الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #15
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 140
العالم فترى السحاب متوضعا على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسى لسفن السحاب ترسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه - استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة ان يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل - مع تناسي التشبيه. فاذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات فـ (يُنزّل من السماء) أيْ من جهة السماء. "من جبال" أي من سحاب كالجبال. "من برد" أي في لونه ورطوبته وبرودته.
فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي اتقن كل شئ صنعاً.
أما هيئات جملة: (فيه ظلمات) المسوقة للتهويل؛ فتقديم (فيه) اشارة الى ان خيال المصاب المدهوش والسامع المستحضر خياله لتلك الحال يتوهم ان ظلمات الليالي الكثيرة افرغت بتمامها في تلك الليلة. وأما الظرفية مع ان الصيب مظروف فرمز الى ان المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضا قد ملئ من المطر، فما الليل الا مظروف مفتت بين أجزائه.
وأما جمع "الظلمات" فايماء الى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قطره، ومن تضاعف ظلمة الليل. وأما تنكير (ظلمات) فللاستنكار، ولجهل المخاطب فهو تأكيد (ظلمات).
وأما جملة (ورعد وبرق) فاعلم! ان المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وان المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره الى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. اذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات - نظير العدم - فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ اذ يرون اظهر دلائل الوجود، وهو تكلم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب فينقلب نظرهم الى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ اذ كما انهم اذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناه، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملاً، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك اذا فاجأهم بغتة انعدام الظلمات بان افرغت من الفضاء، وملئ بدلها نوراً ينقلب يأسهُم المطلق الى رجاء.
إشارات الإعجاز - ص: 141
اعلم! ان الرعد والبرق آيتان ظاهرتان من جهة العالم الغيبيّ في أيدي الملائكة الموكلين على عالم السحاب لتنظيم قوانينه. ثم ان الحكمة الالهية ربطت الأسباب بالمسَّببَات فاذا تشكل السحاب من بخار الماء المنتشر في الهواء؛ صار قسم حاملاً "للالكتريك" المنفي وقسم حاملاً "للالكتريك" المثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعة فيتولد البرق. ثم بالهجوم والانقلاع دفعة وامتلاء موضعه بآخر لعدم الخلو، يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد. ولا تجري هذه الحالات الا تحت نظام وقانون يتمثلهما مَلَك الرعد والبرق. وأما ظرفية الصيّب لهما مع ان الظرف هو السحاب فلأن المدهوش والسامع المتدهش بدهشته يرى الصيب محيطا بكل شئ لإحاطته بنفسه. وأما إفراد الرعد والبرق مع جمع الظلمات، فاشارة الى ان منشأ الدهشة تخيل المصاب تكلمَ السماء وتهديدَها بالإرعاد، وكشفَ الحجاب بالابراق، وهما معنى مصدريّ للكلام واليد البيضاء. وأيضا كل منهما نوع واحد وان تعددت أفراده.
وأما تنوين (رعدٌ وبرقٌ) فبدل من الصفة، أي: رعد قاصف وبرق خاطف، ودالة على عدم الالفة بهما بسبب التفطن بالدقة لما فيهما من العجائب.. وأيضاً فيها ايماء الى انهم لايعرفون ذلك الرعد والبرق لسد السمع وغض البصر.
وأما هيئات جملة (يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت)
فاعلم! انها جواب لسؤال مقدر واستيناف حسن؛ اذ السامع لما توجه الى هذه القصة الحسية التمثيلية حصل له ميلان شديد لكشف حال المصيبة. ثم بعد ان كمّل التصوير التصويرَ وقضى منه الوطر انثنى مجرى الميلان الى كشف حال المصاب. فكأنه يقول السائل: كيف حال المصاب حينئذ وبم يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله: (يجعلون اصابعهم).. الخ. أي لامناص لهم، انما هم كالغرقى يتمسكون بغير متمسك فيريدون التحفظ من مجانيق(1) السماويين بسد الأسماع. وكونه سبباً محالٌ، فلا سبب.
وأما لفظ (يجعلون) بدل "يدخلون" فايماء الى انهم تحروا الأسباب فما صادفوا الا ماسببيته بجعلهم وظنهم فقط.. وصورة المضارع المستحضرة للحال فرمز
(1)جمع منجنيق: آلة حربية ترمى" بها القذائف.
إشارات الإعجاز - ص: 142
الى ان السامع في مثل هذا المقام المهيج للحيرة يحضر بخياله زمان الواقعة ومكان الحادثة. ثم في المضارع استمرار تجددي. وفي استمراره ايماء الى تواتر تقتقة السحاب.
وأما (أصابعهم) بدل "أناملهم" فاشارة الى شدة الحيرة باستعمال الأصابع موضع الأنامل.
وأما في (اذانهم) فايماء الى شدة الخوف من صدى الرعد حتى يخيل اليهم انه لو دخل الرعد في شبكة الآذان لطيّر الأرواح من أبواب الأفواه. وفيه رمز لطيف الى انهم لما لم يفتحوا آذانهم لنداء الحق والنصيحة عوقبوا من تلك الجهة بنعرات الرعد، فسدوا هنا ما سدوا هناك، كمن اخرج كلاما شنيعا مِن ِفيهِ يُضْرَب على فمه فيدخُل يمين الندامة في فيه ويضع يسار الخجالة على عينه.
وأما (من الصواعق) فاشارة الى اتحاد الرعد والبرق على اضراره؛ اذ الصاعقة صوت شديد معه نار محرقة تصرع من صادف.
وأما (حذر الموت) فاشارة الى ان البلاء جذّ (1) اللحم الى العظم، وجاز الأحوال الى الحياة، فما يعنيهم الاّ غم الموت وحفظ الحياة.
وأما هيئات جملة (والله محيط بالكافرين)
فاعلم! ان "الواو" تقتضي المناسبة، وما المناسبة الا بين هذه وبين التابع لمآل السابقة. فكأن هذه "الواو" تقرأ عليهم: "هم قوم فروا من العمارة ونفروا من الحضارة وعصوا قانون كون الليل سباتا ولم يطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاة بالخروج الى الصحراء فخابوا وأحاط بهم بلاء الله".
وأما لفظ (الله) فرمز الى قطع آخر رجائهم؛ اذ المصاب انما يلتجئ ويتسلى اولاً وآخراً الى رحمة الله، فحين استحقوا غضب الله تعالى انطفأ ذلك الرجاء.
وأما لفظ (محيط) فايماء الى ان هذه المصائب المحيطة آثار غضبه تعالى، فكما ان السماء والسحاب والصيّب والليل تهجُم عليهم من الجهات الست؛ كذلك غضبه تعالى وبلياته محيطة بهم.. وأيضاً علمه تعالى وقدرته محيطان بكل الكائنات، وأمره
(1) جذّه وجزّّه: قطعه. جذّه وجزّّه: قطعه.
إشارات الإعجاز - ص: 143
شامل لكل الذرات. فكأن (محيط) يتلو عليهم: لاتنفذون من أقطار السموات والأرض، (فأينما تولوا فثمَّ وجه الله ).(1)
وأما تعلق "الباء" فرمز الى انهم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفا للسهام.
وأما التعبير بالكافرين فاشارة الى اراءة تمثال الممثل - أعني المنافقين - في مرآة التمثيل، لئلا يتوغل فيه ذهن السامع فينسى المقصد.. ورمز الى ان المشابهة وصلت الى درجة، وتضايق المسافة بينهما الى حدّ يتراءيان معا، فتمتزج الحقيقة بالخيال.. وأيضاً ايماء الى ظلمة قلوبهم اذ وجدانهم أيضاً يعذبهم لقصورهم وجنايتهم؛ اذ من رأى جزاء جنايته لايستريح وجدانه.
وأما هيئات جملة: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) فاستينافها يشير الى ان السامع يقول: ألا ينتفعون بالبرق المخفف لبلاء الظلمة عنهم؟ فأُجيبَ بأنهم يخافون من الضرر فضلاً عن الفائدة.
وأما (يكاد)(2) فيشير باعتبار خاصته المشهورة الى وجود سبب زوال البصر لكن لم يزل لوجود مانع.
وأما (يخطف) باعتبار استعماله كاختطفته الغُول والعُقاب ففيه بلاغة لطيفة تبرق للذهن وتشير الى ان البرق يسابق شعاع العين من قبل ان يصل الى الأشياء ليأخذ صورها يمرّ هو عليه فيقطعه ويضرب على جفنه فيذهب بنوره. كأن نور العين لما خرج من بيته مسرعاً لأجتناء صور الأشياء يسارع البرق الذي هو شعاع عين الليل، فيأخذ من يد شعاع العين صورته قبل ايصاله الى المخزن، أي يختلس البرق صورته من يده.
وأما (أبصارهم) فرمز - بناء على كونها مرآة للقلوب - الى عمل بصائر المنافقين المتعامية عن البراهين القاطعة القرآنية.
وأما هيئات جملة (كلما أضاء لهم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا) فاستينافها يشير الى ان السامع حينما رأى اختلاف المصيبة وتغيرها سأل عن شأنهم في الحالتين فأجيب بذلك.
(1) سورة البقرة: 115.
(2)كاد من افعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه، لكنه لم يوجد إما لفقد شرط او لعروض مانع (ب).
إشارات الإعجاز - ص: 144
وأما (كلما) في الاضاءة و "اذا" في الاظلام فاشارة الى شدة حرصهم على الضياء ينتهزون ادنى الضياء فرصة. وأيضا "كلما" متضمن لقياس مستقيم استثنائي.
وأما (اضاء لهم) بلام الاَجْلية والنفع فرمز الى ان المصاب المدهوش يستغرق في حاجة نفسه حتى يظن الضياء الذي تنشره يد القدرة في العالم لآلاف حِكمٍ كلية أنه المراد به خاصة، ويد القدرة انما ارسلته لأجله.
واما (مشوا) مع اقتضاء الفرصة السير السريع فاشارة الى ان المصيبة اقعدتهم فما سيرهم السريع الاّ مشي وحركة على مهل.
واما (فيه) فاشارة الى ان مسافة حركتهم الضياءُ الذي هو لون الزمان فكأنه يحدد لهم المكان.
واما (واذا) فـ "الواو" رمز الى تجديد المصيبة لتشديد التأثير. واما الاهمال والجزئية في "اذا" عكس "كلما" فاشارة الى شدة نفرتهم وتعاميهم، فتأخذهم وهم منغمسون في آن الفرصة.
وأما (اظلم) بالاسناد الى البرق فاشارة الى ان الظلمة بعد الضياء اشد. وايماء الى ان خيال المصاب لما رأى البرق طرد الظلمة ثم ذهب وامتلأ موضعه بالظلمات يتخيل انه انطفأ واورث دخاناً.
وأما (عليهم) الملوِّح بالضرر فاشارة الى ان الاظلام ليس تصادفيا بل جزاء لعملهم. ورمز الى ان المدهوش يتخيل الظلمةَ المالئة للفضاء كأنها تقصد - من بين الأشياء - ذلك الانسان الصغير الذليل وتجعله خاصة هدفَ هجومها وإضرارها.
واما (قاموا) بدل "سكنوا" فاشارة الى انهم بالمصيبة وشدة التشبث تقوّسوا كالراكعين كما هو شأن المجدِّين في العمل.
وأما هيئات جملة (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) فالـ "واو" بسر الربط تلوّح الى ان يد القدرة تتصرف تحت حجاب الأسباب، وان نظر الحكمة يراقب من فوق جميع العلل.
إشارات الإعجاز - ص: 145
وأما (لو) فمتضمنة لقياس استثنائيّ غير مستقيم. أي عدم المشيئة علة لعدم ذهابهما؛ كما ان عدم الذهاب دليل على العلم بعدم المشيئة بذهابهما. وأيضاً رمز الى ان السبب بلغ النهاية.
وأما (شاء) فاشارة الى ان الرابط بين السبب والمسبَّب انما هي المشيئة والارادة الإلهية. فالتأثير للقدرة، وما الاسباب إلا حجاب العزة والعظمة لئلا تباشر يد القدرة بالأمور الخسيسة في ظاهر نظر العقل.
وأما التصريح بلفظة (الله) فاشارة الى زجر الناس عن الإِبتلاء بالأسباب والانغماس فيها. وأيضا لدعوة الأذهان الى رؤية يد القدرة خلف كل الأسباب.. وأما حذف مفعول "شاء" وان كان واجبا بالقاعدة المطردة فيجوز بقرينة اخواته ان يكون ايماء الى عدم تأثر المشيئة والارادة الالهية بأحوال الكائنات وعدم تأثير الأشياء في الصفات الالهية كما تتأثر ارادة البشر بحسن الأشياء وقبحها وعظمتها وصغرها.
واما (لذهب) فاشارة الى ان الأسباب ليست مسلطة ومستولية على المسببات حتى اذا رُفعت بقيت المسببات في جوف العدم تلعب بها يد التصادف وتشتّتها بالاتفاق، بل يد القدرة حاضرة خلف الأسباب. اذا أخرجت الأشياءَ تأخذها يدُ الحكمة الالهية بقانون الموازنة والانتظام، ترسلها الى مواقع اُخر ولاتهملها. كما ان الحرارة اذا خرّبت بُنية الماء، فبالنظام المندمج في الهواء يذهب البخار في مجرى معين ويسوقه صانعه الى موقع معين.. وكذا في "ذهب" رمز الى ان الحواس الخمس الظاهرة ليست متولدة عن الطبيعة ولا لازمة لتجاويف السمع والبصر، بل انما هي هداياه تعالى وعطاياه. وما التجاويف والأسباب الاّ شرائط عادية.
وأما التعدية بالباء بدل الهمزة فايماء الى ان يد القدرة لا تطلق الأشياء عن حبل الأسباب، غَاربُها على عنقها (1) بل تضع ازمّتها بيد نظام.
واما افراد "السمع" مع جمع "البصر" فاشارة الى افراد المسموع وتعدد المبصر، اذ الف رجل يسمعون شيئاً واحداً مع تخالف المبصرات.
(1) اصل المثل: حبلكِ على غاربك.ِ والغارب: اعلى السنام. وهذا كناية عن الطلاق، اى: اذهبى حيث شئتِ (مجمع الامثال).
إشارات الإعجاز - ص: 146
وأما هيئات جملة (ان الله على كل شيء قدير) فاعلم! انها فذلكة لتحقيق الدهشة في التمثيل والممثل له تشير الى انه كما لا تهمل دقائق أحوال المصابين المتمثلة لجزئيات أحوال المنافقين؛ كذلك يُرى في كل ذرة تصرف القدرة الالهية.
واما (ان) فمع اشارتها الى ان هذا الحكم من الحقائق الراسخة، رمز الى عظمة المسألة ووسعتها ودقتها، وعجز البشر وضعفه وقصوره عنها المولِّدة للأوهام المنتجة للتردّد في اليقينيات.
واما التصريح بلفظة (الله) فايماء الى دليل الحكم، اذ القدرة التامة الشاملة لازمة للالوهية.
وأما (على) فايماء الى ان القدرة المخرجة للاشياء من العدم لا تتركها سُدىً هَملاً، بل ترقب عليها الحكمة وتربيها.
وأما (كل) فاشارة الى ان آثار الأسباب، والحاصل بالمصدر من الأفعال الاختيارية أيضا بقدرته تعالى.
وأما لفظ (شيء) بمعنى مشئ أي ما تعلقت به المشيئة، فاشارة الى ان الموجودات بعد وجودها لاتستغني عن الصانع بل تفتقر في كل آن لبقائها - الذي هو تكرر الوجود - الى تأثير الصانع.
وأما لفظ (قدير) بدل "قادر" فرمز الى ان القدرة ليست على مقدار المقدورات فقط، وانها ذاتية لا تغير فيها، ولازمة لاتقبل الزيادة والنقصان لعدم امكان تخلل ضدها حتى تترتب شدة ونقصانا.. وتلويح الى ان القدرة كالجنس وكميزان الصرف، أعني: (فَعَلَ) لجميع الأوصاف الفعلية من الرزاق والغفار والمحيي والمميت وغيرها. تفكر فيما سمعت حق التفكر!.

إشارات الإعجاز - ص: 147
يَا اَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ 21 الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَاَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا ِلله اَنْدَاداً وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 22
مقدمـــــــة
اعلم! ان العبادة هي التي ترسِّخ العقائد وتُصيِّرها حالا ومَلَكة؛ اذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمِّها وتربِّها العبادة - التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي - تكن آثارُها وتأثيراتها ضعيفة. وحال الاسلام 1 الحاضرة شاهدة.
واعلم أيضاً! ان العبادة سبب لسعادة الدارين.. وسبب لتنظيم المعاش والمعاد.. وسبب للكمال الشخصيّ والنوعيّ.. وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.
أما وجه سببيتها لسعادة الدنيا التي هي مزرعة الآخرة فمن وجوه:
منها: ان الانسان خُلق ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، انتج ذلك المزاج فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً الى ان يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالانسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الانسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه الى تلطيفها واتقانها بصنائع جمة لا يقتدر هو بانفراده على كلها. ولهذا احتاج الى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. لكن لما لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْبَرَكِ 2 الجزء الاختياريّ - لا كالحيوانات التي حُددت قواها - حصل انهماك وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة الى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقل كل احد لايكفي في درك العدالة احتاج النوع الى عقل كلي للعدالة يستفيد منه عقل العموم. وما ذلك العقل الاّ قانون كليّ، وما هو إلاّ

_____________________
1 العالم الاسلامي (ت: 92)
2 النابض.


إشارات الإعجاز - ص: 148
الشريعة.. ثم لمحافظة تأثير تلك الشريعة وجريانها لابد من مقننِّ وصاحب ومبلّغ ومرجع، وما هو الاّ النبيّ عليه السلام.. ثم ان النبيّ لادامة حاكميته في الظواهر والبواطن وفي العقول والطبائع يحتاج الى امتياز وتفوق مادةً ومعنى، سيرةً وصورة، خَلْقاً وخُلُقاً. ويحتاج أيضاً الى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم، وما الدليل الا المعجزات.. ثم لتأسيس اطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج الى ادامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الاذهان وما هو الا تجلي العقائد.. ثم لادامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج الى مذكِّر مكرر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرر الا العبادة.
ومنها: ان العبادة لتوجيه الأفكار الى الصانع الحكيم. والتوجه لتأسيس الانقياد. والانقياد للإِيصال الى الانتظام الأكمل والارتباط به. واتباع النظام لتحقيق سر الحكمة. والحكمة يشهد عليها اتقان الصنع في الكائنات.
ومنها: ان الانسان كالشجر الذي علق على ذروته كثير من خطوط الآلة البرقية، قد التفّت على رأسه رؤوس نظامات الخلقة، وامتدت مشرعة اليه قوانين الفطرة، وانعكست متمركزة فيه اشعة النواميس الالهية في الكائنات. فلابد للبشر ان يتممها ويربطها وينتسب اليها ويتشبث باذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لا يُزلق ولايُطرد ولا يُلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي الا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
ومنها: ان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي يحصل للانسان نسبٌ كثيرة الى مراتب عديدة في الهيئة الاجتماعية، فيصير الشخص كنوعٍ؛ اذ كثير من الأوامرلاسيما التي لها تماس بالشعائر والمصالح العمومية كالخيط الذي نيط به حيثيات ونظُم فيه حقوق، لولاه لتمزقت وتطايرت.
ومنها: ان الانسان المسلم له مناسبات ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين. وهما سببان لاخوة راسخة ومحبة حقيقية بسبب العقائد الايمانية والملكات الاسلامية. أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتها مَلَكة راسخة فانما هي العبادة.
إشارات الإعجاز - ص: 149
وأما جهة الكمال النفسيّ فاعلم!
ان الانسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غال ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولا لاحصر لها ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز افكاراً غير محصورة ويتضمن قوى غير محدودة مع ان فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم. فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجلاء قيمته.. وأيضاً هي العلة لانكشاف استعداده ونموّه ليناسب السعادة الأبدية.. وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السبب لتحديد قواه وإلجامها.. وأيضا هي الصَيْقل لرَيْن الطبيعة على أعضائه المادية والمعنوية التي كل منها كأنه منفذ الى عالم مخصوص ونوع اذا شف.. وأيضا هي الموصل للبشر الى شرفه اللائق وكماله المقدر، اذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب.. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبة الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. وتلك النسبة هي نهاية مراتب كمال البشر.
ثم ان الاخلاص في العبادة هو: ان تفعل لأنه أُمر بها، وان اشتمل كل أمر على حِكَم، كل منها يكون علة للامتثال، الا ان الاخلاص يقتضي ان تكون العلةُ هي الأمر، فان كانت الحكمةُ علةً فالعبادة باطلة، وان بقيت مرجِّحة فجائزة.
***
ثم ان المخاطبين لما سمعوا (يا ايها الناس اعبدوا) استفسروا بلسان الحال: ما الحكمة؟ ولِمَ؟ وما المجبورية؟ ولأيّ شئ؟
أما الحكمة فقد سمعت في المقدمة. وأما العلة فأجاب القرآن الكريم باثبات الصانع وتوحيده بقوله: (ربكم الذي خلقكم).. الخ. واثبات النبوّة بقوله: (وان كنتم في ريب مما نزلنا).. الخ.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس