الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الثالثة

لقد مازج هذه ((اللـمعة)) شيء من الاذواق والـمشاعر، فأرجو عدم تقييـمها بـموازين علـم الـمنطق؛ لأن ما تـجيش به الـمشاعر لايراعي كثيراً قواعد العقل ولايعير سمعا الى موازين الفكر.

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} كلُّ شىءٍ هالكٌ إلاّ وَجْهَهُ لـه الـحكْمُ وإليه تُرْجَعون{ (القصص:88)

هذه الآية العظيـمة تفسرها جـملتان تعبّران عن حقيقتين مهمتين بـحيث اتـخذهما قسم من شيوخ الطريقة النقشبندية بـمثابة زبدة الاوراد لديهم، يؤدون بهما ختـمتهم الـخاصة. والـجـملتان هما:

ياباقي انت الباقي. ياباقي انت الباقي.

ولـما كانت هاتان الـجـملتان تنطويان على معان جليلة لتلك الآية الكريـمة، فسنذكر بضع نكات لبيان الـحقيقتين اللتين تعبّران عنهما:

u النكتة الاولى:

ان ترديد ((ياباقي انت الباقي)) للـمرة الاولى، يـجرّد القلب مـما سوى الله تعالى، فيـجرى ما يشبه عملية جراحية فيه، ويقطعه عما سواه سبـحانه. وتوضيـح هذا:

ان الانسان بـما اودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع اغلب الـموجودات بأواصر ووشائج شتى. ففي تلك الـماهية الـجامعة من الاستعداد غير الـمـحدود للـمـحبة ما يـجعلـه يكنّ حباً عميقاً تـجاه الـموجودات عامة، فيـحب الدنيا العظيـمة كما يـحب بيته، ويـحب الـجنة الـخالدة كما يـحب حديقته. بينـما الـموجودات – التي وجّه الانسانُ حبه منحوها – لا تدوم، بل لا تلبث أن تزول، لذا يذوق الانسان دائماً عذاب ألـم الفراق. فتصبـح تلك الـمـحبة التي لامنتهى لـها مبعث عذاب معنوي لامنتهى لـه، لتقصيره بـحقها. فالآلام التي يتـجرعها ناشئة من تقصيره هو، حيث لـم يودع فيه استعداد الـمـحبة إلا ليوجهه الى مَن لـه جـمال خالد مطلق. بينـما الانسان لـم يـحسن استعمال مـحبته فوجهها الى موجودات فانية زائلة، فيذوق وبال أمره بآلام الفراق.

فعندما يردد الانسان: ياباقي انت الباقي. يعني بها: البراءة الكاملة من هذا التقصير، وقطع العلاقات مع تلك الـمـحبوبات الفانية، والتـخلي عنها كلياً، قبل ان تتـخلى هي عنه. ثم تسديد النظر في الـمـحبوب الباقي وهو الله سبـحانه دون سواه.

أي يقول بها: ((لاباقي بقاء حقيقياً إلاّ أنت يا إلـهي. فما سواكَ فانٍ زائلٍ، والزائل غير جدير بالـمـحبة الباقية ولا العشق الدائم، ولا بأن يشد معه أواصر قلب خُلق اصلا للابد والـخلود)). وحيث ان الـموجودات فانية وستتركني ذاهبة الى شأنها، فسأتركها أنا قبل ان تتركني، بترديدي: ((ياباقي انت الباقي)) أي: أؤمن وأعتقد يقينا انه لا باقي إلاّ أنت يا إلـهي، وبقاء الـموجودات موكول بإبقائك اياها، فلا يوجه اليها الـمـحبة اذاً الاّ من خلال نور مـحبتك، وضمن مرضاتك، وإلاّ فانها غير جديرة بربط القلب معها.

فهذه الـحالة تـجعل القلب يتـخلى عن مـحبوبات كان يوليها مـحبة لاحدود لـها، حيث يبصر ختـم الفناء ويشاهد طابع الزوال على ما أضفي عليها من جـمال وبهاء. فتتقطع عندئذ تلك الوشائج التي كانت تربط القلب بالـموجودات. وبـخلاف هذا الامر أي ان لـم يتـخل القلب عن مـحبوباته فان جراحات وآلام وحسرات تتفجر من اعماقه بقدر تلك الـمـحبوبات الفانية.

أما الـجـملة الثانية:

((ياباقي انت الباقي)) فهي كالـمرهم الشافي والبلسم الناجع يـمرر على العملية الـجراحية التي أجرتها الـجـملة الاولى على القلب وروابطه، حيث انها تعني: ((كفى بك ياإلـهي باقياً. فبقاؤك بديل عن كلّ شيء.. وحيث انك موجود فكل شيء موجود اذاً)).

نعم! ان ما يبدو على الـموجودات من الـحسن والاحسان والكمال – والذي يبعث على مـحبتها – ما هو إلاّ اشارات لـحسن الباقي الـحقيقي واحسانه وكمالـه، وما هو إلاّ ظلال خافتة لذلك الـحسن والاحسان والكمال نفذت من وراء حـجب كثيرة وأستار عدة، بل هو ظلال لظلال تـجليات اسمائه الـحسنى جل جلالـه.

u النكتة الثانية:

في فطرة الانسان عشق شديد مـحو البقاء، حتى انه يتوهم نوعاً من البقاء في كل ما يـحبه، بل لا يـحب شيئاً إلاّ بعد توهمه البقاء فيه، ولكن حالـما يتفكر في زوالـه أو يشاهد فناءه يطلق عليه الزفرات والـحسرات من الاعماق.

نعم! ان جـميع الآهات والـحسرات الناشئة من انواع الفراق، انـما هي تعابير حزينة تنطلق من عشق البقاء. ولولا توهم البقاء لـما أحب الانسان شيئاً.

بل يصح القول:

ان سبباً من اسباب وجود عالـم البقاء والـجنة الـخالدة هو الرغبة الـملـحة للبقاء الـمغروزة في فطرة الانسان، والدعاء العام الشامل الذي يسألـه بشدة للـخلود.. فاستـجاب الباقي ذو الـجلال لتلك الرغبة الـملـحة ولذلك الدعاء العام الـمؤثر، فخلق سبـحانه عالـماً باقياً خالداً لـهذا الانسان الفاني الزائل، اذ هل يـمكن ألاّ يستـجيب الفاطرُ الكريـم والـخالق الرحيـم دعاء تسألـه البشرية قاطبة بلسان حالـها ومقالـها، ذلك الدعاء الكلي الدائمي الـحق والـخالص النابع من صميـم حاجتها الفطرية ومن اعماق رغبتها الـملـحة، مع انه يستـجيب دعاء معدة صغيرة، تسألـه بلسان حالـها، فيـخلق لـها أنواعا من الاطعمة اللذيذة ويشبع بها رغبتها الـجزئية للبقاء الـمؤقت؟ حاش لله وكلا.. الف الف مرة كلا. إنّ ردّ هذا الدعاء للـخلود مـحال قطعا، لأن عدم استـجابته جل وعلا ينافي حكمته الـخالدة وعدالته الكاملة ورحـمته الواسعة وقدرته الـمطلقة.

وما دام الانسان عاشقاً للبقاء، فلا بد أن جـميع كمالاته وأذواقه تابعة للبقاء ايضاً. ولـما كان البقاء صفة خاصة للباقي ذي الـجلال، وان اسماءه الـحسنى باقية، وان الـمرايا العاكسة لتـجليات تلك الأسماء تنصبغ بصبغتها وتأخذ حكمها، أي تنال نوعا من البقاء، فلابد أن ألزم شيء لـهذا الانسان وأجلّ وظيفة لـه هو شدّ الاواصر وربط العلاقات مع ذلك الباقي ذي الـجلال والاعتصام التام بأسمائه الـحسنى، لأن ما يُصرف في سبيل الباقي ينال نوعا من البقاء.

هذه الـحقيقة تعبّر عنها الـجـملة الثانية: ((ياباقي انت الباقي)) فتضمد جراحات الانسان الـمعنوية الغائرة، كما تطمئن رغبته الـملـحة للبقاء الـمودعة في فطرته.

u النكتة الثالثة:

يتفاوت في هذه الدنيا تأثير الزمان في فناء الاشياء وزوالـها تفاوتاً كبيراً. فمع ان الـموجودات مكتنفة بعضها ببعص كالدوائر الـمتداخلة، إلاّ ان حكمها من حيث الزوال والفناء مـختلف جداً.

فكما ان دوائر حركة عقارب الساعة العادة للثواني والدقائق والساعات تـختلف في السرعة، رغم تشابهها الظاهري، كذلك الامر في الانسان، حيث ان حكم الزمن متفاوت في دائرة جسمه، ودائرة نفسه، ودائرة قلبه، ودائرة روحه، فبينـما ترى حياة الـجسم وبقاءه ووجوده مـحصورة في اليوم الذي يعيش فيه او في ساعته، وينعدم امامه الـماضي والـمستقبل، اذا بك ترى دائرة حياة قلبه وميدان وجوده يتسع ويستع حتى يضم اياما عدة قبل حاضره واياما بعده، بل ان دائرة حياة الروح وميدانها اعظم واوسع بكثير حيث تسع سنين قبل يومها الـحاضر وسنين بعده.

وهكذا، بناءً على هذا الاستعداد، فان عمر الانسان الفاني يتضمن عمراً باقياً من حيث حياته القلبية والروحية اللتين تـحييان بالـمعرفة الالـهية والـمـحبة الربّانية والعبودية السبـحانية والـمرضيات الرحـمانية، بل ينتـج هذا العمر الباقي الـخالد في دار الـخلود والبقاء، فيكون هذا العمر الفاني بـمثابة عمر ابدي.

اجل! ان ثانية واحدة يقضيها الانسان في سبيل الله الباقي الـحق، وفي سبيل مـحبته، وفي سبيل معرفته وابتغاء مرضاته، تعد سنة كاملة. بل هي باقية دائمة لايعتريها الفناء. بينـما سنة من العمر ان لـم تكن مصروفة في سبيلـه سبـحانه فهي زائلة حتـما، وهي في حكم لـحظة خاطفة، فمهما تطول حياة الغافلين فهي بـمثابة لـحظات عابرة لاتـجاوز ثانية واحدة.

وهناك قول مشهور يدل على هذه الـحقيقة:

سِنة الفراق سَنةٌ وسَنةُ الوصال سِنة.

أي ان ثانية واحدة من الفراق طويلة جدا كأنها سَنة واحدة، بينـما سنة كاملة من الوصال تبدو قصيرة كالثانية الواحدة.

بيد اني أخالف هذا القول الـمشهور فأقول: ان ثانية واحدة يقضيها الانسان ضمن مرضاة الله سبـحانه وفي سبيل الباقي ذي الـجلال ولوجهه الكريـم. أي ثانية واحدة من هذا الوصال ليست كسنة وحدها، بل كنافذة مطلة على حياة دائمة باقية. أما الفراق النابع من نظر الغفلة والضلالة فلا يـجعل السنة الواحدة كالثانية، بل يـجعل الوف السنين كأنها ثانية واحدة.

وهناك مثل آخر اكثر شهرة من السابق يؤيد ما نقرره وهو:

أرض الفلاة مع الاعداء فنـجان سمّ الـخياط مع الاحباب ميدان

أما اذا اردنا ان نبين وجها صحيـحا للـمثل السابق فسيكون كالاتي:

ان وصال الـموجودات الفانية قصير جداً لأنه فان، فمهما طال فهو يـمضي في لـمـحة، ويغدو خيالا ذا حسرة، ورؤيا عابرة تورث الأسى. فالقلب الانساني التواق للبقاء لا يستـمتع من سنة من هذا الوصال الابـمقدار مافي الثانية الواحدة من لذة. بينـما الفراق طويل وميدانه واسع فسيـح، فثانية واحدة منه تستـجـمع الوانا من الفراق ما يستغرق سنة كاملة، بل سنين، فالقلب الـمشتاق الى الـخلود يتأذى من فراق يـمضي في ثانية واحدة، كأنه ينسحق تـحت آلام فراق سنين عدة، حيث يذكّره ذلك الفراق بـما لا يعد من انواع الفراق. وهكذا فماضي جـميع اشكال الـمـحبة الـمادية والـهابطة ومستقبلـها ملىء بألوان من الفراق.

وللـمناسبة نقول:

أيها الناس! أتريدون تـحويل عمركم القصير الفاني الى عمر باق طويل مديد، بل مثمر بالـمغانـم والـمنافع؟

فما دام الـجواب: ان نعم! وهو مقتضى الانسانية، فاصرفوا اذا عمركم في سبيل الباقي، لأن ايـما شيء يتوجه الى الباقي ينال تـجلياً من تـجليات الباقية.

ولـما كان كل انسان يطلب بإلـحاح عمراً طويلا وهو مشتاق الى البقاء، وثمة وسيلة أمامه لتـحويل هذا العمر الفاني الى عمر باق، بل يـمكن تبديلـه الى عمرٍ طويل معنى، فلابد أنه – ان لـم تسقط انسانيته – سيبـحث عن تلك الوسيلة وينقب عنها، ولابد أنه سيسعى حثيثا لتـحويل ذلك الـمـمكن الى فعل ملـموس، ولابد انه سيصبو الى ذلك الـهدف بأعمالـه وحركاته كافة.

فدونكم الوسيلة:

اعملوا لله، التقوا لوجه الله، اسعوا لأجل الله. ولتكن حركاتكم كلـها ضمن مرضاة الله (لله، لوجه الله، لاجل الله) وعندها ترون ان دقائق عمركم القصير قد اصبـحت بـحكم سنين عدة.

تشير الى هذه الـحقيقة ((ليلة القدر)) فمع انها ليلة واحدة إلاّ انها خير من الف شهر – بنص القرآن الكريـم – أي في حكم ثمانين ونيف من السنين.

وهناك اشارة أخرى الى الـحقيقة نفسها، وهي القاعدة الـمقررة لدى اهل الولاية والـحقيقة، تلك هي: ((بسط الزمان)) الذي يثبته ويظهره فعلا الـمعراج النبوي، فقد انبسطت فيه دقائق معدودة الى سنين عدة، فكانت لساعات الـمعراج من السعة والاحاطة والطول ما لألوف السنين، اذ دخل e بالـمعراج الى عالـم البقاء، فدقائق معدودة من عالـم البقاء تضم ألوفا من سنين هذه الدنيا.

ومـما يثبت حقيقة ((بسط الزمان)) هذا ما وقع من حوادث غزيرة للاولياء الصالـحين، فقد كان بعضهم يؤدي في دقيقة واحدة ما ينـجز من الاعمال في يوم كامل. وبعضهم انـجزوا في ساعة واحدة من الـمهمات ما ينـجز في سنة كاملة وبعضهم ختـموا القرآن في دقيقة.

وهكذا فهذه الروايات عنهم وامثالـها لاترقى اليها الشبهات لأن الرواة صادقون صالـحون يترفعون عن الكذب، فضلا عن أن الـحوادث متواترة وكثيرة جدا ويروونها رواية شهود. فلاشك فيها. فبسط الزمان حقيقة ثابتة(1). وهناك نوع منه يصدّقه كل الناس، وهو ما يراه الانسان من رؤيا في الـمنام، اذ قد يرى رؤيا لا تستغرق دقيقة واحد، بينـما يقضي فيها من الاحوال ويتكلـم من الكلام ويستـمتع من اللذائذ ويتألـم من العذاب ما يـحتاج الى يوم كامل في اليقظة وربـما الى ايام عدة.

حاصل الكلام:

مع ان الانسان فان الاّ أنه مـخلوق للبقاء. خَلَقه الباري الكريـم بـمثابة مرآة عاكسة لتـجلياته الباقية، وكلـّفه بالقيام بـمهمات تثمر ثمارا باقيةً، وصوّره على أحسن صورة حتى اصبـحت صورته مدار نقوش تـجليات اسمائه الـحسنى الباقية، لذا فسعادة هذا الانسان ووظيفته الاساس انـما هي: التوجه الى ذلك الباقي بكامل جهوده وجوارحه وبـجـميع استعداداته الفطرية، سائراً قُدماً في سبيل مرضاته، متـمسكا بأسمائه الـحسنى، مردداً بـجـميع لطائفه – من قلب وروح وعقل – ما يردده لسانه: ياباقي انت الباقي:

هو الباقي، هو الازلي الأبدي، هو السرمدي، هو الدائم، هو الـمطلوب، هو الـمـحبوب، هو الـمقصود، هو الـمعبود.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

} رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَو أَخطَأنَا{ (البقرة:286).
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس