عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #12
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الرابع عشر


الشعاع الرابع عشر - ص: 515
استقبل بتصفيق حار وقام مائة وثلاث وستون نائباً بالموافقة على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لمدرسة دار الفنون (الجامعة)، وعندما دعا الى الصلاة قابل حدة رئيس الجمهورية في ديوان الرئاسة وردّ عليه دون خوف او وجل وعندما كان في "دار الحكمة الاسلامية" رأت حكومة الاتحاد والترقى بالاجماع انه اوفق شخص لتبليغ الحكمة الاسلامية الى حكماء اوروبا بشكل مؤثر. اما كتابه "اشارات الاعجاز" الذي ألفه في جبهات القتال - والذي تمت مصادرته الآن - فقد اعجب به القائد العام انور باشا اعجاباً كبيراً الى درجة انه هرع الى استقباله بكل احترام - وهذا ما لم يفعله مع أحد - وقرر اعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب كما ذُكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير.. فمثل هذا الرجل لايستطيع ان يسكت على معاملته بهذه الصورة وكأنه تورط في جرائم تافهة كسرقة بغلة او خطف بنت او نشل جيب، لانه لو سكت لكان هذا وصمة له ولعزته العلمية القدسية ولخدماته وللالوف المؤلفة من اصدقائه الغالين، لانكم عندما تعاقبونه بحبسه سنة واحدة فكأنكم تعاملونه معاملة سارق نعجة او خروف. فبعد قيامكم بوضعه دون اي سبب تحت الاقامة الجبرية وتحت المراقبة مدة عشر سنوات مليئة بالمضايقات وبالالام، وبعد هذا التعذيب تقومون الآن بحبسه سنة واحدة وبابقائه تحت الاقامة الجبرية سنة اخرى. وبدلاً من معاناته من تحكم وتجبر شرطي عادي او رجل بوليس سري عادي - وهو الذي لم يتحمل تحكم السلطان - فانه من الافضل والاولى له ان يُشنق. ولو ان مثل هذا الرجل اراد التدخل في امور الدنيا ورغب في ذلك، وكانت وظيفته ومهمته المقدسة تسمح له بذلك، اذن لاستطاع ان يقود امراً اعظم بعشرات المرات من حادثة "منمن" ومن ثورة "الشيخ سعيد" اي لاسمعكم صوتاً راعداً كدوي المدافع وليس طنيناً كطنين اجنحة الذباب!
اجل!.. انني اعرض امام انظار الحكومة الجمهورية بان ما اتعرض له حالياً من مصائب ومن بلايا هو نتيجة لمؤامرات ولدعايات منظمة بلشفية سرية، فهناك جو من الدعايات العامة الشاملة التي لم يشاهد لها مثيل في السابق وجو من الخوف ومن
الشعاع الرابع عشر - ص: 516
الارهاب، والدليل على هذا هو انه مامن احد من اصدقائي - الذين يبلغ عددهم مائة الف - استطاع ان يبعث لي رسالة واحدة منذ ستة أشهر ولم يستطع ان يرسل لي تحية او سلاماً. واصحاب المؤامرات هذه الذين يحاولون خداع الحكومة واستغفالها استطاعوا بتقاريرهم السرية ترتيب تحقيقات واستجوابات وتحريات في كل مكان بدءً من الولايات الشرقية للبلد الى الولاياتالغربية.
ان الخطة التي كان المتآمرون يحيكونها رتبت وكأن هناك حادثة مهمة اعاقب عليها - مع الالاف من الاشخاص مثلي - عقاباً قاسياً، ولكنها انتهت في الأخير الى عقوبة تافهة جداً يمكن ان تفرض على اي شخص اعتيادي قام بحادثة سرقة تافهة، اذ اعطيت عقوبة سجن لمدة ستة اشهر لـخمسة عشر من الناس الابرياء من بين مائة وخمسة عشر شخصاً. فهل هناك شخص يملك شعوراً وعقلاً يقوم بوخز اسد كبير في ذيله وخزة خفيفة بسيف قاطع حاد يحمله في يده فيثيره ضده؟ ذلك لانه لو كان يريد حفظ نفسه من ذلك الأسد او لو كان يريد قتاله لاستعمل ذلك السيف القاطع في موضع آخر من ذلك الوحش.
ان قيامكم باصدار عقوبة خفيفة ضدي يدل على انكم تتوهمون انني مثل هذا الرجل. ولو انني كنت شخصاً يتصرف مثل هذا التصرف البعيد عن العقل وعن الشعور فلماذا ملأتم هذا البلد بطوله وعرضه بجو من الخوف؟ وما الداعي لكل هذه الدعايات التي تستهدف جلب عداء الراي العام ضدي؟ لقد كان من المفروض ان تتعاملوا معي كتعاملكم مع مجنون عادي فترسلوني الى مستشفى المجاذيب.
اما لو كنت شخصاً مهماً كاهمية التدابير التي تتخذونها ضدي فليس من العقل ومن المنطق وخز ذلك الأسد او ذلك الوحش في ذيله واثارته للهجوم عليه، بل عليه ان يحافظ قدر الامكان على نفسه منه. وهكذا فأنني فضلت حياة الأنزواء منذ عشر سنوات باختياري وتحملت من الالام والمضايقات مالا يتحمله انسان. ولم أتدخل في اي شأن من شؤون الحكومة ولم ارغب في ذلك اصلاً، ذلك لان مهمتي المقدسة تمنعني من هذا.
الشعاع الرابع عشر - ص: 517
يا أهل الحل والعقد!
هل من الممكن لمن استطاع قبل خمس وعشرين سنة - بشهادة جرائد ذلك الوقت - ان يكسب الى جانب افكاره ثلاثين الف شخص بمقالة واحدة كتبها، وجلب نحوه انظار واهتمام جيش الحركة 1.واجاب بست كلمات على اسئلة كبير قساوسة انكلترة الذي اراد الاجابة عليها بستمائة كلمة، والذي كان يخطب في بداية عهد الحرية 2 كاي سياسي متمرس... هل من الممكن الا يوجد في مائة وعشرين رسالة من رسائل هذا الشخص سوى خمس عشرة كلمة تتعلق بالسياسة وبامور الدنيا؟ أيمكن لاي عقل ان يقتنع بان مثل هذا الرجل يسلك طريق السياسة وله اهداف دنيوية؟ لانه لو كان يهتم بالسياسة وبالتعرض للحكومة لظهر ذلك صراحةً او ايماءً في مائة موضع من مواضع كتاب واحد فقط. ولو كانت غايته توجيه النقد السياسي أما كان بامكانه ان يجد ما ينقده غير موضوع الحجاب وغير موضوع الميراث وهما من المواضيع ومن الدساتير الموجودة منذ السابق؟
ان اي شخص يملك فكراً سياسياً معيناً يستطيع ان يجد مئات الالاف من المواضيع التي ينتقدها لنظام هذه الحكومة التي قامت بانقلاب كبير ولايقتصر على موضوعين معلومين فقط. فهل يمكن حصر الانقلاب الذي قامت به الحكومة الجمهورية على مسألتين صغيرتين فقط؟ ومع انني لم اقصد توجيه اي انتقاد لها فقد التقطوا كلمتين او ثلاثاً وردت في كتاب او كتابين كتبتهما سابقاً وادّعوا بانني اهاجم نظام الحكومة واهاجم انقلابها. وانا اسألكم الآن: هل يعقل اشغال البلد بطوله وعرضه ونشر جو من الخوف فيه لمجرد تناولي لمسألة علمية لاتتطلب اصدار اية عقوبة من جرائها مهما كانت صغيرة؟
ان القيام باصدار عقوبة خفيفة وتافهة في حقي وفي حق بضعة اشخاص من أصدقائي ونشر دعايات مكثفة وشديدة ضدنا في عموم البلد، واشاعة جو من
_____________________
1 جيش الحركة هو الجيش الذي وجهه الاتحاديون من مدينة «سلانيك» حيث كانت مركز قوتهم بقيادة «محمود شوكت باشا» لقمع العصيان الذي حدث في 31 مارت واعادة سلطة الاتحاديين -المترجم
2 عهد الحرية: وهو الفترة الاولى لتولي جمعية الاتحاد والترقي الحكم بعد عزل السلطان عبد الحميد، وهذه التسمية اصبحت متداولة ومعروفة وان كانت خاطئة حيث انهم اسسوا نظاماً حزبياً دكتاتورياً (المترجم).

الشعاع الرابع عشر - ص: 518
الخوف والارهاب بين الناس لكي ينفروهم منا ويبغضونا في اعينهم، وجلب وزير الداخلية "شكري قايا" قوة كبيرة الى مدينة "إسبارطة" لتقوم بمهمة يستطيع القيام بها جندي واحد - وهي القيام بالقاء القبض علي وسجني - وقيام رئيس الوزراء عصمت (اينونو) بزيارة الولايات الشرقية بهذه المناسبة، وكذلك منعي من الحديث والتكلم شهرين كاملين في السجن وعدم السماح لاي أحد بالسؤال عن حالي او ارسال تحية لي وانا وحيد في هذه الغربة..كل هذا يشير الى وضع غريب جداً لامعنى له ولاحكمة فيه لاتليق بأية حكومة في الدنيا - علما بان مصدركلمة "الحكومة" هو تناول الامور بالحكمة - وليس فقط بحكومة الجمهورية التي من المفروض انها تراعي القوانين وتحترمها.
انني اريد حفظ حقوقي في اطار القانون. كما اتهم كل من يخالف القانون ويدوس عليه باسم القانون بانه يرتكب جناية، ولاشك ان قوانين الحكومة الجمهورية ترفض اعمال هؤلاء الجناة، وآمل ان تعاد لي حقوقي.
سعيد النورسي
* * *

ملاحظة:
المكتوب السادس عشر (من المكتوبات) مع ذيله يعدّ دفاعاً عن الاستاذ النورسى وعن رسائل النور، ولهذا ادرجه الاستاذ النورسي هنا ضمن الشعاع الرابع عشر هذا، فمن شاء فليراجعه فى موضعه من "المكتوبات". - المترجم.

* * *
الشعاع الرابع عشر - ص: 519
رسائل من السجن
باسمه سبحانه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.
أيها الاخوة الاعزاء الأوفياء!
لقد رأيت انوار سلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وارزاقهم.
النقطة الأولى:
ان كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن ان يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن ان يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - الى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن ان يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.
فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان باداء الفرائض والتوبة الى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته الى السجن، والتوجه اليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً ان السجن نفسه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.
النقطة الثانية:
ان زوال الألم لذةٌ، كما ان زوال اللذة ألمٌ.
نعم! ان كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه بحسرة وأسف عليها، حتى ينطلق لسانه بكلمات الحسرات: اواه.. آه.. بينما اذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فانه يشعر في روحه وقلبه بفرح وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمدلله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركة ثوابها. فينشرح صدره ويرتاح.
الشعاع الرابع عشر - ص: 520
أي أن ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذة موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.
فما دامت الحقيقة هذه، وساعات المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عداد المعدوم، وان أيام البلايا لم تأت بعدُ، فهي ايضاً في حكم المعدوم.. وانه لا ألم من غير شئ.. ولا يرد من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة اذن اظهار الجزع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّت، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً انها جميعاً في عداد المعدوم. ومن الحماقة أيضاً اظهار الشكوى من الله وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَليس من يفعل هذا أشد بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طوال اليوم خشية أن يجوع أو يعطش بعد أيام؟
نعم! ان الانسان اِن لم يشتت قوة صبره يميناً وشمالاً - الى الماضي والمستقبل - وسدّدها الى اليوم الذي هو فيه، فانها كافية لتحل له حبال المضايقات.
حتى انني أذكر - ولا أشكو - ان ما مرّ عليّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس اذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري ايّما انشراح وولت تلك المضايقات فرضيت بالسجن وآلامه والمرض وأوجاعه. اذ َمن كان مثلي على شفير القبر يعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن ان تمر بغفلة الى عشر ساعات من العبادة... فشكرت الله كثيراً.
النقطة الثالثة:
ان القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة واعطاءهم ارزاقهم التي يحتاجون اليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلي والعزاء، مع انه عمل بسيط الاّ أنه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث أن تسليم ارزاقهم التي تُرسل اليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما ان كان
الشعاع الرابع عشر - ص: 521
المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فان ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.
وهذا الربح العظيم مشروط باداء الفرائض من الصلوات لتصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو ان تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون ان يحمّل شيئاً من المنة.
* * *

(حاشية صغيرة لرسالة "مرشد الشباب" )
باسمه سبحانه
ان المسجونين هم في امسّ الحاجة الى ما في "رسائل النور" من سلوان حقيقي وعزاء خالص. ولا سيما أولئك الشبان الذين تلقوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنزواتهم واهوائهم. فقضوا نضارة عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء الى النور كحاجتهم الى الخبز.
ان عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها اكثر مما تستجيب للعقل وترضخ له. وسَورات الهوى - كما هو معلوم - لا تبصر العقبى، فتفضل درهماً من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقدم الشاب بدافع الهوى على قتل انسان برئ للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانية آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق الى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث - في قضية تخص الشرف - ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجن وخوف وتوجس من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادة العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.
وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تحوّل ألطف أيام حياتهم واحلاها الى أمرّ الايام وأقساها، وفي حالة يرثى لهم ولاسيما بعد ان هبت عواصف هوجاء من الشمال تحمل فتناً مدمرة لهذا العصر؛ اذ
الشعاع الرابع عشر - ص: 522
تستبيح لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم الى الاختلاط الماجن البذئ، فضلاً عن إباحتها أموال الأغنياء لفقراء سفهاء.
ان فرائص البشرية كلها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها.
فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب ان يشمّروا عن سواعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلّوا السيوف الالماسية لحجج "رسائل النور" وبراهينها الدامغة - التي في رسالة "الثمرة" و"مرشد الشباب" وامثالهما - ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهجوم الكاسح الذي شُنّ عليهم من جهتين.. والاّ فسيضيع مستقبل الشباب في العالم، وتذهب حياته السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلها الى آلامٍ وعذاب؛ اذ سيكون نزيل المستشفيات، بما كَسبت يداه من اسراف وسفاهة.. ونزيل السجون، بطيشه وغيّه.. وسيبكي أيام شيخوخته بكاءً مراً ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.
ولكن اذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق "رسائل النور" فسيكون شاباً رائداً حقاً، وانساناً كاملاً، ومسلماً صادقاً سعيداً، وسلطاناً على سائر المخلوقات.
نعم، ان الشاب اذا دفع ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة من يومه في السجن الى اقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه الى السجن، وتجنب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجن اِياها.. فانه سيعود بفوائد جمة الى حياته والى مستقبله والى بلاده والى أمته والى احبّائه واقاربه، فضلاً عن انه يكسب شباباً خالداً في النعيم المقيم بدلاً من هذا الذي لا يدوم خمس عشرة سنة.
هذه الحقيقة يبشرّ بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميع الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم.
نعم! اذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب - ذلك العهد الجميل الطيب - بالاستقامة على الصراط السوي، واداء العبادات، فان تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعة وبهجة.. واِلاّ فانها تكون بلاء
الشعاع الرابع عشر - ص: 523
ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباء فيكون عهد الشباب وبالاً على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.
هذا وان كل ساعة من ساعات المسجون الذي حكم عليه ظلماً تكون كعبادة يومٍ كامل له، ان كان مؤدياً للفرائض، ويكون السجن بحقه موضع انزواء واعتزال من الناس كما كان الزهاد والعباد ينزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة. أي يمكن ان يكون هو مثل اولئك الزهاد.
وستكون كل ساعة من ساعاته ان كان فقيراً ومريضاً وشيخاً متعلقاً قلبه بحقائق الايمان وقد أناب الى الله وادّى الفرائض، في حكم عبادة عشرين ساعة له، ويتحول السجن بحقه مدرسة تربوية ارشادية، وموضع تحابب ومكان تعاطف، حيث يقضي أيامه مع زملائه في راحة فضلاً عن راحته وتوجه الانظار اليه بالرحمة، بل لعله يفضل بقاءه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال اليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه. وحينما يغادره لا يغادره قاتلاً ولا حريصاً على أخذ الثأر، وانما يخرج رجلاً صالحاً تائباً الى الله، قد غنم تجارب حياتية غزيرة. فيصبح عضواً نافعاً للبلاد والعباد، حتى حدا الامر بجماعة كانوا معنا في سجن "دنيزلي" الى القول، بعدما أخذوا دروساً ايمانية في سمو الاخلاق ولو لفترة وجيزة من رسائل النور:
"لو تلقى هؤلاء دروس الايمان من رسائل النور في خمسة اسابيع، فانه اجدى لاصلاحهم من القائهم الى السجن خمس عشرة سنة".
فما دام الموت لا يفنى من الوجود، والأجل مستور عنا بستار الغيب، ويمكنه ان يحلّ بنا في كل وقت.. وان القبر لا يُغلق بابه.. وان البشرية تغيب وراءه قافلة اِثر قافلة.. وان الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو الاّ تذكرة تسريح واعفاء من الاعدام الأبدي - كما وضّح ذلك بالحقيقة القرآنية - وانه بحق الضالين السفهاء اعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ اذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلابد ولا شك بان أسعد انسان هو مَن يشكر ربه صابراً محتسباً في سجنه مستغلاً وقته أفضل استغلال، ساعياً لخدمة القرآن والإيمان مسترشداً برسائل النور.
الشعاع الرابع عشر - ص: 524
ايها الانسان المبتلى بالملذات والمتع!
لقد علمتُ يقيناً طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبالوف التجارب التي كسبتها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ أن الذوق الحقيقي، واللذة التي لا يشوبها ألم، والفرح الذي لا يكدّره حزن، والسعادة التامة في الحياة انما هي في الايمان، وفي نطاق حقائقه ليس الاّ. ومن دونه فان لذةً دنيوية واحدة تحمل آلاماً كثيرة كثيرة. واذ تقدم اليك الدنيا لذة بقدر ما في حبة عنب تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذة الحياة ومتاعها.
أيها المساكين المبتلون بمصيبة السجن!
ما دامت دنياكم حزينة باكية، وان حياتكم قد تعكرت بالآلام والمصائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية. فاغتنموا يا اخوتي هذه الفرصة، اذ كما ان مرابطة ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن ان تتحول الى سنة من العبادة، فان كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول الى ساعات كثيرة هناك اذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب الى رحمات وغفران.
سعيد النورسي
* * *

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس