عرض مشاركة واحدة
قديم 03-15-2012
  #4
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية. فالدنيوية: كعلم الطلبوالحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات. والأخروية: كعلم أحوال القلبوآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله -كما فصلناه في كتاب العلم-وهما علمان متنافيان -أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرتهعن الآخر على الأكثر- ولذلك ضرب علي رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلةفقال: هما ككفتي الميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا رضيت إحداهما أسخطتالأخرى.
ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسةوالفلسفة جهالاً في أمور الآخرة. والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالاً في أكثرعلوم الدنيا، لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعاً في الغالب فيكون أحدهما مانعاًمن الكمال في الثاني. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن أكثر أهل الجنة البلهأي البله في أمور الدنيا.
وقال الحسن في بعض مواعظه: لقد أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتممجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين. فمهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين جحدهأهل الكياسة في سائر العلوم، فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالكطريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ولذلك قال تعالى"إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" الآيةوقال تعالى "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون" وقالعز وجل "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم منالعلم" فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلالمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدسالمستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها. فأما قلوب سائرالخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخر وقصرت عن الاستكمال فيها.
بيان الفرق بين الإلهام والتعلم
والفرق بين طريق الصوفية في استكشاف الحق وطريق النظار
اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية - وإنما تحصل في القلب في بعضالأحول - تختلف الحال في حصولها فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لايدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلةالدليل يسمى إلهاماً، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً واستبصاراً. ثم الواقعفي القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما يدري العبد أنه كيف حصلله ومن أين حصل? وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدةالملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاماً ونفثاً في الروع والثاني: يسمى وحياًوتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله - وهو المكتسببطريق الاستدلال - يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجليفيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة - التيسبق ذكرها - فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هومنقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح فيمرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها، والحجاب بين المرآتين تارةيزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه. وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشفالحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ، ويكون ذلكتارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل. وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فيهينكشف الغطاء، وينكشف أيضاً في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى،فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم تارة كالبرق الخاطف، وأخرىعلى التوالي إلى حد ما. ودوامة في غاية الندور فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفسالعلم ولا في محله ولا في سببه ولكن يفارقه من جهة زوال الحجاب، فإن ذلك ليس باختيارالعبد ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم،فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة، وإليه الإشارة بقوله تعالى"وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحيبإذنه ما يشاء".
فإذا عرفت هذا فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دونالتعليمية. فلذلك لم يحصروا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عنالأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومةوقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هوالمتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلبفاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكلوت،وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهيةفليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإدارة الصادقةوالتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لابالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغالقلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله كان الله له.وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية وتفريغ القلب منهاوبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن وعن العلم والولاية والجاه بل يصيرقلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلوا بنفسه في زواية مع الاقتصارعلى الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآنولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد أن لا يخطر ببال شيء سوىالله تعالى، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلاً بلسانه: على الدوام مع حضورالقلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثميصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان ويصادف قلبه مواظباً على الذكر ثم يواظبعليه إلى أن يمحى عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمةمجرداً في قلبه حاضراً فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلىهذا الحد واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلابرحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله فلا يبقى إلاالانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق؛وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغلهحديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرقالخاطف لا يثبت؛ ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفاً؛ وإن ثبتقد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد.ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم. وقد رجعهذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط.
وأما النظار وذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانهوإفضائه إلى هذا المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء، ولكناستوعروا هذا الطريق واستبطؤا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه، وزعموا أن محوالعلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر وإن حصل في حال فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواسوخاطر يشوش القلب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن أشد تقلباًمن القدر في غليانها" وقال عليه أفضل الصلاة والسلام "قلب المؤمن بينإصبعين من أصابع الرحمن وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرضالبدن، وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت بالقلب خيالاتفاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها، فكممن صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ولو كان قد أتقن العلم منقبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقربإلى الغرض. وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه. وزعم أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يتعلم ذلك وصار فقيهاً بالوحي. والإلهام من غير تكرير وتعليقوأنا أيضاً ربما انتهت بي الرياضة والمواظبة إليه ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه وضيععمره، بل هو كمن يترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من الكنوز، فإن ذلكممكن ولكنه بعيداً جداً؛ فكذلك هذا. وقالوا: لا بد أولاً من تحصيل ما حصله العلماءوفهم ما قالوه ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فعساهينكشف بعد ذلك بالمجاهدة.
بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس
اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس، لأن القلب أيضاً خارجعن إدراك الحس وما لبس مدركاً بالحواس تضعف الأفهام عن دركه إلا بمثال محسوس. ونحننقرب ذلك إلى الأفهام الضعيفة بمثالين:
أحدهما: أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض احتمل أن يساق الماءمن فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقربمن مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوموقد يكون أغزر وأكثر. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمسمثال الأنهار. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتباربالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصريعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.
فإن قلت: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه? فاعلم أن هذامن عجائب أسرار القلب ولا يسمح بذكره في علم المعاملة بل القدر الذي يمكن ذكره أنحقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين. فكما أنالمهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة فكذلكفاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجإلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منهصورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورةالسماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء وارض وبقي هو فينفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى منخياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصلفي القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجودفي نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه. والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة فياللوح المحفوظ.
فكأن للعالم أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابقعلى وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي -أعني وجود صورته في الخيال - ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي - أعني وجود صورتهفي القلب وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية. والروحانية بعضها أشد روحانيةمن البعض؛ وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبعصورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحسوجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب فإنك أبداً لا تدرك إلا ما هو واصل إليك،فلو لم يجعل للعالم كله مثالاً في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك، فسبحان مندبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار، حتى صارتقلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها.
ولنرجع إلى الغرض المقصود فنقول: القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقةالعالم وصورته تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ، كما أن العين يتصور أن يحصلفيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمسويحكي صورتها. فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجرإليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس، فيكون ذلك كتفجر الماء من عمقالأرض. ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجاباً له عن مطالعةاللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار منع ذلك من التفجر في الأرض،وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظراً إلى نفس الشمس؛فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة،وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة. وعالم الشهادة والملكأيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة. فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباسمن الحواس فلا يخفى عليك. وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوحالمحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم علىما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس. وإنما ينفتحذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم "سبقالمفردون" قيل ومن المفردون يا رسول الله? قال "المتنزهون بذكر اللهتعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً" ثم قال في وصفهمإخباراً عن الله تعالى فقال "ثم أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلمأحد أي شيء أريد أن أعطيه? ثم قال تعالى: أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهمفيخبرون عني كما أخبر عنهم" ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن فإذا الفرقبين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا وهو أن علومهم تأتيمن داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يتأتى من أبوابالحواس المفتوحة إلى عالم الملك، وعجائب عالم القلب وتردده بين عالمي الشهادةوالغيب لا يمكن أن يستقصى في علم المعاملة. فهذا مثال يعلمك الفرق بين مدخلالعالمين.
المثال الثاني: يعرفك الفرق بين العملين، أعني عمل العلماء وعملالأولياء: فإن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياءالصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط، فقد حكي أن أهلالصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور فاستقر رأيالملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياًويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم منالأصباغ الغريبة ما لا ينحصر ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهمويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك منقولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ? فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا:ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية معزيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيدالتقصيل؛ فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيهجلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقشالعلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم، فكيفما كان الأمر فقلت المؤمن لايموت وعلمه عند الموت لا يمحى وصفاؤه لا يتكدر وإليه أشار الحسن رحمه الله عليهبقوله: التراب لا يأكل محل الإيمان بل يكون وسيلة وقربة إلى الله تعالى.
وأما ما حصله من نفس العلم وما حصله من الصفاء والاستعداد لقبولنفس العلم فلا غنى به عنه ولا سعادة لأحد إلا بالعلم والمعرفة، وبعض السعادات أشرفمن بعض كما أنه لا غنى إلا بالمال. فصاحب الدرهم غني وصاحب الخزائن المترعة غني،وتفاوت درجات السعداء بحسب تفاوت المعرفة والإيمان كما تتفاوت درجات الأغنياء بحسبقلة المال وكثرته، فالمعارف أنوار ولا يسعى المؤمنون إلى لقاء الله تعالى إلا بأنوارهمقال الله تعالى "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" وقد روي في الخبر"أن بعضهم يعطى نوراً مثل الجبل وبعضهم أصغر حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوراًعلى إبهامقدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدم قدميه فمشى وإذا طفئ قام،ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر طرف العين ومنهم من يمر كالبرقومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كالفرس إذا اشتدفي ميدانه، والذي أعطي نوراً على إبهام قدمه يحبو حبواً على وجهه ويديه ورجليه يجريداً ويعلق أخرى ويصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص" الحديث فبهذاظهر تفاوت الناس في الإيمان ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين سوى النبيينوالمرسلين لرجح. فهذا أيضاً يضاهي قول القائل: لو وزن نور الشمس بنور السرج كلهالرجح؛ فإنما أحاد العوام نوره مثل نور السراج وبعضهم نوره كنور الشمع، وإيمان الصديقينكنور القمر والنجوم، وإيمان الأنبياء كالشمس. وكما ينكشف في نور الشمس صورة الآفاقمع اتساع أقطارها ولا ينكشف في نور السراج إلا زواية ضيقة من البيت فكذلك انشراحالصرد بالمعارف وانكشاف سعة الملكوت لقلوب العارفين. ولذلك جاء في الخبر "أنهيقال يوم القيامة اخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصف مثقالوربع مثقال وشعيرة وذرة" كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان وأن هذهالمقادير من الإيمان لا تمنع دخول النار، وفي مفهومه أن من إيمانه يزيد على مثقالفإنه لا يدخل النار، إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولاً وأن من في قلبه مثقال ذرة لايستحق الخلود في النار وإن دخلها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "ليس شيءخيراً من ألف مثله إلا الإنسان المؤمن إشارة إلى تفضيل قلب العارف بالله تعالىالموقن فإنه خير من ألف قلب من العوام. وقد قال تعالى "وأنت الأعلون إن كنتممؤمنين" تفضيلاً للمؤمنين على المسلمين والمراد به المؤمن العارف دون المقلدوقال عز وجل "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"فأراد ههنا بالذين آمنوا الذين صدقوا من غير علم وميزهم عن الذين أوتوا العلم.ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد وإن لم يكن تصديقه عن بصيرة وكشف.
وفسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى "والذين أوتوا العلمدرجات" فقال يرفع الله العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كل درجتين كمابين السماء والأرض، وقال صلى الله عليه وسلم "أكثر أهل الجنة البله وعليونلذوي الألباب وقال صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنىرجل من أصحابي" وفي رواية "كفضل القمر ليلة البدر على سائرالكواكب" فبهذه الشواهد يتضح لك تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت قلوبهمومعارفهم، ولهذا كان يوم القيامة يوم التغابن إذ المحروم من رحمة الله عظيم الغبنوالخسران، والمحروم يرى فوق درجته درجات عظيمة فيكون نظره غليها كنظر الغني الذييملك عشرة دراهم إلى الغني الذي يملك الأرض من المشرق إلى المغرب وكل واحد منهماغني ولكن ما أعظم الفرق بينهما وما أعظم الغبن على من يخسر حظه من ذلك"وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا".
بيان شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف
في اكتساب المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد
اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوعفي القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قطفينبغي أن يؤمن به، فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جداً، ويشهد لذلك شواهد الشرعوالتجارب والحكايات:
أما الشواهد: فقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهمسبلنا" فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريقالكشف والإلهام. وقال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولميوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار وقال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل لهمخرجاً" من الإشكالات والشبه "ويرزقه من حيث لا يحتسب" يعلمه علماًمن غير تعلم ويفطنه من غير تجربة. وقال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنتتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" قيل نوراً يفرق به بين الحق والباطل ويخرج بهمن الشبهات، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال النور فقال عليهالصلاة والسلام "اللهم أعطني نوراً وزدني نوراً واجعل لي في قلبي نوراً وفيقبري نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً حتى قال في شعري وفي بشري وفي لحمي ودميوعظامي" وسئل صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى "أفمن شرح الله صدرهللإسلام فهو على نور من ربه" ما هذا الشرح? فقال "هو التوسعة إن النورإذا قذف به في القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال علي رضي الله عنه: ما عندنا شيءأسره النبي صلى الله عليه وسلم إلينا إلا أن يؤتى الله تعالى عبداً فهماً في كتابهوليس هذا بالتعلم"? وقيل في تفسير قوله تعالى "يؤتى الحكمة منيشاء" إنه الفهم في:كتاب الله وقال تعالى "ففهمناها سليمان" خص ماانكشف باسم الفهم. وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستررقيق والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم. وقال بعض السلف: ظنالمؤمن كهانة.
وقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنورالله تعالى وإليه يشير قوله تعالى "إن في ذلك لآيات للمتوسمين" وقولهتعالى "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" وروى الحسن عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم أنه قال "العلم علمان فعلم باطن في القلب فذلك هو العلم النافع"وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو? فقال: هو سر من أسرار الله تعالى يقذفهالله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً. وقد قال صلى الله عليهوسلم "إن من أمتي محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم" وقرأ ابن عباسرضي الله عنهما "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" يعنيالصديقين والمحدث هو الملهم، والملهم هو الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخللا من جهة المحسوسات الخارجة.
والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف: وذلك علم من غيرتعلم. وقال الله تعالى "وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوميتقون" خصصها بهم وقال تعالى "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صارجاهلاً، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء? بلا حفظ ولا درس. وهذا هو العلمالرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى "وعلمنا من لدنا علماً" مع أن كل علممن لدنه ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علماً لدنيا بل اللدني الذيينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما وردفيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر.
وأما مشاهدة ذلك بالتجارب فذلك أيضاً خارج عن الحصر وظهر ذلك علىالصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي اللهعنها عند موته: إنما هما أخواك وأختاك، وكانت زوجته حاملاً فولدت بنتاً فكان قدعرف قبل الولادة أنها بنت. وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته: يا سارية الجبلالجبل؛ إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك، ثم بلوغ صوته إليهمن جملة الكرامات العظيمة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلت على عثمان رضيالله عنه وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزراً وتأملت محاسنها فقالعثمان رضي الله عنه لما دخلت: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه أما علمتأن زنا العينين النظر? لتتوبن أو لأعزرنك فقلت: أوحي بعد النبي? فقال. لا، ولكنبصيرة وبرهان وفراسة صادقة. وعن أبي سعيد الخراز قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيراًعليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كل على الناس، فناداني وقال "واللهيعلم ما في أنفسكم فاحذروه" فاستغفرت الله في سري فناداني وقال "وهوالذي يقبل التوبة عن عباده" ثم غاب عني ولم أره.
وقال زكريا بن داود: دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضلالهاشمي - وهو عليل وكان ذا عيال ولم يعرف له سبب يعيش به - قال: فلما قمت قلت فينفسي من أين يأكل هذا الرجل? قال: فصاح بي يا أبا العباس رد هذه الهمة الدنية فإنلله تعالى ألطافاً خفية. وقال أحمد النقيب: دخلت على الشبلي فقال مفتوناً: يا أحمدفقلت: ما الخبر? قال: كنت جالساً لجرى بخاطري أنك بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فعادمني خاطري وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقيريلقاني، قال: فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون ديناراًفقال" اجعلها في مصالحك، قال: وقمت فأخذتها وخرجت وإذا بفقير مكفوف بين يديمزيد يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير، فقال: أعطها المزين، فقلت: إنجملتها كذا وكذا، قال: أوليس قد قلنا لك إنك بخيل? قال: فناولتها المزين فقالالمزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجراً، قال: فرميتبها في دجلة وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل. وقال حمزة بن عبد اللهالعلوي: دخلت على أبي الخير النيناني واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل فيداره طعاماً، فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقاً فيه طعام وقال: يافتى كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك، وكان أبو الخير النيناني هذا مشهوراًبالكرامات وقام إبراهيم الرقي: قصدته مسلماً عليه فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأالفاتحة مستوياً فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي! فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبعفعدت إلى أبي الخير وقلت: قصدني سبع، فخرج وصاح به وقال: ألم أقل لك لا تتعرضلضيفاني? فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال لي: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتمالأسد، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد.
وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرجعن الحصر بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه، ومن سماع صوتالهاتف، ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحدما لم يشاهد ذلكمن نفسه، ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحدأمران أحدهما: عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النومفلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدماشتغالها بالمحسوسات فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه!والثاني: إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كمااشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لغيره إذ النبيعبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجودشخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق، وهذا لا يسمى نبياً بل يسمى ولياً،فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان:باب إلى خارج وهو الحواس، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفثفي الروع والوحي، فإذا أقربهما جميعاً لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرةالأسباب المألوفة، بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيل إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ماذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت. وأما السبب في انكشافالأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير وكذلك تمثل الملائكة للأنبياءوالأولياء بصور مختلفة فذلك أيضاً من أسرار عجائب القلب، ولا يليق ذلك إلا بعلمالمكاشفة فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها.فقد قال بعض المكاشفين ظهر لي الملك فسألني أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي عنمشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلىالله عز وجل فقلت: ألستما تكتبان الفرائض? قالا: بلى، قلت: فيكفيكما ذلك. وهذهإشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب وإنما يطلعون على الأعمالالظاهرة. وقال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفتإلى شماله فقال: ما تقول رحمك الله? ثم التفت إلى يمينه فقال: ما تقول رحمك الله?ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك الله? ثم أجاب بأغرب جواب سمعته فسألته عنالتفاته فقال: لم يكن عندي في المسألة جواب عتيد، فسألت صاحب الشمال فقال لا أدري!فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال لا أدري، فنظرت إلى قلبي وسألته فحدثني بماأجبتك فإذا هو أعلم منهما. وكأن هذا هو معنى قوله عليه السلام "إن في أمتيمحدثين وإن عمر منهم".
وفي الأثر: إن الله تعالى يقول: أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيتالغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه. وقال أبوسليمان الداراني رحمة الله عليه: القلب بمنزلة القبة المضروبة حولها أبواب مغلقةباب فتح له عمل فيه? فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة الملكوت والملأالأعلى، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة والورع والإعراض عن شهوات الدنيا. ولذلك كتبعمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم ينجليلهم أمور صادقة. وقال بعض العلماء: يد الله على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بماهيأ الله لهم من الحق. وقال آخر: لو شئت لقلت إن الله تعالى يطلع الخاشعين على بعضسره.
بيان تسلط الشيطان على القلب بالوساوس
ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها
اعلم أن القلب كما ذكرناه مثال قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليهالأحوال من كل باب، ومثاله أيضاً مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو هومثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورةولا تخلو عنها، أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه. وإنمامداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال؛ أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأمامن الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان؛ فإنه إذاأدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرةالأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس فالخيالاتالحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقلالقلب من حال إلى حال آخر. والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذهالأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر؛ وأعني بالخواطر ما يحصل فيه منالأفكار، والأذكار، وأعني به إدراكاته علوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيلالتذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها. والخواطرهي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوى بالباللا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر، ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم،والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى مايدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة، وإلى ما يدعو إلى ما ينفع في الدارالآخرة. فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمىإلهاماً، والخاطر المذموم أعنى الداعي إلى الشر يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذهالخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك علىاختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب.فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سببالسواد غير سبب الاستنارة.
وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلىالخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً واللطيف الذي يتهيأبه القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاًو الذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطانيسمىإغواء وخذلاناً، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة والملك عبارة عنخلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخيروالأمر بالمعروف، وقد خلقه وسخره لذلك والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهوالوعد بالشر والأمر بالفحشاء؛ والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة فيمقابلة الإلهام، والشيطان في مقابلة الملك، والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليهالإشارة بقوله تعالى "ومن كل شيء خلقنا زوجين" فإن الموجودات كلهامتقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالقللأزواج كلها. فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك. وقد قال رسول الله صلى الله عليهوسلم "في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلكفليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحقونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم -ثم تلا قوله تعالى"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء" الآية". وقال الحسن إنماهما همان يجولان في القلب هم من الله تعالى وهم من العدو، فرحم الله عبداً وقف عندهمه فما كان من الله تعالى أمضاه وما كان من عدوه جاهده.
ولتجاذب القلب بين هذين المسلطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" فالله تعالى عن أن يكون لهأصبح مركبة من لحم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرةعلى التحريك والتغيير، فإنك لا تريد إصبعك لشخصه بل لفعله في التقليب والترديد كماأنك تتعاطى الأفعال بأصابعك. والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطانوهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب، كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجساممثلاص. والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحاًمتساوياً ليس بترجح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوىوالإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضبوالشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هومرعى الشيطان ومرتعه، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكةعليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضبوحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لا جرم لم يخلقلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم"ما منكم من أحد إلا وله شيطان" قالوا وأنت يا رسول الله? قال"وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمر إلا بخبر وإنما كان هذا لأنالشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسطإلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بهالا يأمر إلا بالخير. ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطانمجالاً فوسوس. ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجالهوأقبل الملك وألهم. والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلىأن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً. وأكثرالقلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثارالعاجلة وإطراح الآخرة. ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى. ولا يمكن فتحها بعدذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالىالذي هو مطرح أثر الملائكة. وقال جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زيادما أجد في صدر من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص فإنكان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه. يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخلهالشيطان. ولذلك قال الله تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فكل مناتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك سلط الله عليه الشيطان. وقال تعالى"أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده فهوعبد الهوى لا عبد الله. ولذلك قال عمرو ابن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال "ذلك شيطان يقال له خنزبفإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً" قال: ففعلت ذلك فأذهبهالله عني".
وفي الخبر "إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوابالله منه" ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به،لأنه إذا خطر في القلب ذلك شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل، ولكن كل شيء سوى اللهتعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان، وذكر الله هو الذييؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال. ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميعوساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة، وهو معنى قولك: أعوذبالله من الشيطان الرجيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وذلك لا يقدرعليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقاتالفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف منالشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى "منشر الوسواس الخناس" قال: هو منبسط على القلب؛ فإذا ذكر الله تعالى خنسوانقبض، وإذا غفل انبسط على قلبه. فالتطارد بين الله تعالى ووسوسة الشيطانكالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار، ولتضادهما قال الله تعالى"استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله" وقال أنس: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم "إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن هو ذكر اللهتعالى خنس وإن نسي الله تعالى التقم قلبه" وقال ابن وضاح في حديث ذكره: إذابلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده وقال: بأبى وجه من لايفلح".
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس