الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #14
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 137
لاتسع كمالات الانسانية، بل تحتاج تلك الكمالات الى عالم ارحب لا تزاحم فيه، كي يتسنبل استعداد البشر وينمو نمواً كاملاً، فيكون منسجماً مع نظام العالم بانتظام احوال كمالاته.
ولقد اُومئ الى الحشر استطراداً، وسيُبرهن بالبرهان القاطع في موضعه. ولكن الذي اريد قوله هو:
ان استعداد الانسان مسدّد نحو الأبد. فان شئت فتأمل في جوهر الانسانية، وقيمة ناطقيته، ومقتضى استعداده، ثم انظر الى الخيال الذي هو اصغر خادم لجوهر الانسانية، واذهب اليه وقل: ايها الخيال السيد، أبشر فسيوهب لك عمراً يزيد على ملايين السنين مع سلطنة الدنيا وما فيها.. ولكن عاقبتك الفناء والعدم وعدم العودة الى الحياة. ثم انظر كيف يقابلك الخيال؟ أبالبشارة والسرور ام بالحسرة والندامة؟
بل ان جوهر الانسانية سيئنّ في اعماق الوجدان:
آه.. واحسرتاه.. على فقدان السعادة الابدية. وسيعنف الخيال ويزجره: يا هذا لا ترض بهذه الدنيا الفانية.
فياايها الاخ!
ان كانت سلطنة الدنيا الفانية لا تشبع خادم سلطان الانسانية او شاعره او صناعه او مصوره - وهو الخيال - ولا ترضيه، فكيف تشبعه وهو السيد الذي يعمل بين يديه الكثيرون من امثال ذلك الخادم؟
نعم انها لا تشبعه، ولن تشبعه الا السعادة الابدية المكنونة في صَدَف الحشر الجسماني.

النقطة الثالثة:
هي اعتدال مزاج الانسان، ولطافة طبعه، وميله الى الزينة، اي ميله الفطري الى العيش اللائق بالانسانية.
نعم ! ان الانسان لايعيش عيش الحيوانات، ولايسعه ذلك فهو محتاج لتحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه الى تلطيفها واتقانها بصنائع جمة، لا يقتدر هو


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 138
بانفراده عليها كلها، ولهذا احتاج الى الامتزاج مع ابناء جنسه، ليتشاركوا فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. ولكن لتجاوز قوى الانسانية على الاخرين - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة الى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لان عقل كل واحد لا يكفي في درك العدالة، احتاج النوع الى وضع قوانين كلية.. ثم لمحافظة تأثيرها ودوامها، لابد من مقنن يجريها.. ثم لادامة حاكمية ذلك المقنن في الظاهر والباطن يحتاج الى امتياز وتفوق - مادة ومعنىً - و يحتاج ايضاً الى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم.. ثم لتأسيس اطاعة الاوامر وتامين اجتناب النواهي يحتاج الى ادامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الاذهان.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج الى مذكّر مكرِر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرِّر الاّ العبادة... وهذه العبادة توجه الافكار الى الصانع الحكيم، وهذا التوجه يؤسس الانقياد. والانقياد هو للايصال الى النظام الاكمل والارتباط به. وهذا النظام الاكمل يتولد من سر الحكمة، وسر الحكمة يشهد عليها اتقان الصنع وعدم العبثية.
فاذا علمت هذه الجهات الثلاث من تمايز الانسان عن سائر الحيوانات انتج لك بالضرورة: ان النبوة المطلقة في نوع البشر قطب بل مركز ومحور تدور عليه احوال البشر وذلك كالاتي:
دقق النظر في الجهة الاولى:
انه لما لم يكف ميل الانسان الطبيعي وسوق انسانيته، وقصر نظره، واختلاط الاوهام في طريق عقله.. احتاج البشر اشد الحاجة الى مرشد ومعلم.. فذلك المرشد هو النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تدبر في الجهة الثانية:
ان اللاتناهية المغروزة في الانسان، وميله الى التجاوز في طبيعته، وعدم تحدد قواه، وعدم انضباط آماله. هذه اللاتناهية في الميول والآمال لايسعها قانون البشر الذي لا ينطبق على قامة استعداده النامية كثمرة لميله الى الترقي الذي هو غصن من شجرة ميل الاستكمال في العالم.
فعدم كفاية هذا القانون البشرى الحاصل نتيجة تلاحق الافكار والتجارب التدريجية، لإنماء بذور ثمرة استعدادات الانسان، احتاج الى شريعة الهية حية خالدة تحقق له سعادة الدارين معاً مادةً ومعنىً، وتتوسع حسب قامة استعداداته ونموها...


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 139
فالذي اتى بالشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
اذا قلت: اننا نشاهد ان احوال الملحدين او ذوي الاديان المنحرفة تجري على وفق العدالة والانتظام.
الجواب: ان تلك العدالة والانتظام انما نشآ بتذكير اهل الدين وارشاداتهم. فاسس العدالة والفضيلة شيّدها الانبياء عليهم السلام. اي ان الانبياء هم الذين ارسوا تلك القواعد والاسس. ثم اخذ هؤلاء بالفضيلة وعملوا بها ما عملوا، زد على ذلك فان نظامهم - وكذا سعادتهم - ليس دائماً بل موقتاً، فهو ان كان قائماً ويستقيم من جهة فهو منحرف ومائل من جهات كثيرة. اي: مهما يبدو منتظماً في صورته ومادته ولفظه ومعاشه الاّ انه في سيرته ومعناه وروحه فاسد ومختل.
ايها الاخ! الآن بدأ دور الجهة الثالثة. تفكر جيداً في الآتي:
ان الافراط والتفريط في الاخلاق يفسدان الاستعدادات والمواهب. وهذا الافساد ينتج العبثية، وهذه العبثية مناقض للحكمة الالهية المهيمنة برعاية المصالح والحكم حتى على اصغر شئ في العالم.
ان مايقال من "مَلَكة معرِفة الحقوق" اي التحسس احساساً مادياً بضرر كل ماهو فاسد، وكذا مايقال من "ملكة رعاية الحقوق" الحاصلة من تنبيه الافكار العامة وبث الوعى فيها. هذان الامران يجعلهما الملحدون بديلاً عن الشريعة الالهية. ان تصورهم هذا واستغناءهم عن الشريعة توهم باطل ليس الاّ. لأنه لم يظهر لحد الآن شيء من هذا الأمر في الدنيا وقد هرمت، بل حتى مقدماته! وانما صح العكس، اذ كلما رقت المحاسن رقت المساوي ايضاً وتزينت بارغب زي واخدعه.
نعم! ان نواميس الحكمة لا تستغني عن دساتير الحكومة، كما تحتاج البشرية اشد الحاجة الى قوانين الشريعة والفضيلة الحاكمة على الوجدان.
وهكذا فملكة تعديل الاخلاق الموهومة لا تكفي للمحافظة على القوى الثلاثة في الحكمة والعفة والشجاعة، لذا فالانسان بالضرورة محتاج الى نبي يمسك بميزان العدالة الالهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع.
اشارة: لقد ظهر الوف الانبياء عليهم السلام واعلنوا النبوة واثبتوا نبوتهم بمعجزاتهم التي تربو على الالوف. فجميع اولئك الانبياء الكرام يعلنون بمعجزاتهم


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 140
بلسان واحد وجود النبوة المطلقة في نوع البشر، فهي برهان قاطع على النبوة المطلقة، صغرى البراهين. وهذا مايسمى بالتواتر بالمعنى او سمّوه ماشئتم من الاسماء، فهو دليل قوى.
تنبيه:
ان جهة الوحدة لهذه المحاكمات العقلية هي :
انه اذ اُخذت العلوم جميعها ونُظر الى ما كشفته بقواعدها الكلية من اتساق وانتظام.. ودُقق النظر في افعال واهية وامور ضعيفة تترابط وتتصل بخميرة تجمع مصالحها الجزئية المتفرقة، تلك هي اللذة او المحبة او امر آخر اودعته العناية الالهية في تلك الافعال والامور كما في المأكل والمنكح.. واذا عُلم عدم العبثية الثابت بشهادة الحكمة، وعدم الاهمال... فان النتيجة الحاصلة بالاستقراء التام هي:
ان النبوة التي هي قطب المصالح الكلية ومحورها ومعدن حياتها ضرورية لنوع البشر. فلو لم تكن النبوة لهلك النوع البشري. اذ كأنه ألقي من عالم مختل الى عالم منظم، فيخل بالقوانين الجارية العامة..
تنبيه:
ايها الأخ! فلو قبل هذا الفرض فكيف تجابه الانسانية سائر المخلوقات في العالم؟.. اذا انتقش في ذهنك صغرى براهين الصانع، فتهيأ لندخل الى مبحث كبرى براهينه وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اشارة وارشاد:
البرهان الاكبر صادق. فاذا ما طالعت آثار الانبياء المنقوشة في صحيفة العبر في العالم ، واستمعت الى احوالهم الجارية بلسان التاريخ واستطعت ان تجرد الحقيقة - اي جهة الوحدة - من تأثير صور الزمان والمكان.. ترى: ان اموراً دفعت البشرية الى تسميتهم بالانبياء هي:
ان حقوق الله وحقوق العباد التي هي ضياء العناية الالهية وشعلة المحاسن المجردة، قد اتخذها الانبياء عليهم السلام دستور حركتهم.. ومعاملة الانبياء مع اممهم.. وتلقي الامم لهم.. وتركهم منافعهم الشخصية لاجل دعوتهم.. واموراً اخرى غيرها دفعت البشرية الى اطلاق النبوة عليهم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 141
اما الاسس التي هي مدار النبوة فهي تظهر باكمل وجه واظهره فيه صلى الله عليه وسلم، اذ هو استاذ ابناء البشر في سن كمال البشر، ومنبع العلوم العالية في مدرسة جزيرة العرب ومعلهما.
بمعنى انه بالاستقراء التام ولاسيما في النوع الواحد، ولاسيما بتأييد القياس الاولوي، وباعانة القياس الخفي المبني على الانتظام المطرد تنتج: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وبتجريد الخصوصيات المسماة بتنقيح المناط، فان جميع الانبياء عليهم السلام، يشهدون بلسان معجزاتهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم البرهان الباهر على وجود الصانع الجليل.

اعتذار:
اني لا اورد كلامي في جمل قصيرة، فتكون غامضة مع شئ من الاغلاق، اذ لما كانت هذه الحقائق قد مدت جذورها في كل جهة فان المسألة تطول، لذا لا اريد تجزئة صورة المسألة والاخلال بها وايلام الحقيقة. وانما اريد احاطة الحقيقة بسور دائري حوله، كي تنحصر الحقيقة ولا تفلت، فان لم استطع مسكها فليمسكها غيري. وان اعذرتموني فبها ونعمت، والاّ فكلٌ حرّ فيما يراه، ولا سبيل الى الاكراه .


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 142
"براهين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم"

مقدمة
ان كل حال من احواله صلى الله عليه وسلم، وكل حركة من حركاته دليل على صدقه .
نعم! ان عدم التردد في كل حركة من حركاته، وعدم مبالاته بالمعترضين، وعدم تخوفه من المخالفين.. شاهد على صدقه وجديته.
وان اصابته روح الحقيقة في اوامره كلها تدل على انه على الحق المبين.
نحصل من هذا: انه في الوقت الذي هو مبرأ من التخوف والتردد والاضطراب وامثالها من الامور التي تومئ الى الحيلة وعدم الثقة وفقدان الاطمئنان، تراه يلفت نظر اهل الدقة الى كل فعل من افعاله والى كل طور من اطواره، يلفتهم بالمبدأ على صدقه وفي المنتهى على اصابته الحق؛ اذ يعمل في اخطر المواقع دون تحرج وبقوة اطمئنان بالغ، ومن بعدذلك بلوغه الهدف في الختام بتأسيسه القواعد الحية المثمرة لسعادة الدارين، ولاسيما اذا لوحظ مجموع حركاته وامتزاجا، فالجدية واصابته الحق تشعان كالشعلة الجوالة، ويتجلى لعينك برهان نبوته من انعكاساتها وموازناتها.
اشارة: ان الزمان الماضي والزمان الحاضر - اي عصر السعادة النبوية - والمستقبل يتضمنان براهين نيّرة على النبوة، ويرددان بلسان واحد برهان ذاته صلى الله عليه وسلم بانه معدن الاخلاق العالية وداعي الصدق ودلال النبوة. فهذه الازمنة تدل وتعلن عن نبوته وتبينها حتى لمن فقد بصره، ولهذا سنطالع هذه الصحف الثلاث والمسالة العظمى من ذلك الكتاب.. وهي ذاته المباركة صلى الله عليه وسلم، فنزوره ونبين مدّعانا الذي هو البرهان الاكبر.
وبناء على هذه النقاط فمسالك النبوة اربعة. والخامسة منها مشهورة مستورة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 143
المسلك الاول للنبوة
يعني لا بد من معرفة اربع نكت لنرى ذاته الشريفة:
احداها: انه " ليس الكحل كالتكحل" اي لا يصل الصنعي والتصنعي - ولو كانا على اكمل الوجوه - مرتبة الطبيعي والفطري، ولا يقوم مقامه ، بل تومئ فلتات هيئته العامة الى التصنع والتكلف.
ثانيتها: ان الاخلاق العالية انما تتصل بارض الحقيقة بـ "الجدية" وان ادامة حياتها وانتظام مجموعها انما هي بـ"الصدق". ومتى ما انقطعت عرى الصدق والجدية منها صارت كهشيم تذروه الرياح.
ثالثتها:من القواعد وجود الميل والجذب في الامور المتناسبة ووجود الدفع والتنافر في الامور المتضادة، فكما ان هذه القاعدة جارية في الماديات، جارية ايضاً في الاخلاق والمعنويات.
رابعتها: للكل حكمٌ ليس لكلٍ.. ان آثار محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة وتاريخ حياته تشهد - مع تسليم اعدائه - بانه لعلى خلق عظيم، وانه قد اجتمعت فيه الخصال العالية كافة. ومن شأن امتزاج كثرة من تلك الاخلاق وتجمعها واحاطتها، توليد عزة النفس،التي تولد شرفاً ووقاراً يترفعان عن سفساف الامور، كترفع الملائكة وتنزههم عن الاختلاط بالشياطين، فالاخلاق السامية كذلك لاتسمح اصلاً بتداخل الحيلة والكذب بينها، بل تتنزه وتتبرأ وتترفع عنها، بحكمة التضاد فيما بينها.
ثم ان حياة هذه الاخلاق الرفيعة وروحها هي: الصدق واصابة الحق، فهما يضيئان كالشعلة المنورة ويعلنان عنها.
ايها الاخ! ألا ترى ان الشخص المشتهر بالشجاعة وحدها يترفع عن الكذب، لئلا يخل بالمقام الذي تعطيه تلك الصنعة، فكيف اذا اجتمعت جميع الخصال الرفيعة؟ نعم، للكل حكم ليس لكلٍ.
نشاهد في الوقت الحاضر: ان المسافة بين الصدق والكذب لاتتجاوز الاصبع، فكلاهما يباعان في سوق واحدة، ولكن لكل زمان حكمه، اذ لم يحدث قط في أي وقت مضى ان اتسعت الشقة بين الصدق والكذب اتساعه الذي حدث في عصر السعادة النبوية. فقد انجلى الصدق ببهائه الحقيقي وبكمال الاحتشام والهيبة واعتلى


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 144
محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الامين اعلى عليي الصادقين، واوقع انقلاباً عظيماً في العالم فاظهر بُعدَ الصدق عن الكذب بُعد مابين المشرق والمغرب. فراج سوق الصدق ومتاعه في ذلك القرن.
اما الكذب الشبيه باشلاء الاموات والجثث. فقد ظهر قبحه وسماجته، وتردّى بمن تمسك به من امثال مسيلمة الكذاب الى اسفل سافلي الانسانية. فكسد سوقه ولم ترج بضاعته في ذلك القرن.
وهكذا فمن طبائع العرب الاعتزاز والتفاخر، والرغبة في الرائج من المتاع، لذا تسارعوا وتسابقوا للتجمل بالصدق والبعد عن الكذب، ونشروا راية العدل على العالمين. ومن هنا نشأت عدالة الصحابة عقلاً. اذا انعم الانسان النظر في السيرة والتاريخ والآثار، ودقق حاله صلى الله عليه وسلم من الرابعة من عمره الى الاربعين، مع ان شأن الشبابية وتوقد الحرارة الغريزية تظهر ما يخفى، وتلقى الى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحيل، تراه صلى الله عليه وسلم قد تدرج في سنيه وعاشر باستقامة كاملة، ومتانة بالغة، وعفة تامة، مع اطراد وانتظام، وما اومأ حالٌ من احواله الى حيله، لاسيما في مقابلة المعاندين الاذكياء.
وبينما تراه صلى الله عليه وسلم كذلك اذ تنظر اليه وهو على راس اربعين سنة الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعادات طبيعة ثابتة لاتخالف، قد اوقع انقلاباً عظيماً في العالم.. فما هو الاّ من الله.
فمن لم يصدق انه من الحق وعلى الحقيقة المحضة، فقد اختفى اذاً في ذهنه سوفسطائي. الا ترى انه صلى الله عليه وسلم كيف كان حاله في امثال واقعة الغار الذي انقطع بحسب العادة امل الخلاص، اذ يتصرف بكمال الوثوق وغاية الاطمئنان والجدية..
كل ذلك شاهد كاف على نبوته وجديته ودليل قاطع على تمسكه بالحق.
المسلك الثاني
ان صحيفة الماضي برهان على نبوته، بملاحظة اربع نكت:
احداها: ان من يأخذ اساسات علم وفن - او في القصص - ويعرف روحه والعقد الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها، فان ذلك يدل على مهارته وحذاقته في ذلك العلم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 145
ثانيتها: ايها الاخ ! ان كنت عارفاً بطبيعة البشر، لا ترى احداً يتجاسر بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو حقيراً، في قوم ولو قليلين، في دعوىً ولو حقيرة، بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة، وله دعوى في غاية الجلالة، ويعيش بين قوم في غاية الكثرة، ويقابله عناد في غاية الشدة، ومع انه امّي لايقرأ ولايكتب، الاّ انه يبحث في امور لايستقل فيها العقل وحده، ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الاشهاد.. افلا يدل هذا على صدقه؟
ثالثتها: ان كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدنيين - بتعليم العادات والاحوال وتلقين الوقوعات والافعال - مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فلابد لمن يحاكم محاكمة عقلية، ويتحرى حال البدويين ان يفرض نفسه في تلك البادية.
فان شئت راجع المقدمة الثانية، فقد اوضحت هذه النكتة.
رابعتها: لو ناظر امىّ علماء علم، ثم بيّن رأيه في مسائله مصدقاً في مظان الاتفاق، ومصححاً في مطارح الاختلاف، يدلك ذلك على تفوقه، وان علمه وهبي لا كسبي.
فبناء على هذه النكتة نقول:
ان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع اميته، كأنه بالروح الجوالة الطليقة طوى الزمان والمكان، فدخل في اعماق الماضي، وبيّن كالمشاهد لأحوال الانبياء عليهم السلام، وشرح اسرارهم على رؤوس العالم، في دعوى عظيمة تجلب اليها انظار الاذكياء. وقد قص قصصهم بلا مبالاة ولا تردد وفي غاية الثقة والاطمئنان، واخذ العقد الحياتية فيها واساساتها، مقدمة لمدّعاه مصدقاً فيما اتفقت عليه الكتب السالفة ومصححاً فيما اختلفت فيه. فثبت ان حاله هذه دليل على نبوته.
ان مجموع دلائل نبوة الانبياء عليهم السلام، دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وجميع معجزاتهم معجزة معنوية له.
ايها الاخ!
قد يحل القَسَم محل البرهان، لانه يتضمن البرهان لذا: [والذي قص عليه القصص للحصص، وسيّر روحه في اعماق الماضي وفي شواهق المستقبل، فكشف له


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 146
الاسرار في زوايا الواقعات، ان نظره النقاد ادق من ان يُدلَّس عليه، ومسلكه الحق اغنى من ان يُدلِسَ على الناس].
نعم! ان الخيال لايستطيع ان يظهر نفسه حقيقة لنور نظره صلى الله عليه وسلم، ومسلكه الحق اغنى من ان يدلس او يغالط الناس.

المسلك الثالث
في بيان صحيفة الحال الحاضرة - اعني عصر السعادة النبوية - فها هنا ايضاً اربع نكت؛ ونقطة لا بد من انعام النظر فيها:
احداها: انك اذا تأملت في العالم ترى انه قد يتعسر ويستشكل رفع عادة ولو حقيرة، في قوم ولو قليلين، أو خصلة ولو ضعيفة في طائفة ولو ذليلين، على ملك ولو عظيماً، بهمة ولو شديدة، في زمان مديد بزحمة كثيرة، فكيف انت بمن لم يكن حاكماً، تشبث في زمان قليل بهمة جزئية بالنسبة الى المفعول، وقلع عادات ورفع اخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستأنست بها نهاية استئناس واستمرت غاية استمرار، فأرسى فجأة بدلها عادات واخلاقاً تكملت دفعة في قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب، أفلا تراه خارقاً للعادات؟ فان لم تصدق بهذا فسأورد اسمك في قائمة السوفسطائيين.
ثانيتها: هي ان الدولة شخص معنوي، تشكُّلها تدريجي - كنمو الطفل - وغلبتها للدول العتيقة - التي صارت احكامها كالطبيعة الثابتة لملتها - متمهلة تدريجية ايضاً. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادة تشكل الدول، تشكيل محمد صلى الله عليه وسلم لحكومة عظيمة، في زمان قصير، وغلبتها للدول العظمى دفعة، مع ابقاء حاكميته لا على الظاهر فقط بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً. فان لم تستطع رؤية هذه الامور الخارقة، فانت في طائفة العميان!
ثالثتها: هي انه يمكن بالقهر والجبر تحكم ظاهري، وتسلط سطحي، لكن الغلبة على الافكار والتأثير بالقاء حلاوته في الارواح والتسلط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون الاّ من خوارق العادات. وليس الاّ الخاصة الممتازة للنبوة. فان لم تعرف هذه الحقيقة فانت غريب عنها.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس