الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #23
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الرجاء الـحادي عشر

عندما رجعت من الاسر، كنت أسكن مع ابن اخي ((عبدالرحـمن))(2) في قصر على قمة ((جاملجة)) في استانبول. ويـمكن ان تعتبر هذه الـحياة التي كنت احياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لانني قد نـجوت من الاسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة امامي في ((دار الـحكمة الإسلامية))(1) وبـما يناسب مهنتي العلمية، وان الشهرة والصيت والاقبال عليّ تـحفّ بي بدرجة لا استحقها، وانا ساكن في اجـمل بقعة من استانبول ((جاملجة))، وكل شيء بالنسبة لي على مايرام، حيث أن ابن اخي (عبدالرحـمن)) – رحـمه الله – معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت احس بأني اسعد انسان في العالـم، نظرت الى الـمرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لـحيتي، واذا بتلك الصحوة الروحية التي احسست بها في الاسر في جامع ((قوصترما)) تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وافكر مدققاً في تلك الـحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت اظنها انها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة او سبب دققت النظر فيه، الا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الاثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حـميم، يُعدّ من أوفى الاصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لاتـخطر على بال.. كل ذلك أدى الى النفرة والامتعاض من الـحياة الدنيا، فقلت لقلبي:

- ياتُرى هل انا منخذع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون الى حياتنا التي يُرثى لـها من زاوية الـحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جـميع هؤلاء الناس؟ أم انا في طريقي الى الـجنون، لرؤيتي هؤلاء الـمفتونين بالدنيا مـجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني ارى اولاً: فناء ما ارتبط به من الاشياء الـمعرّضة للفناء والزوال!!

ثم التفتّ الى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتشبثت بالاشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخت من اعماقها: ((مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة ارجوها من هذه الفانيات؟ وما دمتُ عاجزة فماذا انتظر من العاجزين؟.. فليس لدائي دواء الاّ عند الباقي السرمدي، عند القدير الازلي)) فبدأت أبـحث وأستقصي.. راجعت اول ماراجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبـحث فيها السلوة والرجاء. ولكن كنت – وباللاسف- الى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني – ظناً خطأ جداً – أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومـحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك الـمسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيراً، بل اصبحت عائقة امام سـموي الـمعنوي.

نعم، بينما كنت في هذه الـحالة، اذا بـحكمة القرآن الـمقدسة تسعفني، رحـمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبـحانه، فغسلتْ أدران تلك الـمسائل الفلسفية وطهرت روحي منها – كما هو مبين في كثير من الرسائل – اذ كان الظلام الروحي الـمنبثق من العلوم الفلسفية، يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فاينما كنت اتوجه بنظري في تلك الـمسائل فلا أرى نوراً ولا اجد قبساً، ولـم أتـمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريـم الذي يلقن ((لا اله الا هو)) فـمزق ذلك الظلام وبدده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنـّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك يـما أخذاه من تعليمات وتلقياه من دروس من اهل الضلالة والفلسفة. فبدأت الـمناظرة النفسية في هذا الـهجوم حتى اختتمت – ولله الـحمد والـمنـّة – بانتصار القلب وفوزه.

ولـما كان قسم من تلك الـمناظرات قد ورد في اغلب الرسائل، فنـحن نكتفي به، الا أننا نبين هنا برهاناً واحداً فقط من بين آلاف البراهين، لنبين انتصار القلب وفوزه على النفس والشيطان، وليقوم ذلك البرهان بتطهير ارواح اولئك الشيوخ الذين لوثوا أرواحهم، واسقموا قلوبهم، واطغوا انفسهم، حتى تـجاوزت حدودها، تارة بالضلالة، وتارة بـما لايعنيهم من أمور تتستر تـحت ستار العلوم الاجنبية والفنون الـحضارية ولينجوا – باذن الله – في حق التوحيد، من شرور النفس والشيطان. والـمناظرة هي كالآتي:

قالت نفسي مستفسرة باسم العلوم الفلسفية الـمادية: ان الاشياء الـموجودة في الكون، بطبيعتها تتدخل في الـموجودات فكل شيء متوجه الى سبب وصادر منه، فالثـمرة تؤخذ من الشـجرة، والـحبوب تطلب من التراب، فماذا يعني التضرع الى الله وطلب اصغر شيء واكثره جزئية منه سبحانه؟!

انكشف حالا سر التوحيد بنور القرآن الكريـم بالصورة الآتية:

أجاب قلبي لنفسي الـمتفلسفة: ان اصغر شيء واكثره جزئية انـما هو كأكبر شيء واعظمه، فهو يصدر من قدرة خالق الكائنات مباشرة، ويأتي من خزينته سبحانه.. فليس هناك صورة اخرى قط، وما الاسباب الاّ ستائر؛ ذلك لان اصغر الـمخلوقات وأتفهها – حسب ظننا – قد يكون أعظم من اكبر الـمخلوقات واضخمها، من حيث الـخلقة والصنعة والاتقان، فالذباب مثلاً، ان لـم يكن أدق وارقى من حيث الصنعة من الدجاج فليس هو بقاصر عنها، لـهذا لا يـمكن التمييز بين الصغير والكبير من حيث الـخلقة والصنعة فإما أن يُنسب خلق الـجميع – صغيرهُ وكبيرهُ – الى الاسباب الـمادية وإما أن يُسند الـخلق جـميعاً الى الواحد الاحد. ومثلما أن الشق الاول مـحال في مـحال، فان الشق الثاني واجب الاعتقاد به وضروري. لانه:

ما دام علم الله سبحانه وتعالى يـحيط بكل شيء، والذي هو ثابت وجوده بشكل قاطع بانتظام جـميع الـموجودات والـحِكَم التي فيها.. وما دام كل شيء يتعيـّن مقداره في علمه سبحانه.. وما دامت الـمصنوعات والـمخلوقات وهي في منتهى الروعة والاتقان تأتي بـمنتهى السهولة الى الوجود من العدم كل حين كما هو مشاهد.. ومادام ذلك القدير العليم يـملك قدرة مطلقة يـمكنه أن يوجد كل شيء بامر ((كن فيكون)) وفي لـمح البصر.. كما بيـّنا ذلك في كثير من الرسائل بدلائل قاطعة ولاسيما في الـمكتوب العشرين وختام اللمعة الثالثة والعشرين. فلابد أن السهولة الـمطلقة الـمشاهدة، والـخارقة للعادة، ماهي الاّ من تلك الاحاطة العلمية ومن عظمة تلك القدرة الـمطلقة.

مثلاً: كما انه اذا أمررت مادة كيمياوية معينة على كتاب كـُتب بـحبر كيمياوي لايُرى، فان ذلك الكتاب الضخم يظهر عياناً حتى يستقرىء كل ناظر اليه، كذلك يتعين مقدار كل شيء وصورته الـخاصة به في العلم الـمحيط للقدير الازلي، فيمرر القدير الـمطلق قوته – التي هي تـجلٍ من قدرته – بكل سهولة ويسر، كإمرار تلك الـمادة في الـمثال، على تلك الـماهية العلمية، يـمرره بأمر ((كن فيكون))، وبقدرته الـمطلقة تلك، وبارادته النافذة.. فيعطي سبحانه ذلك الشيء وجوداً خارجياً، مـُظهراً اياه امام الاشهاد، مـما يـجعلهم يقرأون ما فيه من نقوش حكمته..

ولكن ان لـم يُسند خلق جـميع الاشياء دفعة واحدة الى العليم الـمطلق والى القدير الازلي، فان خلق اصغر شيء عندئذ – كالذباب مثلاً – يستلزم جـمع جـميع ما له علاقة بالذباب من اكثر انواع العالـم، جـمعه بـميزان خاص ودقيق جداً، أي جـمع كل ذلك في جسم الذباب، بل ينبغي ان تكون كل ذرة عاملة في جسم الذباب عالـمة تـمام العلم بسرّ خلق الذباب وحكمة وجوده، بل ينبغي أن تكون متقنة لروعة الصنعة التي فيها بدقائقها وتفاصيلها كافة.

ولـما كانت الاسباب الـمادية او الطبيعية لا يـمكنها ان تـخلق شيئاً من العدم مطلقاً كما هو بديهي ومتفق عليه عند ارباب العقول؛ لذا فان تلك الاسباب حتى لو تـمكنت من الايـجاد فانها لاتتمكن ذلك الاّ بالـجمع، فما دامت ستقوم بالـجمع، وأن الكائن الـحي – اياً كان – ينطوي على اغلب نـماذج ما في العالـم من عناصر وانواع، وكأنه خلاصة الكائنات او بذرتها، فلابد اذن من جـمع ذرات البذرة من شـجرة كاملة، وجـمع عناصر الكائن الـحي وذراته من ارجاء العالـم اجـمع، وذلك بعد تصفيتها وتنظيمها وتقديرها بدقة واتقان حسب موازين خاصة ووفق مصاف حساسة ودقيقة جداً.. ولكون الاسباب الـمادية الطبيعية جاهلة وجامدة، فلا علم لـها مطلقاً كي تقدّر خطة، وتنظم منهاجاً، وتنسق فهرساً، وكي تتعامل مع الذرات وفق قوالب معنوية، مصهرة اياها في تلك القوالب لتمنعها من التفرق والتشتت واختلال النظام. بينما يـمكن أن يكون شكل كل شيء وهيئته ضمن أنـماط لاتـحد.. لذا فان اعطاء شكل معين واحد من بين تلك الاشكال غير الـمحدودة، وتنظيم ذلك الشيء بـمقدار معين ضمن تلك الـمقادير غير الـمعدودة، دون أن تتبعثر ذرات العناصر الـجارية كالسيل وبانتظام كامل. ثم بناؤها وعمارتها بعضها فوق بعض بلا قوالب خاصة وبلا تعيين الـمقادير، ثم اعطاء الكائن الـحي وجوداً منتظماً منسقاً.. كل هذا امر واضح أنه خارج عن حدود الامكان، بل خارج عن حدود العقل والاحتمال! فالذي لـم يفقد بصيرته يرى ذلك بـجلاء! نعم، وتوضيحاً لـهذه الـحقيقة فقد جاء في القرآن الكريـم } انّ الذين تَدعونَ من دون الله لن يَخلقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له..{ (الحج:73). أي اذا اجتمعت الاسباب الـمادية كافة لا يـمكنها أن تـجمع وتنسق جسم ذبابة واحدة وأجهزتها وفق موازين دقيقة خاصة حتى لو أوتيت تلك الاسبابا ارادةًَ واختياراً، بل حتى لو تـمكنت من تكوين جسم ذباب وجـمعه فانها لاتستطيع ابقاءه وادامته على مقداره الـمعين له، بل حتى لو تـمكنت من ابقائه بالـمقدار الـمعين فلن تستطيع ن تـحرك بانتظام تلك الذرات التي تتجدد دوماً وترد الى ذلك الوجود لتسعى فيه؛ لذا فـمن البداهة أن الاسباب لن تكون مالكة لـهذه الاشياء ولن تكون صاحبتها مطلقاً. انـما صاحبها الـحقيقي هو غير الاسباب.. نعم، ان لـها مالكاً وصاحباً حقيقياً بـحيث أن إحياء ما على الارض من كائنات سهل عليه ويسير، كإحياء ذبابة واحدة. وايـجاد الربيع عنده سهل وهين كسهولة أيـجاد زهرة واحدة.. كما تبينه الآية الكريـمة:

} ما خلقُكُم ولا بَعثُكم الاّ كنَفسٍ واحدة { (لقمان:28) ذلك لأنه غير مـحتاج الى الـجمع، حيث أنه مالك لأمر: ((كن فيكون)).. ولانه يـخلق من العدم في كل ربيع أحوال موجودات الربيع وصفاتها واشكالـها، مـما سوى عناصرها.. ولان خطة كل شيء ونـموذجه وفهرسه ومـخططه متعين في علمه سبحانه.. ولان جـميع الذرات لاتتحرك الاّ ضمن دائرة علمه وقدرته؛ لذا فانه يـخلق كل شيء ويوجده ايتجاداً بلمح البصر وفي منتهى اليسر، ولن يـحيد شيء عمـّا أنيط به في حركته ولو بـمقدار ذرة. فتعدو الكواكب السيارة جيشاً منظماً طائعاً له، وتصبح الذرات جنوداً مطيعين لأمره، وحيث ان الـجميع يسيرون على وفق تلك القدرة الازلية ويتحركون وفق دساتير ذلك العلم الازلي لذا فأن هذه الآثار تأتي الى الوجود حسب تلك القدرة، فلا تصغُر تلك الآثار بنظر الاستصغار، ولا تكون مهملة بعدم الاهتمام بها؛ اذ الذبابة الـمنتسبة الى تلك القدرة تهلك نـمروداً، والنملة تدمر قصر فرعون، وبذرة الصنوبر الـمتناهية في الصغر تـحمل على اكتافها ثقل شجرة الصنوبر الضخمة كالـجبل. فكما اننا اثبتنا هذه التحقيقة في رسائل كثيرة فاننا نقول هنا كذلك: ان الـجندي الـمنتسب الى السلطان بالـجندية يـمكنه أن يقوم بأعمال تفوق طاقته ألف مرة، كأن يأسر مثلاً قائداً عظيماً للعدو بانتسابه، كذلك فان كل شيء بانتسابه الى تلك القدرة الازلية يكون مصدراً لـمعجزات الصنعة والاتقان بـما تفوق تلك الاسباب الطبيعية بـمائة ألف مرة.

الـخلاصة:

ان الصنعة الـمتقنة البديعة لكل شيء، والسهولة الـمطلقة في ايـجاده، تظهران معاً من آثار القدير الازلي ذي العلم الـمحيط، والاّ فهو مـحال في مائة مـحال، بأن ذلك الشيء وروده الى الوجود، بل يكون – عندئذٍ – خارجاً عن دائرة الامكان وداخلاً في دائرة الامتناع، بل خارجاً من صورة الـممكن الى صورة الـممتنع وماهية الـممتنع، بل لا يـمكن ان يرد – عندئذ – شيء مهما كان الى الوجود مطلقاً.

وهكذا فان هذا البرهان وهو في منتهى القوة والدقة، ومنتهى العمق والوضوح قد أسكت نفسي التي اصبحت تلميذة مؤقتة للشيطان، ووكيله لاهل الضلالة والفلسفة، حتى آمنت – ولله الـحمد – إيـماناً راسخاً، وقالت:

نعم انه ينبغي أن يكون لي ربٌ خالق يعلم ويسمع أدق خواطر قلبي وأخفى رجائي ودعائي. ويكون ذا قدرة مطلقة فيسعف أخفى حاجات روحي ويستبدل كذلك بهذه الدنيا الضخمة دنيا اخرى غيرها ليسعدني سعادة ابدية فيقيم الآخرة بعدما يرفع هذه الدنيا، وكما أنه يـخلق الذباب فانه يوجد السـموات أيـجاداً ايضاً. وكما أنه رصـّع وجه السـماء بعين الشمس جعل من الذرة ترصيعاً في بؤبؤ عيني. والاّ فان الذي لا يستطيع أن يـخلق ذباباً لا يـمكنه أن يتدخل في خواطر قلبي، ولن يسمع تضرع روحي. وان الذي لايستطيع أن يـخلق السموات لايـمكنه ان يهبني السعادة الابدية؛ لذا فان ربي انـما هو الذي يسمع – بل يصلح – خواطر قلبي، فمثلـما أنه يـملأ جو السماء بالغيوم ويفرغها منه خلال ساعة فانه سيبدل الآخرة بهذه الدنيا ويعمـّر الـجنة ويفتح أبوابها لي قائلاً: هيا أدخل!!

فيا اخوتي الشيوخ، ويامن صرفتم جزءاً من عمركم بسوء حظ النفس وشقائها – مثل نفسي – في مغالطات العلوم الاجنبية والفلسفة الـمظلمة.. اعلموا أن الذي يردده القرآن دوماً من ((لا اله الاّ هو)) ذلك الامر القدسي، ركن إيـماني لا يتزلزل ولا يتصدع ولا يتغير أبداً!! فما اقواه وما اصوبه! حيث يبدد جـميع الظلمات ويضمد الـجراحات الـمعنوية.

هذا وان درج هذه الـحادثة الـمطولة ضمن ابواب الرجاء والامل لشيخوختي، لـم يكن باختياري، بل لـم أكن أرغب درجها هنا، تـحاشياً من الـملل، الاّ انني استطيع ان اقول قد كُتـّبتها وأملِيَنْ عليّ.. وعلى كل.. لنرجع الى الـموضوع الذي نـحن بصدده:

نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الـحياة الدنيوية البهيجة في استانبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيرات بيضاء لرأسي ولـحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي الـمخلص.. حتى بدأت النفس بالبحث والتحري عن اذواق معنوية بدلا عما افتتنت به من اذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومقيتة في نظر الغافلين. فللـّه الـحمد والـمنـّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الاذواق الإيـمانية الـحقيقية الدائمة في ((لا اله الاّ هو)) وفي نور التوحيد بدلا من تلك الاذواق الدنيوية التي لا حقيقة لـها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الـحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بـخلاف ما يراه أهل الغفلة من ثقل وبرودة.

نعم يا اخوتي! فما دمتم تـملكون الإيـمان، وما دامت لديكم الصلوات والدعاء اللذان ينوران الإيـمان، بل ينميانه ويصقلانه.. فانكم تستطيعون اذن أن تنظروا الى شيخوختكم من أنها شباب دائم، بـما تكسبون بها شباباً خالداً، حيث ان الشيخوخة الباردة حقاً، والثقيلة جداً، والقبيحة، بل الـمظلمة والـمؤلـمة تـماماً ليس الاّ شيخوخة اهل الضلالة، بل ربـما عهد شبابهم كذلك.. فليبكوا.. ولينتحبوا.. وليقولوا: واأسفاه.. واحسرتاه!!

أما انتم ايها الشيوخ الـمؤمنون الـموقرون فعليكم أن تشكروا ربكم بكل فرح وسرور قائلين: ((الـحمد لله على كل حال!)).

الرجاء الثاني عشر

بينما كنت وحيداً بلا معين في ((بارلا)) تلك الناحية التابعة لـمحافظة ((اسبارطة)) أعاني الأسر الـمعذّب الـمسمى بالنفي، مـمنوعاً من الاختلاط بالناس، بل حتى من الـمراسلة مع أيّ كان، فوق ما كنت فيه من الـمرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت اضطرب من هذه الـحالة واقاسي الـحزن الـمرير اذا بنور مسلٍّ يشعّ من الاسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الـحق سبحانه به عليَّ برحـمته الكاملة الواسعةـ فكنت اعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما انا فيه من الـحالة الـمؤلـمة الـمحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي واحبتي واقاربي.. ولكن – ياحسرتاه – لـم اتـمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو ابن اخي، بل ابني الـمعنوي، وتلميذي الـمخلص وصديقي الشجاع ((عبدالرحـمن)) تغمده الله برحـمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات، ولا اعلم حاله كي أرسله واتـحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لـخدمتي وتسليتي، نعم لقد كنت في أمسّ الـحاجة – ولاسيـّما في الشيخوخة هذه – الى من هو مثل ((عبدالرحـمن)).. ذلك الفدائي الصادق.. وذات يوم وفجأة سلمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيـّن لي انها رسالة تظهر شخصية ((عبدالرحـمن)) تـماماً وقد أدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات الـمكتوب السابع والعشرين بـما يظهر ثلاث كرامات واضحة.

لقد ابكتني تلك الرسالة كثيراً ولاتزال تبكيني، حيث يبيـّن فيها ((عبدالرحـمن)) بكل صدق وجدّ انه قد عزف عزوفاً تاماً عن الاذواق الدنيوية وعن لذائذها، وان اقصى ما يتمناه هو الوصول الىّ ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت ارعاه في صغره، وان يساعدني بقلمه السيـّال في وظيفتي ومهمـّتي الـحقيقية في الدنيا، وهي نشر اسرار القرآن الكريم، حتى انه كان يقول في رسالته: إبعث الىّ ما يقرب من ثلاثين رسالة كي اكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة.

لقد شدتني هذه الرسالة الى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي الـمخلص الشجاع، ذا الذكاء الـخارق، وذا الوفاء الـخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الـحقيقي وارتباطه بولده. فسوف يقوم – باذن الله – برعايتي وخدمتي، بل حتى انني بهذا الامل نسيت ما كنت فيه من الاسر الـمؤلـم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! بإيـمان وكأن عبدالرحـمن قد كتب تلك الرسالة في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، اذ استطاع ان يـحصل على نسخة مطبوعة من الكلمة العاشرة التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيـمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمـّدت جـميع جراحاته الـمعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.

وبعد مضي حوالي شهرين وانا اعيش في ذلك الامل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. اذا بي أفاجأ بنباً وفاته، فيا اسفاه.. وياحسرتاه.. لقد هزّني هذا الـخبر هزاً عنيفاً، حتى انني لاازال تـحت تأثيره منذ خـمس سنوات، واورثني حزناً شديداً وألـماً عميقاً للفراق الـمؤلـم يفوق ما كنت اعانيه من ألـم الاسر الـمعذّب وألـم الانفراد والغربة الـموحشة وألـم الشيخوخة والـمرض.

كنت اقول: ان نصف دنياي الـخاصة قد إنهدَّ بوفاة أمي، بيد اني رأيت ان النصف الاخر قد توفي ايضاً بوفاة عبدالرحـمن، فلم تبق لي اذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان عبدالرحـمن يظل معي في الدنيا لا صبح مـحوراً تدور حوله وظيفتي الاخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي، ولـحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات اذكى تلميذ لرسائل النور، والامين الـمخلص الـمحافظ عليها.. فضياع مثل هذا الضياع – باعتبار الانسانية – لـهو ضياع مـحرق مؤلـم لأمثالي. ورغم انني كنت ابذل الوسع لأتصبـّر وأتـحمل ما كنت اعانيه من الآلام الاّ أنه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف باقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض عليّ احياناً لـما كان لـمثلي ان يتحمل ويثبت.

كنت أذهب واسرح في وديان ((بارلا)) واجول في جبالـها وحيداً منفرداً واجلس في اماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام الـمحزنة، فكانت تـمر من امامي لوحات الـحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي – امثال عبدالرحـمن – كالفلم السينمائي. فكما مرّت تلك اللوحات امام خيالي، سلبت من شدة مقاومتي وفتّ في عضدي، سرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.

ولكن على حين غرّة انكشف سرّ الآية الكريـمة } كلُ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجههُ لهُ الـحُكمُ واليه تُرجعون { (القصص:88). انكشافاً بيـّناً بـحيث جعلني أردّد: ياباقي انت الباقي.. وبه اخذت السلوان الـحقيقي.

اجل!. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريـمة، وعبر تلك الوديان الـخالية، ومع تلك الـحالة الـمؤلـمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرت اليها في رسالة ((مرقاة السنـّة)):

الاولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خـمساً وخـمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الـخامسة والـخمسين سنة.

الثانية: رأيت نفسي كالكائن الـحي الصغير جداً – كالنملة – يدب على وجه هذا العصر الذي هو بـمثابة شاهد قبر للـجنازة العظمى لـمن هم بنو جنسي ونوعي، والذيم دفنوا في قبر الـماضي منذ زمن آدم عليه السلام.

اما الثالثة: فقد تـجسـّمت امام خيالي – بسرّ هذه الآية الكريـمة – موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تـموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يـموت الانسان.. وهكذا فقد أغاثني الـمعنى الاشاري للآية الكريـمة } فإنْ تَوَلوا فَقُل حَسبيَ الله لا الهَ إلاّ هو عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرش العظيم { (التوبة:129) وأمدني بنور لايـخبو، فبدد ما كنت اعانيه من الـحزن النابع من وفاة ((عبدالرحـمن)) واهباً لي التسريَ والتسلي الـحقيقي.

نعم لقد علمتني هذه الآية الكريـمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث أن تـجلياً واحداً من تـجليات عنايته سبحانه يعدل العالـم كله، وان تـجلياً من تـجليات نوره العميم يـمنح تلك الـجنائز الثلاث حياة معنوية أيـما حياة، بـحيث تظهر انها ليست جنائز، بل مـمن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الارض فارتـحلوا الى عالـم آخر.

ولـما كنا قد اوضحنا هذا السرّ والـحكمة في ((اللمعة الثالثة)) أراني هنا في غير حاجة الى مزيدٍ من التوضيح، الاّ أنني اقول:

ان الذي نـجـّاني من تلك الـحالة الـمحزنة الـمؤلـمة، تكراري لـ ((ياباقي انت الباقي.. ياباقي انت الباقي)) مرتين والذي هو معنى الآية الكريـمة } كلُ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجههُ { وتوضيح ذلك:

انني عندما قلت: ((ياباقي انت الباقي)) للمرة الاولى، بدأ التداوي والضماد بـما يشبه العمليات الـجراحية على تلك الـجروح الـمعنوية غير الـمحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَن فيها من الاحبة من أمثال عبدالرحـمن والـمتولدة من انفراط عقد الروابط التي ارتبط بها معهم.

اما في الـمرة الثانية فقد اصبحت جـملة ((ياباقي انت الباقي)) مرهماً لـجميع تلك الـجروح الـمعنوية، بلسماً شافياً لـها، وذلك بالتأمل في الـمعنى الآتي:

ليرحل مَن يرحل ياإلـهي فانت الباقي وانت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تـجليات رحـمتك كافٍ لكل شيء يزول، ومادمتَ موجوداً فكل شيء اذاً موجود لـمن يدرك معنى انتسابه اليك بالإيـمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الـموت والعدم الاّ ستائر للتجديد ، وإلاّ وسيلة للتجول في منازل مـختلفة والسير فيها.. فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الـحالة الروحية الـمحرقة الـحزينة، وتلك الـحالة الـمظلمة الـمرعبةالى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، والى حالة منورة مـحبوبة مؤنسة، فاصبح لساني وقلبي بل كل ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الـحال قائلاً: الـحمد لله.

ولقد تـجلى جزء من ألف جزء من ذلك التجلـّى للرحـمة بهذه الصورة:

عندما رجعت من موطن حزني.. من تلك الوديان، الى ((بارلا)) حاملاً معي تلك الاحزان، رأيت شاباً يدعى ((مصطفى قوله أونلى)) قد أتاني مستفسراً عن بعض ما يشغله من مسائل الفقه والوضوء والصلاة.. فرغم انني لـم اكن استقبل الضيوف في تلك الفترة الاّ أن روحي كأنها قد قرأت ما في روح ذلك الشاب من الاخلاص، وكأنها شعرت – بـحسٍّ قبل الوقوع – ما سوف يؤديه هذا الشاب من خدمات الرسائل النور في الـمستقبل (1)، لذا لـم أردّه وقبلته ضيفاً(2) ثم تبيـّن لي أن الله سبحانه وتعالى قد عوضني بهذا الشاب عن ((عبدالرحـمن)) الذي هو خير خلف لي ويفي بـمهمة الوارث الـحقيقي في خدمة رسالة النور. وبعث سبحانه وتعالى اليّ ((مصطفى)) وكأنه يقول: أخذت منك عبداً للرحـمن واحداً وسأعوضك عنه بثلاثين ((عبدالرحـمن)) كهذا الشاب ((مصطفى)) مـمن يسعون في تلك الوظيفة الدينية، وسيكونون لك طلاباً اوفياء، وابناء كرماء، واولاداً معنويين، واخوة طيبين، واصدقاء فدائيين مضحيـّن..

نعم.. ولله الـحمد فقد وهبني الباري عز وجل ثلاثين عبداً للرحـمن، وعندها خاطبت قلبي: مادمتَ ياقلبي الباكي الـمكلوم قد رأيت هذا النـموذج وهذا الـمثال وضمدتَ به اهم جرح من تلك الـجروح الـمعنوية، فعليك ان تسكن وتطمئن بأن الله سبحانه سيضمد الـجروح الباقية التي تقلقك وتتألـم منها..

فيا أيها الاخوة الشيوخ ويا أيتها الاخوات العجائز.. ويامَن فقدتـم مثلي أحب ولده اليه زمن الشيخوخة او فارقه احد اقاربه.. ويامن يثقل كاهله وطأة الشيخوخة ويـحمل معها على رأسه الهموم الثقيلة الناشئة من الفراق! لقد علمتهم وضعي وعرفتم حالي فانه رغم شدّته باضعاف ما عندكم من اوضاع وحالات، الاّ أن هذه الآية الكريـمة قد ضمدته واسعفته فشفته باذن الله، فلا شك من أن صيدلية القرآن الـمقدسة زاخرة بعلاج كل مرض من امراضكم ودواء كل سقم من اسقامكم. فاذا استطعتم مراجعتها بالإيـمان، وقمتم بالتداوي والعلاج بالعبادة، فلابُدَّ أن تـخف وطأة ما تـحملون على كاهلكم من أثقال الشيخوخة وما يثقل رؤوسكم من هموم.

هذا وان سبب كتابة هذا البحث كتابة مطوّلة هو رجاء الاكثار من طلب الدعاء للـمرحوم ((عبدالرحـمن)). فلا تـملـّوا ولا تسأموا من طوله. وان قصدي من اظهار جرحي الـمخيف بهذه الصورة الـمفجعة الـمؤلـمة، فتتألـمون أكثر وتـحزنون حتى أنه قد يؤدي الى زيادة آلامكم واحزانكم فتنفرون منه، ليس الاّ لبيان ما في البلسم القرآني الـمقدس من شفاء خارق ومن نور باهر ساطع.

الرجاء الثالث عشر(1)

سأبـحث في هذا الرجاء عن لوحة مهمة من لوحات وقائع حياتي، فالرجاء ألاّ تسأموا وتضجروا من طولـها.

بعدما نـجوت من أسر الروس في الـحرب العالـمية الاولى، لبثت في استانبول لـخدمة الدّين في ((دار الـحكمة الإسلامية)) حوالي ثلاث سنوات. ولكن بارشاد القرآن الكريم وبهمـّة الشيخ الكيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولـّد عندي سأم وملل من الـحياة الـحضارية في استانبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والـحنين الـمسمى بـ ((داء الغُربة)) الى بلدتي، اذ كنت اقول: مادمت سأموت فلأمت اذن في بلدتي.. فتوجهت الى مدينة ((وان)).

وهناك قبل كل شيء ذهبت الى زيارة مدرستى الـمسماة بـ((خورخور)) فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الـموجودة في ((وان)) اثناء الاحتلال الروسي.. صعدت الى القلعة الـمشهورة في ((وان)) وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تـحتها مدرستي الـملاصقة بها تـماماً، وكانت تـمرّ من امامي أشباح اولئك الاصدقاء الـحقيقيين والاخوة الـمؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة اصبح قسم من اولئك الاصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم اتـمالك نفسي من البكاء والنـحيب.. صعدت الى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو الـمنارتين ومدرستي تـحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الـخيال الى ما يقرب من ثـماني سنوات خلَتْ وجال بي الـخيال في ذلك الزمان، لـما لـخيالي من قوة ولعدم وجود مانع يـحول بيني وبين ذلك الـخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، اذ كنت وحيداً منفرداً.

شاهدت تـحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثـماني سنوات حتى أنني كلـّما كنت افتح عيني أرى كأن عصراً قد ولـّى ومضى باحداثه. رأيت ان مركز الـمدينة الـمحيطة بـمدرستي – الذي هو بـجانب القلعة – قد أحرق من اقصاه الى أقصاه ودمـّر تدميراً كاملاً. فنظرت الى هذا الـمنظر نظرة حزن وأسى.. اذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ماكنت فيه وبين ماأراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه الـمدينة.. كان أغلب الذين يعمـّرون هذه البيوت الـمهدّمة أصدقائي، وأحبـّة اعزّاء عليّ.. فلقد توفـّى قسم منهم بالـهجرة من الـمدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جـميعاً برحـمته. حيث دُمـّرت بيوت الـمسلمين في الـمدينة كليـّاً ولـم تبق الاّ مـحلة الأرمن، فتألـمت من الاعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نـجوت من الاغتراب حيث رجعت الى مدينتي، ولكن – وياللاسف – لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ اذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً – كعبدالرحـمن الـمار ذكره في الرجاء الثاني عشر – رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والانقاض، ورأيت أن منازلـهم أصبحت أثراً بعد عين، وامام هذه اللوحة الـحزينة تـجسـّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلاّ انني لـم اكن افهم معناها تـماماً:-

لولا مفارقةُ الاحبابِ ما وجَدَتْ لـها الـمنايا الى ارواحنا سبُلاً(1)

أي ان اكثر ما يقضي على الانسان ويهلكه انـما هو مفارقة الاحباب.

نعم، انه لـم يؤلـمني شيء ولم يبكني مثل هذه الـحادثة، فلو لـم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيـمان لكان ذلك الغم والـحزن والهم يؤثر فيّ الى درجة كافية لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على اطلالـها فرأيت بعيني لوحة الفراق الـحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بـحزن شديد كـمن يـمـّر بعد مائتي سنة على ديار أحبـّته واطلالـها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لـحياتي امام عيني وخيالي واحدة تلو الاخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الـحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي الـنجباء بـما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الاماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فاصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة امام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يـخدعون انفسهم، فالوضع هذا يبيـّن بداهة ان الدنيا لامـحالة فانية، وان الانسان فيها ليس الاّ عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله اهل الـحقيقة:

((لاتنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكـّارة.. فانية..)).
ورأيت كذلك أن الانسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن ابكي بعينيّ لشيخوختي – باعتبار وجودي – كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لـمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بـحاجة الى البكاء بـمائة عين على مدينتي الـحلوة الشبيهة بالـميتة.

لقد ورد في الـحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لدوا للـموت وابنوا للـخراب)(1) كنت اسـمع هذه الـحقيقة، اسـمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرق الدموع ايضاً كلـّما مرّ على ذلك الـحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمـّرت آلاف السنين، واكتهال الـمدينة التي تـحتها خلالا ثـماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانـمائة سنة، ووفاة مدرستي – اسفل القلعة – التي كانت تنبض بالـحياة والتي كانت مـجمع الاحباب.. تشير الى وفاة جـميع الـمدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة الـمعنوية لـجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد اصبحت شاهدة قبرها. ورأيت ان طلابي – رحـمهم الله جـميعاً – الذين كانوا معي في تلك الـمدرسة - قبل ثـماني سنوات - وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والـحزن حتى بيوت الـمدينة الـمدَمـَّرة، بل حتى جدرانها الـمنهدّة واحجارها الـمبعثرة.

نعم انني رأيت كُل شيء وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت انني لاأستطيع أن اتـحمـّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب اليهم في قبورهم او عليّ أن انسحب الى مغارة في الـجبل منتظراً اجلي، وقلت مادام في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لايـمكن أن يُبصر عليها، ولايـمكن أن تقاوم، وهي مؤلـمة ومحرقة الى هذه الدرجة، فلاشك أن الـموت افضل من هذه الـحياة، ويرجح على مثل هذه الاوضاع التي لاتطاق.. لذا ولـّيت وجهي سارحاً بنظري الى الـجهات الست.. فـما رأيت فيها الاّ الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألـم الشديد والتأثر العميق أرتنى الدنيا مـخيفة مرعبة، وانها خالية جرداء وكأنها ستنقض على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد امام البلايا والـمصائب غير الـمحدودة التي اتـخذت صورة اعداء ألدّاء. وكانت تبحث ايضاً عن نقطة استمداد امام رغباتها الكامنة غير الـمحدودة والتي تـمتد الى الابد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الـهموم والاحزان الـمتولدة من الفراقات والإفتراقات غير الـمحدودة والتـخريبات والوفيات الهائلة، اذا بـحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم الـمعجز وهي: } سبـَّح لله ما في السـموات والارض وهو العزيزُ الـحكيم ` لهُ مُلك السـموات والأرض يـحيي ويُميت وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ { (الـحديد:1-2) تتجلى امامي بوضوح وتنقذني من ذلك الـخيال الاليم الـمرعب، وتنجيني من ألـم الفراق والافتراق، فاتـحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ الى الاثـمار الـمعلقة على الاشجار الـمثمرة وهي تنظر اليّ مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: ((لاتـحصرنَّ نظرك في الـخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت الينا، وانعمت النظر فينا..)).

نعم ان حقيقة هذه الآية الكريـمة تنبـّه بقوة مذكـّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك الى هذا الـحدّ سقوط رسالة عامرة شيـّدت بيد الانسان الضعيف على صحيفة مفازة ((وان))، حتى اتـخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تـحزن من سقوطها في السيل الـجارف الـمخيف الـمسمـّى بالاحتلال الروسي الذي مـحا آثارها واذهب كتابتها؟ إرفع بصرك الى الباري الـمصوّر وهو ربّ كل شيء ومالكه الـحقيقي، فناصيته بيده، وان كتاباته سبحانه على صحيفة ((وان)) تُكتب مـجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وان ما شاهدته من اوضاع في الغابر والبكاء والنـحيب على خلو تلك الاماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة انـما هو من الغفلة عن مالكها الـحقيقي، ومن توهم الانسان – خطأ – انه هو الـمالك لـها، ومن عدم تصوره انه عابر سبيل وضيف ليس الاّ..

فانفتح من ذلك الوضع الـمحرق، ومن ذلك الـخطأ في التصور بابٌ لـحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلها – كالـحديد الذي يدخل في النار ليلين ويعطي له شكلاً معيناً نافعاً – اذ اصبحت تلك الـحالة الـمحزنة وذلك الوضع الـمؤلـم، ناراً متأججة ألانت النفس. فأظهر القرآن الكريم لـها فيض الـحقائق الإيـمانية بـجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية الـمذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ.

نعم، فكما أثبتنا في الـمكتوب العشرين وامثاله من الرسائل، فان حقيقة هذه الآية الكريـمة – ولله الـحمد – قد وهبت بفيض الإيـمان نقطة استناد وارتكاز هائلة، وهبتها للروح ومنحتها الى القلب كل حسب ما ينكشف له من فيض ما يـملكه من قوة الإيـمان، بحيث تستطيع ان تتصدّى لتلك الـمصائب والـحالات الـمرعبة حتى لو تضاعفت مائة مرة، ذلك لانها ذكـّرت بأن كل شيء مسخّر لأمر خالقك الذي هو الـمالك الـحقيقي لـهذه الـمملكة، فمقاليد كل شيء بيده، وحسبك أن تنتسب اليه سبحانه.

فبعدما عرفتُ خالقي، وتوكلتُ عليه، ترك كل شيء ما يضمره من العداء نـحوي حتى بدأت الـحالات التي كانت تـحزنني وتؤلـمني، بدأت الآن تسعدني وتسرّني.

وكما أثبتنا في كثير من الرسائل ببراهين قاطعة، فان النور القادم من ((الإيـمان بالآخرة)) كذلك اعطى ((نقطة استمداد)) هائلة جداً تـجاه الآمال والرغبات غير الـمحدودة، بـحيث أنها تكفي تلك القوة لا لتلك الـميول والرغبات الصغيرة الـمؤقتة والقصيرة، ولا لتلك الروابط مع احبتي في الدنيا وحدها. بل تكفي ايضاً لرغباتي غير الـمتناهية في دار الـخلود وعالـم البقاء وفي السعادة الابدية، ذلك لانه بتجلٍّ واحد من تـجليات رحـمة الرحـمن الرحيم يُنشر على مائدة الربيع مالايعد ولا يُحصى من نعمه اللذيذة البديعة على سطح الارض التي هي منزل من منازل دار ضيافة الدنيا الـمؤقتة، فيمنح بها – سبحانه – في كل ربيع الى اولئك الضيوف، وينعم بها عليهم، كي يدخل في قلوبهم السرور لبضع ساعات، وكأنه يطعمهم فطور الصباح، ثم يأخذهم الى مساكنهم الابدية في ثـماني جنات خالدات ملأى بنعم غير مـحدودة لزمن غير مـحدود التي اعدّها لعباده، فلاريب ان الذي يؤمن برحـمة هذا ((الرحـمن الرحيم)) ويطمئن اليها مدركاً انتسابه اليه سبحانه، لابدّ أنه يـجد نقطة استمداد عظيمة بـحيث ان ادنى درجاتها تـمدّ آمالاً غير مـحدودة وتديـمها.

هذا وان النور الصادر من ضياء الإيـمان – بـحقيقة تلك الآية – قد تـجلـّى كذلك تـجلياً باهراً ساطعاً حتى أنه نوّر الـجهات الست الـمظلمة تنويراً كالنهار، ونوّر حالتي الـمؤسفة الـمبكية على مدرستي هذه وعلى طلابي وأحبتي الراحلين تنويراً كافياً حيث نبهني الى ان العالـم الذي يرحل اليه الاحباب ليس هو بعالـم مظلم، بل بدّلوا الـمكان ليس الاّ، فستتلاقون معاً وستجتمعون ببعضكم.. وبذلك قطع دابر البكاء قطعاً كاملاً، وأفهمني كذلك انني سأجد أمثالـهم ومن يـحلّ مـحلهم.

فلله الـحمد والـمنـّة الذي احيا مدرسة ((اسبارطة)) عوضاً عن مدرسة ((وان)) الـمتوفاة والـمتحولة الى اطلال، واحيا اولئك الاحبة معنىً باكثر وافضل منهم من الطلاب النجباء والاحبة الكرام. وعلـّمني كذلك ان الدنيا ليست خاوية مقفرة، وانها ليست مدينة خربة مدمـّرة، كما كنت أتصورها خطأ، بل ان الـمالك الـحقيقي – كما تقتضي حكمته – يبدل اللوحات الـمؤقتة والـمصنوعة من قبل الانسان بلوحات اخرى ويـجدد رسائله، فكما تـحمل ثـمار جديدة كلما قطعت الثـمار فكذلك الزوال والفراق في البشرية انـما هو تـجددّ وتـجديد، فلا يبعث حزناً أليـماً لانعدام الاحباب نهائياً، بل يبعث من زاوية الإيـمان حزناً لذيذاً نابعاً من فراق لأجل لقاء في دار اخرى بهيجة.

وكذا نوّر تلك الـحالة الـمدهشة التي كنت فيها، ونوّر ما يتراءى لي من الوجه الـمظلم لـموجودات الكون كلها. فأردت ابداء الـحمد والشكر على تلك الـحالة الـمنوّرة في وقته فأتتني الفقرة التالية باللغة العربية مصورةً لتلك الـحقيقة كاملة:

[ الـحمد لله على نور الإيـمان الـمصور ما يُتوهم اجانب اعداءً امواتاً موحشين أيتاماً باكين، أودّاء اخواناً احياءً مؤنسين مرخـّصين مسرورين ذاكرين مسبحين ].

وهي تعني.: انني اقدم الى الـخالق ذي الـجلال حـمداً لانهاية لـه، على ما وهبني من نور الإيـمان الذي هو منبع جـميع هذه النعم الإلـهية غير الـمحدودة، بـما حوّل تلك اللوحة الـمرعبة التي اُظهرت لنفسي الغافلة فأوهمتها الغفلة – الـمتولدة من شدة التأثر على تلك الـحالة الـمؤلـمة – أن قسماً من موجودات الكون أعداء او جانب(1) وقسماً آخر جنائز مدهشة مفزعة، وقسماً آخر أيتام باكون حيث لامعين لـهم ولامولى، حوّل ذلك النور كل شيء حتى شاهدت بعين اليقين ان الذين كانوا يبدون اجانب وأعداء انـّما هم اخوة واصدقاء.. وان ما كان يَظهر كالـجنائز الـمرعبة؛ قسمٌ منهم أحياء مؤنسون، أو هم مـمن أنهوا وظائفهم ومهماتهم.. وان ما يتوهم أنها نواح الايتام الباكين، ترانيم ذكر وتراتيل تسبيح. أي أنني اقدم الـحمد لله مع جميع الـموجودات التي تـملأ دنياي الـخاصَة التي تسع الدنيا كلها، فأشركها معي في ذلك الـحمد والتسبيح لله سبحانه، نيةً وتصوراً. حيث لي الـحق في ذلك، فنقول معاً بلسان حال كل فرد من افراد الـموجودات وبلسان حال الـجميع ايضاً: ((الـحمد لله على نور الإيـمان)).

ثم أن لذائذ الـحياة واذواقها التي تلاشت على اثر تلك الـحالة الـمدهشة الباعثة على الغفلة، والآمال التي انسحبت نهائياً وانكمشت ونضب معينها، والنعم واللذائذ الـخاصة بي التي ظلـّت مـحصورة في أضيق دائرة وربـما فنيت، كل ذلك قد تـحول وتبدل بنور الإيـمان – كما أثبتنا ذلك في رسائل اخرى – فوسـّع ذلك النور تلك الدائرة الضيقة الـمطوقة حول القلب الى دائرة واسعة جداً حتى انطوى فيها الكون كلـّه، وجعل دار الدنيا ودار الآخرة سُفرتين مـملوءتين بالنعم، وحوّلـهما الى مائدتين مـمدتين للرحـمة، بدلاً من تلك النعم التي يبست وفقدت لذتها في حديقة ((خورخور)). ولـم يقتصر على ذلك فقط بل جعل كلاً من العين والاذن والقلب وامثالـها من الـحواس بل مائة من اجهزة الانسان، يداً مـمتدة حسب درجات الـمؤمن تـمتد الى السفرتين الـمملوءتين بالنعم بـحيث تتمكن من ان تأخذ النعم وتلتقطها من جـميع اقطارها؛ لذا قلت امام هذه الـحقيقة الكبرى شكراً لله على تلك النعم غير الـمحدودة ما يأتي:

[ الـحمد لله على نور الإيـمان الـمصوّر للدارين مـملوءتين من النعمة والرحـمة، لكل مؤمن حقٌ أن يستفيد منهما بـحواسه الكثيرة الـمنكشفة باذن خالقه ].

وهذا يعني: الـحمد لله الذي وهب لي ذلك الإيـمان الذي يُري بنعمة نوره أن الدنيا والآخرة مـملوءتان بالنعم والرحـمة ويضمن الاستفادة من تينك السفرتين العظيمتين بايدي جـميع الـحواس الـمنكشفة بنور الإيـمان والـمنبسطة بنور الإسلام للـمؤمنين الـحقيقيين، فلو استطعت تقديـم الـحمد والشكر لله خالقي تـجاه ذلك الإيـمان بـجميع ذرات كياني وبـملء الدنيا والاخرة لَفعلت.

فما دام الإيـمان يفعل فعله في هذا العالـم بـمثل هذه الآثار العظيمة، فلابدّ أن له في دار البقاء والـخلود ثمراتٍ اعظم وفيوضات اوسع، بـحيث لا يـمكن أن تستوعبها عقولنا الدنيوية وتعرّفها.

فيا اخوتي الشيوخ، ويا اخواني العجائز، ويا مَن تتجرعون مثلي الآلام الـمرّة بفراق كثير من الاحبة بسبب الشيخوخة! انيّ أخال نفسي اكثر منكم شيباً معنىً، وان كان يبدو أن فيكم من هو اكبر مني سنـّاً، ذلك لانني أتألـم – فضلاً عن آلامي – بآلام آلاف من اخواني، لــما أحـمله في فطرتي من الرقة والشفقة الزائدتين الى بني جنسي. فأتألـم كأنني شيخ يناهز الـمئات من السنين، أما انتم فمهما تـجرعتم من آلام الفراق لـم تتعرضوا لـمثل ما تعرضت له من البلايا والـمصائب! انه ليس لي ابن افكر فيه، الاّ انني اشعر برقة وألـم – بسر الشفقة الكامنة في فطرتي – متوجهة الى آلام ومصائب آلاف من أبناء الإسلام، بل اشعرها حتى لالآم الـحيوانات البريئة. زد على ذلك أنني ارى نفسي متعلقة – من جهة الغيرة على الإسلام – بهذه البلاد، بل بالعالـم الإسلامي، وارتبط بهما كأنهما داري، برغم انـّي لا أملك بيتاً خاصاً بي كي أحصر ذهني فيه؛ لذا فانني أتألـم بالآم الـمؤمنين الذين هم في هاتين الدارين وأحزن كثيراً لفراقهم.

ولـما كان نور الإيـمان قد كفاني كفاية تامة وأتى على جـميع تأثراتي الناشئة من شيخوختي كلها ومن بلايا الفراقات، ووهب لي رجاءً لايخيب، واملاً لا ينفصم، وضياءً لاينطفىء، وسلواناً لا ينفد، فلابد أن الإيـمان ايضاً سيكون كافياً لكم ووافياً ايضاً ازاء الظلمات الناشئة من الشيخوخة، وازاء الغفلة الواردة منها، وازاء التأثرات والتألـمات الصادرة منها. وحقاً ان اعتم شيخوخة انـما هي شيخوخة اهل الضلالة والسفاهة وأن أقسى الفراقات واشدها ايلاماً انـما هي آلامهم وفراقاتهم!!

نعم، ان تذوق الإيـمان الذي يبعث الرجاء ويشيع النور وينشر السلوى، وان الشعور بسلوانه والتلذذ به هو في التمثلالشعوري للعبودية اللائقة بالشيخوخة والـموافقة للإسلام، وليس هو بتناسي الشيخوخة واللهات وراء التشبـّه بالشباب واقتحام غفلتهم الـمسكرة.. تفكـّروا دائماً وتأملوا في الـحديث النبوي الشريف ((خيرُ شبابكم من تشبـّه بكهولكم وشرُّ كهولكم من تشبـّه بشبابكم))(1) اوكما قالe ، أي خير شبابكم من تشبه بالكهول في التأني والرزانة وتـجنبهم السفاهة وشر كهولكم من تشبه بالشباب في السفاهة والاتغماس في الغفلة.

فيا اخوتي الشيوخ ويا اخواتي العجائز! لقد ورد في الـحديث الشريف ما معناه ((ان الرحـمة الإلـهية لتستحي من أن تردّ يداً ضارعة من شيخ مؤمن او عجوز مؤمنة))(2). فما دامت الرحـمة الإلـهية تـحترمكم هكذا، فعظموا إذن احترامها بعبوديتكم لله
.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس