ان الانسان مرشح للأبد، ومخلوق للسعادة الابدية. كي يتمكن من تحويل استعداده غير المحصور من طور القوة الى طور الفعل في عالم غير متناهٍ وغير محدود بحدود، واوسع بكثير من عالمه هذا.
ان عدم العبثية، وثبوت حقائق الاشياء تومئان الى: ان هذه الدنيا الدنية الضيقة المحصورة، وتزاحم كثير من الاعراض فيها والتي لاتخلو من التحاسد والاضطراب،


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس