عرض مشاركة واحدة
قديم 04-29-2009
  #2
هيثم السليمان
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى: 17
هيثم السليمان is on a distinguished road
افتراضي رد: الدعاء بعد الصلاة المفروضة سنّة أم بدعة؟

رفع اليدين في هذا الدعاء والدعاء الجماعي


ويتعلق بمسألة الدعاء بعد الصلوات المكتوبة مسألتان يثيرهما المنكرون لهذا الدعاء وهما : رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة ، والدعاء جماعة بحيث يدعو الإمام ويؤمن الباقون ، والمسألتان لا تحتاجان إلى دليل خاص لدخولهما في العموم الذي ذكره الله تعالــى : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)
لأن لفظ (الداع) معرَّف بالألف واللام ، فيكون من صيغ العموم أي يشمل من رفع يديه ومن لم يرفع ، ومن كان في جماعة ومن لم يكن فيها .

وكذا قوله تعالى : (إن ربي لسميع الدعاء) [إبراهيم/39]
شامل كل ذلك، غير أن لكل منهما دليلاً أقرب إلى الخصوص مما سبق، وإن كان العموم كـافيـاً.

الأدلة على سنّية رفع اليدين في الدعاء


أما مسألة رفع اليدين فقد روى مسلم (برقم 2071) عن أنس رضي الله عنه قال: ”رأيـت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء“ ولفظ الدعاء عام يشمل كل دعاء في أي وقت
ورواه أحمد عن أنس رضي الله عنه أيضاً (برقم 13120) ولفظه ”كان رسول الله يرفـع يديـه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيـه“
ورواه عن أبي هريرة رضي الله عنه (برقم 8815) زاد فيه عن المعتمر وقال أبي: ”لا أظنه إلا في الاستسقاء“ .

وتخصيص الرفع بالاستسقاء رواه مسلم عن أنس (برقم 2074) أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ”كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء".

الرد على من توهم أن رفع اليدين خاص بصلاة الاستسقاء


قال ابن حجر في فتح الباري (14/221):
”المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع… الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان حذو المنكبين… وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح، قلت: ولاسيما مع كثرة الأحاديث“ انتهى كلام ابن حجر
ومعنى قوله: أن الكفين يليان الأرض أن بطونهما إلى الأرض كما صرح في (3/615) فقال: (وأما صفة اليدين في ذلك فلما رواه مسلم… ”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء…“ ولأبي داود: ”جعل بطونهما مما يلي الأرض“).
قال النووي: ” السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء“([10]).

قال النووي: ”بل لقد ثبت رفع يديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء في مواطن كثيرة، وهي أكثر من أن تحصر، وقد جمعت منها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين أو أحدهما ذكرتها أواخر صفة الصلاة من شرح المهذب“ ([11]).
قلت : قد عنى الإمام النووي : أن ثبوت رفع اليدين في هذه المواطن الكثيرة ينفي تخصيصه بالاستسقاء أو غيره ويقتضي أن تحمل عليه كل الروايات الساكتة عنه ، لأنه الأكثر ثم إذا ثبت الحث عليه في حديث قولي عام كان هو القاعدة وكان إخراج أي حالة منه بلا دليل يخصها مخالفة للسنة لا العكس .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ، ولا تسألوه بظهورها“ رواه أبو داود([12]) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً“ رواه أبو داود ([13]) .
وقد رواه الطبراني في معجمه الكبير([14]) مرفوعاً أيضاً ـ ولفظه: ”ما رفع قوم أكفهم إلى الله عز وجل يسألونه شيئاً إلا كان حقاً على الله أن يضع في أيديهم الذي سألوا“ .
قال في مجمع الزوائد (10/169) : رجاله رجال الصحيح .

وهذا الحديث بروايتيه صريح في الحثّ على عموم رفع اليدين في الدعاء، وهو موافق لحديث أنس رضي الله عنه السابق: ”رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء“، ورواية سلمان رضي الله عنه الأخيرة فيها تأكيد الشمول لكل واحدة من الجماعات بأسلوب القصر ـ أي بالنفـي والاستثناء ـ .
ومن لم يرض بهذا العموم الصريح دليلاً، وزعم أنه يريد ثبوت عمل النبي صلى الله عليه وسلم في كل حالة بخصوصها فليقل لنا عمن أخذ هذه القاعدة من السلف أو غيرهم .

وبناء على قاعدته يقال لـه : إن حديث ”كل بدعة ضلالـة“ عـام لا يعمل به فـي أي حالة معينة من مشمولاته حتى يجيء فيها دليل يخصها، فلا يكون رفع اليدين بعد الصلاة المفروضة بدعة، لأنه لم يرد في ذلك دليل يخصه بأنه بدعة غير مشروع.
أهذا كلام مقبول ؟!

أدلة الاجتماع على الدعاء


أما اجتماع الناس على الدعاء فهو داخل في الإطلاق الذي قال الله تعالى : (وقال ربكم ادعوني ) والخطاب للجماعة، فهو وإن كان ينطبق على الأفراد إلا أن صورته للجماعة، فتكون هي الأصل ولا يكون الانفراد هو الأصل، حتى يقال : إن الجماعة تحتاج إلى دليل، فالدعاء الجماعي مشروع ، سواء كانوا يدعون معاً ، أو يدعو بعضهم ويؤمّن بعضهم ؛ لأن كل ذلك جماعي .
ثم إن العمومات فيه كثيرة، كقوله تعالى: (أجيب دعوة الداع ) ، والداعي : معرّف بالألف واللام فهو للعموم، وكذا قوله سبحانه : (إن ربي لسميع الدعاء ) يشمل كل دعاء جماعي أو فردي
فمن استثنى شيئاً بدون نهي خاص فقد خالف كتاب الله، ومن قال : لا نعمل به حتى يُنقل إلينا عمل النبي صلى الله عليه وسلم به، فقد زعم أن القرآن لا يكون وحده حجة شرعية، إلا إن يؤيده عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يؤيده كان بدعة.

ويتأيد ذلك العمـوم بما هو أخص كحديث ”ما رفع قوم أكفهم إلى الله ..“ وقد سبق قريباً ، وبحديث مجالس الذكر؛ لأن الدعاء ذِكر كما سبق البرهان عليه، وهو مذكور صراحة في حديث الصحيحين كما في اللؤلؤ والمرجان (برقم 1722)، وهو عند البخاري في كتاب الدعوات برقم (6045) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ”إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم ، قال : فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، قال : فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم منهم ـ : ما يقول عبادي ؟
قالوا :.. يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك.. يقول: فما يسألوني ؟
قالوا : يسألونك الجنة .. قال : فمم يتعوذون ؟، قالوا : يتعوذون من النار.. ، قال : فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : فيقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة ، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم“ .

وفي الحديث فوائد منها :
التصريح بأن الدعاء من الذكر، لأنه سماها مجالس الذكر وذكر الدعاء منها، ومنها أنهم جماعة لقولـه تعالـى : ”هم الجلساء“ وهو جمع جليس لا جمع جالس ، والجليس هو الذي يشارك غيره في الجلوس كما في الحديث ”أنا جليس من ذكرني“([15]) ، ولقول الملائكة: ”فيهم فلان“ بضمير الجمع، ودعاء الجلساء عام يشمل دعاءهم معاً ، والتأمين على دعاء الإمام، ودعاء كل لنفسه.

والمتأمل في الحديث يرى التسبيحات واحدة، والدعوات واحدة ، وهذا إنما يكون في الدعاء إذا كانوا جماعة وكانوا يدعون معاً أو يدعو بعض ويؤمن بعض ، وإلا فكيف اتفقوا ؟ .

ومع ذلك الاستدلال فإن للمسألة دليلاً أقرب إلى الصراحة وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : ” قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا“
رواه الترمذي وقال : حسن غريب ([16]) .
ومعلوم أن كلمة المجلس لفظة عامة، فيكون الاجتماع على الدعاء سنة نبوية في كل مجلس، والجلوس بعد الصلاة منها.

وقد روى الطبراني في الكبير (3536) حديثاً خاصاً بفضيلة الاجتماع على الدعاء وهو في المستدرك للحاكم (3/347) وسكت عليه الذهبي: عن حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمّن سائرهم إلا أجابهم الله“([17]) .

وهذا القول يشمل الاجتماع على الدعاء بعد الصلاة لأن الاجتماع والملأ كلاهما جاء في سياق النفي فيعم كل اجتماع وكل ملأ، وهو قول يشمل الترغيب في الاجتماع على الدعاء بعد الصلاة المفروضة ، وقوله صلى الله عليه وسلم حجة لا يتوقف العمل به على كونه فعله أو لم يفعله ، فأي دليل يطلب المنصف فوق ذلك كله.

أما إنكار الدعاء الجماعي بعد الصلاة المفروضة، أو رفع اليدين فيه أو الاجتماع عليه، والاحتجاج بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فمعناه : أن كل دليل شرعي ـ سواء كان من قول الله تعالى ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وإقراره ـ لا يُعمـل بـه حتـى يثبـت عمـل النبي صلى الله عليه وسلم بـه ، فليخبرنـا المنكـر مـن أيـن أتـى بهذه القاعدة من كلام المحدثين أو كلام السلف أو غيرهم؟
ولو افترضنا جدلاً تسليم الاحتجـاج بتـرك النبي صلى الله عليه وسلم فتركه مع وجود الأحاديث التي تحث عليه لا يدل على أن هذا الدعاء بدعة، إنما يدل مع وجود الأدلة الأخرى على أنه سنة وفضيلة، لا يجوز الإنكار على فاعله حتى لو كان الانفراد أفضل، فأين هذا من البدعة؟!
موقف الشاطبي من الدعاء بعد المكتوبة

توضيح ومناقشة


وقد أكثر المنكرون للدعاء بعد الصلاة المفروضة من الاحتجاج بإنكار الشاطبي له، وهذا مردود عليهم؛ لأن إنكاره يختلف عن إنكارهم اختلافاً جذرياً، كما يظهر من قوله في الاعتصام ص(258):
”إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على إثر الصلاة: إنه مستحب لا سنة ولا واجب“ أما هؤلاء المنكرون فيجعلونه بدعة ضلالة.

فبين قوله وقولهم فرق كبير، كالذي بين الهدى الذي يستحبه شرع الله والضلال الذي يبغضه.
لكن الشاطبي كان يرد على بعض علماء عصره، ممن استنكروا ترك الدعاء بعد المكتوبة، حتى جعلوا تاركه خارجاً عن جماعة المسلمين
ونقل في الاعتصام ص (246) عن أحدهم ـ في كائنة وقعت وهي: إمام مسجد ترك الدعاء بعد الصلاة للناس جماعة ـ أنه أنكر على ذلك الإمام، وقال: ”وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة، فيشبه أن يدخل مدخل حجة إجماعية عصرية“.


فانتقده الشاطبي قائلاً: ”فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائماً لا يترك، كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا ـ فقد تقدم ما فيه“ ثم نفى أن يكون في الشريعة دليل على ذلك فقال: ”لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهراً للحاضرين في أدبار الصلوات دائماً على حد ما تقدم، بحيث يعد الخارج عنه خارجاً عن جماعة أهل الإسلام“ ولما كان موضع استنكاره هو المواظبة على هذا الدعاء جماعة استدل بقول العلماء: ”إنه مستحب“على أمرين:

أحدهما: أن هذه الأدعية لم تكن منه صلى الله عليه وسلم على الدوام.
الثانية: أنه لم يكن يجهر بها دائماً، ولا يظهرها في غير مواطن التعليم.

فالشاطبي لا ينكر الدعاء بعد المكتوبة ولا الجهر فيه ولا الجماعة، ولكنه يستنكر المواظبة على مجموع ذلك، والمواظبة على الجهر أو الجماعة، وقد أوضح ذلك حين استدل بقاعدة سد الذرائع على النهي عن أمثال هذه المواظبة، فقال ص (253)
" قد يكون أصل العمل مشروعاً، ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب سد الذرائع… وبيانه: أن العمل قد يكون مندوباً إليه مثلاً، فيعمل به العامل على وضعه الأول من الندبية فلو اقتصر على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه غير مظهر له دائماً، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات والسنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه“.

ولما كان العمل بقاعدة سد الذرائع مما اختلف فيه الأئمة بين الشاطبي أنه يمكن أن يخالفه غيره في هذا النوع من المسائل، فقال ص (294):
”إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص ـ مما يتضمنه هذا الباب ـ فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع، ويكون لصاحبه أجره، ومن ذهب إلى سدها ـ ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ـ فلا شك أن ذلك العمل ممنوع، ومنعه يقتضي أنه ملوم عليه وموجب للذم“.


لا تبديع في مسائل الاجتهاد


وبذلك تكون هذه المسائل اجتهادية، ولا يحق لمجتهد أن يجعل اجتهاده حجة تبطل اجتهاد غيره، إنما يكون اجتهاده معبراً عن فهمه للأدلة، وقد يكون غيره أحق بالصواب منه، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حملة الحديث منهم من لا يفقه فيه أصلاً، ومنهم من يفقه، ولكن غيره أفقه منه، فقال صلى الله عليه وسلم: ”نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه“([18]) .

وهذا التفاضل درجاته كثيرة، وإن كان كل منهم مأجوراً، المصيب له أجر العزيمة، والمخطئ له أجر الرخصة، وليس أحد منهم مبتدعاً ضالاً، لأن الله لا يأجر على البدعة الضلالة، ومن زعم أن المخطئ في اجتهاده مبتدع ضال، فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشعل الفتنة ببن المسلمين، ومن قال ذلك من العلماء السابقين، فإنما يعني أنه بدعة حسب اجتهاده هو .
وقد عاش الصحابة إخوة متحابين رغم الخلاف الاجتهادي الكثير بينهم، لكن مشكلة هؤلاء المنكرين هي أنهم يجعلون فهمهم أو فهم أئمتهم هو السنة نفسها، وفهم الأئمة الآخرين رأياً، فكل من خالفهم فهو صاحب رأي مخالف للسنة !!
وهذه دعوى لا يعجز عنها أحد من المدعين، ولو أنصفوا لقالوا: كلاهما فهم يخطئ ويصيب.

بعض المخالفين للشاطبي في هذا الدعاء


والشاطبي حين استنكر المواظبة على الجهر والجماعة في الدعاء بعد المكتوبة لم يكن يمثل إلا فئة من العلماء، ولا يمثل الجميع، بل لا يمثل جميع أهل مذهبه، وهم المالكية، إذ كان كثير منهم يعده مشروعاً كالشيخ الذي ذكره الشاطبى ويبدو أنه شيخه فرج بن قاسم ابن لب الغرناطي
فقد جاء في كتاب (المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب، تأليف: المنجور أحمد بن علي) ص (696): أن الكائنة بلغته (فأنكر ترك الدعاء إنكاراً شديداً) ثم ذكر بعض أئمة المالكية القائلين بمشروعية الدعاء
ثم قال ص (699): (سأل أهل ”سلا“ الإمام أبا عبد الله بن عرفة عن إمام الصلاة، إذا فرغ منها هل يدعو ويؤمن المأمومون؟… فأجاب: مضى عمل من يقتدي بهم في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بأثر الذكر الوارد بأثر تمام الفريضة، وما سمعت من ينكره إلا جاهلاً غير مقتدى به… وأجاب كبير تلامذته وقاضي الجماعة… الغبريني: الصواب جواز الدعاء على الهيئة المعهودة، إذا لم يعتقد كونه من سنن الصلاة، أو فضائلها، أو واجباتها على الهيئة المعهودة، وكذلك الأذكار بعدها على الهيئة المعهودة بلسان واحد).

وقال الأبي ـ في شرح مسلم ـ (2/516):
(ذكر عبد الحق إثر هذه الأحاديث أماكن قبول الدعاء، وأن منها الدعاء إثر الصلاة، وذلك يدل على عدم كراهته إثر الصلاة، كفعل الأئمة والناس اليوم، وكان الشيخ الصالح أبو الحسن المنتصر ـ رحمه الله ـ يدعو إثر الصلوات، وذكر بعضهم: أن في كراهته خلافاً، وأنكره الشيخ، وقال: لا أعرف فيه كراهة، وذكرها القرافي عن مالك في آخر ورقة من القواعد، وعللها بما يقع في نفس الإمام من التعاظم).
وهذا التعليل يعني أنه لا يكره لكونه على هيئة غير مروية، بل لما يقع في نفس الإمام من التكبر، فإذا انتفى ذلك لم يكن مكروهاً، ويدل على ذلك أن مالكاً ـ رحمه الله ـ لم ينصَّ على كراهة الدعاء، إنما كره للإمام أن يمكث في مصلاه، وخص كراهة المكث في المصلى ـ بعد انتهاء الصلاة ـ بإمام الجماعة، حيث قال ـ في المدونة ـ (1/144):
(في إمام مسجد الجماعة، أو مسجد من مساجد القبائل ـ قال: إذا سلم فليقم، ولا يقعد في الصلوات كلها، قال: وأما إذا كان إماماً في السفر أو في فنائه، ليس بإمام جماعة، فإذا سلم، فإن شاء تنحى، وإن شاء أقام)
ولو كان مكروهاً لعدم ثبوته في الشرع لكان مكروهاً في كل حال للإمام وغيره.

وكلام الشافعي في الأم (2/289) صريح في رفع الحرج عن التطويل مطلقاً من إمام الجماعة وإمام السفر وغيرهما، حيث قال:
”وأستحب أن يذكر الإمام الله شيئاً في مجلسه قدر ما يتقدم من انصرف من النساء قليلاً، كما قالت أم سلمة رضي الله عنها، ثم يقوم، وإن قام قبل ذلك، أو جلس أطول من ذلك فلا شيء عليه“،
وحديث أم سلمة هو قولها ـ الذي ذكره الشافعي قبل ذلك قليلاً ـ ”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته قام النساء ـ حين يقضي تسليمه ـ ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه يسيراً“، قال ابن شهاب : ”فنرى مكثه ذلك ـ والله أعلم ـ لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم“.

أقول: وقد رواه البخاري برقم (812) وفيه قالت: ”كان يسلم فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم “
أقول: وهذا مقدار من الوقت يتسع ذكراً غير قليل، والله أعلم.
ووجود العلماء الذين يفتون بغير ما يقوله الشاطبي، ويرجحون غير ما اختاره الشاطبي كاف في الدلالة على أن المسألة اجتهادية، ولا تبديع في الاجتهادات، وإلا لم يخل إمام من الاتهام بالبدعة حتى الصحابة، وإذا كان لابد من مناقشة الأدلة فغير الشاطبي من العلماء قولهم أرجح دليلاً كما يظهر فيما يلي.

مناقشة أدلة الشاطبي وموافقيه


والشاطبي حين أنكر الدعاء بعد الصلاة المكتوبة بهيئة الاجتماع دائماً جعله من البدعة الإضافية، وقد عرفها في الاعتصام ص (210) بأنها: ”التي لها شائبتان:
إحداهما لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا ما للبدعة الحقيقية“
ثم قال:”الفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها تحتاج إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبديات“.

وهذا النوع من الأعمال موضع خلاف بين العلماء، بيَّنه ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام ص (1/173) فقال : ”وقد تباين الناس في هذا الباب تبايناً شديداً… والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه، وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات، أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص. ومَيْل المالكية إلى هذا الثاني، وقد ورد عن السلف ما يؤيده“.
ثم ذكر إنكار ابن عمر رضي الله عنهما صلاة الضحى ودعاء القنوت، وإنكار عبد الله بن مغفل الجهر بالبسملة، وإنكار ابن مسعود رضي الله عنه مجلس الذكر الجماعي الذي فيه العد بالحصى.

وإذا كانت القاعدة ـ التي أقام عليها الشاطبي إنكاره ـ محل اختلاف بين الأئمة، فلا يكون أحد الفريقين حجة على الآخر تبطل اجتهاده وتجعله مبتدعاً، فالجميع مأجور، والله تعالى لا يأجر على البدعة، كما تقدم.


ملاحظة على منهج الشاطبي


والغريب أن الشاطبي ومن يذهب معه هذا المذهب يحتجون بما ورد عن السلف مما يؤيد قولهم، ويتركون القول الآخر وما يؤيده مما ورد عن السلف مع كونه معضداً بالسنة النبوية، فإنكار ابن عمر رضي الله عنهما صلاة الضحى معارض بما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين([19])
ومسألة دعاء القنوت موضع خلاف بين السلف أنفسهم، إذ إن إنكار ابن عمر يكون على ناس من السلف في عصره، إما صحابة وإما تابعين، والإمامان مالك والشافعي ـ وهما من السلف ـ يقولان بمشروعيته في صلاة الصبح، وأبو حنيفة ـ وهو من السلف ـ يقول بمشروعيته في الوتر
وما كان السلف مختلفين فيه لا يصح أن يقال عن أحد القولين فيه إنه مذهب السلف، وعن الآخر بدعة، فمذهب السلف هو ما أجمع عليه السلف، وما اختلفوا فيه فقد جاءت السنة بأن الفريقين مأجوران ، فلا يكون أحدهما بدعة، لأن الله لا يأجر على البدعة، ومن زعم أنه بدعة فقد جعل صاحبه من أهل النار، وهذا عناد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أما الحكم على أحد قولين لهم بأنه مذهب السلف، فهو إخراج لأصحاب القول الثاني من بين السلف تحكماً وتعصباً من زاعمي ذلك لمذهبهم لا للسلف، والحق أن الجميع من السلف ، ومن تبع أياً منهم فهو سلفي .

وكذلك مسألة الجهر بالبسملة هي موضع اختلاف بين أئمة السلف، وأما إنكار ابن مسعود على المجتمعين للذكر وعده بالحصى، فإن كان إنكاراً على الاجتماع فهو معارض بحديث الصحيحين: ”إن لله ملائكة سيارة فضلاً يتبعون مجالس الذكر“([20]) .
وإن كان إنكاراً على عد الأذكار كما صرحت به الرواية في قوله: ”عدوا سيئاتكم، وأنا ضامن أن لا يضيع شيء من حسناتكم“([21]) فهو معارض بكثير من الأحاديث، التي أمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذكار
وجاء في كثير منها ”أنه صلى الله عليه وسلم كان يعد“ والعد بواسطة الحصى أو النوى([22]) ثبت فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يكون قول بعض السلف حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يكون هو حجة عليهم؟!

وقد حشد الشاطبي في الاعتصام ص (259) أقوال السلف في إنكار قعود الإمام في مصلاه بعد الفريضة ليحتج بها على أنه ليس من فعل السلف الدعاء بعد الفريضة، وذكر الحديث الذي فيه: ”أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يمكث في مصلاه إلا يسيراً“ وترك ما ثبت من قعود النبي صلى الله عليه وسلم في مصلاه ”بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس“ كما رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1523)
وترك ما ثبت من حثه صلى الله عليه وسلم على جلوس المصلي في مكانه بعد الصلاة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ”وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه“ كما رواه البخاري، في كتاب المساجد برقم (465).

وكذلك ترك الشاطبي كل الأحاديث التي تروي من الأذكار ما يطول وقته كالمائة تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وتهليلاً، وقراءة آية الكرسي والمعوذتين ونحو ذلك .
وأحكام الله لا تؤخذ من بعض الأدلة دون بعض، وإذا ترك السلف أمراً ما ـ مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، أو حثه عليه ـ لا يعدو ذلك منهم أن يكون رخصة وتخفيفاً، وبياناً لكونه غير فرض، أو لكون تركه لا حرج فيه.

أما تقديم إنكار بعض السلف على قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فهذا من تقديم الفرع على الأصل وهو عكس قواعد الاستدلال.
وأما تقديم عدم فعل السلف على فعله صلى الله عليه وسلم وعلى قوله، فهذا من تقديم الاستصحاب، وهو عدم الدليل، على سنة القول والفعل الثابتة، وكذلك تقديم الاستصحاب على أدلة العموم لا يجوز؛ لأن العموم دليل إثبات، والاستصحاب عدم الدليل، والإثبات ينقض النفي، ونقضه للعدم أولى.
هيثم السليمان غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس